وخلا الجو من قنصوه الخمسمئي، وأقبردي، وتمراز ... وكان أزبك قد شاخ وبرد دمه، فليس له انبعاث إلى شيء من مطامع الأمراء.
وعاد الغوري من الشام إلى القاهرة بعد غيبة طويلة يصحبه «ابن أخيه» طومان، وقد خلا الميدان من فرسانه، ولكن في صفوف الأمراء وجوها جديدة ينكرها الغوري: من قنصوه الخال وما شأنه بين الأمراء حتى تجتمع في يديه كل السلطات؟ ومن جانبلاط هذا الذي يستأثر بعطف السلطان والأم والخال، ويرتفع فجأة إلى منصب الدوادار الكبير؟ ومن ذلك الشاب طومان باي الدوادار الثاني؟ تلك أسماء جديدة لم تكن شيئا مذكورا يوم كان الغوري من أقرب مماليك السلطان إلى السلطان! ولكن خطب هؤلاء يسير، ولا بد أن يغلبهم قنصوه الغوري بالصبر والحيلة!
واستدنى إليه ابن أخيه طومان ليفضي إليه بسره، وبدا كأن الفتى قد فهم ما ألقي إليه، فخرج لأمره وخلف عمه في مجلسه يقدر ويدبر ...
وكأنما بدا لطومان أن يتخفف من بعض ما يحمل من الأعباء، فاقترح عليه غلامه أبرك أن يصحبه في جولة في بعض دروب القاهرة، يجتليان بعض مناظر المدينة التي أخملت ذكر بغداد وقرطبة، يوم كانت بغداد وقرطبة تتنافسان في أسباب الترف، وتزعم كل منهما أنها حاضرة الدنيا، وركب الفارس الشاب جواده وتبعه غلامه على جواده، ومضيا في شوارع المدينة يتعرفان الأبنية والدور والمتاجر، ويتصفحان وجوه الناس، والعيون ترمقهما بالإعجاب في المتاجر، وعلى جانبي الطريق، وفي الشرفات من وراء الأستار !
وكانا قد أشرفا على الرملة حين سمع طومان صوتا ناعما يهتف باسمه، فنظر حواليه فلم يجد وجها يعرفه! فعاد ينظر إلى غلامه متسائلا: هل سمعت؟
قال أبرك: نعم يا مولاي.
ثم دار بعينيه فيما حوله وارتد إلى سيده يقول: أحسبه صوت سيدة من وراء بعض الشرفات!
قال طومان ولم يزل ماضيا في طريقه: فإن عليك يا أبرك أن تعرف من هذه التي تهتف باسمي من وراء حجابها في هذه المدينة التي لم أطرقها إلا منذ قريب؛ فإنه ليخيل إلي أنني أعرف ذلك الصوت ...
وركب الفارس الشاب جواده وتبعه غلامه على جواده.
قال أبرك: سأعرف يا مولاي.
अज्ञात पृष्ठ