تحية إليك
عاشق الليل
حين يشيخ البحر
زعيم من الوهم
الريح والبلاط
ملحق البهلوان
الثور المذءوب
ويل لشتاء بلا ربيع
بين الخطيئة والغفران
أمنية لن تتحقق
अज्ञात पृष्ठ
الخبرة والإدارة
لحظات مع المجنون
ملبس أجرب لزمن ممزق
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
عالي الصوت لم يزل
صورة من مرآة النفس (ترقية)
صورة ليست كاريكاتورية
سقط الصنم
الصوت المرتفع والتليفون والفن
قردة
अज्ञात पृष्ठ
طويل ولكن!
الناس والملائكة
حواديت
حواديت
تحية إليك
عاشق الليل
حين يشيخ البحر
زعيم من الوهم
الريح والبلاط
ملحق البهلوان
अज्ञात पृष्ठ
الثور المذءوب
ويل لشتاء بلا ربيع
بين الخطيئة والغفران
أمنية لن تتحقق
الخبرة والإدارة
لحظات مع المجنون
ملبس أجرب لزمن ممزق
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
عالي الصوت لم يزل
صورة من مرآة النفس (ترقية)
अज्ञात पृष्ठ
صورة ليست كاريكاتورية
سقط الصنم
الصوت المرتفع والتليفون والفن
قردة
طويل ولكن!
الناس والملائكة
حواديت
حواديت
عاشق الليل
عاشق الليل
अज्ञात पृष्ठ
صور قلمية
تأليف
ثروت أباظة
تحية إليك
كتابي هذا إليك تحية أحب أن أقدمها في ساحتك. وهي كما ترى في العنوان صور نقشها القلم بالحروف. ولا أحسب أن هذا النوع من الكتابة سبق أن تقدم به أحد بين يديك.
فهو باليقين ليس مقالات؛ فبناء المقالة وأسلوبها وموضوعها معروف لا يجهله قارئ، ولا يخطئه كاتب.
وهو أيضا ليس قصة؛ فالقصة تحتاج إلى كثير من التركيبات والتهويمات التي ما أحسب أنك واجدها بين دفتي هذا الكتاب.
إنه حكايات عن أشخاص عرفتهم وعرفهم الناس في مألوف الحياة وغمارها. وأحسب أن كثيرا سيتعرفون عليهم من ثنايا الكتاب الذي أهديه إليك. وقد وجدت في هذه الشخصيات نماذج فريدة جديرة بأن يتناولها فنان، وخليقة بأن يقرأها الناس.
وحين اخترتهم لك نفذت أو حاولت النفاذ إلى دخيلة طواياهم، والمحجب المستسر من بواعثهم. وحين بلغت، أو خيل لي أنني بلغت، وجدت أنني أستطيع أن أقدم إلى الفن الأدبي صورة لا يستطيع أن يرسمها إلا القلم؛ فالريشة لا يتاح لها أن تصل إلى البعيد من طوايا النفوس، وإذا وصلت فهي ترسمها وقد غشاها الكثير من الشك، حتى إن أمرها يستبهم على المشاهد وتختلط في عينه الصفات.
أما القلم فواضح صريح. أليس هو البيان؟
अज्ञात पृष्ठ
فإليك إذن ما صور القلم. إن كنت قد بلغت به من نفسك ما أتمنى أن أبلغ فما أعظم هذا لي وما أسعدني به! فإن الكاتب لا يهنأ بشيء قدر أن يعرف أن الشرارة التي انبعثت من قلمه قد لاقت شرارة مثلها عند قارئه. وفي هذا اللقاء يضيء مصباح ينير حياة البشر أجمعين.
أما إذا كان الطريق قد أكدى بي فحسبي عندك أنني حاولت، وكنت فيما حاولت أتمنى رضاءك. وفي هذا التمني وحده ما يمهد لي عندك أسباب الاعتذار، ويمهد لك عندي أسباب الشكر. والله من فوق الجميع هو ولي التوفيق.
ثروت أباظة
عاشق الليل
سبحان الخالق العظيم! جعل كل فرد من الناس نمطا مستقلا بذاته، له مشاعره الخاصة، وشكله الخاص، وأفكاره التي تتخلج في أعماق نفسه، لا يعرف أسرارها إلا الخالق سبحانه، ثم جعل لكل إنسان بصماته الخاصة التي لا يتماثل فيها اثنان في العالم؛ كأن هذه البصمة هي توقيع لفنان انتهى من عمله الفني.
من هذا الشتات من الأفكار ومن المشاعر ومن التركيب الخلقي والخلقي تتكون الشعوب، ومن هذه الشعوب تتكون البشرية.
فكل نظرية لا تدخل في حسبانها أن الإنسان مشاعر ورغبات وآمال وآلام وعواطف تضطرب بين الحب الجارف بلا حدود والكره القاتل لا يرده شيء، نظرية لم تخلق للإنسان، وقد تصدق على الآلة الصماء بلا مشاعر لها ولا آمال ولا آلام.
في قريتي أنماط الناس على كل صنف ولون، ولكن بعض أشخاص لا يستطيع النظر أن يعبرهم بغير إنعام وتمعن.
عبد الحليم حسون؛ عرفته أول ما عرفته خفيرا نظاميا في القرية، وكان عمدة القرية معجبا به أشد الإعجاب؛ فهو أول من يتسلم سلاحه في صفار الشمس وهو آخر من يسلمه بعد أن يصلي الفجر.
ولا يأتي جزء من الليل على عبد الحليم إلا وهو يقظ لا ينام؛ فعبد الحليم يحب الليل ولا يطيق أن يفلت منه لحظة دون أن يعيشها بأكملها، بأعماقها جميعا، ويستمتع بكل ما في الليل. وهو يستمتع بالليل على أي صورة له فهو يحبه أسود قاتم الظلمة معتما. وهو يحبه والنجوم على صدر سمائه. وهو يحبه والقمر يحيله إلى هذا اللون الأزرق الذي يشيع في النفوس الحب للحب، والهوى للهوى، والشفافية الشاعرة الرقراقة. ويسعد بغلالة القمر نسجتها يد الفنان الأعظم. ويلقي عبد الحليم نفسه في هذه الغلالة سعيدا لا يدري لسعادته سببا ولا يريد أن يدري. وكأنما أدرك بحسه كالبدائي الصادق أن التغلغل في أسباب السعادة يدمر السعادة. إنما هي لحظة إشراق تومض، فهو بها في نشوة، ولا يعنيه من بعد من أين جاءت هذه الإشراقة، وكم ستمكث، ومتى ستولي عنه. وإنما هو يلقي نفسه إليها بالدنيا جميعا. هي لحظته تلك، وليكن بعد ذلك ما يكون.
अज्ञात पृष्ठ
وما عرفت في حياتي شخصا يقدس الحرية مثلما يقدسها عبد الحليم.
أحب وتزوج وأنجب بنتا، وما إن جاءت البنت حتى تكشفت زوجة عبد الحليم على حقيقتها؛ لقد أرادت أن تفرض سيطرتها عليه فلا يفلت إلا من يدها، ولا يخرج إلا بإذنها، ولا يصادق إلا بأمر منها.
واتخذ قراره الحاسم.
الوقت شتاء ولكن لا يهمه. وهو يسهر الليل كله في درك الخفر. وللجسم حقوق لا بد أن تؤدى، فإذا خرج من بيته فإلى أين يأوي؟
لم يفكر، كان قد اتخذ قراره.
لم يعد بعد ذلك إلى بيته، والتمس من حقل شجرة ونام. وأصبحت الشجرة بيته.
وحاولت الزوجة أن تسترده بكل الوسائل التي تعرفها المرأة فلم تفلح، فحاولت أن تسترده بالوسائل التي تعرفها القرية ففشلت. - إن ما بيني وبينك ورقة الزواج. أستطيع أن أجعلها في أي لحظة ورقة الطلاق. وأنا لا أريد أن أفعل هذا من تلقاء نفسي من أجل بيتنا. لن أطلقك إلا إذا طلبت هذا. - عد، وافعل ما تشاء. - إن المرأة التي تحب أن تسيطر لا تصلح لي. - قلت افعل ما تشاء. - أنا لا أريد إلا أن أكون حرا. - فكن حرا. - لن أكون حرا إلا وأنا بعيد عنك. - وبيتك ؟ - ما دمت فيه فهو ليس بيتي. - وأنا كيف أعيش؟ - هذا شأنك. ما دمت تعرفين كيف تسيطرين فلا بد أنك تعرفين كيف تعيشين. - وبنتك؟ - لن ينقص ابنتي شيء إلا أن أكون أنا موجودا. - أنت تعرف كم تحبك. - أنا طول الليل في الدرك تستطيع أن تأتي إلي عندما تشاء. وهي تعرف كيف تجدني دائما. - أليس هناك أمل؟ - أما أنا فأملي كله أن أكون حرا، وقد صرت حرا. وهكذا اتخذ عبد الحليم قراره ونفذه. ولم يجد معه حديث زوجته ولا شفاعة أصدقائه. ولم تجد زوجته سبيلا إلا أن تلجأ إلى العمدة تستعينه على زوجها. - ارجع يا ولدي إلى زوجتك. - وما دخل هذا في عملي يا حضرة العمدة؟ - إنني آمرك. - سعادتك تستطيع أن تأمرني بما شئت فيما يتصل بعملي. أما ما يتصل بزوجتي فلا يأمرني أحد. - حتى ولا أنا؟ - وما دخلك أنت يا حضرة العمدة فيما بين الزوج وزوجته؟ - أنا عمدة البلد يا ولد، هل جننت؟ - يا حضرة العمدة، أبقى الله عليك العمدية، ولكن هل تستطيع بالعمدية أن تجعلني أقبل زوجتي؟ وإذا كانت كريهة إلي هل تستطيع أن تجعلها حبيبة يا حضرة العمدة؟ الله وحده هو الذي يملك القلوب، والصلة بين الزوج والزوجة لا يعرف أسرارها إلا الزوج والزوجة، إنها صلة لا مثيل لها في العالم، ولا تكون بين اثنين آخرين أبدا؛ فلا هي نفس الصلة بين الابن وأبيه، ولا هي الصلة بين الابن وأمه، ولا بين البنت وأمها؛ صلة عجيبة أنشأها سبحانه على نظام خاص، فكيف تتصور أن تتدخل فيها بأوامرك يا حضرة العمدة؟ - الله، الله، الله، ما كل هذه الفصاحة؟ - ولكني على حق. - إذن فأنت مرفوت. - سبحانه! لا يترك أحدا جائعا.
لم يكن المرتب يعني عبد الحليم؛ فهو يعرف أنه سيعيش، ولكنه حزين أنه حرم من الليل. ولم يقم حزنه طويلا. لقد كنت أسهر لأني خفير فماذا بي لو سهرت لأني حر؟ سيضحك مني الناس، ولكن ما شأن الناس بي؟! لقد رفتني العمدة لأعود إلى بيتي، ولكن ما الحرية إذا أنا لم أغتصبها اغتصابا؟
ومنذ ذلك اليوم وعبد الحليم لا ينام في البيت أبدا. في الشتاء العاصف والريح تعوي فيختلط صوتها مع صوت الذئاب، والمطر ينهمر فيدق الأرض، وكأنه عديد من العصي الغليظة، وطرقات القرية وحقولها لا يبدو فيها أنس أو وميض من نور، تجد عبد الحليم في العراء، كل ما فعله لنفسه ليتقي لذعة البرد كيس فارغ من أكياس القطن مبطن بقش الأرز، يغمر عبد الحليم نفسه في داخله، وينظر إلى الليل؛ فهو يحبه أيضا حين يعصف وينهمر مطره وتعوي ذئابه ورياحه.
وتمر الأيام لتصبح سنوات، وتكبر ابنة عبد الحليم، ويأتي لها من يريد الزواج بها. وتتزوج في بيت عبد الحليم مع زوجها حتى لا تترك أمها وحيدة.
अज्ञात पृष्ठ
وتمر أيام أخرى. وتموت زوجة عبد الحليم، وتقصد البنت إلى أبيها. - أبي، قد كبرت. ولم تعد تستطيع أن تظل على هذه الحال. - وما هذه الحال؟ - تحتاج إلى لقمة طيبة وهدمة نظيفة ونومة هادئة. - أما اللقمة فأنا، كما تعلمين، لا يغريني الطعام. وأما الهدمة ... - أعرف، أعرف أنك أنظف إنسان في القرية، ولكنك يا أبي أنت الذي تغسل جلبابك كل ليلة. - من يريد أن يكون حرا لا بد أن يكون نظيفا. - والنومة الهادئة؟ - أتحسين يا ابنتي أني أنام في العراء لأني لا أجد بيتا؟ - أتحب أن تنام في العراء؟ - قولي لي، كيف أعيش منذ تركت الخدمة؟ - تؤدي الطلبات لأصدقائك في البلاد الأخرى وفي البندر مقابل أجر ضئيل. - يكفي لقمتي وسيجارتي. - وما شأن هذا بنومك في العراء؟ - هل أعدم سقفا عند أصدقائي هؤلاء؟ إنما أريد أن أرى الليل وأقيم فيه. إنه يخيل لي أن الليل نفسه لا ينام إلا إذا رآني أنام تحت سمائه. أنا يا ابنتي مخلص لأصدقائي كما تعرفين. الليل هو أحب أصدقائي إلي، وهو أيضا أوفى الأصدقاء لي.
حين يشيخ البحر
مرت بنا في الإسكندرية أيام خيل إلينا فيها أن البحر قد شاخ، وأنه أصبح عاجزا عن أن يموج ثانية. كانت المياه منه تصل إلى الشاطئ عاجزة لاهثة، كأنها حيوان أخذ منه الجهد مأخذه؛ فهي ترتمي على الرمال ارتماء من يتشبث بالحياة، وينشب فيها أظافر يائسة مرتعشة توشك أن تموت.
وكان الهواء قد مات فعلا، حتى لقد خيل إلينا أنه يبتسم أبدا.
وإذا كان هذا حالنا ونحن على شاطئ البحر في الإسكندرية، فالله في عون البعيد عن الشاطئ.
في هذا الجو يجمل بنا أن نتناول حديثا بعيدا عن السياسة؛ فالسياسة إن أعجبت قوما أغضبت آخرين، وإن رضي بحديثها بعض ضاق به بعض أكثر.
والأخذ في غير حديث السياسة أمتع للقارئ وأيسر للكاتب، وخاصة إن كان الكاتب مثلي مرن على كتابة الرواية والقصة، وعرف بهذا اللون بين الناس، وأصبح عذره بين يديه إذا هو قدم إلى قارئه من حين إلى آخر حكاية. وقد يسأل من يسأل: فما لك لا تصوغ هذه الحكاية قصة قصيرة تضاف إلى مجموعة جديدة، أو رواية طويلة تضاف إلى ما كتبت من روايات؟
وأيسر إجابة على ذلك أن أبطال هذه الحكاية يفسدون الحبكة الروائية، ويدمرون الصدق الفني؛ فهم بأعمالهم الخارقة للعادة يحولون دون جعل قصصهم أعمالا فنية؛ لأنها أعمال يرفضها التصديق ويأباها المنطق، ولا بد للعمل الفني أن يتسم بالصدق جميعا.
ومع كل هذا فالحكاية التي أقدمها قد وقعت في الحياة فعلا؛ ذلك أن الحياة لا يعنيها في كثير أو قليل أن يصدق الناس ما تؤلفه من قصص وروايات، وإنما يعنيها أن تؤلف، وليس يعنيها من يستقبل العمل الفني. •••
ولعل أبيات شوقي في قصيدته الخالدة مصاير الأيام خير دليل على ما أذهب إليه.
अज्ञात पृष्ठ
قطيع يزجيه راع من الده
ر ليس بلين ولا صلب
أهابت هراوته بالرفاق
ونادت على الحيد الهرب
وصرف قطعانه فاستبد
ولم يخش شيئا ولم يرهب
أراد لمن شاء رعي الجديب
وأنزل من شاء بالمخصب
وروى على ريها الناهلات
ورد الظماء فلم تشرب
अज्ञात पृष्ठ
وألقى رقابا إلى الضاربين
وضن بأخرى فلم تضرب
وليس يبالي رضا المستريح
ولا ضجر الناقم المتعب
وليس بمبق على الحاضرين
وليس بباك على الغيب
وهذه القصة - مع كل المقدمة التي قدمتها عن السياسة - ما زلت لا أدري أهي سياسة أم غير سياسة. •••
تبدأ القصة حيث تنتهي الأفلام المصرية بزواج فتى مهندس شاب بفتاة ثرية واسعة الثراء.
ولكن المهندس بارع في النفاق فهو يضع رجله دائما حيث ينتفع من وضعها، ويمد يده دائما لينال مالا أو منصبا. وهو لم يعمل نفاقه على ذوي السلطان فقط، وإنما أعمله وأجاد إعماله على زوجته الغنية، حتى استطاع أن يحول أموالها كلها إلى حوزته، فأصبح مالكا لكل ما كانت تملكه.
ولما كان النفاق يجهده غاية الجهد، فقد تعرف بسيدة أخرى أخذت عليه مسالك تفكيره كلها، فأصبحت تأمر فينفذ أمرها. وكانت السيدة متزوجة. ولم يكن طلاقها سهلا، ولكنها - لأنها قادرة - استطاعت أن تجعل زوجها يطلقها. وصورت هذا الطلاق للمهندس المنافق على أنه تضحية من أجله كبرى. ولم يكن المهندس محتاجا لإقناع؛ فقد استنفد أغراضه من زوجته بعد أن أصبح المال كله ماله هو. طلق زوجته وتزوج السيدة الأخرى.
अज्ञात पृष्ठ
وكما تدين تدان.
استطاعت السيدة الأخرى أن تبتلع ماله هو جميعا؛ أقصد المال الذي استلبه من زوجته الأولى استلبته منه زوجته الثانية جميعا.
وكان في هذه الفترة قد بلغ منصبا تستطيع هي أن تنتفع به، كما استطاع هو أن ينتفع. وبمعرفة قادرة استطاعت أن تصبح السيدة الجديدة مستأجرة لخمس وثلاثين شقة خالية من الأثاث؛ أثثتها هي وأصبحت تؤجرها جميعا مفروشة. والشقق جميعا باسمها. وهكذا أصابت المال والشقق جميعا. ولم يبق للمهندس إلا منصبه. ولكن متى دامت المناصب حتى تدوم له؟ ما هي إلا دورة زمن حتى أبعد عن منصبه. وحينئذ وجدت الزوجة المخلصة - المخلصة لنفسها - أن الأوان قد حان ليطلقها. وإذا كانت قد استطاعت أن تحصل على طلاقها الأول فهي على طلاقها الثاني أكثر قدرة. وطلقها.
وهو اليوم رهين المحبسين من فقر وبطالة.
أما هو فقد نال جزاءه وهو بعد على قيد الحياة. أما هي فأغلب الأمر أن جزاءها سيكون في الحياة الثانية، و«إن ربك لبالمرصاد».
ترى أوجدت النغمة السياسية الخافية في هذه القصة؟ ما أحسب أنها فاتت ذكاءك.
فقد صنع هذا المهندس ماله وشقق زوجته ومنصبه في عهد كان النفاق فيه هو البضاعة الوحيدة في السوق.
وأخشى أن أمضي في الحديث إلى أبعد من هذا، فأجد القلم قد انغرس في أسماء الأشخاص، وتنقلب الحكاية إلى نميمة. وما أشتهي هذا لنفسي ولا لقلمي.
ترى هل استطعت أن أخفف عنك وطأة الحر. إن لم أكن فاذكر أن هذا عهد قد مضى وأنه لن يعود. وحين تذكر هذا ستحس نسمة من أمن ومن ريح طيبة رخاء ترطب حولك أعباء الحياة.
زعيم من الوهم
अज्ञात पृष्ठ
وهل حياة الإنسان إلا ذكريات تنداح في خفايا النفس متحفزة متوفزة تترقب من الحياة منفذا تثب منه إلى الوجود، فإذا هي تنقلب من مجرد ذكرى إلى واقع يحياه الإنسان وكأنه ما بارحه في أمس البعيد.
وهذه الصورة قفزت إلى واقعي بعد أن استخفت في أطواء نفسي قرابة أربعين عاما، وكنا تلاميذ في المدارس الثانوية، وفوجئنا بزميل لا يمشي كما نمشي ولا يتكلم كما نتكلم؛ ففي مشيته بطء وخيلاء، فاشل واضح التصنع، وفي صوته رنين يريد أن يكون رنين التعالي، فلا يتم له ما يريد. وتحلقنا حوله - ماذا بك يا أخي؟! كنا عرفنا اسمه، كما عرف كل منا اسم الآخر.
فقد كان أول أستاذ في العام الدراسي الجديد يدخل إلى الفصل، وينادي الأسماء اسما اسما، ويطلب من التلاميذ أن يقف كل منهم حين يسمع اسمه، فما هي إلا دقائق حتى عرفنا من لم نكن نعرف من الأسماء، ممن لم تجمعنا وإياهم سنوات سابقة. وكان اسم هذا الزميل هو عبد الشكور عبد النبي. وقد وقف حين وقف في عظمة ولكنها مفتعلة. وجلس حين جلس في نفس العظمة المفتعلة. وأدركنا نحن من هيئته أننا وقعنا في عامنا هذا على مادة للسخرية لا مثيل لها في حياتنا جميعا.
كان عبد الشكور يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ليس ذا ثراء. وكان قصير القامة؛ فتراه يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وكان يلبس الحلة ذات صفين من الأزرار، ويميل الطربوش إمالة واضحة إلى اليسار مثل محمد محمود باشا، ويضع يده اليسرى في جيب الجاكتة مثل صدقي باشا الذي كان يفعل هذا ليخفي الشلل الذي أصاب يده، ولكن عبد الشكور ظن أن صدقي باشا يفعل ذلك على سبيل العظمة. وكان يضع وردة حمراء في صدره مثل النحاس باشا.
وهكذا أصبح أخلاطا من الزعماء كلهم عدو للآخر، جمعهم هو في ملبسه ومظهره وحركته ومشيته. بدأنا نناوشه: ماذا تريد أن تكون؟ - أنا زعيم عصركم. - ماذا قلت؟ - لا بد لكل عصر من زعيم، وقد هيأت نفسي أن أكون زعيم عصركم لأخرج الإنجليز من مصر.
وقع المسكين في شر أعماله ولم يجد من يسمي عليه. أصبح مسختنا وسخريتنا وملهاة المدرسة وتسلية التلاميذ، ولكن العجيب أنه كان لا يتحرج ولا يهتم، فإذا اجتمع الطلبة وهتفوا ساخرين بحياة الزعيم العظيم حياهم بيده في عظمة يقصر عنها الزعماء شهرة وزعامة.
وكان أستاذ التاريخ في فصلنا من أعظم المدرسين الذين عرفناهم في سنوات حياتنا جميعا. ولولا خشيتي أن أكشف بذكر اسمه شخصية بطل هذه الصورة لذكرته أطال الله حياته ومتعه بالصحة والعافية.
وقد رأى أستاذ التاريخ أن يعد كل تلميذ درسا من دروس المنهج ويلقيه على إخوانه، ويناقشه الإخوان في الدرس. وهكذا تثبت المعلومات في أذهاننا نابضة بالحياة، ويكتب لها البقاء إلى الأبد.
وحدث أن اختار الأستاذ لدرس من دروس المنهج أخانا عبد الشكور عبد النبي. ووقف بيننا عبد الشكور عبد النبي وانفجر يخطب وكأنه مصطفى كامل باشا في عنفوان أيامه. وأعلننا أنه منذ اليوم سيتولى زعامتنا لنخرج الإنجليز من مصر، وأنه هو وحده القادر على أن يخرجهم. وانفجرنا في ضحك ساخر مجلجل صاخب لم يستطع على رغم اندفاعه أن يصيب منه أي وتر من خجل، ولكن الذي خجل من أجله أستاذ التاريخ، الذي لم يجد بدا من أن يقول له في أدب جم: طيب. ادخل أنت إلى درجك دلوقت يا عبد الشكور. ودخل عبد الشكور مرتفع الهامة ثابت الخطوة متعاظم المشية، يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وراح الأستاذ يكمل الدرس.
ولكن أستاذنا كان شاعرا رقيق الحس مرهف المشاعر. وخيل إليه أن عبد الشكور قد أصيب في كرامته فأراد أن يرد إليه ما تصور أنه سلب من كرامة، فاستدعاه.
अज्ञात पृष्ठ
وجاء عبد الشكور إلى مكان الأستاذ. وإذا به يواصل خطابه الذي أوقفه عنه الأستاذ، ويعلن زعامته مرة أخرى في صفاقة أشد من المرة السابقة. وفي هذه المرة لم ينفجر الفصل وحده، وإنما انفجر معه الأستاذ الحليم الذي لم نره ثائرا في حياتنا إلا في ذلك اليوم، وصاح به: يا عبد الشكور أنت غير معقول. امش ادخل مكانك، امش.
وأصبح ما حدث في الفصل حديث المدرسة كلها. ووجدنا أنفسنا نحن تلاميذ الفصل موضع الأسئلة المتزاحمة علينا من زملائنا في الفصول الأخرى.
وفي اليوم التالي فوجئنا بعبد الشكور يوجه الدعوة إلى الشاي في منزله لبعض تلاميذ الفصل، وعجبنا لأمره.
ولكننا قبلنا الدعوة لنصل إلى كل ما نستطيع أن نبلغه من حقيقة الزعيم.
البيت لموظف رقيق الحال في أربعينيات القرن. واضح أن اعتماده الوحيد على مرتبه دون أي عون آخر. والبيت نظيف، والمواد المقدمة في الشاي هزيلة، ولكن الجهد الذي وراءها واضح المعالم. وبدأ أبو الزعيم الحديث فعرفنا عجبا.
لقد كان عبد الشكور من الوقاحة وكان أبوه من السذاجة بحيث استطاع عبد الشكور أن يقنع أباه أنه زعيم المستقبل، وأننا نحن أعوانه ورجال حزبه وعناصر التأييد لزعامته؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن نجد الأب سعيدا بابنه سعادة غامرة لا عقل فيها ولا تفكير ولا تدبر.
ومع أننا كنا في تلك السن القاسية التي لا تعبأ كثيرا بشعور الآخرين، إلا أننا - وكنا ستة طلاب - أجمعنا دون اتفاق على ألا نجرح مشاعر الأب الساذج في ابنه، الذي يثق وثوقا كاملا أنه زعيم فترته.
وانصرفنا.
وفي اليوم التالي كنت قد نظمت أبياتا في عبد الشكور تفرج عن غيظي الذي كتمته في مجلس أبيه. والعجيب أنني أذكر هذه الأبيات، وهي أول ما نظمت في حياتي:
على رغم المظاهر والغرور
अज्ञात पृष्ठ
صغير أنت يا عبد الشكور
أترجو أن تكون زعيم قوم
لتنظر في الصغير وفي الكبير؟
فدع عنك الزعامة واجتنبها
فلا في العير أنت ولا النفير
والأبيات كما هو واضح بالغة الضعف، ولكن التلاميذ تلقفوها، وراحوا يتغنون بها كلما مر بهم عبد الشكور.
وأراد أن يدبر لي بذكائه السياسي مصيبة، فجاء إلى الدرج الذي أجلس فيه، وأخذ مكانه بجانبي وقال: أنا أريد أن أقابل والدك.
قلت: وما له! تحت أمرك؛ فهو أيضا ممن يعملون في السياسة، وقد ينضم إلى حزبك.
قال: لا. أنا جاد فيما أقول.
قلت: ومن قال لك إنني تحت أمرك؟ ولكن فيم تريد أن تقابله؟!
अज्ञात पृष्ठ
قال في جدية شديدة: إن صلتك بالفتاة حسنية أصبحت على كل لسان، وأحب أن أخبر الوالد لأخلص ذمتي أمام الله.
أدركت ما يقصد إليه؛ فأنا لم أعرف في حياتي فتاة بهذا الاسم. وقد كانت حياتي جميعا بعيدة كل البعد عن المغامرات النسائية. وكان أبي أعلم الناس بذلك.
قلت لعبد الشكور: والله تشكر يا عبد الشكور. أنت فعلا أخ؛ فإن حب هذه الفتاه يسد علي أقطار الحياة، وأنا أخشى أن أخيب بسبب حبها. وربما لو أخبرت أنت أبي الذي لا أجرؤ أنا على إخباره يزوجني من الفتاة أو يردعني بسلطان الأبوة، وتكون قدمت لي خدمة العمر.
فإذا عبد الشكور ينتفض غاضبا باكيا لأول مرة في حياته صائحا: أنت مش معقول، أنت مش معقول.
وانصرف عني وهو يرقأ مدامعه بمنديله.
ومضت الأيام وغاب عبد الشكور عن الذاكرة، وذكرته هذه الأيام.
لم يصبح عبد الشكور زعيما، ولكنه أيضا يأبى أن يتخلى عن فكرة الزعامة، فإذا هو يصطنعها في مكان لا يصلح مطلقا للزعامة، ومن يحاول الزعامة فيه يصبح إنسانا أخرق الرأي ضائع التفكير سقيما غاية السقم في حكمه على الأمور.
صورة من الماضي أبى الحاضر إلا أن يردها إلى الحياة. ويا ليتها ظلت حيث كانت في طوايا الذكريات الخفية، ولكن متى كانت «ليت» ذات نفع؟! إنها كلمة الحسرة، لا تنفع الحسرة. والأمر لله من قبل ومن بعد.
الريح والبلاط
كانت حقيبته خاوية أو تكاد وهو قادم إلى القاهرة، ولكن وعاء تاريخه كان حافلا بكل الهوان؛ فقد كان أبوه الوحيد في القرية الذي لا يستطيع أن يقول إنه فلاح. ثم هو لا يستطيع أيضا أن يفصح عن وظيفته الحقيقية. والقلم أيضا لا يستطيع أن يكتب هذه المهنة؛ فإن سنه لم يتعود أن يخط حروف هذه الصنعة متلاصقة. وللقلم مثل الإنسان حد يقف عنده لا يعدوه، وهو قادر أن يقف بصاحبه حيث يشاء؛ فإن للقلم جفوة لا يملك الممسك به إلا أن يخشاها؛ فإن العلاقة بين القلم وصاحبه لا بد أن يسودها الوئام والتوافق؛ وإلا فويل لكل منهما من صاحبه؛ فحياة كل منهما تعتمد على الآخر كل الاعتماد، فلا حياة لممسك القلم بغير القلم. ولا حياة للقلم بغير صاحبه.
अज्ञात पृष्ठ
ولهذا أراني مضطرا أن أصف لك موقف القرية من العزوني، دون أن أذكر المهنة التي يمتهنها.
فكل رجل في القرية يحرص أن يكون حديثه إلى العزوني في خفية عن الأعين، وويل للرجل من زوجته كل الويل إذا هي سمعت أن جملتين من حوار اكتملتا حديثا بين زوجها وبين العزوني.
وقد نشأ حنفي بن العزوني وهو يرى أباه منبوذا من القرية جميعا، قصيا عن أهلها، لا يحادثه أحد منها إلا همسا، وفي غيبة كل العيون. وحين كان حنفي طفلا لم يكن يدرك سر أبيه. وحين ذهب إلى المدرسة وجد نفسه منبوذا من أطفالها، يعرضون جميعا عنه، ويرفضون حديثه إذا توجه به إليهم فرادى أو جماعات. وكان المدرسون أشد قسوة من التلاميذ في معاملاتهم له. وتعلم القراءة والكتابة، وسر أبيه ما زال مجهولا بالنسبة إليه. وأصبح الطفل صبيا يملؤه نشاط الصبا ولا مكان لمنشطه ولا ملعب له مع الأطفال، فيجري في الحقول لغير غاية، ويقف لا يدري لماذا وقف، ويجلس ولا يدري لماذا جلس. ويقصد إلى ملاعب الأطفال في الأجران فيقف منهم بمرقب، لا يجرؤ أن يعرض عليهم المشاركة في اللعب، طالما حاول ذلك فواجهه الصدود والرفض.
وأخيرا اطلع الفتى على سر أبيه، ثم ما لبث أن أصبح أبوه يجعله يقوم بالعمل عنه. وأتقن الصنعة بكل ما يحيط بها من احتقار ومذلة. وخلا بنفسه يوما، كم هو غبي أبوه العزوني هذا! إن الصنعة التي يمارسها لا تصلح في قرية؛ فالقرية مجتمع مقفل، كل شخص فيها مكشوف الجوانب للجميع، وعائد هذه الصنعة في القرية ضئيل الشأن؛ فأي معنى إذن لبقاء أبيه في هذه القرية؟! ربما قال أبوه لنفسه إنه في القرية محقور الشأن ولكنه أيضا يعرف زبائنه، وسيصبح من العسير عليه أن يتعرف على زبائن في المدينة. والمهنة تقوم على معرفة رغبة عند قوم تجد قبولا عند قوم آخرين؛ فمعرفة أصحاب الرغبة وأصحاب القبول هي أساس المهنة. وهذا أمر ميسور في القرية عسير في المدينة. ورأس مال هذه المهنة أن يرضى الذي يمتهنها أن يكون موضع احتقار الجميع في الظاهر وملتقى أموالهم في الخفاء. ولكن حنفي ما زال يعجب، ما دام أبوه قد تخطى مرحلة المحافظة على الكرامة إلى مرحلة الذلة والاحتقار، فلماذا يصحب رأس ماله الضخم هذا إلى المدينة؛ فهناك ينماع احتقاره في تيارها وأمواجها الصاخبة، وهناك كل إنسان له شأن يغنيه. وهناك لا يسعى كل إنسان إلى معرفة أسرار الآخرين. وإن حاول فنصيب محاولته - أغلب الأمر - الفشل والإخفاق.
لقد ذهب حنفي مرات إلى القاهرة، وأقام فيها عند خالته، فوجدها لا تدري عن مهنة أبيه في القرية شيئا، وجد زوج خالته يجهل شأن أبيه كل الجهل. وقد انساب حنفي في الجموع، وعرض صداقاته على الجلساء في المقاهي فما وجد إعراضا، وما صده رفض، وما سأله أحد ما صناعتك أو صناعة أبيك. وعرف حنفي في القاهرة مكتبات سور الأزبكية، واشترى ألف ليلة وليلة، وقصص عنترة وأبو زيد الهلالي سلامة، والأميرة ذات الهمة، ولم يرتفع مستواه إلى أعلى من ذلك.
وصحب هذه الكتب إلى القرية، وانغمس فيها يكب عليها في الأوقات التي لا يقوم فيها بعمل أبيه. ومن الطبيعي أن تكون أوقات القراءة متطاولة متسعة لأن أوقات العمل بطبيعتها ضئيلة منكمشة.
وهكذا لم يكن غريبا أن ينكر على أبيه بقاءه في القرية. ولم يكن عجيبا أن يصحب حقيبته وليس بها إلا شبه ملابس ويتجه إلى القاهرة.
ذهب إلى خالته. وأدركت أنه ينوي الإقامة، وفدحها الأمر. وأدرك أنه غير مقبول، وأن الترحيب الذي كان يجده في زيارة يومين أو ثلاثة أو أسبوع لن يجده في إقامة غير نازح.
ونزل إلى الطريق يحس أنه بالصنعة التي أتقنها وتلقاها عن أبيه أقوى الناس جميعا. ومن يستطيع أن يباري منعدم الكرامة في القوة والمتعة؟ إن الناس - سائر الناس - لديها بقية من حياء أو أثارة من خشية أن تذل لهم كرامة أو يوجه إليهم سباب، ولكنه هو بما وهبته صنعته وصنعة أبيه وبما احتقره الناس جميعا في مأمن كل مأمن أن يستطيع أحد النيل من كرامته؛ فلا كرامة له حتى تنال، أو الغض من شأنه؛ فلا شأن له حتى يغض منه إنسان.
ذهب إلى مقهى وجلس إليه، ولاحظ أن الباب المجاور للمقهى مفتوح على مصراعيه يلفظ الناس ويبتلعهم، لا يمل؛ فهو في حركة دائبة وفي شغل شاغل. ترك كرسيه ونظر إلى اللافتة المعلقة بجانب الباب «مجلة الفنون والسياسة». تقدم إلى رجل جالس على دكة بجانب الباب: ألا تحتاجون لعمال؟ - أي نوع من العمال؟ - أي نوع تريد؟ - هل تجمع الحروف؟ - أتعلم. - ومن سينتظرك حتى تتعلم؟ - أنا خدام نعليك. أي شغلة وأجرك عند الله. - تسمع الكلام. - قبل أن تقوله. - تعمل قاهيا؟ - وأقل من ذلك نعمة. - تعرف كيف تعمل القهوة؟ - والشاي. - ادخل.
अज्ञात पृष्ठ
وعمل قاهيا بالجريدة. وما هي إلا أيام حتى أتاحت له مهارته أن يمارس صنعته وصنعة أبيه. وما هي إلا شهور حتى فرض نفسه كاتبا بعد أن أصبح يملك في يديه أسرار كثير من المحررين والمحررات أيضا. وما هي إلا شهور أخرى حتى أصبح على صلة بسلاطين العصر، ومارس معهم الصنعة التي يجيدها. وكبر شأنه وطغى وتجبر وأصبح هو وحده من يتحكم في الجريدة. وكان أول شيء صنعه أن طرد البواب الذي مكنه من الدخول إلى الجريدة. •••
وتغير العهد. ووجد حكام العهد الجديد مخزيات تدور حوله، تتصل بالأمانة أول ما تتصل، ووجدوه أيضا قد تآمر على سلامة الدولة، وقبضوا عليه ومثل أمام المحققين، فكان أول شيء قاله: ماذا يأخذ الريح من البلاط؟ - أنت أمام النيابة ولست في كباريه. - أنا لم أقل شيئا. - فما هذا الريح والبلاط؟ - يا بك، أنا أسفل إنسان في الدنيا، وليس يهمني أي شيء ممكن أن تحكموا به. المؤكد أنني لن أشنق لأنني لم أقتل أحدا. - بل قتلت. - أنا؟
قتلت كرامة مهنة المفروض أن تكون أشرف مهنة. - هذا الكلام لو كان عندي شرف. ومن أين؟! أنا يا بك مهنتي هي قتل الشرف. ولما كان الشرف معنى وليس شخصا، فلا يمكن أن تكون العقوبة هي الإعدام، وما دمتم لن تطالبوا بإعدامي فافعلوا بي ما شئتم، ليس شيء في الوجود يستطيع أن ينال مني.
لم تجد النيابة شيئا تستطيع أن تفعله؛ فوكيل النيابة الذي كان يحقق معه قديم. ومر به من المتهمين أنواع وأنواع، ولكنه لم ير في حياته مثل هذا الشيء الذي يقف أمامه.
في قرف شديد وجه التهمة. وصدر الحكم، وسجن حنفي العزوني، وخرج من السجن كأنه لم يدخله، فإن يكن السجن تأديبا وتهذيبا وإصلاحا فهو كذلك لبني آدم الذين مر الشرف ببيوتهم، أو عرفوا الكرامة في يوم من الأيام، أما حنفي العزوني فبلاط. وهيهات لرياح العالم جميعا أن تنال من البلاط شيئا ملحوظا، ولكن في يوم من الأيام ومع كثرة مرور الرياح لا بد أن يصبح البلاط رمادا هشا عدما من العدم؛ فمهما يكن البلاط قويا بحقارته فإن الحياة أقوى بسموقها.
ملحق البهلوان
لعل القارئ لا يعرف من هو هذا المداح وكيف كان شكله. والحقيقة أنه نموذج بشري قديم مغرق في القدم، شهدته أنا في طفولتي الباكرة، وكان في ذلك الحين بقية من فئة أوشكت على الاندثار.
وكان دأب هذه الفئة أن تمر وفي يدها طبلة تدقها على منازل الأعيان في الريف، تنشئ في مديحه القصائد المرتجلة الهزيلة التي تتغنى بكرمه وجوده وأصله وعراقته. وطبعا ليس يهم المداح أن يكون قريبا من الحقيقة أي قرب، أو بعيدا عنها غاية البعد. إنما المهم فقط أن يمدح ويبالغ في المديح ثم ينال بعد ذلك ما قدر له أن يناله، ثم ينصرف مادحا على أية حال. سواء كان ما أصابه وفرا وغدقا، أم كان صبابة هينة لا تساوي ما بذل من جهد ومن نفاق. كان هكذا شأن المداحين. وأحسب أن بعض الناس أسموهم في دارج الحديث المطيباتية. وأصبحت هذه اللفظة تطلق على كل منافق في الجلسة أو في الحياة. وهكذا فإنه إن تكن جماعة المداحين قد اندثرت على شكل جماعة فقد انتشرت أفرادا تجوب بنفاقها المجتمعات، وتجوب أيضا الأجيال والأزمان.
وربما تسألني ما الذي ذكرك بهؤلاء جماعات كانوا أو أفرادا. وربما لا تسألني وإنما أسأل أنا نفسي ولا أبحث عن الإجابة؛ فهذه نماذج من الناس تذكرك بنفسها في إلحاح وإصرار مهما تحاول أن تنشغل عنها، ولكن قد يكون الباعث لي إلى الكتابة عنها اليوم شخصا بذاته، كلما طالعني اسمه ذكرت فئته وأصولها وفروعها، شاهت أصولا وذلت فروعا.
مسكين هو؛ فقد كان في زاوية هينة من زوايا الجهل لا يعرفه أحد، وإن كان يسعى إلى معرفة كل أحد. وكان يبذل في سبيل تعرفه بالناس ماء وجهه الذي سرعان ما نضب؛ فما هي إلا شخصية أو شخصيتان حتى أصبح بلا ماء وجه على الإطلاق.
अज्ञात पृष्ठ
وماء الوجه حين يراق ويجف يصبح صاحبه السابق وقد تملك سلاحا لا يملكه من الناس إلا قلة في العالم نادرة؛ هذا السلاح السفاك الباتر النفاذ هو الصفاقة والقدرة على بيع كيانه البشري ليكون مطية لكل من يريد يركب.
وقد تعرف من لا أسميه هذا على مهرج في السيرك ما لبث أن عرف سره.
وبلغ إلى الخوافي الحقيقية في حياته؛ فهو في السيرك مهرج وهو في الحياة مجرم سفاح لص قاتل يستبيح كل الحرمات، ويستهين بكل ما هو كريم في الإنسانية. وقد وجد من لا كرامة له خير ملجأ له عند من لا ضمير له. وتلازما في الحياة. المهرج يسرق ويقتل ويثري ويهرج في السيرك، وناضب ماء الوجه يطيب له، ويكيل المديح، ويبرر له كل ما يصنعه من اعتداء على الحياة وعلى الكرامة من سلب للأعراض، وقتل لكل نبيل في الحياة، واستيحاء لكل خسيس عفن من جوانبها، بل كانا يبتدعان من الخسة والعفن ألوانا لم تشهدها البشرية ولم تسمع بها، ولم يتخيل أبناء البشر أنهم سيسمعون عنها في يوم من الأيام. واستطاع المهرج أن يجد لمن لا حياء له وظيفة في سيرك، فكان يهيئ للمهرج الساحة، ويفرش له الرمال، ويضع له معدات التهريج. وتعلم من لا حياء له أن يقفز في بعض الأحيان قفزات بهلوانية تخيب في أغلب الأمر، فينال عليها الضحك والسخرية والتصفيق الذي يعني الاستهانة والاحتقار، ولا يعني - على أية حال - إعجابا أو استمتاعا، ولكنه كان يفرح بهذا التصفيق والصيحات المستهجنة المصاحبة له. وصار من لا حياء له ملازما لمن لا ضمير له عند مشاهدي السيرك؛ فإن ذكروا أحدهما ذكروا الآخر دون تفكير. وإنما كلاهما تهريج يذكر بتهريج، وسخف يوحي بسخف، وسقوط حياء يرادفه سقوط كرامة.
وتعود من لا حياء له هذه الحياة، وجنى منها مالا ما كان يحلم أن يصيبه؛ فميدان النهب أوسع الميادين مجالا للغنى. وانعدام الضمير من أعظم شباك الثراء نجاحا، فإذا واكبه انعدام الحياء أيضا أصبحت الأموال غدقا وصار الغنى فاحشا.
وجاب السفاح المهرج والمداح الصفيق أقطار الحياة، وساحا في أرجائها، وأصبح اسم كل منهما على ألسنة رواد السيرك جميعا. وراح يذكرهما في غير تصريح كل من أصاباه في ماله أو عرضه، أو أصابا أحدا من أقاربه في حياته. وتدور الأيام وإن الأيام دائما تدور. وذلك أعظم سنن الكون وأرفعها شأنا وأعلاها دستورا. ومات المهرج. والمهرج هو الأصل، والمداح نبات عليه متسلق، لا يحيا بدونه، ولا يعيش بغير وجوده.
ولكنه صفيق. أصر أن يبقى في حلبة السيرك، وحاول أن يتقافز كما كان يتقافز، ولكن الجمهور في هذه المرة ثار عليه ثورة جادة لا هزل فيها. وأعاد هو المحاولة في يوم تال، ثم في أيام توال، ولكن الجمهور أصر أن يظل ثائرا عليه، لا يريد أن ينظر إليه، ولا يجد في وجوده بالحلبة أي معنى؛ فقد كان قطعة صغيرة مكملة لآلة مضحكة. وقد هلكت الآلة، فما معنى بقاء هذه القطعة المكملة لها؟! كان يمكن أن تصلح الآلة بغير القطعة، ولكن هيهات أن تصلح القطعة بغير آلة.
رفضت الحياة وجهه الصفيق، وأبعدته عن الحلبة قصيا زريا كالكلب الأجرب، لا يحب أحد أن يراه، ولا يشتهي أحد أن يذكره.
ولكن المسكين كان قد تعود أن يتقافز في الحلبة، ونزل عليه إبعاده عنها نزول الصاعقة، وإن كان من ماله الذي انتهبه في بحبوحة وغني، ولكن المسكين كان قد تعود مع المال التصفيق الساخر والصيحات المستهجنة.
وهو اليوم يريد أن يتقافز ولكن الحلبة الكبرى قد أغلقت دونه. وهكذا لم يعد غريبا أن يراه الناس في بعض الحارات والأزقة يقوم بحركاته البهلوانية الفاشلة ويتجمع حوله بعض المارة، فأما من يتبين ماضيه فينصرف عنه راضي النفس سعيدا أن الزمن دار، وأن ملحق البهلوان قد صار إلى هذا المصير. وأما من لا يعرفه وهم الكثرة فما هي إلا نظرة عابرة يلقيها إليه ثم ينصرف عنه وكأنه ما رأى شيئا.
الثور المذءوب
अज्ञात पृष्ठ
سعار أصاب الرجل منذ البواكير الأولى من حياته، أنفق عمره يتعلم لغات غير لغته العربية وله من الوقاحة ما يحاول به أن يكون أديبا في اللغة العربية، وانتهت حياته أو أوشكت ولكن المسكين فشل أن يكون بين قومه أديبا، وفشل أن يكون في اللغات التي تعلمها وأتقنها شيئا مذكورا أو غير مذكور.
إنه ثور أصابه سعار الذئاب المفترسة يريد أن يحطم الحياة من حوله، ولكن لأنه ضئيل القدر هين الشأن حقير النفس وضيع الفكر لم يحطم إلا نفسه.
هم أول ما هم باللغة العربية والتراث العربي، وراح يحارب كل ما هو أصيل في أدبنا وتراثنا، ونظره الكليل المنحرف مصوب على أن اللغة العربية هي لغة القرآن. وهو يظن بما ركبت عليه نفسه من اجتماع الثور والذئب أنه يستطيع أن يحطم اللغة ليبعد الناس عن القرآن وعن الدين ، واستقبله فيما تكالب عليه الفشل الوبيل. وأحس الناس بما في هجمته من سعار فرفعوا المصاحف على الرءوس، وألجموه بما لا يطيق، وانهالوا عليه رجما، فإذا الثور فيه والذئب جميعا يتمحضان عن كلب أجرب يضع ذيله بين فخذيه الخلفيتين ويسارع في تلصص المجرمين، يعدو باحثا عن مخبأ أمين يلعق فيه جربه وجراحه، ويصمت حتى يهدأ ما ثار من الناس وحتى ينثني عنه الراجمون، وينساه الذين يقولون لا إله إلا الله، محمد سيد الخلق رسول الله.
فإذا هذا الضجيج عاد إلى الميدان مرة أخرى يحاول في غباء الثور وفي سعار الذئب أن يبحث عن قنص آخر بعد أن عزه أن يهاجم لغة القرآن. ورأى بشائه بصره ومريض بصيرته أن يهاجم من يجله المسلمون من عمالقة العلماء وأشراف الفقهاء، وراح يرمي عليهم سخائمه، ويختلق عنهم تهما لم يسمع أحد أنها يمكن أن ترقى إلى أعتابهم، ولكن ذنبهم الوحيد أن العرب المسلمين يذكرون أسماءهم في إجلال وإكبار وتقديس. وذنبهم الأكبر عنده أن كل الفقهاء الذين جاءوا بعدهم تتلمذوا عليهم وعلى تلامذتهم، بل إن أعلام الوطنية والإخلاص القومي ينتسبون بأفكارهم إلى تعاليمهم؛ وهذه ذنوب عند الثور المذءوب لا غفران لها، فماذا عليه لو أنه صدم فيهم مشاعر الجماعة، وحاول أن يزيل هذه الهالة عن أفذاذ لم يذكرهم التاريخ إلا بما يشرف الرجال ويرفع صوتهم على أحقاب الزمان.
ومرة أخرى تداولته الحجارة، وانهال عليه المسلمون والعرب والوطنيون بسهام الحق يردونه عن قوم يكنون لهم الاحترام والتوقير.
ويحاول الثور المذءوب أن يلجأ إلى حرية الرأي، وإلى أن كل إنسان ينبغي أن يتمكن من إبداء رأيه مهما يكن شأن هذا الرأي. وهو قول حق، ولكنه يستر عند هذا الرجل بالذات باطلا فادحا؛ فأولئك الذين يجرح مشاعرهم بهذه الوحشية ويسب لهم أعلام دينهم لا يستطيعون أن يمنحوا أنفسهم الحرية في مهاجمة ما يقدسه هو وأمثاله من الذين يحاولون أن يحطموا المساجد وأشياخها على رءوس مرتاديها ومريديهم؛ لأن ديننا ينهانا أن نثير الفتن بين الناس، والفتنة عندنا أشد من القتل ، بينما هي عند الثور المذءوب هدف حياة ونشيدة عمر وهب نفسه لها لا يريم عنها ولا ينثني.
وبلغت به الوقاحة أن هاجم القرآن نفسه، وحاول أن يرد آياته إلى عصور سابقة عليه، وحاول أن يفسرها وهو أبعد ما يكون عن دراسة أعماقها أو لغتها أو مفاهيمها أو أسباب نزولها.
والحرية هي كرامة الإنسان ولكن من قال إن الحرية في تحطيم الأديان، وامتهان كرامة الجماعة، والاعتداء على مقدسات الشعوب وما آمنوا به؟
فصلة الإنسان بربه صلة لا يعلمها إلا الإنسان نفسه وعالم الغيب والشهادة. والاعتداء على هذا الحرم تحطيم للحرية نفسها، إلا أن تكون الفتنة هي بغية المعتدي، والوقيعة بين الأديان هي هدفه الذي يتغياه ويرصد حياته لبلوغه. ومرة أخرى يفر الثور المذءوب كلبا أجرب يلوي ذيله بين فخذيه، ويتلمس مخبأ يرد عنه عاديات الهجوم.
ولكن هل من ينتهي؟ هيهات. إذا كان قد خاب فأله وحبط مسعاه مع الدين وجها لوجه ومع فقهاء الدين، فما له لا يحاول أن يهاجم شعراء العربية وكتابها أجمعين، ويجعل من ذكراهم عفنا؟ وحينئذ يقول هذا رأيي وما علي من بأس أن أرفض كل هذا الشعر وكل هذا الأدب. وهذا حقه لا شك في ذلك، ولكن كشأنه يستر به باطلا حقيرا.
अज्ञात पृष्ठ