زمان سقطت فيه القيم وعلا فيه الانحطاط. وهان فيه الرفيع من شيمنا، وساد فيه الدنيء من أخلاقنا.
وسقطت المثل الرفيعة، ليحيا المال وحده بغير عنان من شرف يلوي به عن السرف أو مسكة من ضمير توقف جبروته وطغيانه؛ فهو وحده المعبود وهو وحده السيد المتصرف. بطانته الجهل والجنس والجبروت والتكبر بلا كبرياء والترفع بلا رفعة والتطاول بلا طول والاعتداء على كل مقدس، والقتل لكل فضيلة أو فاضل، والبعد كل البعد عن المرحمة والحب والإنسانية، ولا أقول النورانية، فهيهات.
لهم الله المؤمنون المحسنون من أبناء العصر؛ فلولا إيمانهم بالله عميق لم يبق فيها من خير، ولتركوها مختارين رافضين أن ينتظروا حتى يطويهم ما أصبحوا يتوقون إليه لينقلهم هناك عند عزيز رافع السموات صاحب العرش والكرسي؛ حيث ترعى عنده، وعنده وحده سبحانه، حرمات شاء أن تصان، وإنها ببعض قليل من عباده مصونة وإن رغم أنف الزمن الأجرب.
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
هذه قصة طوتها يد النسيان من قصص ألف ليلة وليلة. ربما رواها الرواة ولكنها لم يكن لها حظ الإثبات بين دفتي كتاب، ولست أدري أسمعتها فأرويها أم شهدتها فأحكيها أم تخيلتها كما يتخيل المؤلفون فسعيت إليك بها. أقصها عليك فيما تعودت أن أقص عليك.
يحكى أنه في زمن من الأزمان ولي الحكم سلطان طاغية جبار، لا يطيب له الحكم إلا بالحديد والنار. يقتل الناس لأهون الأسباب، ويغتصب الأموال فهي له أسلاب. ويستحل كل حرام، ويعامل الناس بالإجرام. نشر جواسيسه في كل مكان، وبث عيونه بجميع الأركان. والويل والثبور لمن قال لا إله إلا الله، فالموت ينتظر كل أهله وذوي قرباه. أمر السلطان ألا يغادر أحد البلاد ومعه أمواله، فاضطر كل فرد في الشعب أن يرضى بحاله. وأقفل جميعهم فمه حتى لا يريق الجبار دمه. وصار الناس لا يتكلمون إلا همسا، فإذا مررت بالديار فلن تسمع حسا. وامتنع عن الاجتماع في الأماكن العامة؛ فقد كانوا يخشون إذا اجتمعوا أن تقع عليهم الطامة. وكان المكان الوحيد الذي يضطرون أن يحتشدوا فيه هو السوق، وهو مكان مرموق. لا يجرؤ فيه أحد أن يتكلم في غير التجارة ؛ فقد كانوا يعلمون أن الجواسيس قد تكون في جداره، وأن عيون السلطان تحصي أنفاسهم، تكاد تمسك الكلمة التي تدور في أذهانهم.
وكان للسلطان وزير على شاكلته، يحبب إليه كل ظلم، ويجمل له كل قبيح، فإذا حرم الله فهو يبيح، وإن منع الشرع فهو يتيح. كان كلبا عقورا، ويظل طول ليله مخمورا. حتى إذا صحا الصباح لا يشعر به الوزير إذا لاح؛ فهو من خمر الأمس سكران، وإن بدا وكأنه يقظان؛ فهو مفتوح الأجفان، ولكن بعقل نعسان. يلوح لمن يراه كأنه يفهم ما يقال، بينما هو من السكر في شر حال.
نزل السلطان والوزير إلى السوق متخفيين، يريدان أن يريا الناس رأى عيان. ولم يطل انتظارهما؛ فسرعان ما شهدا الناس لا تقول إلا ما يسر الطاغية، وما يجعل نفسه راضية. ولم يحاول واحد منهما أن يشهد الحزن الذي يتحرك فيه الناس، ولا البؤس الذي يسيطر عليهم من شدة اليأس؛ فعين الطاغية ومعاونيه لا ترى إلا ما يرضيها ويرضيه.
وبينما السلطان والوزير يتخذان من مكانهما ستارا خفيا، رأيا بهلوانا يطوي السوق طيا. ويقف إلى جانب حصان هزيل، له صاحب أشد منه هزالا فهو في وقفته يميل. واقترب رأس البهلوان من المالك المتهالك، ثم اعتدل الرأسان وقد وضحت أمامها المسالك. وبدا البهلوان يصيح، مفتريا صفات البطولة للحصان القبيح؛ فهو الأسد الواثب، وهو في الميدان هو الغالب. وتقاطر الناس من كل حدب، وتجمعوا حوله من كل صوب. وراح هو يجمل الحديث في كذب مفضوح ويسويه، حتى وجد الحصان من يشتريه. وفرح البائع أي فرح، وأعطى البهلوان نصيبا من الثمن فأكرم وسجح.
ثم رأى السلطان البهلوان ينتقل إلى حمار شأنه شأن الحصان الواهن الضعيف، ويقول عن الحمار فيزيل من هزاله وإلى قوته يزيد ويضيف. ويباع الحمار، ويجني البهلوان الثمار. ويتكرر فعل البهلوان، والسلطان والوزير مندهشان.
अज्ञात पृष्ठ