الرحلة من لوزان إلى إفيان متعة في ذاتها بين المدينتين أو إن شئت فقل بين القطرين؛ فأنت إذا عبرت من لوزان إلى إفيان لا تعبر من مجرد مدينة إلى مجرد مدينة، وإنما تعبر أيضا من دولة سويسرا إلى دولة فرنسا؛ ولهذا فأنت في نهاية الرحلة في ذهابك وإيابك تمر بجمرك، والمرور بالجمرك في هذه البلدان مثل دخول السينما في مصر أو أكثر يسرا. والقيام بهذه الرحلة التي تستغرق نصف الساعة في ذهابك ومثلها في إيابك لا يهب مجرد المتعة، وإنما تجد الأسعار في فرنسا أقل كثيرا من سويسرا. ومع ذلك فهي في ارتفاعها بالنسبة للقاهرة مثل قمة الجبل وسفح الوادي؛ فما زالت القاهرة، وعلى الرغم من شوارع الشواربي أكثر البلدان التي أعرفها رخصا في أسعار حاجاتها، لا أستثني من ذلك اللحم أو المستورد مما لا تدعو إليه الحاجة قدر ما يدعو إليه التظاهر.
ذهبت وزوجتي إلى إفيان، ولا بد حين نذهب أن نقدم الساعة ساعة لا عن اختلاف جغرافي وإنما عن اختلاف وطني فيما أعتقد؛ فلوزان تتبع سويسرا في ميقاتها حين تتبع إفيان فرنسا. وزوجتي تعلم أن جهدي في المشي ليس كبيرا؛ فلهذا فقد وضعتني في أحد المحلات أشتري منه بعض الأشياء وذهبت هي لتجوب محلات المدينة جميعا، وإلا فما ذهابنا إلى إفيان.
ومر الوقت ونظرت إلى الساعة وأدركت أن السيدة زوجتي نسيت فرق الساعة؛ فهي دقيقة دائما في مواعيدها، بل هي دائما حريصة أن تذهب إلى القطارات أو الطيارات أو المراكب أيضا إذا ركبنا قبل الموعد بساعات. ولم تذكر الساعة الصحيحة إلا وهي واقفة أمامي وقد ارتحلت عنا السفينة التي كنا ننوي أن نعود بها، وأصبح علينا أن نبحث عن شيء نعمله ليستغرق ثلاث ساعات تفصلنا عن موعد السفينة التالية.
وفي أوروبا، في أي مدينة في أوروبا المتحضرة تستطيع ألا تصنع شيئا لساعات وتظل سعيدا. ركبنا قطارا صغيرا يسير على ساحل البحيرة، ويستعرض بنا إفيان كلها أو أغلبها، وتناولنا غداء رمزيا، واشتريت بعض أشياء مكتبية، ثم بقيت ساعة قلنا نقضيها في استراحة المرفأ. وتذكرت شيئا تريد أن تشتريه، ووجدنا الوقت يسمح فذهبت إليه.
والآن أنا أكتب لك هذه المقالة؛ فما كانت كلها تستحق أن تكتب لولا ما رأيته أنا في فترة غيابها تلك ولم أخبرها به لسبب سوف تعرفه أنت وتعرفه هي أيضا في آخر هذا الفصل.
كان من الطبيعي وأنا وحدي أن أجيل البصر فيمن حولي، فإذا برجل في اكتمال الرجولة ونضجها يتحدث وحده وكأنه يناقش أمرا خطيرا ذا بال، ثم تبدر منه عدة جمل لها نغمة الخطابة، ثم يعود إلى النقاش الرصين المجنون في وقت معا، ومن يدري فربما كان كلامه معقولا لا ينقصه ليكتمل العقل فيه، إلا أن يجد من يسمعه.
وإلى هنا أيضا لا غرابة؛ فإننا لو أنعمنا النظر حولنا لوجدنا المجانين أكثر من العقلاء. وحسبك لتقتنع بما أقول أن تلقي نظرة على بعض الرؤساء في الدول العربية أو الأفريقية أو الأسيوية. من المؤكد على كل حال أن وجود مجنون طليق السراح أمر لا غرابة فيه ولا عجب.
ولكن لا غرابة أيضا أن أظل أختلس إليه النظر كلما واتتني فرصة أدرك أنه لا يراني فيها؛ فإن المرء يستطيع أن يكون شجاعا مع العقلاء، أما مع المجانين فإن الأمر يحتاج إلى كثير من التفكير. وقد عشت عمري أرفض الدخول في معركة مع أحد هؤلاء المجانين وأنا في بلدي، فماذا أنا صانع وأنا هنا غريب بعيد عن حماية الوطن.
في نظرات متداركة سريعة، أدركت سبب جنونه، وقد كان معلقا على صورة أنه إطار مستدير في حجم الميدالية الكبيرة، وفيه صورته أمام الميكروفون.
مسكين. لا ذنب له في جنونه، وإنما أصابه من حوله بالجنون وهم لا يدرون، وأفهموه أنه زعيم أو خطيب أو أنه أديب عظيم أو سياسي داهية، ثم تخلوا عنه حين واجه الناس.
अज्ञात पृष्ठ