تلك - إذن - هي طبيعة «الفكر»، أما ما نريد من المفكرين أن يؤدوه حتى تنطلق النهضة العربية وثبا وثبا بعد ركود وقعود فهو - على سبيل الإيجاز - أن يرسموا الأهداف ليهتدي بها السائرون، كل منهم في ميدانه، لكن الغاية واحدة للجميع، فماذا تكون تلك الغاية المنشودة؟ هذه واحدة من مهام الفكر ورجاله، وهي المستوى الأعلى. وأما الثانية من تلك المهام وهي المستوى الأدنى، فهي أن يرصدوا مشكلاتنا القائمة على أرضنا بالفعل، ليعالجوها بقدراتهم العقلية ابتغاء الوصول إلى حلولها؛ فالمدار هو المشكلة المعينة وحلها، وليس المدار مذهبا نضعه في المقدمة ليكون لنا بمثابة محطة القيام للمسافر؛ فالمذهب الجدير منا بالتأييد هو الذي نجده في الحلول النافعة، وهذه الحقول تأتي بالنسبة إلى العملية الفكرية آخر الطريق وليس أوله. وأما بالنسبة إلى من يحيا حياة العمل والتنفيذ؛ فهي الركيزة الأولى التي يرتكز عليها في رسم الطريق.
المناخ الفكري الذي يخيم على الأمة العربية اليوم، والذي لا حيلة للناس إلا أن يتنفسوه بخيره وبشره، إنما هو صنيعة من نسجوه خيطا خيطا بما كتبوه أو أذاعوه، وبين هؤلاء النساجين، بل وفي طليعتهم رجال «الفكر» فحتى مبدعي الفن والأدب فينا يستقون بعض الوحي مما يتنفسونه في جو ثقافي يحيون بين خيوطه، فتعالوا نتعقب معا أولئك الذين أخذوا خلال ما يقرب من قرنين يصبون في مسامعنا فكرهم قطرة قطرة، حتى إذا ما صحونا إلى حالة الوعي، وجدنا أوعيتنا قد امتلأت بما قطروه، وإذا بالكثرة منا قد استمدت منه الغذاء الذي لا يجدون لأنفسهم غذاء سواه، ثم إذا بهذا الغذاء يتحول عندهم إلى ما يشبه العقيدة التي يجاهدون في سبيل بقائها، وإنك لتراهم يربطونها بالهوية العربية، وبالروح الوطنية، بل وبالعقيدة الدينية أحيانا، حتى تكتسب حصانة تحميها من نقد النقاد أو عدوان المعتدين، مع أنها في أصل نشأتها، قطرات من مداد أفرغتها أقلام الكاتبين على ورق، أو موجات صوت أرسلها المذيعون من بوق المذياع. نعم، تعالوا معا نراجع معظم ما قرأناه وسمعناه، لنرى طبيعته على حقيقتها. وإننا لواجدوها - على أرجح الظن - فكرا يدور حول فكر سبق به غيرنا إلى عرضه. وإننا لسعداء إذا وجدنا الكاتب منا قد جاء في مرحلة أولى بعد مرحلة الفكر الأصيل؛ وذلك لأننا قد نجد المفكر منا يعلق بفكره على تعليق كان هو بدوره تعليقا على تعليق.
وربما سمعنا صوتا صارخا باللجاجة - مرة أخرى - يتحدانا قائلا: وما العيب في قول يشرح قولا، وفي فكر يعلق على فكر؟ فنجيب بقولنا: إنه لم يكن ليصيبنا من ذلك أذى، بل ربما كان أمرا مطلوبا ونافعا، على شريط ألا يكون نشاطنا الفكري الوحيد، أو أن يكون نشاطنا الغالب الذي منه تنشأ عقول وتتكون مذاهب؛ لأن ثمة طريقا آخر للفكر يجب أن تكون له في حياتنا أولوية، بل أن تكون له «أعلوية» - إذا صحت هذه الكلمة - على ما عداه وأعني به ذلك الفكر المبدع الأصيل غير المسبوق، والذي من شأنه أن ينبع من واقع حياتنا التي نحياها حتى لو اضطررنا إلى مراجعة أفكار الآخرين.
وبعد هذا، فلأبين للسائل المتحدي، وجها من وجوه النكبة الفكرية التي ننكب بها، إذا ما أنفقنا معظم طاقتنا الفكرية على فكر الآخرين وشرحه، بدل أن نتجه بمعظم جهودنا العقلية نحو نشاط عقلي أصيل يقيم لنا مناخا ثقافيا جديدا يتلاءم مع ما تتطلبه ضرورات حياة جديدة نحياها؛ فالقاصرون المقتصرون بفكرهم على فكر آخر - قديم أو حديث، موروث أو منقول عن آخرين - يقدمون لنا الأذى من وجهين؛ أولهما أنه لا جدي فيما يقدمونه؛ لأنه على أحسن الفروض يعرض علينا تحليلا جديدا لصورة فكرية كان أبدعها مبدعها لظروف أحاطت به، وقد لا تكون محيطة بنا. وأرجو ألا يفهم من ذلك بأن مثل ذلك العمل الفكري مرفوض من أساسه إذ هو مطلوب ونافع شريطة أن يؤخذ في حدوده، وهو أنه أقرب إلى «التاريخ» يقدم إلينا مادة الفكر عند سابقين أو لاحقين. وقد يختلط علينا الأمر، فنظنه فكرا يصلح لمعالجة شئون حياتنا الواقعة جملة بجملة وحرفا بحرف، هذه واحدة. والأخرى هي أن المفكر على هذا النحو المعلق والشارح لفكر الآخرين، إذا ما وصل إلى نتائج انتزعها مما يعلق عليه ويشرحه، قد يوهمنا بصدق نتائجه صدقا موضوعيا تطبيقيا، ما دامت هي صادقة في استدلالها من أصولها التي استنبطت منها، وليس كل قارئ قد اكتسب القدرة على التفرقة بين الحالتين، مما يترتب عليه موقف فكري شبيه بما نحن فيه اليوم وهو أن تشيع فينا أفكار لها صدق الاستدلال من أصولها، فنظن أنها كذلك صادقة صدق التطبيق على الواقع الجديد.
إنه إذا كانت النهضة العربية قد أبطأت الخطى فلم تلحق بالركب إبداعا وكشفا وريادة وتغييرا لوجه الأرض، فإن لذلك أسبابه، وسبب من هذه الأسباب أن رجال الفكر من الأمة العربية قد اتجهوا بمعظم طاقاتهم نحو فكر قد فرغ منه أصحابه، فقنعوا به موضوعا لفكرهم ووقفوا هم وأوقفوا أمتهم معهم عند مواضع أقدامهم وكانوا بموقفهم هذا من الأتباع.
3
سألت خيالي: هلا بحثت لي عن صورة أصور بها للناس حياتنا الفكرية على حقيقتها العارية؟ إني أريدها صورة واضحة الدلالة بحيث تقترب من أفهام المثقفين على اختلاف درجاتهم؛ ففي جماعة المثقفين صحاح، وأنصاف، وأرباع. فأجابني الخيال بأن رسم لي دكانا يعرض الملابس الجاهزة صنوفا وأشكالا؛ فهنالك قطع الثياب العربية من كل طراز ولكل الأحجام، ومعها قطع الثياب الغربية كذلك على اختلاف ألوانها وأشكالها وأحجامها، وفي صحن الدكان زحام شديد، لا هو بالكثيف الذي يوصف بأن ليس فيه موضع لقدم تضاف إلى أقدام الحاضرين، ولا هو بالخفيف الذي يبدي أرض المكان وكأنها خالية، وتنظر في الصورة فترى الزبائن وقد انصرف كل فرد منهم إلى نفسه يقيس على بدنه هذه القطعة أو تلك من الثياب المعروضة، غير عابئ بما يفعله سواه.
شكرت الخيال على سرعة استجابته، وهنأته على دقة صنعته. والحق أن الصورة التي قدمها قد جاءت من إحكام الدلالة، بحيث تصلح لرسام الكاريكاتير؛ فهي تكشف عن تفصيلات المعنى المطلوب لكل ذي عين تبصر، وتنطق بأبعاد ذلك المعنى لكل ذي أذن تسمع؛ إذ المعنى وأبعاده، هو ما أجملناه في الحديثين السابقين، وخلاصته - كما هو ظاهر في العنوان - أن رجال الفكر من الأمة العربية يغلب عليهم أن يبحثوا عند الأخرين عن أفكار جاهزة، فينتقي كل منهم ما يناسب قده الفكري فيرتديه، ثم هم بعد ذلك ينقسمون جماعات؛ فمنهم من يستريح في ردائه فلا يحاول حذفا منه أو إضافة إليه، وهو مع ذلك يمشي بين الناس «مفكرا» أو «مثقفا» رفيع الفكر غزير الثقافة، ومنهم من يأخذه القلق، شعورا منه بأنه إنما يرتدي ثوبا لم يغزل هو خيوطه، ولم ينسج هو قماشته، كلا، ولا هو الذي صنعه ثوبا، إنما هو اشتراه شراء، وارتداه ارتداء. نعم يأخذه القلق أن تكون هذه هي حاله، فيبحث لنفسه عن مواضع في الثوب تحتمل التعديل والتحوير، فيفعل ذلك إشباعا لرغبته الظامئة في أن تدرجه الأيام مع المبدعين. وأقصى ما يذهب إليه ذلك القلق المبدع، هو أن ينبش في الرداء الذي اشتراه نبشا، لعله واجد فيه موضعا فاتته دقة الحياكة فانحلت خيوطه، فيصلح منه فساده ليباهي بما صنع ويفاخر.
إننا نقسم أنفسنا بين مذاهب الفكر في شتى ميادينه؛ فهذا ميدان للفكر السياسي ، وذلك ميدان للفكر الاقتصادي، وثالث للفكر الفلسفي، وهكذا. واسأل كيف انقسمنا مذاهب في تلك الميادين تضحك ملء شدقيك؛ فها هو ذا دكان الأفكار الجاهزة مرة أخرى ندخله ليبتاع كل ما يروق له من مذهب، ثم نخرج فإذا بنا قد انقسمنا في مجال السياسة يمينا ويسارا، وفي مجال الاقتصاد انغلاقا وانفتاحا، وفي مجال الفلسفة مثاليين وتجريبيين ووجوديين وجدليين، وكل ما وجدناه من بضاعة معروضة. إننا لا نبدأ بالمشكلة التي تتعقد بها حياتنا الفعلية فنبحث عن الفكرة التي تحلها، بل يبدأ كل منا بالفكرة التي اجتلبها ليبحث لها في حياتنا عن مشكلة، وقد لا يجد فيظل المسكين قائما بفكرته قاعدا بفكرته، حالما بفكرته يقظا بفكرته، لا يجد لها متنفسا فيما تضطرب به حياتنا العملية من مشكلات.
إنه ليسير كل اليسر أن تنقل عن سواك قولا يحمل فكرة، ثم تجعل مشغلتك أن تنظر في القول المنقول لتنسل منه فروعا تبشر الناس بها إذا كنت مؤيدا للفكرة المنقولة، أو لتنسل منها فروعا تفزع بها الناس إذا اخترت لنفسك أن تعارض تلك الفكرة المنقولة. نعم هو يسير كل اليسر أن تبني كلاما من عندك على كلام استعرته من صاحبه، لكنه عسير كل العسر أن تواجه مشكلة في دنيا الواقع المحسوس لتجد لها حلا تبتكره من ذهنك ابتكارا. وإنني لأرجو من القارئ أن يتمهل في قراءته عند هذا الموضع من الحديث؛ لأنه إذا ما أمسك بالفرق الذي أشير إليه بين الحالتين، كان - فيما أعتقد - قد أمسك بعلة العلل في قصورنا الفكري، وسأضرب لكل حالة من الحالتين مثلا يوضحها؛ ففي الحالة الأولى - وهي حالة الفكر المنقول - نسوق هذا المثل: الصراع بين طبقات المجتمع ينشأ من الفوارق الاقتصادية بين الناس، وتذويب تلك الفوارق قمين أن يزيل الصعاب، فها هنا يستطيع المؤيد أن يخرج من هذا الكلام كلاما ينادي به أن لا بد من أن يكون زارع الأرض هو مالكها، أو ما يقربه من أن يكون مالكها، وبهذا ينتفي الفارق بين مالك وأجير؛ لأن الطرفين قد تلاقيا في رجل واحد، وكذلك إذا جعلنا عامل المصنع عضوا في إدارته، زال الفاصل بين رأس المال والصانع، وهكذا. كما يستطيع المعارض لذلك القول أن يستخرج منه ما ينقضه، كأن يقول - مثلا - إن الفوارق بين الناس لا تجعل منهم «فئات» تختلف فيما بينها دون أن يؤدي ذلك الاختلاف إلى أعلى وأدنى، ويترتب على ذلك أن نجعل لكل ما يحسنه؛ فالإدارة لمن يجيدها، والعمل لمن يتقنه. ولسنا هنا نريد أن ننتمي إلى التخريج الأول، ولا إلى التخريج الثاني، وكل ما نريده هو أن نوضح للقارئ كيف يسهل عليه أن يخرج كلاما من كلام، ما دام الأمر لم ينبع من أرض الواقع الذي نكابده. وأنتقل بعد ذلك إلى مثل نسوقه للحالة الثانية، وأعني الحالة التي نواجه فيها واقعنا نحو الذي نريد أن نغيره، ونبحث له عن فكرة نغيره بها. وليكن المثل الذي نختاره هو التوسع في الأرض المزروعة، وهو ما يقتضي البحث عن طريقة تزرع بها الصحراء؛ فها هنا تجد الموقف الفكري قد اختلف في طبيعته من وجهين؛ أولهما أنه لا يتصدى للتفكير إلا أصحاب الاختصاص العلمي. وثانيهما أن مجال التطبيق يفصل لنا بين فكرة صائبة وأخرى مخطئة. في الحالة الأولى ينفتح مجال القول لمن يعلم ومن يجهل على حد سواء، ويمكن لاختلاف الرأي أن يظل قائما إلى الأبد دون أن يجد أحد الفريقين ما يحسم به صواب رأيه وخطأ رأي خصومه. وأما في الحالة الثانية فالأغلب أن ينتهي الموقف العلمي إلى رأي واحد، ثم تنحصر المشكلة في طريقة التنفيذ، وليس في المراوحة بين رأي أخطأ ورأي أصاب.
अज्ञात पृष्ठ