الفصل الثامن
سلطان الشهوات
سرى الرعب في أنحاء المدينة كأنما شب حريق جائح، أو هبت ريح عاصفة لا تبقي ولا تذر، فغلق التجار دكاكينهم واستوثقوا من أقفالها، وسدت أبواب الدروب؛ حتى لا يكاد ينفذ منها الراجل، واختفت البضائع من الأسواق فلا بائع ولا مشتر، وهدأت الرجل في الطرقات، فلا يمشي ماش ولا يركب راكب إلا حذرا يتلفت؛ يخاف أن يأخذه الموت من كل ناحية، وقبع النساء والأطفال وراء أستار النوافذ المغلقة يرقبون الطريق من خصاصها، في انتظار الآباء والأزواج الذين تعوقوا عن العودة إلى دورهم في هذا اليوم الذي ينذر بالشر.
لقد انبث مماليك السلطان ومماليك الأمراء جميعا في الأسواق يكبسون الدور، وينهبون المتاجر، ويحطمون الأبواب، ويخطفون العمائم، ويهتكون الحرمات، ولهم في الطريق عطعطة وزياط وضجة ...
ذلك شأن المماليك كلما آنسوا ضعفا من السلطان؛ فإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما أرادوا أن يحملوا السلطان على إجابتهم إلى شيء يطلبونه منه. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما طال بهم السكون وملوا الدعة والاستقرار؛ لأنهم يرون ذلك مظهرا من مظاهر النشاط، يتفرجون به مما يحسون من ملل وضيق. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما وقع بينهم وبين السلطان، أو بينهم وبين الأمراء جفوة وخصام؛ ليشعروا السلطان وأمراءه بأن فيهم عزما وقوة يتقيهما من شاء أن يتقي. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما سمعوا صريف الدراهم والدنانير، أو اشتاقوا إلى أن يسمعوا صريف الدراهم والدنانير.
وإنهم مع ذلك كله ليثيرون الشغب والفتنة، وإن لم يكن لهم مطلب عند السلطان، ولا بهم ملل من الدعة والاستقرار، ولا بينهم وبين السلطان جفوة، ولا حاجة بهم إلى الدراهم والدنانير، وإنما يثيرونها عبثا ولهوا وعادة ... ولا عليهم بعد ذلك مما يصيب الناس من الذعر والفزع والخسار!
فلم تمض إلا ساعات من ذلك اليوم، حتى كانت المدينة كلها خالية إلا من أولئك المماليك، يجوسون خلال الديار راكبين أو ماشين متأهبين للشر، وقد سكنت الأصوات وراء الجدران، فكأنما يجوسون خلال القبور الصامتة ليس وراءها إلا رمم بالية وعظام نخرة!
وفي ذلك اليوم العصيب، في تلك المدينة التي ركبها الفزع، وعلى بعد قريب من العمران - عند كوم الجارح - كان طائفة من المتصوفة، فيهم لفيف من أبناء المصريين، إلى خليط من العربان والترك والجركس، مجتمعين إلى شيخهم وصاحب طريقتهم الشيخ أبي السعود الجارحي، قد جلس الشيخ بينهم مطرقا وأحاطوا به حلقة وراء حلقة وراء حلقة، صامتين لا ينبسون، قد تعلقت به أبصارهم، وبين يديه مجمرة يتصاعد منها بخور عطر، لا يزال يذكيها حينا بعد حين خادمه أرقم، وهو رجل مشوه الخلق، أصلم الأذن، معوج الأنف، مائل الفك، أحمش الساقين، مستكرش البطن، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب ...
وكان أرقم على منظره هذا الذي يثير السخرية والإشفاق جميعا، أدنى المريدين منزلة من شيخه أبي السعود الجارحي، فليس لأحد غيره من المريدين أن يقتحم على الشيخ صمته حين يصمت، أو يقطع عليه حديثه حين يتحدث، وليس لأحد غيره من المريدين شرف خدمة الشيخ حين ينقطع للعبادة في خلوته، أو حين يجلس لتلاميذه في الحلقة!
وطال صمت الشيخ ومريديه، وخبت النار في المجمرة رويدا رويدا ثم بردت، ونحاها أرقم من بين يدي أستاذه، ثم عاد فجلس مجلسه بين يديه، ورفع الشيخ رأسه ودار بعينيه فيمن حوله ثم سأل: أين جلال الدين اليوم فإنني لا أراه؟!
अज्ञात पृष्ठ