فلم نعرف قط حكما من أحكامه في أجل الأشياء فارقته تلك النظرة العملية، أو ذلك المقياس الموكل بالأحوط والأنفع في ترجيح جانب على جانب وطريقة على طريقة.
وحسبك من جلائل الأحكام في أعظم مطالب الحياة حكمه في مسألة العقيدة الإسلامية وحكمه في مسألة الخلافة، وهما أعظم ما عرض له من المشكلات التي تتطلب الترجيح والتفضيل، وكلاهما قد حكم فيه على سنة الأحوط والأنفع بين مختلف الوجوه.
فلما استراب المشركون في ميله إلى الإسلام أوفدوا إليه من يسأله في ذلك، فلم يكاشفه بالحقيقة لأول وهلة، بل واعده إلى مكان منفرد وقال له: أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال صاحبه: اللهم بل نحن، فسأله: أفنحن أطيب معاشا وأوسع ملكا أم فارس والروم؟ قال صاحبه: بل فارس والروم، فقال عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أكثر فيها أمرا، ثم عاد فقال: قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق؛ ليجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي ولا خير في التمادي في الباطل.
وخلاصة هذا البرهان العملي أن الإسلام أنفع للعرب وأصلح للدنيا والآخرة، فهو أحق بالتصديق وأجدر بالاتباع.
ولبث في مشتجر الخلافة لا يميل إلى طرف من أطرافها، حتى انحسر الخلاف كله عن حزبين اثنين لا ثالث لهما، فوجب عليه أن يخرج من عزلته لينصر أيهما، وهما حزب علي وحزب معاوية.
فدعا بولديه عبد الله ومحمد فقال لهما: إني قد رأيت رأيا ولستما باللذين ترداني عن رأيي لكن أشيرا علي، إني رأيت العرب قد صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له عبد الله وقد علمنا تقواه: إن كنت لا بد فاعلا فإلى علي، قال: إني إن أتيت عليا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.
وعلى هذا الأساس في التفضيل بين الطرق سلك أحب الطريقين إليه وأجدرهما عنده بالاتباع. •••
وأعانه على هذه النظرة العملية أنه كان مالكا لزمام شعوره، آمنا أن تضله الحماسة من ناحيتها أو يضله الحنان من ناحيته، قابضا بعقله على جمحات العاطفة كما نسميها اليوم، أو كما قال هو: «أبلغ الناس من كان رأيه رادا لهواه، وأشجع الناس من رد جهله بحلمه.»
فليس في جوامح الشعور ما هو أشد جماحا ولا أقرب أن ينفلت من قبضة العقل من غضبة الغيور على عرضه، أو حنان الواقف على جثة أخيه، أو نخوة المتصدي للقتال بين معسكرين، فهي هي الجوامح التي قل أن تراض وأن تثوب على المشيئة إلى قوام.
ولكنه عمرا قد راضها كلها على ما أراده في حينها وبعد حينها، وكانت رياضته لها وهو في عنفوان الصبا كرياضته لها وهو في أوج الكهولة قد أناف على الأربعين.
अज्ञात पृष्ठ