ودقق النظر في الإنتاج الفكري عند العربي الأول، تجد النزعة إلى التجديد متمثلة في كل ميادين الإبداع، حتى في الأدب والفن اللذين يتميزان ب «التفريد»؛ فالعربي في أدبه يكثف خبراته تكثيفا ليضع أغزر موقف خبري في أقصر عبارة ممكنة؛ ومن هنا كثرت الأقوال الحكمية فيما كتبوه نثرا أو نظموه شعرا. وأما صفة «التفرد» التي هي من أخص خصائص الأدب والفن، فتتحقق عنده أولا بطبيعة الخبرة التي يعرضها؛ لأنها خبرة انتزعها من تجارب حياته، وثانيا في طريقة سبكها. ولك أن تقارن بين أديب اليوم الذي تأثر بآداب الغرب (ولا عيب في ذلك، بل هو حسنة نحسبها للأديب المعاصر) أن تقارنه بأديب الأمس؛ فالشاعر اليوم يضع لنا تجربته في صورة تحفظ لها فردية صاحبها، ولا تكاد تقع على سطر واحد في القصيدة يحمل المتلقي على «حفظه» لما فيه من «حكمة » يصح له أن يسترشد بها في حياته، أو أديب النثر المعاصر قد تحول بقوته الإبداعية إلى «الرواية» و«القصة» و«المسرحية» وكلها قائم على «شخصيات» ترسم في فردياتها وتمايزها. وأما أديب الأمس - شاعرا وناثرا - فليس موضوعه «أفرادا» إلا في القليل النادر، بل هو يستهدف أن يصل إلى جوهر العبقرية في اللغة ذاتها، وذلك من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع، فهدفه حكمة الحياة وقيمها، وهو يصور هذه القيم إيجابا بالمدح - وسلبا بالهجاء. واختصارا فإنه إذا كان الأديب العصري ينشد «المثل» ليعرضه على الناس، فقد كان سلفه العربي ينشد «المثال».
الفكرة المجردة تبقى مع الزمن، وإنها مع الأيام لتنمو وتغزر تفصيلاتها، وأما أمثلتها الجزئية المجسدة في أحداث التاريخ فتزول وتختفي. خذ فكرة «الحرية» - مثلا - فهي على أرض الواقع التاريخي متمثلة في أفراد يحيونها مجزأة في صور مختلفة؛ فقد تتمثل في سياسي يسعى إلى حرية الإنسان في التعبير عما يراه صوابا، بما في ذلك حق الأغلبية في أن يكون قرارها حاسما، كلما كانت هناك هيئة عامة تريد أن تصل إلى قرار في موضوع معروض للنظر؛ فلكل عضو حق التصريح برأيه، وإذا اختلفت الآراء كان رأي الأغلبية نافذا. لكن فكرة الحرية قد تتمثل أيضا في شاعر يتمرد على الصور التقليدية للشعر، ويريد أنه يختط لنفسه خطا جديدا، أو تتمثل فكرة الحرية في رجل من رجال الاقتصاد يريد للتجارة أن تنساب في قنواتها تصديرا واستيرادا دون أن تتدخل فيها الدول بقوانينها. وهكذا تتعدد «الأمثلة» الجزئية التي تقع بالفعل في حياة الناس الجارية. لكنها إذا وقفت عند هذا المستوى الواقعي المحدود بحدوده، لظلت الفكرة على مضمون واحد وتعريف واحد آلاف السنين، لكنها لحسن الحظ لا تقف عند هذا الحد بل يتناولها المفكرون على مستوى التجريد، فيتصورون لها آفاقا أوسع، فأوسع، فأوسع، وبهذا تنمو على مر الزمن وتزداد عمقا؛ فقد كان إنسان العصر الحجري «حرا» بمعنى من المعاني، وجاءت مراحل الحضارة بعد ذلك حضارة بعد حضارة، ومع كل مرحلة - بوجه عام - يزداد الإنسان طموحا نحو معنى جديد يضاف إلى معانيها. ومع هذا التدريج الصاعد يبقى «اسم» الحرية كما هو مع تغير مسماه نماء واتساعا، وما كان ليحدث هذا، لو حبس الإنسان نفسه منذ أول مرحلة من مراحل حياته، في مسمى محدد بجزئيته وزمانه ومكانه، لكنه «التجريد» بصعوده فوق الواقع العابر، يدرك جوهر الفكرة دون تفصيلاتها، فيزداد قدرة على توليد المعاني من ذلك المنجم الذي لا ينفد. وانظر على هذا الضوء، إلى من يهز لك كتفيه ساخرا، إذا ما قلت له إن عصرنا قد فهم الحرية الإنسانية على صورة أوسع، فيجيبك الساخر بأن سلفنا سبق عصرك هذا إلى الحرية، فأنت من معارضك عندئذ أمام رجل جمد تعريف الحرية عند عصر من عصورها، مما يوضح لك ما أردناه من تحديد لمعنى الجمود الفكري.
وأحسب أن لو عاد آباء عرب من آبائنا، ذوي العزيمة التي اخترقوا بها الآفاق، وسمعوا من أبنائهم ما يخونون به الأمانة العربية من حيث أرادوا تمجيدها لصموا آذانهم في عتاب وتأديب، ليوقظوهم من غفوة توهموها صحوة، فأوشك أن يفلت منهم القديم والجديد معا.
فكر على فكر
1
لا أذكر كم مرة عرضتها بين يدي القارئ، كلا، ولا أدري كم بلغ ذلك الذي عرضته من مسامع القارئين، ودع عنك أن يكون قد انتقل عندهم من الآذان ليصل إلى القلوب والعقول، فيثمر ما أردنا له أن يثمره من تغير، ولكني على يقين من أني ذكرتها أكثر من مرة واحدة. إذن فلتكن هذه هي المرة الثالثة؛ فللصورة التي عرضتها أهمية في ذاتها، ثم هي على صلة وثيقة بما أعتزم عرضه في هذا الحديث، وأعني بها صورة العلاقة بين الحياة الفعلية كما يعيشها الناس في البيت والمسجد والشارع والمزرعة والمصنع والديوان، وبين ما يبدعه المبدعون مما نطلق عليه اسم «الثقافة»، يبدعونه أنغاما وألوانا وكلمات وصخورا تنحت وتقام منها العمائر. ولست أظن أن ثمة ألفاظا كثيرة مما تجري به الأقلام، تنافس لفظة «ثقافة» في كثرة جريانها. ومع ذلك فلست أظن أن واحدة من تلك الألفاظ المكرورة، تصاب بغموض معناها بمثل ما تصاب لفظة «ثقافة».
ومن هنا كثر المتحدثون عنها بالشفاه أو بالأقلام، كل منهم يتحدث وكأن ما يقدمه هو اليقين الذي يقطع الشكوك ويوضح الغموض. إلا أنك إذا تدبرت كثيرا مما يقال عنها، أخذك العجب، بل وأعجب العجب، من ذلك أني سمعت أستاذا ضخما بلغ من ضخامته أن أصبح ذات يوم صاحب حل وعقد في رفعة منصبه، سمعته يحدد معنى الثقافة بأنها صور الحياة كما يحياها الناس بالفعل، ماذا يأكلون وكيف يأكلون؟ ماذا يلبسون ومتى يلبسون؟ بماذا يدينون وكيف يعبدون؟ على أية صورة تقام الأسرة كيف يزرعون وكيف يتاجرون وماذا يصنعون؟ وهكذا يتسع القول في «ثقافتهم» أو يضيق، ما ضاقت طرائق العيش فيهم أو اتسعت! ولو وقف الأستاذ الضخم صاحب المنصب الرفيع عند هذا الحد من القول، لقلنا إنه لا بد يعلم بقية الصورة، ولكنه يسكت عن ذكرها، لكنه أضاف إلى قوله المذكور سخرية ساخرة ممن يظنون أن اسم «الثقافة» يسمى بين ما يسميه «الفن» و«الأدب» وما يجري مجراهما. وها هنا ندت مني شهقة، ثم أسرعت فكتمت الدهشة في صدري؛ إذ ماذا أقول وماذا أعيد؟
وكانت الصورة القلمية التي عرضتها بين يدي القارئ أكثر من مرة، ترسم على وجه الدقة والوضوح، العلاقة الضرورية والحتمية، التي تربط جوانب الحياة العملية كما يحياها الناس بالفعل، من جهة؛ فليس الأمر في «الثقافة» ومعناها، هو أنها إما أن تكون هي نفسها أوضاع الحياة المعاشة، وإما أن تكون ما يقام على تلك الحياة الفعلية من مبدعات؛ فحقيقة الأمر في ذلك هي أننا أمام جسم حي في ناحية، وعدة مرايا حوله تعكس صورته، كل مرآة منها لها طريقتها في عرض الصورة. ومن حق أي إنسان أن يحيا حياته العملية مكتفيا بها فيقف عند حدودها، وعندئذ فلا «علم» لديه ولا «فكرة» ولا «فن» ولا «أدب»؛ وبالتالي فهو يحيا حياته دون أن يكون على وعي بقيمتها نقصا أو كمالا، بل إن الكثرة الغالبة من جمهور شعبنا هي من هذا القبيل.
لكن هنالك أفرادا من الشعب، قد أتاحت لهم ظروفهم الدراسية أن يقرءوا عن تلك الحياة العملية كما يحيونها، دراسات «علمية» (تنبه - أرجوك - إلى كلمة «علمية») تحلل تلك الحياة، وتصنفها، لتصف أسسها، ونظمها، وصفا «علميا» إحصائيا دقيقا، وعندئذ تندرج أمثال هذه الدراسة تحت ما يسمونه أنثروبولوجيا إذا كانت الدراسة قد انصبت - بصفة خاصة - على الحياة البدائية في الجماعات المتخلفة، أو تندرج تحت علم الاجتماع إذا اتجهت العناية نحو حياة الإنسان في جماعة، أيا كان مكانها وزمانها. ويبدو أن الأستاذ الضخم الذي أشرنا إليه، كان قد ظفر بشيء من دراسة الحياة الاجتماعية في إحدى صورتيها، فظن أن ما ظفر به هو نهاية الطريق في تصوير الحياة كما هي جارية، أو كما جرت في جماعة معينة ذات يوم.
غير أن الطريق في وصف الحياة الإنسانية لا ينتهي عند محطة الوصول الذي نزل عندها صاحبنا من القطار؛ إذ تبقى بقية ذات وزن وقيمة، حرم منها صاحبنا فظنها معدومة. ولو أن حظه قد أتاح له البقاء في القطار مدة أطول، لشهد آفاقا تتسع أمام عينيه وعلى مسمع من أذنيه، وهي آفاق المبدعات الثقافية، التي تقف من الحياة الفعلية موقف المرايا، فإذا كان صاحبنا لم ينعم إلا بمرآة البحث العلمي، في علم الأنثروبولوجيا، أو في علم الاجتماع بصفة عامة، فليعلم أن هنالك ضروبا عديدة أخرى من تصوير تلك الحياة الاجتماعية نفسها، ولكن بوسائل مختلفة، تصورها الموسيقى بلغة الألحان، ويصورها فن التصوير بلغة الخطوط والألوان، ويصورها الشعر بلغة الكلمات، وتصورها المسرحية والرواية بلغة الحكاية التي تعرض أفرادا يتفاعلون في مواقف معينة تفاعلا يبرز الحقائق الخافية من طبيعة الإنسان، وهكذا، فإذا سئلنا بعد هذا الشرح: ماذا تعني «الثقافة»؟ كان جوابنا هو أنها وهي مجسدة تأتي في صورة ما يحياه الناس بالفعل من نظم وعقائد وطرائق عيش، أما وهي في تصوير يعكسها، لا كما تبدو للأعين فعلا بفعل وحرفا بحرف، بل يعكسها في صور يبدعها الخيال إبداعا، لكنه إبداع يجلو حقيقة لبها وجوهرها، مما يخفي على العين المجردة عند من يحيونها. وإن المتلقي لتلك المبدعات ليبلغ منها مداها، إذا هو غاص في أعماقها ليخرج الدرة الخبيئة في تلك الأعماق، والأغلب ألا يستطيع ذلك إلا متلق قادر على حسن الفهم لما تلقاه. ومثل هذا المتلقي القادر، إذا عرض على بقية الناس تعليقاته المضيئة الشارحة، كان هو «الناقد».
अज्ञात पृष्ठ