وعلى حين أن التفكير المجرد يسعى إلى فهم العيني بطريقة مجردة، فإن المفكر الذاتي على العكس من ذلك، يتعين عليه أن يفهم المجرد عينيا؛ فالفكر المجرد يتحول من الناس العينيين إلى النظر في الإنسان عامة، أما المفكر الذاتي فيسعى إلى فهم التحديد المجرد لكون المرء إنسانا من خلال هذا الكائن البشري الخاص الموجود. •••
وهناك معنى معين يتحدث فيه المفكر الذاتي بطريقة تماثل في تجردها طريقة المفكر المجرد؛ إذ إن الأخير يتحدث عن الإنسان بوجه عام وعن الذاتية بوجه عام، بينما يتحدث الأول عن الإنسان الواحد. غير أن هذا الكائن البشري الواحد كائن بشري موجود، وبذلك لا تكون الصعوبة قد ذللت.
كذلك فإن فهم المرء لذاته في وجوده هو قوام المبدأ المسيحي، سوى أن هذه «الذات» تتلقى عندما تقترن بالوجود تحديدا أكثر ثراء وعمقا بكثير، بل وأصعب من ذلك على الفهم؛ فالمؤمن مفكر ذاتي، والفارق في هذه الحالة، كما أوضحنا من قبل، لا يزيد على الفارق بين الإنسان البسيط والإنسان الحكيم البسيط، وهنا أيضا لا تكون «الذات» هي البشرية عامة، أو الذاتية عامة، التي يغدو فيها كل شيء هينا لأن الصعوبة تزول، وتنقل المهمة بأسرها إلى عالم الفكر المجرد بأشباحه الخيالية. وإن الصعوبة ها هنا لأعظم مما كانت لدى اليونانيين؛ لأن الموقف ينطوي على المزيد من المتناقضات؛ إذ يؤكد الوجود، بطريقة ممتنعة، على أنه هو الخطيئة، وتؤكد الأزلية، بطريقة ممتنعة، على أنها هي الله في الزمان؛ فقوام الصعوبة هو الوجود في مثل هذه المقولات، لا في تخلص الإنسان منها بالفكر المجرد؛ أي بالتفكير على نحو مجرد في صيرورة إلهية أزلية مثلا، وما شابه ذلك، وهي كلها أفكار تظهر بمجرد أن تزال الصعوبة، ونتيجة لذلك فإن وجود المؤمن ما زال أكثر انفعالية من وجود الفيلسوف اليوناني، الذي كان في حاجة إلى درجة كبيرة من الانفعال حتى بالنسبة إلى «عدم اكتراثه
etaraxy »؛ إذ إن الوجود الذي يؤكد بطريقة ممتعة يولد أقصى قدر من الانفعال.
إن في التجريد من الوجود إزالة الصعوبة، والبقاء في الوجود من أجل فهم شيء معين في لحظة ما، وشيء آخر في لحظة أخرى، لا يؤدي بالمرء إلى فهم ذاته. على أن فهم أعظم المتقابلات سويا، وفهم المرء لنفسه موجودا فيها، هو أمر عسير حقا. فليكتف كل امرئ بأن يلاحظ ذاته، ويرقب الطريقة التي يتحدث بها الناس، وسيدرك مدى ندرة الحالات التي تحققت فيها هذه المهمة بنجاح. •••
إن المفكر الذاتي لا يتمتع، رغم كل ما يبذله من جهود مضنية، إلا بثواب هزيل؛ فكلما ازدادت الفكرة الجماعية سيطرة حتى على الذهن العادي، ازدادت صعوبة انتقال المرء إلى أن يصبح كائنا بشريا خاصا موجودا بدلا من أن يفقد ذاته في الجنس الشامل، ويقول «نحن» و«عصرنا» و«القرن التاسع عشر». ونحن لا ننكر أن كون المرء كائنا بشريا خاصا موجودا فحسب، هو شيء ضئيل، ولكن هذا السبب عينه هو الذي يجعل عدم الاستخفاف به أمرا يقتضي استسلاما غير قليل. إذ ما قيمة الفرد وحده؟ إن عصرنا ليعلم حق العلم مبلغ ضآلة قيمته، ولكن ها هنا أيضا تكمن اللاأخلاقية الخاصة لهذا العصر؛ فلكل عصر عيبه المميز له. وأعتقد أن عيب عصرنا ليس في اللذة أو التهالك أو الحسية، وإنما في الاحتقار الانحلالي للإنسان الفرد بطريقة مبنية على نظرة شاملة إلى الوجود؛ فوسط كل ما نشعر به من فخر بما أنجزه العصر والقرن التاسع عشر، تسمع نغمة من الاحتقار المذموم للإنسان الفرد، ووسط كل الشعور بالأهمية الذاتية، الذي يتملك الجيل المعاصر، يتكشف إحساس باليأس من الكائن البشري. وعلى كل شيء أن يرتبط بحركة ما ليكون جزءا منها؛ فالناس مصرون على أن يفقدوا ذواتهم في المجموع الكلي للأشياء، وفي تاريخ العالم، وكأن ثمة سحرا يفتنهم ويخدعهم، ولا أحد يريد أن يكون كائنا بشريا فرديا. وربما كان هذا مصدر المحاولات العديدة التي تبذل للاستمرار في التمسك بهيجل، حتى من أناس توصلوا إلى إدراك الطابع المريب لفلسفته. والمسألة ها هنا إنما هي خوفهم من أنهم لو أصبحوا كائنات بشرية خاصة موجودة، فسوف يختفون دون أن يبقي لهم أثر، بحيث لا تستطيع أن تهتدي إليهم الصحافة اليومية ذاتها، ناهيك بالجرائد الناقدة، فما بالك بالفلاسفة التأمليين الغارقين في تاريخ العالم! إنهم يخشون بوصفهم كائنات بشرية خاصة، أن يطويهم وجود منسي أكثر انعزالا عن وجود الإنسان في الريف؛ ذلك لأن المرء لو تخلف عن ركاب هيجل فلن يستطيع حتى أن يجد من يبعث برسالة إلى عنوانه.
الفصل الثاني عشر
العودة إلى التنوير
إرنست ماخ (1838-1916م)
لم يساهم أي فيلسوف بحثنا، في هذا الكتاب، باستثناء كانت، بأي دور في العلم الفيزيائي، بل إن القليل منهم من كانت له معرفة دقيقة به؛ فاهتمام الفلاسفة بالعلم الطبيعي خلال جزء كبير من القرن التاسع عشر ظل خاملا إلى حد بعيد، على عكس الحال في «عصر العقل».
अज्ञात पृष्ठ