وهذا إذا سلمت النفوس من سوء النية، فأما إذا ساءت النيات وران الهوى على البصائر فلا عجب إذن في الضلال. •••
ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه ... فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين صاحب قسوة تضريه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة، وتنزه محمد عند هذا وذاك ...
فإذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء، إذ كان في كل صلة من صلاته بأهله أو بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثلا للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء.
ولا نقف كثيرا عند الحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على إهدار الدماء في غير جريرة، فأكثرها لم يثبت قط ثبوتا يقطع الشك فيه، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل عصماء بنت مروان اليهودية لأنها كانت تهجو الإسلام والمسلمين، فإنه النبي عليه السلام قد نهى في قول صريح عن قتل النساء وكرر نهيه في غير موضع، حتى قال بعض الفقهاء بمنع قتل المرأة وإن خرجت للقتال، ما لم يكن ذلك لدفع خطر لا يدفع بغير قتلها.
والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل كعب بن الأشرف الذي كان يهجو المسلمين، ويقدح في دينهم، ويؤلب عليهم الأعداء، ويأتمر بقتل النبي، ويدخل في كل دسيسة تنقض معالم الإسلام. وكان مع قومه بني النضير معاهدا على أن يحالف المسلمين، ويحارب من يحاربونهم، ولا يخرج لقتالهم ولا يقابلهم إلا بما يقابل به الحليف حليفه من المودة والمعونة.
فنقض العهد وزاد على نقضه تأليب العرب مع قومه على النبي وصحبه، وأنه رجع إلى المدينة «فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم» وافترى عليهن وعليهم ما ليس يفتريه رجل شريف وليس يرضاه في عرضه عربي غيور.
ورد في حديث مقتله أن الرهط الذين خرجوا لقتله انتهوا إلى حصنه. فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته ... فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: «إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة!»
وصدقت امرأته حين وصفته بأنه محارب يعامل معاملة المحاربين وقد حنثوا في أيمانهم، فلم يكن راعيا لعهده، ولم يكن له وازع من نفسه ولا من قومه، ولم يكن مأمونا على المسلمين وهو لائذ بحصنه، فهو أقل الناس حقا في أمان.
وجاء في الخبر أن النبي عليه السلام أقر مقتله، فعاب بعض المؤرخين الأوروبيين ذلك، وحسبوه خروجا على سنن القتال يشبه فعلة نابليون الكبير حين أمر باختطاف الدوق دنجان ومحاكمته بغير حق، مع ما بين الحادثين من بون بعيد بيناه من قبل فلا نعود إليه.
إلا أننا نوجز هنا فلا نزيد على أن نشير إلى حكم القانون الدولي في أحدث العصور على من يؤخذون بصنيع معيب كصنيع ابن الأشرف، وإن لم يبلغ مبلغه من الغدر والكيد والإساءة إلى الأعراض.
अज्ञात पृष्ठ