مقدمة
1 - علامات مولد
2 - عبقرية الداعي
3 - عبقرية محمد العسكرية
4 - عبقرية محمد السياسية
5 - عبقرية محمد الإدارية
6 - البليغ
7 - محمد الصديق
8 - محمد الرئيس
9 - الزوج
अज्ञात पृष्ठ
10 - الأب
11 - السيد
12 - العابد
13 - الرجل
14 - محمد في التاريخ
مقدمة
1 - علامات مولد
2 - عبقرية الداعي
3 - عبقرية محمد العسكرية
4 - عبقرية محمد السياسية
अज्ञात पृष्ठ
5 - عبقرية محمد الإدارية
6 - البليغ
7 - محمد الصديق
8 - محمد الرئيس
9 - الزوج
10 - الأب
11 - السيد
12 - العابد
13 - الرجل
14 - محمد في التاريخ
अज्ञात पृष्ठ
عبقرية محمد
عبقرية محمد
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام.
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام.
ولنا رهط من الأصدقاء المشتغلين بالأدب، يشتركون في قراءة كتبه العربية والإفرنجية، ويترددون معا على الأحياء الوطنية، وقلما يترددون على غيرها، فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة، بين الحي الحسيني والحي الزينبي، أو بين منشية القلعة، وضاحية العباسية، أو بين الروضة والخليج ... على حسب المناسبات، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات.
وكان رهطا له نقائض الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب، ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشئ في العاصمة وناشئ في الريف وناشئ في الصعيد وناشئ في الثغور، إلى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات.
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة بينها؛ لأنهم كانوا يقرءون أكثر ما كانوا يقرءون كتب «ديكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» وهم كتاب مولعون بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين والحضريين في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين، والباعة، تفيض بحسن الملاحظة، وبراعة الفكاهة، ومتعة القراءة، وتعود من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها حيثما رآها.
अज्ञात पृष्ठ
ففي يوم من أيام المولد - والرهط يزورني لنؤم الساحة مجتمعين في المساء - كان الكاتب الإنجليزي العظيم «توماس كارليل» هو محور الحديث كله؛ لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية، صاحب كتاب «الأبطال» الذي عقد فيه فصلا عن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل.
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية. وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقا، يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة ... فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء!
قلت: «ويحك! ... ما سوغ أحد السيف كما سوغته أنت بهذه القولة النابية!»
وقال صديقنا المازني: «بل السيف أكرم من هذا، وإنما سوغ صاحبنا شيئا آخر يستحقه ... وأشار إلى قدمه!»
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من الندي، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول، أو خيل إليه أنه مقبول.
وتساءلنا: ما بالنا نقنع بتمجيد «كارليل» للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه ... ثم سألني بعض الإخوان: «ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابا عن محمد على النمط الحديث؟»
قلت: «أفعل ... وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب.»
ولكنه لم يتم في وقت قريب ... بل تم بعد ثلاثين سنة! ... وشاءت المصادفة العجيبة أن تتم فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة ... فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد النبي على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يوما بعد يوم. •••
والخيرة في الواقع.
अज्ञात पृष्ठ
والخيرة كذلك في هذا التأخير.
فإنني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية إلى محصول ذلك العمر الباكر؛ إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتلئ فيه إعجابا بمحمد ؛ لأنه عمر الإعجاب والحماسة الروحية، بيد أنه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة وإن تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو البعيد من شتى نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟!
إنها مسافات في عالم الفكر والروح لو تمثلت مكانا منظورا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار.
كم رأي ... كم مذهب ... كم وسواس ... كم محنة ... كم مراجعة ... كم زلزال يتضعضع له الكيان وتميد معه الدعائم والأركان ... كم، وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض لمحة عين في نهار ... وكم لذلك كله من أثر في توطيد الرأي وتهدئة الثوائر وتجلية الغبار ... وكم يضيف ذلك كله إلى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء!
الخيرة في الواقع.
الخيرة في ذلك التأخير.
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي القراء؛ لا نقول إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه ... ولكننا نقول إننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية، ونظرنا اتفاقا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية؛ لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب ...
فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعا عنه، أو مجادلة لخصومه ... فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى، يكتب فيها من هم ذووها ولهم دراية بها وقدرة عليها.
अज्ञात पृष्ठ
إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس ...
عظيم؛ لأنه على خلق عظيم ...
وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة، وبين كل قبيل ... ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما: أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة ... ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط الحق، معرض للجفوة والكنود.
والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها ... فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة ... والمساواة هي شرعة السواد الغالبة في العصر الحديث. •••
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور بعد الجور غرورهم بطرائف العصر الحديث، واعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ للقديم في كل شيء ... حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة، وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه ...
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا كرامتهم، ولا يثوبوا إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين ... بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء.
هذه الآفة حطة تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض، وتهبط بالرجاء في إصلاح العيوب الخلقية والنفسية إلى ما دون الحضيض ...
فماذا يساوي إنسان لا يساوي الإنسان العظيم شيئا لديه؟ ... وأي معرفة بحق من الحقوق يناط بها الرجاء إذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ ... وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ ... •••
अज्ञात पृष्ठ
لهذا كان تقدير محمد بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعا في هذا الزمن الذي التوت فيه مقاييس التقدير ...
إنه لنافع لمن يقدرون محمدا، وليس بنافع لمحمد أن يقدروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء، إلا كما نال منه بغي الكفار ...
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها ... لأن مسلما يقدر محمدا على هذا النحو يحب محمدا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس.
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء. •••
إن عمل محمد لكاف جد الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء ...
إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، ولم تكن أصناما كأصنام يونان، يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن فاته أن يحسب له هدى الضمير ... ولكنها أصنام شائهات كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول ... فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة إلى عبادة الحق الأعلى ... عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات ... •••
إن عمله هذا لكاف لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن على صاحب هذا العمل بالتوقير على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا، حين نقول إن التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد ...
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالى بها التقويم ...
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة؛ فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم.
अज्ञात पृष्ठ
وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بنانا تومئ إلى تلك العظمة في آفاقها، فإن البنان لأقدر على الإشارة من الباع على الإحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير ...
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
علامات مولد
عالم
كان عالما متداعيا قد شارف النهاية ... خلاصة ما يقال فيه إنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام ...
أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر ... طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور ...
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف العائثين بالفساد ...
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علما عليها، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها ...
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس ... وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات ...
अज्ञात पृष्ठ
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان ... ثم هي بعد هذا التشويه في الدين، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ ... فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات.
عالم يتطلع إلى حال غير حاله ... عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.
أمة
وبين هذه الدول المتداعيات، أمة ليست بذات دولة، ولكنها تتأهب لإقامة دولة ... هي أمة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.
في أيديها تجارة العالمين كلها ...
فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية ... أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينا في إبان الصولة الرومانية والصولة الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم، يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب، وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب المورد وتكسد الأسواق.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة الأعراب من كلتا الطريقين.
أمة تيقظت لوجودها، وعرفت شأنها بين من يحدقون بصحرائها ... ثم رأت هؤلاء المحيطين بها يجورون عليها، ويريدون إخضاعها وابتلاعها ...
فهرقل الرومي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ويستبدل بها كعبة غيرها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها ...
خطر من خارجها، يزيد الأمة يقظة وانتباها لوجودها ...
अज्ञात पृष्ठ
وخطر من داخلها، يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري في حياتها ...
مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة ...
حالة لا استقرار فيها ...
فمن هنا الترف، والطمع، والخمر، والقمار، والمتعة، وتسخير الأقوياء للضعفاء ...
ومن هنا الفاقة، والحسرة، والشك في صلاح الأمور ...
ولكنه شك يبحث ويضطرب، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، فهناك هاتف بينهم بسوء ما هم عليه. اجتمع أناس بنخلة لإحياء عيد العزى، فقال رجل منهم لإخوانه: «والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال ... فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور. يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» ... ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ومنهم من اعتزل الأوثان، ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة الإسلام فلباها ... وكان الذي تنصر وسمع دعوة الإسلام ورقة بن نوفل الذي كتب له أن يتلقى بشارة النبي العربي عند ظهوره، ويلقي إليه بالبشارة.
هؤلاء شكوا وبحثوا عن العقيدة وطمأنينة الضمير ...
وغيرهم شكوا وبحثوا عن وازع من الضمير، ووازع من السلطان، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم يتعاهدون باسم الله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ... وذلك حلف الفضول الذي شهده النبي العربي في شبابه، وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم.»
حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار ...
وأمة يقظى! ...
अज्ञात पृष्ठ
وخطر محدق بها مما حولها، ومما هو في دخائلها وأحشائها ...
حالة تنذر بالزوال، وقلما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها ... فتلك إذن حالة للتبديل والتجديد.
قبيلة
وقبيلة في تلك الأمة، في تلك المدينة ... لها شعبتان:
إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائما على هواها ...
والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ويصبر على الكريهة، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يذعن له، ويأكل من فضلات يديه.
بيت
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، وليس له لؤم الثروة الجامحة والكبرياء الجائحة، والقسوة على من دونه من المحرومين.
ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها العليا، وإن لم يكن معدودا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان ...
ورأس هذا البيت - عبد المطلب - رجل قوي الخلق، قوي الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق أن ينجب العقب الذي يبشر بدعوة وينضح عن دين.
अज्ञात पृष्ठ
نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة ... ثم أحله قومه وأحلته العرافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضا الرب ورضا ضميره ...
سألتهم العرافة: «كم الدية فيكم؟»
قالوا: «عشر من الإبل.»
قالت: «فتقربوا إذن بعشر من الإبل، واضربوا على الفتى وعليها بالقداح ... فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم.» فما زالوا يزيدون حتى بلغت الإبل مائة وخرجت القداح عليها فهتفت قريش بعيد المطلب: «لقد رضي ربك ... فأطلق فتاك .» وكان خليقا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، ولكن عبد المطلب لم يكن من المتحللين المتعللين، فأبى إلا أن يضرب عليها القداح ثلاث مرات، ثم نحرت الإبل للجياع من الأناسي والسباع.
وجاء القائد الحبشي يهدم الكعبة ويسطو على الإبل والشاء ... فلما سأله عبد المطلب أن يرد إليه إبله، قال له مقال السياسي المحرج المداور بالكلام: «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة.»
فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه!»
فكان إيمانه إيمانا كفئا لدهاء السياسة، ولم يكن إيمان العجز والتواكل والاستسلام ...
ومن كان له هذا الخلق، وهذا الضمير، وهذا الإيمان، وهذه الرئاسة، فليس من عجب أن ينجب نبيا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان ... بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان.
أب
وإذا كان عبد المطلب جدا صالحا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم ...
अज्ञात पृष्ठ
لكأنما كان بضعة من عالم الغيب، أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبيا وهي لا تراه، ثم تعود.
كان إنسانا من طينة الشهداء، يتجه إلى القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور بوسامته وحيائه، وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتجر فإذا هي السفرة التي لا يؤوب منها الذاهبون، وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين.
وهكذا تتمثل البصائر الخاشعة آباء الأنبياء والسلالة التي تصل بين الآخرة والدنيا وبين عالم البقاء وعالم الفناء ...
رجل
عالم يتطلع إلى نبي ... وأمة تتطلع إلى نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي.
ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة ... وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره.
نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب ...
فقير ... وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
يتيم بين رحماء ... فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين.
خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء.
अज्ञात पृष्ठ
فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية ...
وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه ... فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا يغامسها كل المغامسة فيغرق في لجتها.
أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، على غير علم من الدنيا التي ترقبها ...
ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام ...
قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والجزيرة مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ ... وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ ... وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع، ومن هذا التوفيق؟ ... علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.
فإذا تجمعت هذه العلامات، فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ ... وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟ ...
خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق ... ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟
لو اشتغل بالتجارة طول حياته كما اشتغل بها فترة من الزمن، لكان تاجرا أمينا ناجحا موثوقا به في سوق التجار والشراة ... ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال.
ولو اشتغل زعيما بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد ...
فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد ...
अज्ञात पृष्ठ
بشائر الرسالة
والمؤرخون يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية ... يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام.
لا موضع هنا لاختلاف ...
فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها.
لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة ...
ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي عليه السلام أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده؛ جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره. ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين ... يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين.
أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ.
قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ...
وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ...
अज्ञात पृष्ठ
ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ...
الفصل الثاني
عبقرية الداعي
اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة ...
واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة ...
وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التي تؤدى بها رسالته على أحسن الوجوه.
كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول.
وكان من الممكن أن يظهر الرسول في البيت الصالح وفي البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التي يتم بها أداء الرسالة.
ولكن الذي اتفق في رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولا سائغا بغير عنت ولا استكراه ...
فكان محمد مستكملا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ.
अज्ञात पृष्ठ
كانت له فصاحة اللسان واللغة ...
وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة ...
وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها ...
وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول ... ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.
الفصاحة
فالفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، ولموضوع الكلام ... فيكون الكلام فصيحا، وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.
أما فصاحة محمد؛ فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه ...
فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر.»
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة ... وهذه هي فصاحة الكلام.
ولكن الرجل قد يكون عربيا قرشيا مسترضعا في بني سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس ... فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه النطق الجميل.
अज्ञात पृष्ठ
أما محمد فقد كان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، وخير من وصفه بذلك عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: «ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه.»
واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها ... فهو صاحب كلام سليم في نطق سليم ...
ولكن الرجل قد يكون عربيا قرشيا مسترضعا في بني سعد، ويكون سليما في كلامه سليما في نطقه ... ثم لا يقول شيئا يستحق أن يستمع إليه السامع في موضوعه.
فهذا أيضا قد تنزه عنه الرسول في فصاحته السائغة من شتى نواحيها ... فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كفاء ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام.
الوسامة والثقة
وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو، ولم ينقل عن أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء.
وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبدا يفقد أباه وأسرته - كزيد بن حارثة - ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه ...
وإن خادم خديجة رضي الله عنها - ونعني به ميسرة - يقدمه ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته، وهو أولى أن ينفس عليه، وأن يدعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقدم.
अज्ञात पृष्ठ
وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعا من عظماء الرجال.
ولكن الرجل قد يكون صبيحا دمثا محبوبا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير؛ لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينا فمن الجائز أن تفترقا حينا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.
أما محمد فقد كان جامعا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو من العلم بمنزلته من ثقة القوم، فأحب أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»
فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» ... إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.
الإيمان والغيرة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة ... وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان وطلاقة القسمات، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغيرة عليه ...
وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان ... وجاوره أناس أقل منه نبلا في النفس ولطفا في الحس ونفورا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه. فصدع بما أمر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة ...
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوى في الأفئدة، فيشبهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين ...
अज्ञात पृष्ठ