مقدمة
1 - علامات مولد
2 - عبقرية الداعي
3 - عبقرية محمد العسكرية
4 - عبقرية محمد السياسية
5 - عبقرية محمد الإدارية
6 - البليغ
7 - محمد الصديق
8 - محمد الرئيس
9 - الزوج
10 - الأب
11 - السيد
12 - العابد
13 - الرجل
14 - محمد في التاريخ
مقدمة
1 - علامات مولد
2 - عبقرية الداعي
3 - عبقرية محمد العسكرية
4 - عبقرية محمد السياسية
5 - عبقرية محمد الإدارية
6 - البليغ
7 - محمد الصديق
8 - محمد الرئيس
9 - الزوج
10 - الأب
11 - السيد
12 - العابد
13 - الرجل
14 - محمد في التاريخ
عبقرية محمد
عبقرية محمد
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام.
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام.
ولنا رهط من الأصدقاء المشتغلين بالأدب، يشتركون في قراءة كتبه العربية والإفرنجية، ويترددون معا على الأحياء الوطنية، وقلما يترددون على غيرها، فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة، بين الحي الحسيني والحي الزينبي، أو بين منشية القلعة، وضاحية العباسية، أو بين الروضة والخليج ... على حسب المناسبات، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات.
وكان رهطا له نقائض الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب، ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشئ في العاصمة وناشئ في الريف وناشئ في الصعيد وناشئ في الثغور، إلى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات.
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة بينها؛ لأنهم كانوا يقرءون أكثر ما كانوا يقرءون كتب «ديكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» وهم كتاب مولعون بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين والحضريين في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين، والباعة، تفيض بحسن الملاحظة، وبراعة الفكاهة، ومتعة القراءة، وتعود من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها حيثما رآها.
ففي يوم من أيام المولد - والرهط يزورني لنؤم الساحة مجتمعين في المساء - كان الكاتب الإنجليزي العظيم «توماس كارليل» هو محور الحديث كله؛ لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية، صاحب كتاب «الأبطال» الذي عقد فيه فصلا عن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل.
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية. وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقا، يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة ... فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء!
قلت: «ويحك! ... ما سوغ أحد السيف كما سوغته أنت بهذه القولة النابية!»
وقال صديقنا المازني: «بل السيف أكرم من هذا، وإنما سوغ صاحبنا شيئا آخر يستحقه ... وأشار إلى قدمه!»
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من الندي، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول، أو خيل إليه أنه مقبول.
وتساءلنا: ما بالنا نقنع بتمجيد «كارليل» للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه ... ثم سألني بعض الإخوان: «ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابا عن محمد على النمط الحديث؟»
قلت: «أفعل ... وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب.»
ولكنه لم يتم في وقت قريب ... بل تم بعد ثلاثين سنة! ... وشاءت المصادفة العجيبة أن تتم فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة ... فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد النبي على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يوما بعد يوم. •••
والخيرة في الواقع.
والخيرة كذلك في هذا التأخير.
فإنني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية إلى محصول ذلك العمر الباكر؛ إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتلئ فيه إعجابا بمحمد ؛ لأنه عمر الإعجاب والحماسة الروحية، بيد أنه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة وإن تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو البعيد من شتى نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟!
إنها مسافات في عالم الفكر والروح لو تمثلت مكانا منظورا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار.
كم رأي ... كم مذهب ... كم وسواس ... كم محنة ... كم مراجعة ... كم زلزال يتضعضع له الكيان وتميد معه الدعائم والأركان ... كم، وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض لمحة عين في نهار ... وكم لذلك كله من أثر في توطيد الرأي وتهدئة الثوائر وتجلية الغبار ... وكم يضيف ذلك كله إلى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء!
الخيرة في الواقع.
الخيرة في ذلك التأخير.
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي القراء؛ لا نقول إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه ... ولكننا نقول إننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية، ونظرنا اتفاقا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية؛ لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب ...
فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعا عنه، أو مجادلة لخصومه ... فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى، يكتب فيها من هم ذووها ولهم دراية بها وقدرة عليها.
إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم؛ لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس ...
عظيم؛ لأنه على خلق عظيم ...
وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة، وبين كل قبيل ... ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما: أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة ... ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط الحق، معرض للجفوة والكنود.
والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها ... فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة ... والمساواة هي شرعة السواد الغالبة في العصر الحديث. •••
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور بعد الجور غرورهم بطرائف العصر الحديث، واعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ للقديم في كل شيء ... حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة، وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه ...
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا كرامتهم، ولا يثوبوا إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين ... بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء.
هذه الآفة حطة تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض، وتهبط بالرجاء في إصلاح العيوب الخلقية والنفسية إلى ما دون الحضيض ...
فماذا يساوي إنسان لا يساوي الإنسان العظيم شيئا لديه؟ ... وأي معرفة بحق من الحقوق يناط بها الرجاء إذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ ... وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ ... •••
لهذا كان تقدير محمد بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعا في هذا الزمن الذي التوت فيه مقاييس التقدير ...
إنه لنافع لمن يقدرون محمدا، وليس بنافع لمحمد أن يقدروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء، إلا كما نال منه بغي الكفار ...
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها ... لأن مسلما يقدر محمدا على هذا النحو يحب محمدا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس.
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء. •••
إن عمل محمد لكاف جد الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء ...
إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، ولم تكن أصناما كأصنام يونان، يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن فاته أن يحسب له هدى الضمير ... ولكنها أصنام شائهات كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول ... فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة إلى عبادة الحق الأعلى ... عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات ... •••
إن عمله هذا لكاف لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن على صاحب هذا العمل بالتوقير على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا، حين نقول إن التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد ...
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يغالى بها التقويم ...
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة؛ فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم.
وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بنانا تومئ إلى تلك العظمة في آفاقها، فإن البنان لأقدر على الإشارة من الباع على الإحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير ...
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
علامات مولد
عالم
كان عالما متداعيا قد شارف النهاية ... خلاصة ما يقال فيه إنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام ...
أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر ... طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور ...
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف العائثين بالفساد ...
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علما عليها، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها ...
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس ... وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات ...
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان ... ثم هي بعد هذا التشويه في الدين، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ ... فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات.
عالم يتطلع إلى حال غير حاله ... عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.
أمة
وبين هذه الدول المتداعيات، أمة ليست بذات دولة، ولكنها تتأهب لإقامة دولة ... هي أمة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.
في أيديها تجارة العالمين كلها ...
فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية ... أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينا في إبان الصولة الرومانية والصولة الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم، يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب، وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب المورد وتكسد الأسواق.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة الأعراب من كلتا الطريقين.
أمة تيقظت لوجودها، وعرفت شأنها بين من يحدقون بصحرائها ... ثم رأت هؤلاء المحيطين بها يجورون عليها، ويريدون إخضاعها وابتلاعها ...
فهرقل الرومي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ويستبدل بها كعبة غيرها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها ...
خطر من خارجها، يزيد الأمة يقظة وانتباها لوجودها ...
وخطر من داخلها، يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري في حياتها ...
مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة ...
حالة لا استقرار فيها ...
فمن هنا الترف، والطمع، والخمر، والقمار، والمتعة، وتسخير الأقوياء للضعفاء ...
ومن هنا الفاقة، والحسرة، والشك في صلاح الأمور ...
ولكنه شك يبحث ويضطرب، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، فهناك هاتف بينهم بسوء ما هم عليه. اجتمع أناس بنخلة لإحياء عيد العزى، فقال رجل منهم لإخوانه: «والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال ... فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور. يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» ... ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ومنهم من اعتزل الأوثان، ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة الإسلام فلباها ... وكان الذي تنصر وسمع دعوة الإسلام ورقة بن نوفل الذي كتب له أن يتلقى بشارة النبي العربي عند ظهوره، ويلقي إليه بالبشارة.
هؤلاء شكوا وبحثوا عن العقيدة وطمأنينة الضمير ...
وغيرهم شكوا وبحثوا عن وازع من الضمير، ووازع من السلطان، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم يتعاهدون باسم الله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ... وذلك حلف الفضول الذي شهده النبي العربي في شبابه، وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم.»
حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار ...
وأمة يقظى! ...
وخطر محدق بها مما حولها، ومما هو في دخائلها وأحشائها ...
حالة تنذر بالزوال، وقلما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها ... فتلك إذن حالة للتبديل والتجديد.
قبيلة
وقبيلة في تلك الأمة، في تلك المدينة ... لها شعبتان:
إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائما على هواها ...
والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ويصبر على الكريهة، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يذعن له، ويأكل من فضلات يديه.
بيت
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، وليس له لؤم الثروة الجامحة والكبرياء الجائحة، والقسوة على من دونه من المحرومين.
ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها العليا، وإن لم يكن معدودا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان ...
ورأس هذا البيت - عبد المطلب - رجل قوي الخلق، قوي الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق أن ينجب العقب الذي يبشر بدعوة وينضح عن دين.
نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة ... ثم أحله قومه وأحلته العرافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضا الرب ورضا ضميره ...
سألتهم العرافة: «كم الدية فيكم؟»
قالوا: «عشر من الإبل.»
قالت: «فتقربوا إذن بعشر من الإبل، واضربوا على الفتى وعليها بالقداح ... فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم.» فما زالوا يزيدون حتى بلغت الإبل مائة وخرجت القداح عليها فهتفت قريش بعيد المطلب: «لقد رضي ربك ... فأطلق فتاك .» وكان خليقا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، ولكن عبد المطلب لم يكن من المتحللين المتعللين، فأبى إلا أن يضرب عليها القداح ثلاث مرات، ثم نحرت الإبل للجياع من الأناسي والسباع.
وجاء القائد الحبشي يهدم الكعبة ويسطو على الإبل والشاء ... فلما سأله عبد المطلب أن يرد إليه إبله، قال له مقال السياسي المحرج المداور بالكلام: «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة.»
فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه!»
فكان إيمانه إيمانا كفئا لدهاء السياسة، ولم يكن إيمان العجز والتواكل والاستسلام ...
ومن كان له هذا الخلق، وهذا الضمير، وهذا الإيمان، وهذه الرئاسة، فليس من عجب أن ينجب نبيا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان ... بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان.
أب
وإذا كان عبد المطلب جدا صالحا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم ...
لكأنما كان بضعة من عالم الغيب، أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبيا وهي لا تراه، ثم تعود.
كان إنسانا من طينة الشهداء، يتجه إلى القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور بوسامته وحيائه، وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتجر فإذا هي السفرة التي لا يؤوب منها الذاهبون، وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين.
وهكذا تتمثل البصائر الخاشعة آباء الأنبياء والسلالة التي تصل بين الآخرة والدنيا وبين عالم البقاء وعالم الفناء ...
رجل
عالم يتطلع إلى نبي ... وأمة تتطلع إلى نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي.
ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة ... وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره.
نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب ...
فقير ... وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
يتيم بين رحماء ... فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين.
خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء.
فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية ...
وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه ... فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا يغامسها كل المغامسة فيغرق في لجتها.
أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، على غير علم من الدنيا التي ترقبها ...
ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام ...
قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والجزيرة مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ ... وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ ... وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع، ومن هذا التوفيق؟ ... علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.
فإذا تجمعت هذه العلامات، فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ ... وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟ ...
خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق ... ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟
لو اشتغل بالتجارة طول حياته كما اشتغل بها فترة من الزمن، لكان تاجرا أمينا ناجحا موثوقا به في سوق التجار والشراة ... ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال.
ولو اشتغل زعيما بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد ...
فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد ...
بشائر الرسالة
والمؤرخون يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية ... يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام.
لا موضع هنا لاختلاف ...
فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها.
لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة ...
ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي عليه السلام أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده؛ جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره. ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين ... يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين.
أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ.
قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ...
وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ...
ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ...
الفصل الثاني
عبقرية الداعي
اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة ...
واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة ...
وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التي تؤدى بها رسالته على أحسن الوجوه.
كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول.
وكان من الممكن أن يظهر الرسول في البيت الصالح وفي البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التي يتم بها أداء الرسالة.
ولكن الذي اتفق في رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولا سائغا بغير عنت ولا استكراه ...
فكان محمد مستكملا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ.
كانت له فصاحة اللسان واللغة ...
وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة ...
وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها ...
وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول ... ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.
الفصاحة
فالفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، ولموضوع الكلام ... فيكون الكلام فصيحا، وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.
أما فصاحة محمد؛ فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه ...
فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر.»
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة ... وهذه هي فصاحة الكلام.
ولكن الرجل قد يكون عربيا قرشيا مسترضعا في بني سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس ... فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه النطق الجميل.
أما محمد فقد كان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، وخير من وصفه بذلك عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: «ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه.»
واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها ... فهو صاحب كلام سليم في نطق سليم ...
ولكن الرجل قد يكون عربيا قرشيا مسترضعا في بني سعد، ويكون سليما في كلامه سليما في نطقه ... ثم لا يقول شيئا يستحق أن يستمع إليه السامع في موضوعه.
فهذا أيضا قد تنزه عنه الرسول في فصاحته السائغة من شتى نواحيها ... فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كفاء ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام.
الوسامة والثقة
وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو، ولم ينقل عن أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء.
وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبدا يفقد أباه وأسرته - كزيد بن حارثة - ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه ...
وإن خادم خديجة رضي الله عنها - ونعني به ميسرة - يقدمه ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته، وهو أولى أن ينفس عليه، وأن يدعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقدم.
وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعا من عظماء الرجال.
ولكن الرجل قد يكون صبيحا دمثا محبوبا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير؛ لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينا فمن الجائز أن تفترقا حينا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.
أما محمد فقد كان جامعا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو من العلم بمنزلته من ثقة القوم، فأحب أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»
فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» ... إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.
الإيمان والغيرة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة ... وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان وطلاقة القسمات، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغيرة عليه ...
وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان ... وجاوره أناس أقل منه نبلا في النفس ولطفا في الحس ونفورا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه. فصدع بما أمر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة ...
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوى في الأفئدة، فيشبهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين ...
نجاح الدعوة
ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوما بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من شيء غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة، ثم يخيل إليه أن الدعوة الإسلامية كانت فضولا غير مطلوب في هذه الدنيا، وأن نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.
أي إرهاب وأي سيف؟!
إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف ... وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يعرضون أحدا لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتا ولا يصيبون أحدا بعنت، وكانوا يخرجون من ديارهم لياذا بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين، ونقمة الناقمين، ولا يخرجون أحدا من داره.
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين ... ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويبطلوا الإرهاب والوعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحدا بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان.
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.
أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين، فلو كان هو باعثا للإيمان، لكان أحرى الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية؛ هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم، ولكان طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة. فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين، بل لعلها أشهى إلى الأولين وأدنى، ولعلهم أحرص عليها وأحنى، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمراء أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال. •••
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر ...
ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه، ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقا واحدا بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المنصفين والظلمة المتصلفين، وبين من يعقلون ويصغون إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يصغون إلى قول.
ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا، وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع.
ولعلنا لا نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها من مثال عمر - رضي الله عنه - في إسلامه ... فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية، ينفي كل كلام يقال عن الوعيد والإغراء وأثرهما في إقناع الأقوياء أو الضعفاء.
قال ابن إسحاق: «... خرج عمر يوما متوشحا بسيفه، يريد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ورهطا من أصحابه ... قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين - رضي الله عنهم - ممن كان أقام مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: «من تريد يا عمر؟ ...»
فقال: «أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.»
فقال نعيم: «والله قد غرتك نفسك يا عمر! ... أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ ... أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟»
قال: «وأي أهل بيتي؟»
قال: «ختنك وابن عمك سعيد بن عمرو! ... وأختك فاطمة بنت الخطاب ... فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما».»
قال: «فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة التي سمعت؟»
قالا له: «ما سمعت شيئا! ...»
قال: «بلى والله! لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه» ... وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت له أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: «نعم ... قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك» فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع فارعوى، وقال لأخته: «أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد» وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: «إنا نخشاك عليها.»
قال: «لا تخافي» وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: «يا أخي! ... إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر» فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها «سورة طه» فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!» فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: «يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» ... فالله الله يا عمر!»
فقال له عند ذلك عمر: «فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم»، فقال له خباب: «هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه» فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو فزع، فقال: «يا رسول الله! ... هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف.»
فقال حمزة بن عبد المطلب: «نأذن له ... فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.»
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ائذن له!» فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى لقيه بالحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذة شديدة وقال: «ما جاء بك يا بن الخطاب؟ ... فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة!»
فقال عمر: «يا رسول الله! ... جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.»
قال: «فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم.» فتفرق أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم ...»»
هذه قصة إسلام عمر بن الخطاب، وهذا موضع ما فيها من الوعيد والإغراء ... خرج بالسيف ليقتل محمدا ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف، وقرأ صدرا من «سورة طه» ليس فيه ذكر للخمر والنعيم وهو:
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (طه: 1-7).
فلا جبن إذن، ولا طمع في إسلام عمر بن الخطاب، بل رحمة وإنابة واعتذار ... •••
ولم يكن في إسلام الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصرا، وأضعف منه بأسا جبن ولا طمع؛ لأنهم تعرضوا بإسلامهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا لله ورسوله، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة؛ فيقال إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة، وجبن عن مواجهة القوة ... ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور، فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير، ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ عنها فقد أبى ... وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش، في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون به هوى كهوى الكفار من قريش، في الإصرار والإنكار. •••
إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داع تهيأ لها بعناية ربه وموافقا أحواله وصفاته ...
فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل، أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شيء فهما لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شيء سبيلا لمن استقام ...
الفصل الثالث
عبقرية محمد العسكرية
حروب دفاع
قلنا في الفصل السابق إن الإسلام لم ينجح لأنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون، ولكنه نجح؛ لأنه دعوة لازمة يقوم بها داع موفق، وليس بين أسباب نجاحه سبب واحد يصعب فهمه على هذا الاعتبار.
ونريد في هذا الفصل أن نقول إن محمدا كان على اجتنابه العدوان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال لعجز أو خوف مما يجهله ولا يجيده، ولكنه اجتنبه؛ لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة.
وقبل ذلك ينبغي أن نستحضر في الذهن بعض الحقائق التي تظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال، لنثبت أن للإسلام شأنا في اجتناب القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحا للانتصار، وأن الأديان الأخرى ما كانت لتحجم عن عمل أقدم عليه النبي لو كانت دعوتها كدعوته، وكانت أسبابها كأسبابه.
فالحقيقة الأولى:
أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق - لو صدق - في بداءة عهد الإسلام كما أسلفنا يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح.
لكن الواقع أن الإسلام في بداءة عهده كان هو المعتدى عليه، ولم يكن من قبله اعتداء على أحد ... وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية، واجتماع القول حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة: 190).
وكانوا يحاربون من لا يؤمن عهده ولا يتقى شره بالحلف والمسالمة:
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (التوبة: 12).
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أمروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة، فلم يكن لهم قط عدوان ولا إكراه.
وحروب النبي عليه السلام كما أسلفنا كانت كلها حروب دفاع ولم تكن منها حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد، والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم ... ففي غزوة تبوك عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره.
والحقيقة الثانية:
أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع.
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف «سلطة» تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه.
لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة ...
ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي عهد الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه.
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها؛ لأنهم أصحاب السلطة التي تأبى العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة بعد التجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية، وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء؛ لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كان يمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية، فيمتنع القتال.
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب ... ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر الدنيا.
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة ... ولا بد من التمييز بين العملين؛ لأنهما جد مختلفين.
والحقيقة الثالثة:
أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها ...
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها، ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟ وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (البقرة: 193).
والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها، بماذا تفض الخلاف بينهم إن لم تفضه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضا حيث جاء فيه:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (الحجرات: 9).
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح ... ثم يأتي الصلح والتوفيق، أو يأتي التفاهم بالرضا والاختيار.
والحقيقة الرابعة:
أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لا بد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع ...
فاليهودية أو الإسرائيلية كانت كما يدل عليها اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس، فكان أبناؤهم يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها، كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم - فضلا عن امتشاق الحسام - لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار ...
أما المسيحية فهي قد عنيت «أولا» بالآداب والأخلاق، ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة.
وقد ظهرت «ثانيا» في بلاد للمعاملات والنظم الحكومية فيها قوانين تحميها كما يحميها الكهان المعززون بالسلطان، فهي قد عدلت عن فرض المعاملات والدساتير لهذه الضرورة، لا لأن المعاملات والدساتير ليست من شأن الدين.
وقد ظهرت «ثالثا» في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول، وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال.
أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام ... وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية.
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية، فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه.
آية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأربت حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات.
والحقيقة الخامسة:
أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.»
وجاء في القرآن الكريم:
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (النساء: 84).
وحدث فعلا أن المسلمين فتحوا بلادا غير بلاد العرب، ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح.
إلا أن هذه الفتوح تأخرت في الزمن، ولم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور، وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه، واجتمعت له جنود تؤمن به وتقدم على الموت في سبيله.
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها ...
فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه، لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم ... ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسري منهما إلى حماه.
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب.
والحقيقة السادسة:
أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع ...
فقد استقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم، وكانت جميعها مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه ...
فإذا قيل إن المدعوين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به متأخرين ... وأن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار، إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح ...
ومن نظر إلى الإقناع العقلي، تساوى لديه من يستميلك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، أو بتربية الأطفال عليها وهم لا يعقلون، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم، على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام.
فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول، كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة، ولا يدفع عن عقيدة دفع العارف البصير ...
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك، إلا أن يحال بينها وبين انتضائه، أو تبطل عندها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وأن الإسلام عقيدة ونظام، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في أخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه ...
القائد البصير
لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلا مقاتلا يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء؛ لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع، وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام.
وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي عليه السلام في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف أن يستمع فيها إلى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه، ثم وعى من تجربة واحدة ما قل أن يعيه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى، فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكري من أساطين فن الحرب في العصر الحديث؛ ليقترح وراء خططه مقترحا أو ينبه إلى خطأ؛ لأعياه التعديل.
ونختار أبرع القادة المحدثين وهو نابليون بونابرت على أسلوب حرب الحركة الذي كان هو الأسلوب الغالب في العصور الماضية، والذي ظهر في الحرب العالمية الحاضرة
1
أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب، على الرغم من الحصون والسدود؛ لأن اختيار نابليون بونابرت يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم ...
فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع، وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد.
وعنده أنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور: أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده.
وكان النبي عليه السلام سابقا إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها، فكان - كما قدمنا - لا يبدأ أحدا بالعدوان، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون، والقيظ ملتهب، والشدة بالغة، فلا يثنيه ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه.
وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالا على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق.
وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد ...
والنبي عليه السلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان. وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك، مع رجحان الفئة الكثيرة في السلاح والركاب إلى جانب رجحانهم في عدد الجنود. ومعجزة الإيمان هنا أعظم جدا من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة. فالنبي عليه السلام كان يحارب عربا بعرب، وقرشيين بقرشيين، وقبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة، فلا يقال هنا إن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو المزايا النفسية، كما يمكن أن يقال هذا في جيوش نابليون، وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان.
وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره. فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوروبية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا ...
وهكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها.
وأنكر بعض المتعصبين من كتاب أوروبا هذه السرايا وسموها «قطعا للطريق» وهي هي سنة المصادرة بعينها التي أقرها «القانون الدولي» وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيدا تارة وغاليا في الحمق والشطط تارة أخرى.
وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش، ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة.
ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام فلا نرى أنه حاصر محلة، إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف.
وكان نابليون معتدا برأيه في الفنون العسكرية ولا سيما الخطط الحربية، ولكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى، قبل ابتداء الزحف أو قبل العزم على القتال.
ومحمد عليه السلام كان على رجاحة رأيه يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول، ومن ذلك ما صنعه ببدر - وألمعنا إليه آنفا - حين أشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال إلى مكان غير الذي نزلوا فيه أول الأمر، ثم بتغوير الآبار وبناء حوض للشرب لا يصل إليه الأعداء، وقيل في روايات كثيرة إنه عمل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق، عند المنفذ الذي خيف أن يهجم منه المشركون على المدينة، فحفر الخندق وعمل النبي بيديه الكريمتين في حفره.
وقبول النبي مشورة سلمان عمل من أعمال القيادة الرشيدة، وسنة من سنن القواد الكبار، غير أننا نعتقد أنه عليه السلام كان خليقا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميا مشددا عليهم في التزام موقفهم، قائلا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل.»
والذي يفعل هذا في شعب جبل، لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجزر التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع من كل فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام، وكان يقول إنه يخشى من أربعة أقلام ما ليس يخشاه من عشرة آلاف حسام.
والنبي عليه السلام كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهم يخفرون الذمة التي عاهدوا عليها، ويشهرون به وبالإسلام، أو يثيرون العشائر لقتاله، ويقذعون في هجوه وهجو دينه، فينفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يتكفل له بالخلاص منهم ...
وعاب هذا بعض المغرضين من الكتاب الأوروبيين، وشبهوه بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دنجان، وما قيل عن محاولته أن يختطف الشاعر الإنجليزي كولردج الذي كان يخوض في ذمه، ويستهوي الأسماع بسحر حديثه ...
إلا أن الفارق عظيم بين الحالتين؛ لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الألوهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلا من سبل الصراع في هذا الميدان.
فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإن لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده، وإنما هو مقاتل في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين، ولا سيما إذا كانت الحرب قائمة دائمة لا تنقطع فترة إلا ريثما تعود.
أما نابليون فالحرب بينه وبين أعدائه حرب جيوش وسلاح، فلا يجوز له أن يقتل أحدا لا يحمل السلاح في وجهه، أو لا يدينه القانون بما يستوجب إزهاق حياته، وما نهض نابليون لنشر دين أو تفنيد دين، ولا كان للرسول الإسلامي من غرض لو جاز له أن يقبل المسالمة ممن يحاربونه في دينه وإن لم يشهروا السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه. •••
تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح.
لم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها - كما أسلفنا - إلا لدفع غارة واتقاء عداوة، فإذا كان مع هذا يتقن منها ما يتولاه مدفوعا إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها، وعاش لها، ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.
ولقد كانت خبرة النبي ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال، فكانت طريقته في اختيار المكان والغرض، أو في اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلا يحتذى في جميع العصور، ولا سيما العصر الحديث الذي كثرت فيه ذرائع التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة، فكثرت فيه - من ثم - حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال الأعداء.
الأوامر المختومة
ففي الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة، أو بعد مسيرة ساعات، أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعا على سر البعثة، ورجاله جميعا يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أم في مناورة استطلاع، إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعات لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشف له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار ...
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة ...
فقد عرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، وفحواه أن «سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم.»
وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثا وقديما وعند بداءة الدعوات على التخصيص.
فأولها: كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا عليه وعلى أصحابه من قبل قريش، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور، ولا يبعد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون، وإن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام في جميع المطالب، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتباع ... ولهذا كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب إلى الآن.
ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه، ثم وصايته ألا يكره أحدا منهم على المسير معه بعد معرفته بوجهته، وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام.
فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه إذ يفر من القتال، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمدا، أو يتلقاها على غير اكتراث، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه.
ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس، وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة، والمناقضة بعد المناقضة، حتى تطمئن إلى صحته قبل الاعتماد عليه.
وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين ...
فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف، فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعيثون بين القرى المعزولة، فيشيعون فيها الرعب والحيرة، ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم، فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد.
قيل في الإعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير.
فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات وإشاعة الذعر وتضليل المدافعين، وأنها شيء جديد في شكله وإن لم يكن جديدا في غايته ومرماه ... ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية. فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورا على عمله، متحمسا لإنجازه، رقيبا على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه، فليس أيسر له إذا هو انفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأسر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء؛ طلبا للسلامة، ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال، ثم يتعلل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات.
فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين، ولا متشككين فيما هو موكول إليهم، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي إخوان الطريق وإلهام العقائد، لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء ويلهبونهم بحماسة العقيدة ويخلقون فيهم اللدد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ؛ لحبطت الخطة كل الحبوط، وانقلبت على النازيين شر انقلاب ...
وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في اشتراط الرغبة والطواعية، واجتناب القسر والإكراه ...
فهذه «أولا» بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد.
وهي «ثانيا» بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور. وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه، فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع، فقد كان النبي عليه السلام عليما بمزاياه، معنيا به غاية العناية، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري، ويحول من ثم دون الانتصار عليه ...
ونحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا أمس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم.
فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية؛ لاعتقاده خطأ أن القيصر سيطلب صلحه بعد أسابيع.
ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام، ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها ديارا يسأله عن مكان الجيش المتراجع، أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه على الاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه.
أما هتلر فقد أتي من قبل هذين النقصين كما أتى من قبلهما من هو أعظم منه وأولى بالتحرز والأناة.
فقد اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم.
واشتهر أنه أخطأ في استطلاع أخبار القوم، إذ خيل إليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة، ويترقب الإغارة عليه لنصرة المغير كائنا من كان، ولو جاءت الغارة من عنصر معاد للعنصر السلافي، وهو عنصر الجرمان.
ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه، ولعلنا نفهم - كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية - أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين.
وينبغي ألا تمر بنا سرية عبد الله بن جحش دون أن نستوفي كل ما فيها من الشئون العسكرية؛ لأنها تشتمل على أكثر من جانب واحد من جوانب السنة النبوية والتشريع الإسلامي في هذه الشئون.
فهي سرية استطلاع كما علمنا، لم تؤمر بقتال ولم يؤذن لها فيه.
لكن حدث بعد فض الكتاب أن اثنين من رجال السرية ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش، وهما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ...
ثم نزل الركب بنخلة فمرت بهم عير قريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي، آخر شهر رجب وكانت قريش قد حجزت أموال أناس من المسلمين منهم بعض من في السرية. فتشاوروا في قتال أهل العير، وحاروا فيما يصنعون؛ إن تركوا العير تمضي ليلتها امتنعت بالحرم، وفاتهم تعويض ما حجزته قريش في هذه الفرصة السانحة، وإن قاتلوا أهلها قتلوهم في شهر حرام، لكنهم اندفعوا إلى القتال؛ فأصابوا من أصابوه ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فأرداه، وأسروا رجلين.
وقفل عبد الله بن جحش ومن معه إلى المدينة وقد حجزوا للنبي عليه السلام الخمس من غنيمتهم، فأباه
صلى الله عليه وسلم
وقال لهم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وعنفهم إخوانهم لمخالفة النبي، وساءت لقياهم بين أهل المدينة.
وراحت قريش تثير ثائرة العرب، واندس جماعة من اليهود يحضأون نار الفتنة، وتنادوا أن محمدا وأصحابه قد أباحوا الدماء والأموال في الشهر الحرام، وقال المسلمون في مكة، بل كان ذلك في شعبان، ثم نزلت الآيات:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا (البقرة: 217).
فقبض النبي العير والأسيرين، وطلبت قريش فداءهما فقال عليه السلام: «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم.»
هذه قصة السرية وما وقع فيها خلافا لأمر النبي وما نجم عنها من تشريع ... فإذا نحن كتبناها باصطلاح العصر الحديث فكيف نكتبها؟ ... وكيف نفهمها؟ ...
هي لا خلاف حادثة طلائع أو حادثة حدود: ترسل إحدى الدول طليعة من جندها إلى حدودها للكشف أو للحراسة، فيقع الاشتباك بينها وبين طليعة في بلاد أخرى على غير علم من الحكومتين.
فالذي يحدث في هذه الحالة أن تنظر الحكومة الأخرى إلى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية لا تستوجب القتال، وتكتفي بما ينال المسئولين على أيدي حكومتهم من جزاء أو تأنيب، وينحسم النزاع.
هذا أو تصر الحكومة الأخرى على طلب الترضية، فإن قبلتها الحكومة المطلوبة فالنزاع منحسم، وإن لم تقبلها فالمفاوضة والمساومة أو امتشاق الحسام ...
ذلك إذا نظر الفريقان إلى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية، ولم يشأ أحدهما أو كلاهما أن يضعاها موضع التشريع العام لتقرير الحكم الذي يجريان عليه فيها وفي أمثالها، أو تقرير ما يعترفان به وما ينكرانه من الشرائط والأصول.
وقريش لم تكتف بالنظر إلى حادثة السرية كأنها حادثة فردية عرضية، ولم تعلن الحرب توا لأنها تبيت النية لإعلانها بعد حين ... ولكنها أثارت مسألة تشريع عام في قتال الشهر الحرام، فوجب أن ينص الإسلام على هذا التشريع صريحا لا لبس فيه، وهذا الذي كان.
ليست المسألة أن عبد الله بن جحش قد خالف أمر النبي، فهذا أمر مفروغ منه ولا محل للبحث فيه.
إنما المسألة هي: ما الحكم بعد الآن في قتال الأشهر الحرم؟ ... وماذا يبلغ من حق المشركين في الاحتماء بحرمة هذه الأشهر إذا كانوا لا يرعون للمسلمين حرمة ولا يزالون يقاتلونهم ويردونهم عن دينهم ما استطاعوا؟ وما الجواب على تشهير قريش واحتجاجها بالحرمات التي لا ترعاها؟ ...
هذا هو الحكم الذي وجب أن يعلنه الإسلام، وقد أعلنه على الوجه الذي دانت به الشرائع الحديثة في علاقاتها الحربية، ولا تزال تدين به حتى اليوم. فهناك حرمات دولية إذا خالفتها إحدى الدول بطل احتماؤها بها، وأحل لغيرها أن يخالفها كما خالفتها أو يتخذ من القصاص ما يردع الشر ويعوض الخسارة، وإلا كانت الحرمات درعا للمعتدين ولم تكن مانعا لهم وسدا في وجوههم كما أريد بها أن تكون. •••
واليوم تنقطع العلاقة بين دولتين في حالة حرب أو جفاء، فيجوز لكلتيهما أن تحجز ما عندها من أموال الدولة الأخرى وأن تأسر الذين في بلادها من رعاياها، ويجوز لها أن تجعل تلك الأموال ضمانا لسداد المغارم التي تنزل بها وبأبنائها، وأن تتخذ من المعتقلين رهائن تعاملهم بمثل ما يعامل به المعتقلون من أبنائها في سجون الدولة الأخرى.
فالذي حدث بعد سرية عبد الله بن جحش هو هذا بعينه، وهو حكم القانون الدولي المتفق عليه؛ أسيران بأسيرين، وأموال العير بالأموال التي حجزتها قريش للمسلمين، ولا محل لضجة الناقدين من المبشرين والمتعصبين في تعقيبهم على هذا الحادث المألوف أو على حكم النبي والإسلام فيه، فإن أصحاب هذه الضجة يعمون عما حولهم وينسون أن المعاملات الدولية في زمانهم لم تفصل في أمثال هذه الحوادث بحكم أنفع ولا أعدل من الحكم الذي ارتضاه النبي ونزل به القرآن، وهو حكم مساواة يدين به المسلمون كما يدانون، ويحار المتعسف لو شاء أن يستبدل به ما هو خير منه وأدنى إلى النفاذ والاتباع.
غرضان
وكان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال، إن قوة رأي وإن قوة لسان وإن قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدا وجه قوة الدعوة توجيها أسد ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام.
والدعوة في الحرب لها - كما لا يخفى - غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة ... أحدهما: إقناع خصمك والناس بحقك، وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الإسلام جميعا، فالدين كله دعوة من هذا القبيل.
وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه وربما بلغ النبي برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين، وبدر الأموال.
قال ابن إسحق ما ننقله ببعض تصرف: «إن نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ... فمرني بما شئت ...
فقال رسول الله: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ... (أي ادخل بين القوم حتى يخذل بعضهم بعضا فلا يقوموا لنا ولا يستمروا على حربنا).
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ...
قالوا: صدقت ... لست عندنا بمتهم.
فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ... البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموها عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم! ... فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه.
فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من قريش: قد عرفتهم ودي لكم وفراقي محمدا وأنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني!
قالوا: نفعل.
قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم ...
قال: فاكتموا عني.
قالوا: نفعل، فما أمرك؟
فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر ... فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بمقاتلي محمد حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ...
وقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق. ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ... ... وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ... ثم رحلت قريش وغطفان إلى بلادها، وانصرف رسول الله عن الخندق راجعا إلى المدينة.» •••
هذه دعوة نعيم بن مسعود.
وما نجحت دعوة قط برجل واحد نجاح هذا الرجل، ولا انتهزت فرصة العناصر الطبيعية والعناصر التي تتألف منها جماعة الأعداء كما انتهزت هذه الفرصة ... فكل كلمة قيلت لطائفة من طوائفهم فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال في الوقت الذي ينبغي أن تفعل فيه فعلها، وهذه هي دعوة الإضعاف والتمزيق كأمضى ما تكون.
قائد بغير نظير
عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك أو إلى أشكالها وأحجامها، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنى إذن للمقارنة على الإطلاق، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وأن حربا تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والإشارة، وأن نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والإبل، وأن المدفع أمضى من السيف، والرصاصة أمضى من السهم، فلا معنى إذن لمقارنة بالظواهر تنتهي إلى نتيجة واحدة ... هي استضخام الحرب الحديثة والنظر إلى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير إلى جانب القيادة التي توجه هذه الضخامة.
لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد يدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون، بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة.
وهذه الفكرة هي التي ترينا محمدا عليه السلام قائدا حربيا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه وفي الانتفاع بمشورة صحبه، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام.
وهذه القدرة هي شهادة كبرى للرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال.
فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية، ولا يلجأ إلى هذه القيادة إلا حين توجبها رسالة الهداية.
ويزيد هذه الشهادة عظما أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب.
شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجور فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال.
إن بعض المستشرقين زعموا أنه
صلى الله عليه وسلم
قد اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام، لأنه عمل أقرب إلى خلقه من الخوض في معمعة القتال، وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادرا على المشاركة في المعمعة بغير ذلك.
فهذا خطأ في الإحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان وأكرم صفات البسالة والإقدام ...
فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم نار الحرب ويهاب شواظها من لا يهاب، وكان علي فارس الفرسان يقول: «كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ... فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو.»
ولولا ثباته في وقعة حنين، وقد ولت جمهرة الجيش وأوشك أن ينفرد وحده في وجه الرماة والطاعنين، لحقت الهزيمة على المسلمين.
وخروجه والليل لما يسفر عن صبحه ليطوف بالمدينة مستطلعا، وقد هددها الأعداء بالغارة والحصار أمر لو لم تدعه إليه الشجاعة الكريمة لم يدعه إليه شيء؛ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بمن يؤدون عنه مهمة الاستطلاع وهو قرير في داره، ولكنه أراد أن يرى بنفسه فلم يثنه خوف، ولم يعهد بهذا الواجب إلى غيره.
ومشاركته في الوقعات الأخرى هي مشاركة القائد الذي لا يعفي نفسه وقد أعفته القيادة من مشاركة الجند عامة فيما يستهدفون له، فهي شجاعة لا تؤثر أن تتوارى حيث يتاح لها أن تتوارى ، وعندها العذر المقبول بل العذر المحمود.
وإذا كان القائد خبيرا بالحرب قديرا عليها غير هياب لمخاوفها، ثم اكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه ... فذلك هو الرسول تأتيه الشهادة بالرسالة من طريق القيادة العسكرية، وتأتي جميع صفاته الحسنى تبعا لصفات الرسول.
خصائص العظمة
لكن للعظمة خصائص تدعو إلى العجب، وإن كانت معروفة الأسباب، وناهيك بالعظمة التي ترتقي هذا المرتقى.
فمن تلك الخصائص أنها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد، لأنها متعددة الجوانب، فيراها أناس على صورة ويراها غيرهم على صورة أخرى، وربما رأتها العين الواحدة على اختلاف في الوقتين المختلفين.
ولأنها تبعث الحب الشديد كما تبعث البغض الشديد، وبين الطرفين مجال للاعتدال يستقيم للراشدين، ومجال للمغالاة من هنا وللمغالاة من هناك ...
ولأنها عميقة الأغوار فلا يسهل استبطانها لكل ناظر، ولا يتأتى تفسيرها لكل مفسر.
وهذا إذا سلمت النفوس من سوء النية، فأما إذا ساءت النيات وران الهوى على البصائر فلا عجب إذن في الضلال. •••
ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه ... فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين صاحب قسوة تضريه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة، وتنزه محمد عند هذا وذاك ...
فإذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء، إذ كان في كل صلة من صلاته بأهله أو بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثلا للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء.
ولا نقف كثيرا عند الحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على إهدار الدماء في غير جريرة، فأكثرها لم يثبت قط ثبوتا يقطع الشك فيه، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل عصماء بنت مروان اليهودية لأنها كانت تهجو الإسلام والمسلمين، فإنه النبي عليه السلام قد نهى في قول صريح عن قتل النساء وكرر نهيه في غير موضع، حتى قال بعض الفقهاء بمنع قتل المرأة وإن خرجت للقتال، ما لم يكن ذلك لدفع خطر لا يدفع بغير قتلها.
والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل كعب بن الأشرف الذي كان يهجو المسلمين، ويقدح في دينهم، ويؤلب عليهم الأعداء، ويأتمر بقتل النبي، ويدخل في كل دسيسة تنقض معالم الإسلام. وكان مع قومه بني النضير معاهدا على أن يحالف المسلمين، ويحارب من يحاربونهم، ولا يخرج لقتالهم ولا يقابلهم إلا بما يقابل به الحليف حليفه من المودة والمعونة.
فنقض العهد وزاد على نقضه تأليب العرب مع قومه على النبي وصحبه، وأنه رجع إلى المدينة «فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم» وافترى عليهن وعليهم ما ليس يفتريه رجل شريف وليس يرضاه في عرضه عربي غيور.
ورد في حديث مقتله أن الرهط الذين خرجوا لقتله انتهوا إلى حصنه. فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته ... فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: «إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة!»
وصدقت امرأته حين وصفته بأنه محارب يعامل معاملة المحاربين وقد حنثوا في أيمانهم، فلم يكن راعيا لعهده، ولم يكن له وازع من نفسه ولا من قومه، ولم يكن مأمونا على المسلمين وهو لائذ بحصنه، فهو أقل الناس حقا في أمان.
وجاء في الخبر أن النبي عليه السلام أقر مقتله، فعاب بعض المؤرخين الأوروبيين ذلك، وحسبوه خروجا على سنن القتال يشبه فعلة نابليون الكبير حين أمر باختطاف الدوق دنجان ومحاكمته بغير حق، مع ما بين الحادثين من بون بعيد بيناه من قبل فلا نعود إليه.
إلا أننا نوجز هنا فلا نزيد على أن نشير إلى حكم القانون الدولي في أحدث العصور على من يؤخذون بصنيع معيب كصنيع ابن الأشرف، وإن لم يبلغ مبلغه من الغدر والكيد والإساءة إلى الأعراض.
وذلك هو حكم الأسير الذي ينطلق بعهد الشرف ألا يعود إلى القتال، فإن القانون الدولي يوجب عليه أن يوفي بعهده، ووجب على حكومته ألا تندبه إلى عمل ينقض ما عاهد الأعداء عليه، ويقضي بحرمانه حق المعاملة كما يعامل أسرى الحرب إذا شهر السلاح على الذين أطلقوه أو على حلفائهم المحاربين في صفوفهم، ويصح إذن أن يحاكم كما يحاكم المذنبون، ويقضى عليه بالموت.
2
فقوانين العصر الحديث إذن تعاقب بالموت جريمة أهون من جريمة كعب بن الأشرف بكثير، لأنه تجاوز الغدر إلى التأليب والائتمار وثلب الأعراض ...
وليس في توقيع هذه الأحكام قسوة ولا رحمة، لأن المرجع فيها إلى الضرورة التي أوجبت القصاص وفرضته على الناس في أحوال السلم بين أبناء الأمة الواحدة، فضلا عن أحوال القتال بين الأعداء.
أسرى غزوة بدر
ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر وخروج النبي إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها ... فهو أمر لا يصح الحكم فيه إلا بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الإسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب، وإنما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة. وليست هي كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم غير معروفين بماض ولا بحاضر سوى أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الأعداء، فقتل الأسرى بعد بدر إن هو إلا قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب وقد وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين. جاز هذا في كل قانون، وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء ... وفرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك وبينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح، وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه، وهو القتال الشريف. •••
أما رؤية القتلى في ساحة الحرب، فقد نسي فيها أولئك الناقدون أن اغتباط المنتصر بفوزه طبيعة إنسانية لا غضاضة فيها. ما لم تجاوز حدها إلى الفرح برؤية الدماء لمحض الفرح برؤية الدماء. وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا نم عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين.
ونسي أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدينة العصرية، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية وفي حياة البادية على الإجمال، ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزى في كثير من الأيام.
فإنك لا ترمي بالقسوة طبيبا قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها، لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات إن لم يألف الأطباء هذه المناظر ويملكوا جأشهم وهم يفتحون أعينهم عليها. ولكنك قد ترمي بالقسوة إنسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها. وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يقال فيه إن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه، أو بما يستلزم النظر إليه قسوة في الطباع واستراحة إلى رؤية الدماء ...
كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا، لينظروا بعين النبي إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام.
كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي إلى جيشين، أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد، والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا، ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف، ومن كل مطية غير الأقدام.
وكان عليهم أن يلمسوا إشفاق النبي من عاقبة هذه الوقعة، ويستمعوا إليه وهو يناشد ربه: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ...»
وكان عليهم أن ينظروا إليه، وقد مد يديه وشخص ببصره وجمع نفسه في صلاته، حتى جعل ردؤاه يسقط عن منكبيه وأبو بكر يرده ويناديه: «بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك.» وهو لا يلتفت إلى سقوط ردائه ولا إلى مناداة صفيه، لاستغراقه في الدعاء ...
وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا منهم، يرجعون إلى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناوأة النبي وإعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد، وليس الصبر عليه بيسير.
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه، وأنه شعور مطبوع في نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال. فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر، وتخرج من الضيق إلى الفرج، وتنظر في ساحة الحرب إلى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها إلى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الإيذاء والمكيدة، وأن ترى ما هي تلك الأسلاب والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين لأنها أول شيء شهدوه من نوعه، ولما ينزل حكم الدين في سلب أو غنيمة.
إن محمدا رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة، وليس بناسك مهزول من نساك الصوامع الذين يكتمون في جوانحهم كل دافعة وكل إحساس. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف وستلحق بها كل تلك العواقب أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه، ولم تكن توجبه الفطرة الإنسانية على المقاتل، وهو في اللحظة الأولى بعد الظفر خليق أن يعلم مدى انتصاره، ومدى ما يتوقعه بعده، ومدى ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات. وهؤلاء مراسلو الصحف الحربيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف يجدون من واجبهم ألا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد انجلاء الفريقين، ليشرحوا دروس النصر والهزيمة بينهما ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب. فانصراف محمد عن ساحة بدر على أثر النصر عمل غريب يخل بمكانة القائد وبواجب التحقيق والاستفادة من كل ما يفيد.
بعد معركة الأحزاب
ونحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصي ما ذكره المؤرخون الأوروبيون من مآخذ في هذا الباب، وأهمه - عدا ما قدمناه - قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب.
فإن أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا للعرف المتبع في الحروب، وينسون أمورا لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها ويستحضروها أتم استحضار ... وهي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات؛ فلا يجدي معهم أخذ المواثيق من جديد، وأنهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه، وأن سعدا إنما دانهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك. فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ...» (إصحاح 10 إلى 15 تثنية).
وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا: ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب؟
فالقضاء الذي قضاه النبي في بني قريظة عدل وحكمة وصواب، وما من أحد يقضي غير ذلك القضاء وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها، ومن لددهم في خصومتها، ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها.
وإن حملة تأديبية واحدة من حملات العصور الحديثة يحملها قوم مسلحون على قوم عزل يذودون عن أوطانهم وحقوقهم، لفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدث قط نظير له في عقاب بني قريظة، ولا في جميع الحروب التي نشبت بين النبي عليه السلام وبين أعداء له ولدينه، هم المتفوقون عليه في العدد والثروة والسلاح. •••
إن عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب، وترضاها المروءة، وترضاها شريعة الله والناس، وترضاها الحضارة في أحدث عصورها، ويرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء.
الفصل الرابع
عبقرية محمد السياسية
سياسة الخصوم والأتباع
السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث ...
فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات، ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات ... ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث، وإن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية.
وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله ... ولكننا لا نعرف بينها عملا واحدا هو أدخل في أبواب السياسة، وأجمع لضروبها، وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعا، منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش ...
ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه، وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود.
بدأ بالدعوة إلى الحج، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته ... بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوأة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشا في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين.
ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام، بما ادعوا من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها، فها هو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام. فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه، فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه ، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين ...
وقد سمعنا كثيرا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة.
سمعنا بها في الحركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية.
وقيل يومئذ إن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليو تولستوي، وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلا عن الإنسان، قبل أن يشرع ليو تولستوي مذهبه الجديد.
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيون على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين، من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه، ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه ... فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، بل يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس الآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار.
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجا لا غازيا ... يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح، إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين.
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقل من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين.
ولما اتفق الطرفان - المسلمون وقريش - على التعاهد والتهادن، كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة «الدبلوماسية» كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين ...
دعا بعلي بن أبي طالب فقال له: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش: «أمسك! لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم».
فقال النبي: «اكتب باسمك اللهم.»
ثم قال: «اكتب «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».»
فقال سهيل: «أمسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.»
وروي أن عليا تردد فمسح النبي ما كتب بيده، وأمره أن يكتب «محمد بن عبد الله في موضع محمد رسول الله.»
ثم تعاهدوا على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليه في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قربها، ولا سلاح غيرها.
ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون، لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب. فيعترف المشركون كرها أو طوعا بصفة النبوة ولا يردون أحدا من مواليهم أو قاصريهم يذهب إلى النبي ويلحق بالمسلمين.
ولكنه عهد مهادنة أو عهد «إيقاف أعمال العداء إلى حين» كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر، فلا يعوزه شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود، من إثبات صفة المندوبين التي لا إرغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة لدعوى الفريقين، ومن حفظ كل لحقه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه.
فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، ونقض الوصف الذي يصف به المسلمين، فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشا ليس بمسلم، ولكنه مشرك يشبه قريشا في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام ... أما المسلم الذي يرد إلى المشركين مكرها فإنما الصلة بينه وبين النبي هي الإسلام، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين، ولا تتقطع الصلة فيه بالبعد والقرب. فإن كان الرجل ضعيف الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه، وإن كان وثيق الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين.
وما انقضت فترة وجيرة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنما لها وخذلانا لمحمد صلوات الله عليه ... فإن المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده، قد خرجوا إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه.
وتم العهد ... فعرف من لم يعرف ما أفاء على الإسلام بعد قليل، فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه ... واستراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر وللممالك الأجنبية يرسل الرسل إلى عظمائها بالدعوة إلى دينه، وفتح الأبواب لمن يفدون إليه ممن أنكروا بغي قريش، وأمنوا أن تكون نصرتهم للإسلام حربا يبتلون فيها بما لا يطيقون.
ويوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (الفتح: 1، 2).
لم يفقه الكثيرون معناها في حينها، ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبوه محض تسليم، ولكنهم فهموا أي فتح هو بعد سنتين، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف، وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون ولا يحسنون النظر إلى بعيد ...
الفتح المبين
كان في تلك السنة فتح يراه الناظر بعين الغيب ولا يراه الناظر بعينه، ولكنها سنة واحدة ثم رأى الفتح المبين من لا يرون بغير العيون ... رأوه وامتلأت عيونهم بالنظر إليه، فسر قوما وساء آخرين.
ففي السنة التالية نادى الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج ولا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فخرجوا في شوق المنطلق بعد منع والمنتظر بعد صبر، إلا من استشهد في خيبر وأدركته الوفاة خلال العام، وخرج معهم جمع كبير ممن لم يشهدوا الحديبية يتبعهم النساء والأطفال، وساقوا أمامهم ستين بدنة مقلدات للهدي، وقد حملوا السلاح والدموع والرماح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة.
فلما انتهى الرسول وصحبه إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وعلمت قريش بالنبأ ففزعوا وبعثوا بمكرز بن حفص في نفر منهم فجاءوا يقولون: «والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر ... تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب؟» فقال
صلى الله عليه وسلم : «إني لا أدخل عليهم» قال مكرز: «هو الذي تعرف به؛ البر والوفاء.»
وإنما حمل النبي السلاح للحيطة كما قال لصحبه: «إن هاجنا هائج من القوم كان السلاح قريبا منا» ... وتركه في الحراسة على مقربة من مكة حيث يوصل إليه عند الحاجة إليه.
ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون، وأخذ عبد الله بن رواحة بزمام القصواء وهو ينشد:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله
إني رأيت الحق في قبوله
وأوشك وقد هزته النخوة أن يصيح في قريش صيحة الحرب، فنهاه عمر - رضي الله عنه - وأمر النبي أن ينادي ولا يزيد: «لا إله إلا الله وحده نصر عبده، وأعز جنده وخذل الأحزاب وحده.» فرفع ابن رواحة بها صوته الجهير، وتلاه المسلمون يرددونها وتهتز بها جنبات الوادي القريب. فيسمعها من فارقوا مكة ليكلا يسمعوها ولا يروا ركب النبي يخطو في نواحيها ...
وكان الفتح الذي بصر به عيانا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عصيا على الإسلام؛ فريق منهم بهرهم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه، وفريق منهم راعهم سمت الدين ورحم الإسلام فيما بين المسلمين، وجمال ما بينهم وبين نبيهم من طاعة وتمكين، وفريق منهم علموا أن العاقبة للإسلام فجنحوا إلى طريق السلامة والسلام، وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان، وإن كانا لا يتشابهان.
وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش. فكان على أحسن نجاح في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.
الفصل الخامس
عبقرية محمد الإدارية
ملكات شخصية
في الإسلام أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الإدارة كما نسميهم اليوم، وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات، كالمساندة والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شئون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور.
ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه ونبسط وصايا الدين، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع إليها.
وإنما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسلائق نفسية. تلازمه حيث كان مؤديا لرسالة الدين، أو مؤديا لغير الرسالة من سائر أعمال الإنسان.
كذلك لا يعنينا مثلا أن نتكلم عن «الإدارة» كأنها نصوص المنشورات و«اللوائح» التي تدار بها الدواوين وتجري عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة، فإن هذه وما إليها هي أعمال منفذين مأمورين وليست أعمال مديرين آمرين، وإنما نعني الملكة الإدارية من حيث هي أساس في التفكير؛ من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الإدارة كلها على أسس قويمة، ثم يدع لغيره تفصيلات الأضابير والأوراق.
فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة أن يؤسس إدارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة.
أما السليقة المطبوعة على إنشاء الإدارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام، وتعرف التبعة، وتعرف الاختصاص بالعمل، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه.
وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما تكون.
كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير. ومن حديثه المأثور: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» ... ومن أعماله المأثورة أنه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما أقعده عن القيادة، وكان قوام الرئاسة والإمامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة، وهما الكفاءة والحب: «أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين.»
و«أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه.»
وكان إلى عنايته بإسناد الأمر إلى المدير القادر عليه حريصا على تقرير التبعات في الشئون ما كبر منها وما صغر، على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.»
وقد كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصارا كانوا أو مهاجرين، ولكنه عليه السلام لم يترك أحدا يدعي لنفسه حقا في إقامة الحدود، وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي، غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس.
فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلا من المشركين غضب عليه السلام، وقال فيما قال من حديثه المبين: «... فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة ...» ولما أراد أن يصادر الخمر نهج في ذلك منهجا يقصد به إلى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال: «أمرني
صلى الله عليه وسلم
أن آتيه بمدية، فأتيته بها، فأرسل بها فأرهفت، ثم أعطانيها فقال اغد علي بها. ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معي أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته.»
وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ويبين الحلال، فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه جميع المسلمين، من تفقه منهم ومن لم يتفقه في الدين، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام، وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل، ولكنها مسألة إدارة وتنفيذ في مجتمع حافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء، ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوى وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان، فلم يكتف النبي عليه السلام بصريح التحريم في القرآن ولا اكتفى بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلا بعينه وأناسا بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذنا لمن شاء أن يفعل ما شاء.
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاما هو أجمل لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.» ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت: «... ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.» ومن قوله: «الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه، وفي بعض الشر خيار.» ومن قوله: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» ... إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور.
نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء.
هذا الإلهام النافذ السديد في تدبير المصالح العامة، وعلاج شئون الجماعات، وهو الذي أوحى إلى الرسول الأمي قبل كشف الجراثيم، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول، وقبل العصر الحديث بعشرات القرون، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد، حيث قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.»
فتلك وصية من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد، إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها.
تدبير الشئون العامة
على أن الإدارة العليا إنما تتجلى في تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع، فليست الإدارة كلها نصوصا وقواعد يجري الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشئون على نسق واحد، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك.
وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام. فما عرض له تدبير أمر من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها إلا أشار فيه بأعدل الآراء، وأدناها إلى السلم والإرضاء.
صنع ذلك حين اختلفت القبائل على أيها يستأثر بإقامة الحجر الأسود في مكانه، وهو شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة، ولا تؤمن عقبى الفصل فيه بإيثار إحدى القبائل على غيرها ولو جاء الإيثار من طريق المصادفة والاقتراع، فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره لحاضر الوقت ولمقبل الغيب المجهول. فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه، وكان من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان، وأن يتسلف الدعوة وهي مكتوبة في طوايا الزمان، ولو علموا بها يومئذ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنآن.
وصنع ذلك يوم هاجر من مكة إلى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته ونزوله، وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة، فترك لناقته خطامها تسير ويفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك، وفصلت فيما لو فصل فيه إنسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها، ولو أمنت في تلك الساعة على دخل وسوء طوية ...
وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناسا من أهل مكة الضعيف إيمانهم على أناس من الأنصار الذي صدقوا الإسلام وثبتوا على الجهاد، فلما غضب المفضولون لم يكن أسرع منه إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها، بل تريه أنه هو الغالب الكاسب وأنها تصيب منه المقنع والإقناع في وقت واحد: «أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ... ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ ... فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ...»
كلام مدير فيه الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين ... فهو مدير حين تكون الإدارة تدبير أمور، ومدير حين تكون الإدارة تدبير شعور، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق إليها الاختلال، لأنه يسوسها بالنظام وبالتبعة، وبالاختصاص وبالسماحة، وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها لاختلال أو انحلال، أو لخطل في إدارة الأعمال.
الفصل السادس
البليغ
«اللهم هل بلغت !»
هذه هي اللازمة التي رددها النبي في أطول خطبه الأخيرة، وهي خطبة الوداع.
وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها؛ لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات. فما كانت حياة النبي كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله عليه السلام وهو يجود بنفسه: «جلال ربي الرفيع فقد بلغت!»
ولصدق هذه الدلالة ترى أن السمة الغالبة على أسلوب النبي في كلامه المحفوظ بين أيدينا هي سمة الإبلاغ قبل كل سمة أخرى ... بل هي السمة الجامعة التي لا سمة غيرها؛ لأنها أصل شامل لما تفرق من سمات هي منها بمثابة الفروع.
وكلام النبي المحفوظ بين أيدينا إما معاهدات ورسائل كتبت في حينها، وإما خطب وأدعية ووصايا وأجوبة عن أسئلة كتبت بعد حينها وروعيت الدقة في المضاهاة بين رواياتها جهد المستطاع.
والإبلاغ هو السمة المشتركة في أفانين هذا الكلام جميعا، حتى ما جرى منه مجرى القصص أو مجرى الأوامر إلى المرءوسين أو مجرى الدعاء الذي يلقنه المسلم ليدعو الله على مثاله.
انظر مثلا إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة وتوسلهم بصالح الأعمال وهي كما جاء في مختار مسلم: ... بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله - تعالى - بها، لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم. فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني. وإنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء.
ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء ...
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها.
فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة. ففرج لهم.
وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق
1
أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني وقال: اتق الله ولا تظلمني حقي! قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك. خذ ذلك البقر ورعاءها! ... فأخذه فذهب به ...
فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي.
ففرج الله ما بقي.
هذا أسلوبه عليه السلام في التعليم بالقصص.
توجيه الأمراء والولاة
فانظر إلى أسلوبه في توجيه الأمراء والولاة كما جاء في مختار مسلم حيث قال: «كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم أن تخفروا ذممكن وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا.»
وهذا أسلوبه عليه السلام في تعليم الولاة بالأوامر والوصايا.
فانظر إلى أسلوبه في الرسائل من رسالته إلى النجاشي حيث قال: «سلم أنت. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة؛ فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله.
وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر ... فإني أدعوك وجنودك إلى الله فقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي ...
والسلام على من اتبع الهدى.»
المعاهدات والمواثيق
أما أسلوبه في المعاهدات والمواثيق فهذا طرف مما جاء في كتابه عليه السلام بين المهاجرين والأنصار واليهود: ... المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيتهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ...
وهكذا إلى آخر الكتاب. •••
تلك النماذج من كلام النبي في أربعة أبواب مختلفات، تتفرق موضوعاتها كما تتفرق القصص والأوامر والرسائل والمواثيق، ولكنها كلها موسومة بسمة واحدة لا اختلاف فيها، وهي سمة الإبلاغ أو البلاغ المبين.
وأصدق ما يقال في تعريفها ما قيل في تعريف الخط المستقيم عند أهل الهندسة: أقرب موصل بين نقطتين.
فليس أقرب من هذا الأسلوب في إبلاغ الغرض منه.
لا كلفة ولا غموض ولا إغراب، وقلة الغريب - بل ندرته - في كلام النبي أجدر الأمور بالملاحظة في إقامة المثل والنماذج لأساليب البلاغة العربية ...
فمحمد العربي القرشي الناشئ في بني سعد العالم بلهجات القبائل حتى ما تفوته لهجة قبيلة نائية في أطراف الجزيرة، لم يكن في كلامه كله غريب يجهله السامع أو يحتاج تبيانه إلى مراجعة، وسر ذلك أنه يريد أن يبلغ أو يريد أن يصل إلى سامعه، ولا يريد أن يقيم بينه وبين السامع حاجزا من اللفظ الغريب أو المعنى الغريب، ومن ذلك ما روي عنه عليه السلام أنه كان يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه، وأنه كان يبغض التكلف والاغترار بالبلاغة كما قال: «إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها.»
وقد عرف عن النبي عليه السلام في حياته الخاصة والعامة أنه كان قليل الكلام معرضا عن اللغو لا يقول إلا الحق وإن قاله في مزاح.
فمن ثم لا عجب أن يخلو كلامه من الحشو والتكرار والزيادة، فإذا كرر اللفظ بعينه كما جاء في بعض المعاهدات فذلك أسلوب المعاهدات الذي لا محيص عنه، لأن تكرار النص يمنع التأويل عند اختلافه فهو أيضا سمة من سمات الإبلاغ على سبيل التوكيد والتحقيق، أو على سبيل الإعادة التي روي أنه كان يتوخاها عليه السلام أحيانا ليعقل عنه كلامه.
وفي كتابه إلى النجاشي زيادة من أسماء الله الحسنى ومن الإشارة إلى المسيح وأمه لم تؤثر في الكتب الأخرى ... ولكنها ألزم ما يلزم في خطاب ملك مسيحي يراد منه أن يفهم كيف تتفق صفات الله والمسيح في دينه وفي دين المسلمين الذي يدعى إليه، وكيف يبتغي طريق المقابلة بين العقيدتين إذا شاء.
ما على الرسول إلا البلاغ.
وهذا هو البلاغ في التعبير: كل كلمة تصل إلى سامعها، وكل كلمة مقصودة بمقدار ...
ولا زخرف ولا حيلة ولا مشقة متعمل في ابتغاء التأثير، إلا الإبلاغ الذي يليق بالرجولة والكرامة، وعلى المعرض بعد ذلك وزر الإعراض.
سجع كحلية الذهب
وكان عليه السلام يكره «سجع الكهان» الذي يخدعون به السامع ليوهموه أنه يستمع إلى طلاسم السحرة والشياطين، ولكنه لم يكن يأبى السجع بتة ولا يخلو كلامه من سجع يأتي على السجية، ويغلب أن يكون ذلك فيما يرتل علانية كالأذان وما هو في حكمه، أو فيما يحفظ من الوصايا الجامعة كقوله: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. قضاء الله حق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» أو قوله: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.»
ومذهبه في هذه الحلية اللطيفة مذهبه في كل حلية تليق بالرجل؛ فحولة في القول وفحولة في الزينة، فسجعه عليه السلام كحلية الذهب التي يليق بالرجل أن يتحلى بها، ولا مزيد.
كتب إليه أبو سفيان كتابا يقول في آخره: ... نريد منك نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار.
تجاوبت القبائل من نزار
لنصر اللات في البيت الحرام
وأقبلت الضراغم من قريش
على خيل مسومة ضرام
فأجابه بكتاب جاء فيه:
وصل كتاب أهل الشرك والنفاق والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم. فوالله ما لكم عندي جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام، وبفلق الهام، وخراب الديار، وقلع الآثار ...
فهذا السجع في هذا المقام أصلح لخطاب الجاهليين، لأنهم يعرفون منه معنى التوثيق والتمكين، كما يعرفون منه معنى المناجزة والتخويف، ومن هنا أقر النبي نص الحلف الذي كان بين جده وخزاعة على ما كان به من سجع وتفخيم يجعلونهما موثقا تعقد به المواثيق وتؤكد به الحرمات. وهذا نصه:
باسمك اللهم. هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة، حلفا جامعا غير مفرق: الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب. قد تعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد، وأوثق عقد، لا ينقض ولا ينكث ما أشرقت شمس على ثبير، وحن بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان
2
واعتمر بمكة إنسان: حلف أبد لطول أمد، يؤيده طلوع الشمس شدا، وظلام الليل مدا، وإن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متضافرون متعاونون. على عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معه على جميع العرب في شرق أو غرب. أو حزن أو سهل، وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى به جميلا ...
هذه أمثلة السجع الذي فاه به الرسول أو أقره من كلام غيره، وما عداه من تجميل الكلام فهو تجميل الإبلاغ الذي لا كلفة فيه.
وقد أعانه عليه السلام على أسلوب الإبلاغ أن الذين كانوا يستمعون إليه إنما كانوا يستمعون إلى كلام نبي محبوب مطاع. فهو نافذ في نفوسهم بغير حيلة، مستجمع لأسماعهم بغير تشويق، قائم بالكفاية الوسطى التي لا حاجة بها إلى إفراط ولا خوف عليها من تفريط.
أما رسائله إلى الملوك والأمراء - ممن لم يسلم ولم يهتد - فإنما كانت للإبلاغ أول الأمر، ثم يأتي بعدها التفسير والتفصيل على ألسنة المرشدين والموكلين بالإجابة فيما يسألون عنه، فهي كذلك قائمة على كفاية الإبلاغ، تلك الكفاية الوسطى التي لا إفراط فيها ولا تفريط.
ونقول إن الأمرين أعانا النبي على أسلوبه المبلغ البليغ ولا نقول إنهما أنشآه وأوحياه ... فإن الحوار القليل الذي حفظ لنا من أيام الدعوة الأولى قبل استفاضة الدين وإقبال الأتباع المؤمنين فقد كانت له صبغة هذا الأسلوب بعينه غير ظاهر فيها أثر من الكلفة والاصطناع، لأن مصدر الفحولة في الإبلاغ ثقته بقوله لا ثقة المستمعين إليه، فكلامه، كله نسق واحد في هذه الخصلة، وخطابه كله خطاب سهولة وكرامة. وسياقه كله مطواع لا احتيال فيه، ووصاته لمن يقتدي به أن يقصر الخطبة ويقل الكلام كما كان يقول لمن يبعث بهم من الولاة.
ولا يفهمن من هذا أن مقتضيات الكلام لم يكن لها أثر في اختلاف الوضع أو اختلاف الموقف وهو يخاطب الناس، فقد كان عليه السلام يلاحظ هذا الاختلاف ويعطيه حقه كما كان يفعل حين يتكئ على قوس وهو يخطب في الحرب، أو يتكئ على عصا وهو يخطب في العظات، وكان يبدو على وجهه ما يختلج بصدره إذا غضب أو أنذر «فكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش: صبحكم مساكم» ...
أسلوب عصري
ولمن شاء أن يحسب أسلوب النبي - كتابة وخطابا - أسلوبا عصريا يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان ... لأن الأسلوب الذي يخرج من الفطرة المستقيمة هو أسلوب عصري في جميع العصور، ويخطئ من يحسب الوصل بين الجمل شرطا للكلام العربي القديم والفصل بينها علامة من علامات الأساليب المبتدعة في الزمن الأخير، ويخطئ كذلك من يحسب قبول الكلام لإشارات الترقيم علامة أخرى من علامات هذه الأساليب، فإليك الحديث الذي نقلناه آنفا وهو مثل من أمثلة كثار حيث يقول عليه السلام: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط: قضاء الله حق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.»
هذا الحديث رضى البلاغة العربية في وصله وفصله، ورضى الأسلوب العصري في إشارات ترقيمه، وآية على خطأ الذين يفرقون بين شروط البلاغة العربية ذلك النحو من التفريق.
رأي النبي في الشعر
وقد نقلت إلينا تعقيبات معدودة عن رأي النبي في الشعر والشعراء لا تدخل في النقد الفني وتدخل في كلام الأنبياء الذين يقيسون الكلام بقياس الخير والصلاح والمطابقة لشعائر الدين وسنن الصدق والفضيلة، ومنها قوله: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل».» وقوله عن امرئ القيس إنه صاحب لواء الشعراء إلى النار، وإنه كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله مع بقاء المعنى المقصود، فكان يقول مثلا: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود» لأنها لا تقبل التبديل مع بقاء المعنى، ولكنه إذا نطق بقول سحيم عبد بني الحسحاس: «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» قدم كلمة الإسلام فقال: «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا» لينفي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد وأن سور القرآن قصائد مرتلات كما زعم المشركون.
وقد استحسن ما قيل من الشعر في النضح عن الإسلام والذود عنه وعن آله، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحمدون من كلام، لأنهم قد بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح، ولم يبعثوا ليلقنوهم دروسهم في قواعد النقد والإنشاء.
جوامع الكلم
إلا أن الإبلاغ أقوى الإبلاغ في كلام النبي هو اجتماع المعاني الكبار في الكلمات القصار، بل اجتماع العلوم الوافية في بضع كلمات وقد يبسطها الشارحون في مجلدات.
ومن أمثلة ذلك علم السلوك في الدنيا والدين، وقد جمعه كله في أقل من سطرين قصيرين من قوله: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا.»
ومن أمثلة علم السياسة الذي اجتمع كله في قوله: «كما تكونوا يول عليكم.» فأي قاعدة من القواعد الأصلية في سياسة الأمم لا تنطوي بين هذه الكلمات؟ ...
ينطوي فيها أن الأمم مسئولة عن حكوماتها، لا يعفيها من تبعة ما تصنع تلك الحكومات عذر بالجهل أو عذر بالإكراه، لأن الجهل جهلها الذي تعاقب عليه، والإكراه ضعفها الذي تلقى جزاءه.
وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الأمة لا بالنظم والأشكال التي تعلنها الحكومة، فلا سبيل إلى الاستبداد بأمة تعاف الاستبداد ولو لم يتقيد فيها الحاكم بقيود القوانين، ولا سبيل إلى حرية أمة تجهل الحرية ولو تقيد فيها الحاكم بألف قيد من النظم والأشكال.
وينطوي فيها أن الولاية تبع تابع وليست بأصل أصيل، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وأحرى ألا يغير الوالي قوما حتى يتغيروا هم قبل ذلك.
وينطوي فيها أن «الأمة مصدر السلطات» على حد التعبير الحديث.
وينطوي فيها أن الأمة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال.
وذلك هو الإبلاغ الذي ينفذ في وجهاته كل نفاذ.
ويلحق بهذا في العلم بالتبعات قوله عليه السلام: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل.»
فالمزايا الإنسانية واجبات وأعباء وليست بالمتع والأزياء، وعلم الإنسان بالخير والشر يفرض عليه الفرائض التي يبتلى بها، ولا يهنئه بالراحة التي يصبو إليها وهو محسوب عليه، وكذلك ذكاؤه محسوب عليه.
وأمثال هذه الأحاديث في أصول السياسة والأخلاق والاجتماع مما لا يتناوله الإحصاء في هذا المقام.
كان محمد فصيح اللغة فصيح اللسان فصيح الأداء.
وكان بليغا مبلغا على أسلس ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين، بل قدوة المرسلين.
الفصل السابع
محمد الصديق
عطوف ودود
إذا كان الرجل محبا للناس، أهلا لحبهم إياه، فقد تمت له أداة الصداقة من طرفيها ...
وإنما تتم له أداة الصداقة بمقدار ما رزق من سعة العاطفة الإنسانية ومن سلامة الذوق، ومتانة الخلق، وطبيعة الوفاء.
فلا يكفي أن يحب الناس ليحبوه، لأنه قد يحبهم وفي ذوقه نقص ينفرهم منه ويزهدهم في حبه.
ولا يكفي أن يكون محبا سليم الذوق ليبلغ من الصداقة مبلغها. فقد يكون محبا محبوبا حسن الذوق ثم يكون نصيبه من الخلق المتين والطبع الوفي نزرا ضعيفا لا تدوم عليه صداقة، ولا تستقر عليه علاقة.
إنما تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية، والذوق السليم، والخلق المتين، وقد كان محمد في هذه الخصال جميعا مثلا عاليا بين صفوة خلق الله.
كان عطوفا يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته، وإن تفاوت ما بينه وبينهم من سن وعرق ومقام.
كان صبيا في الثانية عشرة يوم سافر عمه، فتعلق به حتى أشفق العم أن يتركه وحده فاصطحبه في سفره.
وكان شيخا قارب الستين يوم بكى على قبر أمه بكاء من لا ينسى.
وليس في سجل المودة الإنسانية أجمل ولا أكرم من حنانه على مرضعته حليمة ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين، فيلقاها هاتفا بها: أمي! أمي! ويفرش لها رداءه ويمس ثديها بيده ... كأنه يذكر ما لذلك الثدي عليه من جميل، ويعطيها من الإبل والشاء ما يغنيها في السنة الجدباء ...
ولقد وفدت عليه هوازن وهي مهزومة في وقعة حنين وفيها عم له من الرضاعة ... لأجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبي إلى المسلمين أن يردوا السبي من نساء وأبناء، واشترى السبي ممن أبوا رده إلا بمال.
وحضنته في طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية ... ما يشغل الأب من أمر بناته ورحمه، فقال لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن ...» وما زال يناديها يا أمه كلما رآها وتحدث إليها، وربما رآها في وقعة قتال تدعو الله وهي لا تدري كيف تدعو بلكنتها الأعجمية، فلا تنسيه الوقعة الحازبة أن يصغي إليها ويعطف عليها.
وكان هذا عطفه على كل ضعيف ولو لم يذكره بحنان الطفولة ورحم الرضاع، فما نهر خادما ولا ضرب أحدا، وقال أنس: «خدمت النبي
صلى الله عليه وسلم
عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ... ولا لشيء تركته: لم تركته؟ ...»
وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسا، صافي القلب إذا كره شيئا رؤي ذلك في وجهه، وإذا رضي عرف من حوله رضاه.
وقد اتسع عطفه حتى بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوي الرحم، فكان يصغي الإناء للهرة لتشرب، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه، وأوصى المسلمين: «إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطين»، وكرر الوصاة بها أن «اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة.»
وقال: «إن الله غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قد كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك ...»
وقال في هذا المعنى: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.»
لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء، فكانت له قصعة يقال لها الغراء، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول، وكان له سرج يسمى الداج، وبساط يسمى الكز، وركوة تسمى الصادر، ومرآة تسمى المدلة، ومقراض يسمى الجامع، وقضيب يسمى الممشوق ...
وفي تسمية تلك الأشياء بالأسماء معنى الألفة التي تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها «شخصية» مقربة تميزها بين مثيلاتها، كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب.
ذو ذوق سليم
هذه العاطفة الإنسانية التي رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها، لم تكن هي كل أداة الصداقة في تلك النفس العلوية، بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلا ويتمثل - فيما يرجع إلى علاقات النبي بالناس - في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود. «كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه. وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه ...» «وكان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده ...» «وكان أرحم الناس بالصبيان والعيال ... وإذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته.» «وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، وأصبر الناس على أقذار الناس» ... يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضرهم ويقول لصحبه: «من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار.»
ومع العاطفة الإنسانية والذوق السليم والأدب الكريم سمت جميل ونظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس في أجمل مرآه.
ومع هذا كله أمانة يثق بها العدو فما بال الصديق؟ ... وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات وهم يناصبونه العداء، فلم يخرج للهجرة وهو مهدد في سربه حتى رد الأمانات إلى أصحابها، وقد يكون في ردها ما ينبههم إلى خروجه ويأخذ عليه سبيل النجاة، وهذا إلى اشتهاره بالأمانة في صباه حتى سمي بالأمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها أمثال هذه الصفات.
أصدقاؤه المحبون
كل هذه المزايا النفسية - بل بعض هذه المزايا النفسية - خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أوفى تمام، وأن يجعله محبا لمن حوله جديرا منهم بأحسن حب وولاء. فلم يعرف في تاريخ العظمة - لا بين الأنبياء ولا غير الأنبياء - إنسان ظفر بنخبة من الصداقات على اختلاف الأقدار والبيئات والأمزجة والأجناس كالتي ظفر بها محمد، ولم يعرف عن إنسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب الكبير.
تقدم في بعض فصول هذا الكتاب حديث زيد بن حارثة الذي خطف من أهله وهو صغير، ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهفة الشوق بعد يأس طويل، فلما وجب أن يختار بين الرجعة إلى آله وبين البقاء مع سيده «محمد» اختار البقاء مع السيد على الرجعة مع الوالد، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذي غمره بحبه ومواساته، وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه ولا يدري من هم ذووه.
وكان لا يغني من لازموه أن يلزموه في الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم إياه بعد الممات فضعف مولاه ثوبان ونحل جسمه وألح عليه الحزن في ليله ونهاره، فلما سأله السيد العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال في طهارة الأبرار: «إني إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة، فذكرت الآخرة حيث لا أراك هناك لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين فلا أراك.» ورويت هذه القصة في أسباب نزول الآية الكريمة:
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (النساء: 69).
وأدرك الموت بلالا فأحاط به أهله يصيحون «واكرباه» وهو يجيبهم: «واطرباه ... غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه!»
وقد عنينا مما تقدم بحب الصداقة بين الإنسان والإنسان؛ لأننا لم نقصد حب المؤمن لنبيه في هذا الباب، فقد بلغ من امتلاء قلوب المسلمين والمسلمات بهذا الحب أن المرأة كانت تسمع أنباء المعركة فينعى إليها خاصة أهلها وهي تسترجع وتعرض عن هذا لتسأل عن النبي، وتهتم بسلامته قبل اهتمامها بسلامة الإخوة وبني الأعمام.
إلا أننا عنينا محبة الصداقة في هذا الباب لأنها هي المحبة التي جعلت كثيرا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه واطمئنانهم إليه، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والإيمان.
عظمة العظمات
إن عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها مقام العظيم في نظر بني الإنسان.
ولكن قد يقال إن استحقاق العظيم أن يحبه العظماء لأشرف من ذلك رتبة، وأدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان ... وهذا صحيح لا ريب فيه ...
وهنا أيضا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة ...
فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة، كما أثبت التاريخ من سير أبي بكر، وعمر، وخالد، وأسامة، وابن العاص، والزبير، وطلحة، وسائر الصحابة الأولين ...
وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاط الحكماء بسقراط والقادة بنابليون.
بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة.
أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجذب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن وكل طراز، وهي التي يقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وابن العاص: كلهم عظيم وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.
تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة كل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب.
تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الإعجاز في باب الصداقات، وما استحقها محمد إلا بنفس غنيت بالحب وخلصت له حتى أعطت كل محب لها كفاء ما يعطيها؛ مودة بمودة وصفاء بصفاء، وعليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار.
ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة، وهما أشرف من نور البصر لأنه نعمة يشترك فيها الإنسان والعجماوات، ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الإنسان.
ومع هذا كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر: «ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر؛ واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته»، وكما قال عن أبي بكر وعمر: «أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر»، وكما قال عن علي: «علي أخي في الدنيا والآخرة»، وكما قال عن بعض أصحابه: «إن الله تعالى أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي منهم، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان»، وكما قال عن الأنصار جميعا وهو في مرض الموت: «استوصوا بالأنصار خيرا. إنهم عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» ... وغير ذلك كثير عن الصحابة كافة وعن بعضهم مذكورين بأسمائهم.
على أننا نلمس دلائل هذا الفؤاد الرحب وهذا العطف الإنساني الشامل في معاملته لأعدائه وشانئيه فضلا عن معاملته للأصفياء، ومن ليس بينهم وبينه عداء ولا صفاء ...
فما ثأر من أحد لأنه أساء إليه في شخصه، وقد عفا عن رجل هم بقتله وهو نائم ورفع السيف ليهوي به فسقط من يده على كره منه، وما حارب قط أحدا كان في وسعه أن يسالمه ويحاسنه ويتقي شره.
ومعاملته لعبد الله بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه رأس النفاق مثل من أمثلة الإغضاء والصفح الجميل، فقد عاهد وغدر ثم عاهد وغدر وعاش ما عاش يكيد للنبي عليه السلام في سره ويمالئ عليه أعداءه، وشاع أن النبي عليه السلام قضى بقتله فتقدم ابنه، وقال له: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله؛ فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار.»
فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به، وزاد في إفضاله وإجماله فكافأ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وإيثاره البر بدينه على البر بأبيه فأعطاه قميصه الطاهر يكفن به أباه، وصلى عليه ميتا ووقف على قبره حتى فرغ من دفنه ، وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصلاة على ذلك العدو الذي آذاه جهد الإيذاء فذكر الآية:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (التوبة: 80).
فقال: «لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت.»
تهمة باطلة
هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة والسماحة ما أعجب اتهامها بالقسوة على ألسنة بعض المؤرخين الأوروبيين! ...
ما أعجب اتهامها بالقسوة لأنها دانت أناسا بالموت كما يدين القاضي مجرما بذنبه وهو من أرحم الرحماء؟ ...
ما أعجبهم إذ يذكرون العقوبة وينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب السبب النتيجة.
وأي ذنب؟ ... ذنب لو قوبل به غير محمد لأراق فيه أنهارا من الدماء وله حجة من سلطان الدنيا والآخرة.
فلا نذكر استهزاء المشركين به وإعناتهم إياه وإلقاءهم عليه القذر والحجارة، وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه وإخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار، ولا نذكر العناد والإغاظة والاستثارة لغير جريرة إلا أنهم دعوا إلى عبادة الله والتحلي بمكارم الأخلاق وترك عبادة الأصنام وترك الرذيلة.
لا نذكر شيئا من هذا فهو أطول من أن يحصيه هذا الكتاب، ولكننا نذكر حادثا واحدا تجمع فيه من اللؤم ما تفرق في كثير غيره، وذلك حادث الرسل الأربعين - وقيل السبعين - الذي قتلوا في بئر معونة، ولا ذنب لهم إلا أنهم ذهبوا تلبية لدعوة الداعين ليعلموا من ينشد علم القرآن والدين، غير مغصوب عليه.
فماذا كانت دول الحضارة صانعة بالقاتلين الغادرين لو كان هؤلاء الأربعون أو السبعون مبشرين بالدين المسيحي قتلوا في قبيلة من الهمج الذين يأكلون الآدميين ومن حقهم أن يعذروا كما تعذر الوحوش ... إن بقي من أبناء القبيلة من يروي أنباء المقتلة، فقد يقال إن القوم لرحماء في العقاب! ...
ولم يكن حادث بئر معونة بالحادث الوحيد من حوادث الغدر بالرسل الأبرياء. فلعلنا نختم هذا الفصل عن الصداقة بخير ما يختم به حين نشير إلى غدر قبيلة هذيل بالرسل الستة الذين ذهبوا إليهم ليعلموا من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره، لا إكراه له ولا بغي عليه. فقتلوا جميعا وجيء بأحدهم زيد بن الدثنة أسيرا ليباع ... فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، ونصب للقتل فسأله أبو سفيان مستهزئا: «أنشدك الله يا زيد. أتحب أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟» فأجابه زيد: «والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ...»
فصاح أبو سفيان دهشا: «ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدا ...» •••
من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب الأصدقاء، ومدى ما استحقه أعداؤه من جزاء، فقد أحب أصدقاءه وأحبوه لأنه طبع على الصداقة. أما أعداؤه فقد لقوا جزاءهم لأنهم هم طبعوا على العداء والاعتداء.
الفصل الثامن
محمد الرئيس
الرئيس الصديق
من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس بعد كتابتنا عن محمد الصديق ... لأنه هو قد جعل للرئاسة معنى الصداقة المختارة، فمحمد الرئيس هو الصديق الأكبر لمرءوسيه، مع استطاعته أن يعتز بكل ذريعة من ذرائع السلطان ...
فهناك الحكم بسلطان الدنيا.
وهناك الحكم بسلطان الآخرة.
وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة.
وكل أولئك كان لمحمد الحق الأول فيه؛ كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون ... وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه أكفأ كفء وأوقر مهيب.
ولكنه لم يشأ إلا أن يكون الرئيس الأكبر، بسلطان الصديق الأكبر؛ بسلطان الحب والرضا والاختيار ...
فكان أكثر رجل مشاورة للرجال، وكان حب التابعين شرطا عنده من شروط الإمامة في الحكم بل في العبادة، فالإمام المكروه لا ترضى له صلاة.
وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه ... فروي أنه «كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة. فقال رجل: يا رسول الله! علي ذبحها، وقال آخر: وعلي سلخها، وقال آخر: علي طبخها ... فقال عليه السلام: وعلي جمع الحطب.
فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل. قال: علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، إن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه.»
وأبى، والمسلمون يعملون في حفر الخندق حول المدينة، إلا أن يعمل معهم بيديه. ولولا أنها سنة حميدة يستنها للرؤساء في حمل التكاليف لأعفى نفسه من ذلك العمل وأعفاه المسلمون منه شاكرين.
وجعل قضاء حوائج الناس أمانا من عذاب الله أو كما قال: «إن لله تعالى عبادا اختصهم بحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم. أولئك الآمنون من عذاب الله.»
الشرع له الظاهر
وقد كان أعلم الناس أن الأعمال بالنيات ولكنه علم كذلك «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» فوكل الضمائر إلى أصحابها وإلى الله، وحاسب الناس بما يجدي فيه الحساب.
سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم قائلا: «إنما أنا بشر. وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها.»
واليوم يكثر اللاغطون بحرية الفكر ويحسبونها كشفا من كشوف الثورة الفرنسية وما بعدها، ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا به ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كلامهم وعملهم ما يخالف الشريعة ...
فهذا الذي يحسبونه كشفا من كشوف العصر الأخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنا، وشرعه لأمته في أحاديثه حيث قال عليه السلام: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به.»
الرحمة فوق العدل
وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المصلحين المحدثين لم يسبقوا إليها، وهي هي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط إلى غيرها، فقال: «إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي» وقال: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» وقال: «إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن معلما ميسرا.» وروى عنه غير صاحب من أصحابه أنه ما خير بين حكمين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن فيه خرق للدين.
بنية الضعفاء
وكان يوصي بالضعفاء، ويقول لصحبه: «ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» ويذم الترفع على الخدم والفقراء، «فما استكبر من أكل مع خادمه وركب الحمار بالأسواق واعتقل الشاة فحلبها.»
لكنه مع الرحمة بالصغير لا ينسى حق الكبير: «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا.»
إذ ليس الإنصاف حراما على الكبراء حلالا لمن صغر دون من كبر، فلكل حق ولكل إنصاف وإنزال الناس منازلهم كما أمر قومه هو خير شعار تستقيم عليه الحكومة، وتنعكس أمور الأمم بانعكاسه.
أهل الكفاءة لا أهل الثقة
وكان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرءوسين، وليست للموافقين منهم دون المخالفين، فيأمر قومه أن «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنها ليس دونها حجاب.»
وإذا قال هذا رئيس ونبي فإنها لأولى السنن أن يتبعها الرؤساء كافة، لأنهم لم يبعثوا لنشر الدين ومحو الكفر كما بعث الأنبياء.
لقد كانت سنة الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة ... فلو استغنى حكم عن الشريعة لاستغنى عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعيه.
الفصل التاسع
الزوج
حق المرأة
الكلام عن زوج يستدعي الكلام عن مكانة امرأة عند رجل، وعن مكانة النساء عامة عند الرجال عامة.
وإنما تعرف مكانة المرأة التي وصلت إليها بفضل محمد ودينه، متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية، ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره - وبعد عصره - بين أمم أخرى غير الأمة العربية ...
وقياسان اثنان كافيان لبيان الفارق البعيد بين ما كانت عليه المرأة في الجاهلية وما صارت إليه بعد رسالة محمد.
كانت متاعا يورث ويقسم تقسيم السوائم بين الوارثين، فأصبحت بفضل الإسلام ونبيه صاحبة حق مشروع، ترث وتورث ولا يمنعها الزوج أن تتصرف بمالها وهي في عصمته كما تشاء.
وكانت وصمة تدفن في مهدها فرارا من عار وجودها، أو عبئا تدفن في مهدها فرارا من نفقة طعامها، فأصبحت إنسانا مرعي الحياة، ينال العقاب من ينالها بمكروه. ولم تكن في البلاد الأخرى بأسعد حظا منها في البلاد العربية.
فلا نذكر شرائع الرومان واستعبادها للنساء. ولا نذكر المتنطسين في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم إياها من الروح.
وكفى أن نذكر عصر الفروسية الذي قيل فيه إنه عصر المرأة الذهبي بين الأمم الأوروبية، وإن الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال ...
الفروسية عصر الحصان لا المرأة
فهذا العصر كان كما قال الدارسون له: عصر الحصان، قبل أن يكون عصر المرأة أو عصر «السيدة المفداة».
وقد أجمله جون لانجدون دافيز صاحب «التاريخ الموجز للنساء»
1
فقال: «إن عصر الفروسية كان معروفا بما لحظ فيه من فقدان الشبان على الجملة الاهتمام بالجنس الآخر. ولعلنا نقلل من الدهشة لذلك لو أننا وعينا كلمة الفروسية وذكرنا أنها لم تكن ذات شأن بالسيدات كما كانت ذات شأن بالخيل على خلاف ما يروق الكثيرين أن يذكروه، فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية إلا على اعتبار أنها عنوان ضيعة.»
إلى القارئ محادثة من كتاب أغاني الآداب والتحيات
Chanson de Geste
يروى فيها أن ابنة أوسيس
Auseis
جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان - هما جاران وجربرت - وقال أحدهما: «انظر. انظر يا جربرت: وحق العذراء ما أجملها من فتاة!» فلم يزد صاحبه على أن قال: يا لهذا الجواد من مخلوق جميل! ... دون أن يلتفت بوجهه ... وعاد صاحبه يقول مرة أخرى: «ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة. ما أجمل هاتين العينين السوداوين!» وانطلقا وجربرت يقول له: «ما أحسب أن جوادا قط يماثل هذا الجواد» وهي حادثة صغيرة ولكنها واضحة الدلالة، إذ قلة الاهتمام تورث الازدراء ... والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الازدراء ... وإليك مثلا حادثة في الكتاب المتقدم يروى فيها أن الملكة بلانشفلور ذهبت إلى قرينها الملك ببن
تسأله معونة أهل اللورين، فأصغى إليها الملك ثم استشاط غضبا ولطمها على أنفها بجمع يده فسقطت منه أربع قطرات من الدم وصاحت تقول: «شكرا لك. إن أرضاك هذا فأعطني من يدك لطمة أخرى حين تشاء.»
ولم تكن هذه حادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرا ما تتكرر كأنها صيغة محفوظة، وكأنما كانت اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة: ... ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة وكثيرا ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك، إما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع. ومتى كانت بعد زفافها إلى فارس مجنون بالحرب معطل الذكاء قد يكون في معظم الأحوال من الأميين - عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة - أترى سيدة القصر إذن واجدة لها رحمة أو ملاذا من حياة الشقاء أو من صحبة قرين ليس لها بأهل؟
وعصر أوروبا الحديث
ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة إلى عصور الفروسية إلى ما بعدها من طلائع العصر الحديث ولم تبرح المرأة في منزلة مسفة لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية ...
ففي سنة 1790، بيعت امرأة في أسواق إنجلترا بشلنين لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها ...
وبقيت المرأة إلى سنة 1882، محرومة حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة.
وكان تعلم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال، فلما كانت إليصابات بلا كويل تتعلم في جامعة جنيف سنة 1849 - وهي أول طبيبة في العالم - كان النسوة المقيمات معها يقاطعنها ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقارا لها كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها.
ولما اجتهد بعضهم في إقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الأمريكية أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء.
وهكذا تقدم الغرب إلى أوائل عصرنا الحديث ولم تتقدم المرأة فيه تقدما يرفعها من مراغة الاستعباد التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية.
فماذا صنع محمد؟ وماذا صنعت رسالة محمد؟
المرأة في الإسلام
حكم واحد من أحكام القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف (البقرة: 228).
وحكم آخر من أحكامه العالية، أمر المسلم بإحسان معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة عند زوجها:
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (النساء: 19).
وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما يكسب الرجال:
للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (النساء: 32).
ولم يفضل الرجل عليها إلا بما كلفه من واجب كفالتها وإقامة أودها والسهر عليها ...
أما محمد فقد جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم.»
وأمر بمداراة ضعفها ونقصها لأن «المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها».
وأوجب على الرجل أن يتجمل لامرأته ويبدو لها في المنظر الذي يروقها، فقال عليه السلام مما قال في هذا المعنى وهو كثير: «اغسلوا ثيابكم وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا، فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم.»
وأوجب على الرجل إذا خطب امرأة أن يظهرها على عيبه إن كان به عيب مستور: «إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسواد فليعلمها أنه يخضب» ...
وبلغ من رعاية شعورها ومداراة خجلها الذي فطرت عليه أنه أوجب على الرجل أن يمتعها كما تمتعه لأنها لا تطلب لنفسها ما يطلبه الرجل منها: «فإذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها.»
وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق، فقال مما قال في هذا المعنى: «إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمشط الشعثة ... الكيس، الكيس!»
معاملته لزوجاته
وإنما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معاملاتهم لزوجاتهم، وهي دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير.
فكان يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهن جميعا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهن «كأن ألين الناس ضحاكا بساما» كما قالت عائشة رضي الله عنها.
ولم يجعل من هيبة النبوة سدا رادعا بينه وبين نسائه، بل أنساهن برفقه وإيناسه أنهن يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين. فكانت منهن من تقول له أمام أبيها: «تكلم ولا تقل إلا حقا ...» ومن تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها، ومن تبلغ في الاجتراء عليه ما يسمع به رجل كعمر بن الخطاب في شدته، فيعجب له ويهم أن يبطش بابنته حفصة لأنها تجترئ كما يجترئ الزوجات الأخريات. وإذا رأى النبي غضبا كهذا من جرأة كتلك كف من غضب الأب، وقال له: ما لهذا دعوناك!
وقد كان يتولى خدمة البيت معهن، أو كما قال: «خدمتك زوجتك صدقة ...»
وكان يستغفر الله فيما لا يملك من التسوية بين إحداهن وسائرهن وهو ميل قلبه: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
ولما أقعده مرض الوفاة أن يزورهن كل يوم كما عودهن، بعث إليهن فتلطف في سؤالهن: «أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟» ليقلن: عند عائشة ويأذن له في الإقامة ببيتها. ولو أنه أحل لنفسه أن يقيم حيث أقام وهو مريض لما كان في ذلك من حرج.
حديث الإفك
والمعاملة الطيبة في الزمن الطويل خلق نادر بين الناس، ولكنه في حالة الرضا خلق لا يشق فهمه على كثيرين.
إلا أن الخلق الذي يشق فهمه على الأكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية لأخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاء. في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما تتسامى فلا نخالها تحلم بمعاملة أطيب ولا أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة عائشة بنت الصديق وهي أحظى نسائه لديه، ونلخصها مما روته بلسانها إذ تقول - رضي الله عنها: ... كان رسول الله إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله معه. وأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، ثم قفلنا من الغزوة إلى أن دنونا من المدينة، فقمت حين آذنوا بالرحيل فتمشيت حتى جاوزت الجيش وقضيت من شأني، وأقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، فرجعت ألتمسه فحبسني ابتغاؤه. وأقبل إلي الرهط الذي كانوا يرحلون لي
2
فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن
3
ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه إذ كنت مع ذلك جارية حديثة السن.
ووجدت عقدي فجئت منازل الجيش وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفتقدونني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش فأدلج
4
فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، واسترجع فاستيقظت وخمرت وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته وركبتها وانطلق يقودها حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظهيرة.
5
فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ...
واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك.
ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع.
6
ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها، فقال: تعس مسطح!
قلت: بئس ما قلت! أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟
قالت: أي هنتاه
7
أولم تسمعي ما قال؟
قلت: وماذا قال؟
فأخبرتني بقول أهل الأفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله فسلم. ثم قال: كيف تيكم؟ استأذنت أن آتي أبوي: أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي.
قالت أمي: يا بنية هوني عليك. فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها.
قلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.
ودعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، وقال لرسول الله: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا.
وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله بريرة يسألها: هل رأيت من شيء يريبك في عائشة؟
قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قد أغمصه
8
عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن
9
فتأكله. ... وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ...
فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم، ثم جلس وتشهد، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإني قد بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله! فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله.
فقلت لأمي: أجيبي عني. فقالت كذلك، والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله.
قلت - وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله قد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لتصدقوني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. ... فوالله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله - عز وجل - على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان
10
من العرق في اليوم الشاتي.
فلما سري عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة! ... أما الله فقد برأك.
قال لي أمي: قومي إليه.
قلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي ... وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ... فأقسم ألا ينفق عليه شيئا أبدا. فأنزل الله عز وجل:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... إلى قوله:
ألا تحبون أن يغفر الله لكم (النور: 22).
فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه. •••
تلك هي القصة التي عرفت بقصة الإفك كما روتها لنا السيدة عائشة - رضي الله عنها. وهي مسبار صادق يسبر لنا أغوار المروءة والرفق في معاملة النبي لزوجاته حيث لا رفق ولا مروءة عند الأكثرين. فليس النبي هنا في حالة من حالات الرضا التي تسلس الطباع ولا تستغرب معها المودة وطول الأناة، ولكنه في حالة من تلك الحالات التي تثير الحمية وتثير الحب وتثير النقمة وتثير في النفس البشرية كل ساكنة تدعو إلى طيب المعاملة، فلم يكن في هذه الحالة إلا كرما خالصا بما سلك في أمر نفسه وفي أمر أهله وفي أمر دينه، ولم يدع لحالم من حالمي الحضارة الحديثة مرتقى يتطلع إليه في جميع هذه الغايات.
سمع النبي حديثا يلاك بين المنافقين، ويسري إلى المسلمين، بل إلى خاصة ذويه الأقربين؛ حديثا يسمعه رجل كعلي بن أبي طالب في بره وكرم نحيزته؛ فلا يرى بعده حرجا من الطلاق والنساء كثيرات.
سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة، ولم يرفضه بغير بينة، وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها إلى حين. فعادها وبه من الرفق والإنصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها بما يخامر نفسه الكريمة، وبه من الموجدة والترقب ما أبى عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به والنفس صافية كل الصفاء، وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفى، وأن تأتيه البينة؛ فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة، ولا يعجله لغط الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما توجبه الحمية وما توجبه المروءة في آن.
وسأل من ينبغي أن يسأل: عليا وأسامة وهما بمقام ولديه، وبريرة الجارية التي تعرف عائشة وتخلص لسيدها كما تخلص لسيدتها، وضرة لعائشة تنافسها وتكاد أن تضارعها في حظوتها لديه: زينب بنت جحش التي كانت أسرع من يقول لو علمت شيئا يقال، فاستعاذت بالله وقالت: «أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.»
واتصل الحديث بعائشة فاستأذنته في زيارة أهلها، وآن له أن يفاتحها وقد وصل النبأ إلى سمعها ولم يئن له قبل ذلك وهو كاظم ما في فؤاده قادر على كتمانه مخافة أن يؤذيها بغير حق وهي تشكو سقامها.
فاتحها لتبرئ نفسها أو تستغفر الله.
وغضبت غضب البريء المشكوك فيه، وإنها لبريئة في نظر كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش، وفي وضح النهار، ولغير ضرورة، ومع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة، فكيف بها في مكانها المعلوم.
إلا أن النبي أراد لها البراءة أمام الخلق عامة وأمام نفسه المحبة، حذرا أن تكون تبرئته إياها عن محبة وضعف لا عن تبين واستيثاق، فلما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة كان قد وفى الكرم والحمية والإنصاف والرحمة أجمعين.
نعم وفي الرحمة حتى باللاغطين المتعجلين الذين أبدءوا وأعادوا في ذلك الحديث المريب. وما أحد أرحم ممن يرحم المفترين على سمعة أهله وهناءة بيته وأمان سربه، ولا يعذر الناس أحدا كما يعذرون نبيا مطاعا ينال في عرضه فينال بالعقاب العدل من استحقوه.
سماحة الكريم
ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد الله بن أبي بن سلول كان أكبر اللاغطين بحديث الإفك عن سوء نية وكيد مبيت للنبي ودينه، وكان هذا الرجل - كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب - بغيضا إلى المسلمين متهما عندهم يتوجسون منه، ويسمونه رأس المنافقين، ولا يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله فما ضر النبي لو خلى بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته ويحاسبونه على كيده وينتقمون لعرض النبي منه ليأمنوا شره ويجعلوه عبرة لغيره؟
وإذا قيل إن عبد الله بن أبي كان من أصحاب العصبية التي يحسب حسابها وتتقى بوادرها، فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن.
على أن العصبية التي كان عبد الله بن أبي يلوذ بها لم تكن لتحميه عقاب النبي لو أراده بعقاب ولو كان أصرم عقاب، فما من عصبية هي أقرب إلى رحم الرجل وأولى بالذود عنه من ولده المشهور ببره. وقد أسلفنا أن ولد عبد الله قد تطوع لقتله يوم قيل له إن النبي يهدر دمه ويقضي بموته ...
إنما هي سماحة الكريم ...
إنما هي السماحة التي شملت مسطحا كما شملت كبير المنافقين، وخرجت من حديث الإفك كله بالعفو عن جميع المسيئين مخلصين في الرأي وغير مخلصين، وهي التي سبرت غورا في قصة هذا الحديث فتكشفت عن أطيب معاملة للزوجات في أحرج الحالات، وتلك هي المعاملة الطيبة في مثلها الأعلى، معاملة لا تتبدل بعد أيام وشهور بل تطول مدى السنين، وتطول مدى السنين مع نساء مختلفات لا مع امرأة واحدة، وتطول في جميع الحالات ومنها حالة الألم البالغ، ولا تنحصر في حالة الرضا والطمأنينة، وأقل من ذلك أمنية يتمناها الحالمون بالوئام بين الأزواج في العصر الذي وصفوه بعصر المرأة، لفرط ما أطنب فيه المطنبون من إكبار شأنها والدعوة إلى إنصافها.
تعدد الزوجات
هنا يعرض لنا الكلام عن تعدد زوجات النبي، وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالإسلام، فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام وذكروا منها ما يزعمونه منافيا لشمائل النبوة، مخالفا لما ينبغي أن يتصف به هداة الأرواح ...
السيف والمرأة! ...
كأنهم يريدون أن يجمعوا على النبي بين الاستسلام للغضب والاستسلام للهوى، وكلاهما بعيد من صفات الأنبياء.
أما السيف فقد أسلفنا الكلام فيه.
أما المرأة فالظنة فيها أضعف من الظنة في السيف على ما نراه، لأن الاستسلام للشهوة آخر شيء يخطر على بال الرجل المحقق - مسلما كان أو غير مسلم - حين يبحث في تعدد زوجات النبي، وفيما يدل عليه ذلك التعدد، وفيما اقتضاه.
قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية ...
قلنا إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية
Undersexed
لأنه لم يتزوج قط، فلا ينبغي أن تصف محمدا بأنه مفرط الجنسية
Oversexed
لأنه جمع بين تسع نساء.
ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيرا على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها. هذا سواء الفطرة لا عيب فيه، وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى. أرأيت إلى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي ألوفا من الفراسخ ليصل إلى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه؟ ... أرأيت إلى العصفور وهو يبتني عشه ويعود من هجرته إلى وطنه؟ أرأيت إلى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير والنحل بنقل لقاحه؟ أرأيت إلى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء؟ ما هي سنتها إن لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين؟ وأين يكون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء؟
فحب المرأة لا معابة فيه ...
هذا هو سواء الفطرة لا مراء ...
وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططا في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع ...
فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟
من من بناة التاريخ قد بنى في حياته وبعد مماته تاريخا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية والدول الإسلامية؟
ومن ذا الذي يقول إن هذا عمل رجل مشغول؟
عم شغلته المرأة؟ ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه؟
فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها ويعطي المرأة حقها فالعظمة رجحان وليست بنقص، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب. ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة، ولم يخلقوا نابذين لها ولا منبوذين منها. فليست شريعة هؤلاء بالشريعة المطلوبة فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور.
وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس؛ وقد أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها.
فقد شكون - على فخرهن بالانتماء إليه - أنهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة، واجتمعت كلمتهن على الشكوى، واشتددن فيها حتى وجم النبي وهم بتسريحهن، أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح.
وذهب إليه أبو بكر يوما «يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده، فوجدا النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساكنا. فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسري عنه، فقال: «يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها» فضحك رسول الله وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة! ... فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: «تسألن رسول الله ما ليس عنده؟»
فقلن: «والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده» ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة وعشرين يوما، فنزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (الأحزاب: 28، 29).
فبدأ الرسول بعائشة فقال لها: «يا عائشة! ... إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ...»
قالت: «وما هو يا رسول الله؟» فتلا عليها الآية ...
قالت: «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ ... بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ...» ثم خير نساءه كله فأجبن كما أجابت عائشة، وقنعن بما هن فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها.
علام يدل هذا؟
نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات.
أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه؟
أما كان يسيرا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله؟ ...
وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال إنه كان يفرط في ميله إلى النساء؟
هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه أو يخالف ما يحمد من سيرته أو يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه؟
لم يكلفه شيئا من ذلك، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها، ولم نر هنا رجلا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأينا رجلا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسطة في العيش قد ينالها أصغر المسلمين، ولا شك في قدرة النبي عليها لو أراد.
رجل الجد والرصانة
وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرخي أوروبا فلا نرى إلا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم.
نرى رجلا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه!
ونرى رجلا تألبت عليه نساؤه لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلين بها لعينه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! ...
ونرى رجلا آثر معيشة الكفاف والقناعة على إرضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! ...
ذلك كلام لو شاء المشهرون أن يرسلوه كلاما مضحكا مستغربا لأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح. أو لعله أقبح فلاح! ...
ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط فيه الظنون ذلك الخبط الذريع.
فمحمد كان معروفا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة.
كان معروفا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه عن أهون الهنات: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه مع النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم إلى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات ... كلا ... لم يقل أحد هذا قط من شانئيه وهم عديد لا يحصى ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل.
ولما بنى بأولى زوجاته - خديجة - لم تكن لذات الحس هي التي سيطرت على هذا الزواج؛ لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، ونيف على الخمسين، وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها، ولا من رغبة في الزواج بأخرى.
ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء للذات حس أو ذكرى متاع جميل لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي أحب نسائه إليه، وكانت عائشة تغار منها في قبرها فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها.
قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها، فقال له مغضبا: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ... آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.»
فلهذا أحب خديجة، ووفى لها وفضلها ولم يمح ذكراها من نفسه قط من أعقبتها من الزوجات الفتيات وفاء قلب، وليست لذات حس ولا ذكرى متاع جميل.
أسباب تعدد زوجاته
ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع النبي إليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية، فيسرعن إليه راضيات فخورات، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة.
لكنه لم يتزوج بكرا قط غير عائشة - رضي الله عنها - ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.
قالت عائشة - رضي الله عنها: «لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: «أي رسول الله! ألا تتزوج؟»
قال: «من؟»
قالت: «إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا؟» ...
قال: «فمن البكر؟» ...
قالت: «بنت أحب الناس إليك عائشة بنت أبي بكر» ...
قال: «فمن الثيب؟» ...
قالت: «سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك».»
ثم كانت سودة هي أولى النساء التي بنى بهن بعد وفاة خديجة، وكان زوجها الأول - ابن عمها - قد توفي بعد رجوعه من الهجرة إلى الحبشة، وكانت هي من أسبق النساء إلى الإسلام، فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها إلى الحبشة فرارا من إعنات المشركين له ولها، فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى، أو تتزوج بغير كفؤ أو بكفؤ لا يريدها. فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفا لأعدائه من آلها وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر إلى لذات حس ومال إلى متاع.
وكانت للنبي زوجة أخرى وسمت بالوضاءة والفتاء، وهي زينب بنت جحش ابنة عمته عليه السلام التي زوجها زيد بن حارثة بأمره وعلى غير رضا منها، لأنها أنفت - وهي ما هي في الحسب والقرابة من رسول الله - أن يتزوجها غلام عتيق.
هذه أيضا لم يكن «للذات الحس» المزعومة سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما، ولو كان للذات الحس سلطان في هذا الزواج لكان أيسر شيء على النبي أن يتزوجها ابتداء ولا يروضها على قبول زيد وهي تأباه، فقد كانت ابنة عمته يراها من طفولته ولا يفاجئه من حسنها شيء كان يجهله يوم عرض عليها زيدا، وشدد عليها في قبوله. فلما تجافى الزوجان وتكررت شكوى زيد من إعراضها عنه وترفعها عليه وإغلاظها القول له كان زواج النبي بها «حلا لمشكلة» بيتية بين ربيب في منزلة الابن وابنة عمة أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق.
أما سائر زوجاته عليه السلام فما من واحدة منهن - رضي الله عنهن - إلا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة.
فأم سلمة كانت كهلة مسنة يوم خطبها، كما قالت له معتذرة إليه؛ لإعفائه من تكليف نفسه أن يتزوجها جبرا لخاطرها بعد موت زوجها عبد الله المخزومي من جرح أصابه في غزوة أحد، ولما برح بها الحزن لوفاته واساها رسول الله قائلا: «سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك وأن يخلفك خيرا» ...
فقالت: «ومن يكون خيرا من أبي سلمة؟» فأوجب على نفسه خطبتها لأنها تعلم أنه خير من أبي سلمة، ولأنه يعلم أن أبا بكر وعمر خطباها فترفقت في الاعتذار، وهما أعظم المسلمين قدرا بعد النبي عليه السلام.
وجويرية بنت الحارث سيد قومه كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق فتزوجها النبي؛ ليعتقها ويحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجا عنهم وتألفا لقلوبهم، فأسلموا جميعا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه والبقاء في حرم رسول الله فاختارت البقاء في حرم رسول الله.
وحفصة بنت عمر بن الخطاب مات زوجها فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت، وعلى عثمان فسكت، وبث عمر أسفه للنبي فلم يكن للنبي عليه السلام أن يضن على وليه وصديقه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله، وقال: يتزوج حفصة من هو خير من أبي بكر وعثمان.
ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم، وتركت وطنها لتهاجر مع زوجها إلى الحبشة، ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة هناك بغير عائل، فأرسل النبي إلى النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة وضياع الأهل وضياع القرين. فكانت النجدة الإنسانية باعث هذا الزواج ولم يكن له باعث من المتعة والاستزادة من النساء، وكان للنبي مقصد جليل من وراء هذا الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة إلى التفكير فيه، وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بآصرة النسب، عسى أن يهديه ذلك إلى الدين، بما يعطف من قلبه ويرضي من كبريائه.
وكان إعزاز من ذلوا بعد عزة سنة النبي عليه السلام في معاملة جميع الناس ولا سيما الناس اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقرباء، ولهذا خير صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها، فاختارت الزواج منه عليه السلام، وآية الآيات في رعاية الشعور الإنساني أنه عليه السلام أنب صفيه بلالا لأنه مر بها وبابنة عمها على قتلى اليهود. فقال له مغضبا: «أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟» واحتقرتها زينب فلقبتها يوما باليهودية، فهجرها شهرا لا يكلمها ليأخذ بناصر هذه الغريبة ويدفع عنها الضيم. •••
تنكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السلام عن هذه الأسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد ...
ولا حرج - كما أسلفنا - على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه.
ولكن الذي حدث فعلا أن المتعة لم تكن قط مقدمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها، وفي إبان الشباب أو بعد تجاوز الكهولة.
وآخر صورة يتصورها المنصف هنا هي صورة رجل فرغ للذاته، وجلس ينتقي واحدة بعد واحدة من الحسان على حسب ما يرجوه عندها من متاع. فإنما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه، ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرا موسومة بالجمال، وهي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ...
إلا أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصيلاتها، ولم يذكروا إلا شيئا واحدا حرفوه عن معناه ودلالته، ليفتروا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه، وذلك أنه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات.
نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق، في غير مشقة عندهم ولا معابة.
ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في طلب الزواج الحلال وهو ميسر له تيسره لكل فتى وسيم حسيب منظور إليه بين الأسر وبين الفتيات.
ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في الأربعين اكتفى بها إلى أن توفيت وهو يجاوز الخمسين.
ونسوا أنه اختار أحسابا في حاجة إلى التآلف أو الرعاية ولم يختر جمالا مطلوبا للمتاع ...
ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير، ولم يجاوز حياة القناعة قط لإرضاء نسائه وإرضاء نفسه، ولو شاء لما كلفه إرضاء نفسه وإرضاؤهن غير القليل بالقياس إلى ما في يديه.
نسوا كل هذا، وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه السلام ... فلماذا نسوه؟
نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا وأن يتقولوا وأن ينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها، لو أنهم أرادوها وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها.
الوجهة الخلقية
ونستطرد إلى تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية فلا نطيل فيه، لأننا نقصر هذا الكتاب على عبقرية محمد وما له اتصال بجوانب هذه العبقرية في تعدد مناحيها، ولم نرد به أن نتناول حكمة الشريعة الإسلامية في تفصيلها ولا مسوغات الأصول الدينية على اختلافها.
فأوجز ما نقوله في تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية أن النبي عليه السلام لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مباحا يختاره من يختاره وله مندوحة عنه، وإنما جعله ضرورة يعترف بها الرجل وتعترف بها الأمة في بعض الأحوال لأنها خير من ضرورات، ولن ينكر هذا إلا متعنت يصدم الحقائق ويتجاهل المحسوس الماثل للعيان.
ففي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرا من الإخلاء بينهن وبين التأيم والمذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة، وكان خيرا من قطع تلك الآصرة التي وصلت بينه وبين البيوت والعشائر، فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة بل أمم تمارس الحياة الدنيا، وكل إمام عليم بطبائع الناس.
أما الضرورة الاجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعا ثم تحللت منها بإباحة الزنى وعلاج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج أو خارج عن نطاق البيت والأسرة. ولو اهتدت هذه الشرائع المدنية إلى حل خير من هذا لجاز لها أن تنكر تعدد الزوجات، وتنكر أنه ضرورة أكرم من ضرورات.
فلا شك أن الجمع بين المرأة العقيم أو المرأة المريضة وبين غيرها أكرم لها وللمجتمع من نبذها في معترك هذه الدنيا الضروس بغير ولد وبغير زوج وبغير عاصم، ثم هو أكرم للزوج نفسه وهو كائن حي يريد أن يصل ما بينه وبين الحياة بذرية صالحة هي الغرض الأكبر من كل زواج، ولولاها لانتقض في المجتمع الإنساني أساس كل زواج.
ولا شك أن الجمع بين المرأة المزهود فيها وبين زوجة أخرى أكرم لها وأصلح من الجمع بينها وبين خليلة أو عدة خليلات.
ولا شك أن تسهيل الزواج وبخاصة في أوقات الحروب التي ينقص فيها الرجال أكرم للمجتمع الإنساني وأصلح من تسهيل العلاقات الأخرى التي لا تنفع النوع ولا تنفع الأخلاق، ولا ترفع مكانة المرأة في عصمة رجل أو في متناول كثير من الرجال.
هذا شيء جائز.
بل هذا شيء أكثر من جائز، لأنه واقع لا محيد عنه ولا حيلة فيه، وغير ملوم من يواجهه بحل أكرم من حلول شتى، بل اللوم عليه أن ينظر في شئون العالم ثم يغمض عينيه عن حقائقه التي تصدم كل عين.
ومن السهل - على من أراد - أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه وترضيه ... وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يساس له ويرضى بما ارتضاه وقد علم هذا كل رجل واجهته مشكلة واحدة من المشكلات التي واجهت محمدا بادئ الرأي على غير مثال سابق يحتذيه، إلا ما ألهمه الله.
رأي نابليون
ماذا صنع نابليون في عصرنا الحديث؟ ...
وإنما نضرب المثل بنابليون لأنه حضر انقلابا في الأطوار والعادات يشبه نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية ونعني به الثورة الفرنسية، وحضر انحدارا في الأخلاق والآداب يشبه الانحدار الذي أصيب به العرب في أواخر عهد الجاهلية، وأسس دولة، ونظر في سن قانون، وحاول ضروبا من الإصلاح.
نابليون قد طلق امرأته وأكره أحبار المسيحية على قبول هذا الطلاق، وقد اشتهرت له علاقات بخليلات متعددات، غير الخليلات المجهولات ...
ونابليون يقول عن المرأة: «لقد صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء أبناء الزنى. إلا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج. وإلا أحجم الناس عن الزواج إلا القليل.
ولقد كان للرجل في العهد القديم سريات إلى جانب الزوجات، ولم يكن أبناء الزنى محتقرين بين الناس احتقارهم اليوم. إنه لمن المضحك أن يحظر على الرجل الزواج بأكثر من واحدة فتحمل هذه الزوجة الواحدة، وكأن الرجل في أثناء حملها أعزب أو عقيم.
واليوم لا سريات للرجال ولكنهم يعاشرون الخليلات وهن أقدر على التبديد والإفساد.
إنهم في فرنسا يخولون النساء فوق حقهن من التعظيم وإنما الواجب ألا ينظر إليهن كأنهن مساويات للرجال، فما هن في الحقيقة إلا آلات لتخريج الأطفال.
وقد تمردن في إبان الثورة وعقدن الجماعات لأنفسهن، وبدا لهن أن يؤلفن فرقا منهن في الجيش.
وكان لا بد من صدهن، لأن المجتمع الإنساني عرضة للخلل والفوضى إذا ترك النساء حالة الاعتماد على الرجال وهي مكانهن الحق في الحياة. نعم إن المجتمع لوشيك إذن أن يتمزق بددا بغير انتهاء.
وعلى جنس من الجنسين أن يخضع للآخر لا محالة، فإذا نشبت الحرب بينهما، فلن تكون كحرب الأغنياء والفقراء أو حرب البيض والسود! ...
ألا وإن الطلاق لأضر بالمرأة دون مراء. فالرجل الذي يجمع بين زوجات لا يبدو عليه من ذلك أثر كالأثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال، إنها تضمحل إذن كل الاضمحلال.»
رأي لينين
كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها «لينين» في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ ...
حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج، فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات.
عقوبة الزوجات
ولا نختم هذا الفصل عن النبي في حياته الزوجية قبل أن نعرض لعقوبة الزوجات في الإسلام، وللعقوبة التي اختارها عليه السلام لأن عقوبة الرجل لامرأته في حالة الغضب كمحاسنته لها في حالة الرضا؛ كلاهما ميزان صادق لمكانتها عنده، ومكانة المرأة عامة في تقديره.
والقرآن ينص على العقوبات السائغة في حالة النشوز وهي العظة، والهجر في المضاجع، والضرب، والتسريح بإحسان:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا (النساء: 34).
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه (البقرة: 231).
والنبي عليه السلام لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها وعاشرها، ولم يضرب قط واحدة منهن، ولم يرو عنه قط أنه ضرب أو نهر خادما فضلا عن زوجة، بل روي عنه ما ينفي ذلك ممن عاشروه ولازموه.
بل كان عليه السلام يكره ضرب النساء ويعيبه كما قال: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؟ ... يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره!»
فما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فإنما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره، وقيده المفسرون بشروط تمنع الإيذاء، وتحصره في القدر الذي يستقيم عليه الجزاء.
فغاية ما يفهم من ذكر الضرب بين العقوبات أن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره، وقد يعلم الكثيرون أن هؤلاء النساء لا يكرهنه ولا يسترذلنه، وليس من الضروري أن يكن من أولئك العصبيات المريضات اللائي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب.
إنما العقوبة التي آثرها النبي عليه السلام هي الهجر الطويل أو القصير، بعد العظة والعتاب الجميل.
والهجر - ولا سيما الهجر في المضاجع - عقوبة نفسية بالغة وليست كما يسبق إلى بعضهم عقوبة حسية تؤلم المرأة لما يفوتها من سرور ومتعة؛ فإن فوات السرور والمتعة أياما، لا يؤلم المرأة هذا الإيلام الذي يجعل الهجر في المضاجع من أصعب العقوبات دون الطلاق.
قال الأستاذ رشيد رضا - رحمه الله - في كتابه نداء للجنس اللطيف: «أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بالهجر في الفراش نفسه. وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى وربما يكون سببا لزيادة الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه، لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجة فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجي أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صفصف الموافقة وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد، وإن كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء.»
والذي نراه أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق من هذه العقوبة النفسية، وأن الحكمة في إيثارها أعمق جدا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ ... فأبلغ العقوبات ولا ريب هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره وتشككه في صميم كيانه؛ في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه ...
والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له وأنها غالبته بفتنتها وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق إليه ورغبة فيها.
فليكن له ما شاء من قوة، فلها ما تشاء من سحر وفتنة وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم، وحسبها أنه لا «تقاوم» بديلا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول ...
فإذا قاربت الرجل مضاجعة له وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة ثم لم يبالها ولم يؤخذ بسحرها فما الذي يقع في وقرها وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟
أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعاتبة؟ كلا ... بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها وإذعانها وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة. فهو مالك أمره إلى جانبها وهي إلى جانبه لا تملك شيئا إلا أن تثوب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها.
فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد، بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح، لأنها جربت أمضى سلاح في يديها فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها. فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها. فإذا لاذت بها فخذلتها فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذاك.
وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة ولا باغتنام فرصة للحديث والمعاتبة.
إنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه. والهجر في المضاجع هو مثابة الرجوع إلى هذا الإحساس. •••
على أن عقاب النبي لزوجاته كان من الندرة بحيث لا يذكر لولا ما تعود المسلمون من ذكر كل كبيرة وصغيرة في حياته الخاصة والعامة على السواء، وهذا مع طول العشرة وتعدد الزوجات وكثرة الحوادث الجسام وقلة النسل الذي يصل المقطوع ويرأب المصدوع.
وكان معظم عقابه أشبه بعقاب نبي لمسلمات منه بعقاب زوج لزوجات. وهو في حالتي عقابه وإحسانه إنسان على أكمل ما يكون الإنسان من رحمة وكيس وإنصاف.
وإذا حارت الأدلة في قوام تلك الحياة الزوجية فالدليل الذي لا يحار أن ينقضي نحو أربعين سنة عليها وهي على ذلك الصفاء والولاء الذي لم يعرف مثله في علاقات الرجال والنساء؛ هذه حياة زوجية لا تقوم على الحس والمتعة، ولن تدوم ذلك الدوام لو كان لها قوام غير مودة القلوب وراحة النفوس وحب الخير ومبادلة العطف والتعظيم.
الفصل العاشر
الأب
الأبوة الروحية والأبوة النوعية
حفظ النوع سر من أسرار الحياة الكبرى التي دقت عن الفهم وحارت في تعليلها عقول الأساطين من أهل العلم والحكمة.
وهو - ولا ريب - يجري على قانون مطرد في جميع طبقات الأحياء، وإن كنا نحن لا نعلم كنهه ولا نسبر عمقه، ولا نزيد عن استقصاء بعض الملاحظات التي تقارب الحقيقة، أو هي أقرب ما نستطيع الوصول إليه.
وأهم هذه الملاحظات التقريبية أنه يجري على سنة المكافأة والتعويض في معظم حالاته. فيقابل النقص في جانب بالزيادة في جانب آخر، ويقابل القصور في مزية من المزايا بالإتقان في مزية أخرى.
فالأحياء السفلى عرضة للعطب الكثير في طور الولادة والحضانة، فيقابل هذا أن الأحياء السفلى ترسل ذرياتها بالألوف وألوف الألوف، فيبقى منها القليل الكافي لدوام النوع بعد فناء الكثير.
والأحياء العليا يقل عدد المولود منها في البطن الواحد فيقابل هذا أن تطول حضانتها والعناية بها، وتجد من وسائل الصيانة ما يعوض الكثرة في الأحياء السفلى.
ويغلب أن يزيد النسل حين تكون زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعها الفرد لخدمة نوعه وضمان دوامه. فإذا تيسرت للفرد وسائل مختلفة لخدمة نوعه فقد يجور ذلك على نسله وينتقص من قسمته في أبنائه، كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور، فإذا أداها في صورة أعفي منها في الصورة الأخرى، أو كأنما هي مواهب وأرزاق لا يستوفيها الفرد الواحد إلا بثمن غال يحسب عليه، يؤدي حسابه للنوع على نحو من الأنحاء.
والإنسان هو أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة لا تنحصر في تجديد النسل وزيادة عدده.
فهل يجوز لنا أن نقول إن العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم بإصلاح شئون الناس فلم يبق من اللازم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبة من طريق الذرية؟
إن قلنا ذلك فإنما نقوله على سبيل الملاحظة التقريبية التي أشرنا إليها. ولا نبلغ بتلك الملاحظة فوق مبلغها من اليقين الذي تستحقه، فغاية مبلغها عندنا أنها تستوقف النظر للتأمل والمراجعة ولا تفضي بنا إلى الجزم أو إلى التغليب.
فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية، كعيسى عليه السلام.
وبعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية، أو رزقوا ذرية كلها إناث، أو رزقوا ذرية من الإناث والذكور ولم يعيشوا، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة.
وتواريخ العظماء في جميع نواحي العظمة، وفي جميع الأمم، وفي جميع العصور، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة بالتأمل والمراجعة؛ يدخل فيهم القديسون كما يدخل فيهم الحكماء، ويدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون، ويدخل فيهم القادة العسكريون والسياسيون ولا يصعب على أحد أن يدير بصره إلى فترة من الزمن في بلد قريب يعرفه حق المعرفة ليشاهد مصداق ذلك في نفر من عظمائه ومشهوريه، وحسبنا في مصر أسماء جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وسعد زغلول، وعبد الله نديم، ومصطفى كامل، ومصطفى فهمي، ومحمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم.
فإذا جاز لنا أن نقف عند تلك الملاحظة وأن نتأمل مغزاها، وجاز لنا أن نفهم أن إصلاح شئون النوع الإنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال؛ فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية تتناول الأجيال بعد الأجيال وتتناول الملايين في كل جيل؟ ... وأي أبوة إنسانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته، وفي أمم لا يلقاها في زمانه، وأمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان؟
الأب الثكول
نذكر هذا حين نذكر حظ محمد من الأبوة الروحية ومن الأبوة النوعية. ونرى تكافؤا في الجانبين جديرا بالملاحظة والاعتبار ...
ألا ما أثقل ثمن الإصلاح!
ألا ما أحق المصلحين بالتمجيد وحسن الجزاء!
فمحمد الأب كان أصلح الآباء، ثم فجع في بيته فجيعة لا يداري فيها ألم الإنسان إلا صبر الأنبياء.
ومن الناس من لا يكون صديقا صالحا ولا سيدا صالحا ولا زوجا صالحا، ولكنه أب صالح بر ببنيه ...
لأن الرحم بين الآباء والأبناء أدنى الأرحام إلى المودة وأحراها بتحريك الشفقة فيمن لا يشفق على أحد ...
فكيف تكون الأبوة في نفس صلحت للصداقة وصلحت للسيادة وصلحت للزوجية لأنها تصلح للعطف الذي يعم القريب والغريب، ويشمل القوي والضعيف؟
ذلك أب نعلم كيف يفرح بأبنائه.
ونعلم كيف يحزن حين يفجع في أولئك الأبناء.
ومن الراجح أن العطف الأبوي لم يتمثل قط في مولد أحد من أبناء محمد عليه السلام كما تمثل في مولد ابنه الذي سماه باسم جده الأكبر أملا في أن يصبح بعده خليفته الأكبر ... ولعل العطف الأبوي قد تمثل في تشييع هذا الطفل الصغير أشد من تمثله في استقباله يوم ميلاده.
كانت أسباب كبيرة توحي إلى قلب محمد العظيم شوقه الطويل إلى استقبال ذلك الوليد ...
كان منها أن محمدا عربي يحرص على العقب من بعده كحرص كل رجل من أبناء القبائل وأصحاب العصبية؛ هم فخورون بالنسب فخورون بالعقب، يحفظون سيرة السلف ويتوقون إلى استبقاء الخلف على نحو لا يعهده الحضريون، وإن كان حب الذرية فطرة مركبة في جميع الطباع.
ومحمد كان يحب التكاثر لنفسه ويحبه لأمته ويوصي المسلمين أن يستكثروا من النسل ما استطاعوا ليفاخر بهم الأمم وفرة وعزة. فاشتياقه إلى العقب من الذكور خليقة عربية تقترن بالخليقة الإنسانية والخليقة النبوية، فتزداد قوة على قوتها التي ركبت في جميع الطباع.
وكان من أسباب هذا الشوق القوي طول العهد بالأبناء بعد من ولدتهم له السيدة خديجة رضي الله عنها، وشماتة أناس من شانئيه؛ سماه بعضهم بالأبتر لانقطاع معظم نسله، وفي ذلك نزول الآية الكريمة:
إن شانئك هو الأبتر (الكوثر: 3).
فقد مضى نيف وعشرون سنة لم تلد له في خلالها زوجة من زوجاته، ومات في هذه الفترة كل أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها التي ماتت بعده بقليل؛ مات القاسم، والطاهر طفلين، وماتت زينب، ورقية، وأم كلثوم، بعد أن تزوجن، ولم يتعوض من فقدهن ما يعزيه بعض العزاء ...
فجيعة تضاعف الشوق إلى الوليد المأمول.
وطول انتظار يضاعف الحب له كما يضاعف الشوق إليه.
ولسنا ندري لما طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعا بغير عقب ... ولكننا لا نستبعد تعليلها باجتماع المصادفات التي لا يندر أن تجتمع في أمثال هذه الأحوال. فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرا غيرها قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين. وهي سن قد تبلغها المرأة ولا تلد، وإن كانت ولودا فيما بعدها.
أما أزواجه الأخريات اللائي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الأولين خلفا غير رملة أم حبيبة، وهند بنت أمية المخزومية، وهذه كانت مسنة يوم بنى بها النبي عليه السلام، وفي عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة.
فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله، واجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك الأغراض العامة التي أجملناها في الفصل السابق ولم يتحر منها النسل خاصة؛ وهي الإيواء الشريف والمصاهرة، وبعضهن - بل معظمهن - قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء الهجرة البعيدة، ما يعقم الولود.
فإذا أضفنا إلى ذلك معيشة الكفاف وضريبة العظمة النبوية التي أشرنا إليها على سبيل الاحتمال، واشتغال النبي فيما بين الخمسين والستين بتعزيز الدين وقمع الفتن ودرء الأخطار؛ لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية بالأمر العصي على التعليل.
حزن الأبوة
طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول، وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج حتى جاءته مارية القبطية من قطر بعيد، ومن معدن غير المعدن الذي يختار لإيواء المحزونات وتقريب الأسر والعصبيات، فبشرت النبي بعقب لعله غلام، واجتمع في هذا البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة، ورجاء لا ينتهي بانتهاء الزمان.
وولد إبراهيم!
ولد الطفل الذي نظر أبوه إليه يوم مولده فامتد به الأمل مئات السنين، بل ألوف السنين، وتخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى، ليكون أبا ويكون له أحفاد، ويكون لأحفاده من بعدهم أحفاد ...
ثم مات ذلك الطفل الصغير ...
ومات ذلك الأمل الكبير ...
مات كلاهما والأب في الستين ... أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم، وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر؛ كل ما فيها للإشاحة والإدبار.
مات الطفل ولما يدرك السنتين.
مصاب صغير إن كانت المصائب تقاس بسنوات المفقودين.
ولكن المصائب في الأعزاء إنما تقاس بمبلغ عطفنا عليهم، والصغير أحوج إلى العطف من الكبير المستقل بشأنه.
وإنما تقاس بمبلغ تعويلهم علينا، وتعويل الصغير على وليه أكبر من تعويل الكبير ...
وإنما تقاس بمبلغ الأمل فيهم، والأمل يطول في بداءة الطريق وقد يقصر في منتصف الطريق.
وإنما تقاس آلام المفقودين بأعمار الفاقدين، وأي مصاب أفدح من مصاب الستين وما بعدها في الأمل الوحيد الواصل بينها وبين الزمان ماضيه وآتيه؟
ما تخيلت محمدا في موقف أدنى إلى القلوب الإنسانية من موقفه على قبر الوليد الصغير ذارف العينين مكظوم الوجد ضارعا إلى الله.
نفس قد نفثت الرجاء في نفوس الألوف بعد الألوف، وهي في ذلك الموقف قد انقطع لها رجاء عزيز، رجاء وا أسفاه لا يحييه كل ما ينفثه المصلح في الدنيا من رجاء.
وكأني بمحمد كان يومئذ أقرب إلى قلوب الخالفين من بعده مما كان مع الجالسين حوله، ومع أقرب الناس إليه.
كان أقرب الناس إليه زوجاته أمهات المسلمين وكن يحببنه غاية ما يحب النساء الأزواج، ولكن حبهن إياه لم يكن في هذا الموقف من حب المقربات العاطفات، لأنه حب أثار غيرتهن من أم الوليد المأمول، فاحتجب من عطفهن بمقدار تلك الغيرة وبمقدار ذلك الحب، ولا لوم عليهن فيما طبع عليه الإنسان وفيما لا يقصدنه ولا يقدرن عليه.
وكان أقرب الناس إليه أصحابه الخاشعون بين يديه، وكان إكبارهم لسيد الأنبياء ينسيهم أنه من الآباء، بل أنه أب أرحم من سائر الآباء ...
ظنوا أن النبي لا يحزن، كما ظن قوم أن الشجاع لا يخاف ولا يحب الحياة، وأن الكريم لا يعرف قيمة المال.
ولكن القلب الذي لا يعرف قيمة المال لا فضل له في الكرم، والقلب الذي لا يخاف لا فضل له في الشجاعة، والقلب الذي لا يحزن لا فضل له في الصبر. إنما الفضل في الحزن والغلبة عليه، وفي الخوف والسمو عليه، وفي معرفة المال والإيثار عليه.
وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن وبكى، وتلك هي الصلة بينه وبين قلب الإنسان، وبينه وبين الناس، وأي نبي تنقطع بينه وبين القلب الإنساني صلة كهذه الصلة التي تجمع أشتات القلوب؟
روى أسامة بن زيد أن زينب بنت النبي أرسلت إليه: إن ابنتي قد حضرت فاشهدنا. فأرسل إليها
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده مسمى. فلتحتسب ولتصبر.» فأرسلت تقسم عليه، فقام النبي
صلى الله عليه وسلم
وقمنا. فرفع الصبي في حجر النبي ونفسه تقعقع ففاضت عينا النبي
صلى الله عليه وسلم . فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟
قال
صلى الله عليه وسلم : «هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده. ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء.»
ما هذا يا رسول الله؟!
هذا رسول الله في أصدق ما تكون عليه رسالة الرسل: في الرحمة، وفي الآصرة الإنسانية، وغير هذا لن يكون.
ومحمد قد اتقى رؤية طفل يموت لابنته وهو كهل غير يائس من العقب، فكيف يكون حزنه على فلذة كبده إبراهيم وهو بعده ذاهب الرجاء في الأبناء؟!
لقد كان حزنه لموته بمقدار فرحه بمولده، وكان فرحه بمولده بمقدار أمله فيه واشتياقه إليه .
وإن العطف الإنساني كله ليتجه إلى تلك النفس الزكية وهي تتوسع فرحا بالوليد المأمول ... حلق الأب المتهلل شعر وليده وتصدق بزنته فضة على المساكين، وذلك هو التوسع الذي وسعه رجل كان أقدر الرجال على وجه البسيطة، غير مستثنى فيها رؤساء ولا ملوك.
جاء بأقصى ما عنده من الفرح وأقصى ما عنده من التوسعة، ولو شاء لقد كان وزن الوليد كله درا وجوهرا بعض ما يستطيع في ذلك اليوم الأغر الميمون ... وبمقدار هذا الفرح الطهور يوم الاستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع؛ خرج الرجل الذي اضطلع بأعباء الدنيا ومن فيها، وهو لا يضطلع بحمل قدميه؛ خرج يتوكأ على صديق عطوف إلى حيث يحمل الوليد آخر مرة في حجره الأبوي قبل أن يودعه حجر التراب ... وكان يستقبل الجبل بوجهه فقال: يا جبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون ...
أي والله! ... إنها لإحدى الفواقر التي يحملها اللحم والدم ولا تحملها صخور الجبال ...
وصرخ أسامة حين بكى رسول الله فنهاه رسول الله وقال: البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان.
حزن كما ينبغي له أن يحزن ... أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه، وهو أن تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم فيحسب المسلمون أنها انكسفت لموته، ويقول الأب الذي انكسفت الشمس حقا في عينيه: «كلا ... إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته!»
أو تخسفان ولكن في أكباد المحزونين، وليس في كبد السماء.
أكرم الآباء
أوكان من الحتم أن يكون محمد مثال الآباء كما كان مثال الأنبياء؟ كذلك شاء القدر القادر، وكذلك رأينا محمدا مثال الأب يوم ولد له إبراهيم، ومثال الأب يوم ذهب عنه إبراهيم.
ما يتمنى طفل - لو جاز أن يتمنى الأطفال - أبوة أرحم ولا أذكى من هذه الأبوة في الحالتين ...
بل كان محمد مثال الأب حيثما كان له نسل قريب أو بعيد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير.
أرأيت إلى الحسن بن فاطمة، وقد دخل عليه فركب ظهره، وهو ساجد في صلاته؟
إن النبي في صلاته لهو النبي في مقامه الأسنى، وإن النبي في مقامه الأسنى ليشفق أن يشغل الصبي عن لعبه فيطيل السجدة حتى ينزل الصبي عن ظهره غير معجل.
ويسأله بعض أصحابه: لقد أطلت سجودك؟ فيقول: إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله!
أرأيت إلى فاطمة تدخل البيت أشبه الناس مشية بمشية محمد؟
أرأيت إلى حنان يفيض على القلب كحنانه حين يرى فتاة تشبه أباها في مشيته وسمته!
تلك فاطمة بقية الباقيات من الأبناء والبنات، يختصها النبي بمناجاته في غشية وفاته: إني مفارق الدنيا - فتبكي - إنك لاحقة بي. فتضحك ... في هذا الضحك وفي ذلك البكاء على برزخ الفراق بين الدنيا والآخرة أخلص الود والحنان بين الآباء والأبناء.
سرها بنبوته، وسرها بأبوته، فضحكت ساعة الفراق لأنها ساعة الوعد باللقاء ...
وكذلك فارق الدنيا أكرم الأنبياء وأكرم الآباء.
الفصل الحادي عشر
السيد
الخير المطبوع
قدمنا الكلام في فصول هذا الكتاب عن محمد رئيسا، ومحمد صديقا، ومحمد زوجا، ومحمد أبا، بعد الكلام على عبقريته في الدعوة، وعبقريته في قيادة الجيوش، وعبقريته في السياسة والإدارة والبلاغة.
وبقي جانب لا تتم بغيره الإحاطة بجوانب النفس الإنسانية في العلاقات بينها وبين سائر النفوس، وهو جانب المعاملة التي تكون بين الرجل ومن هم دونه ممن يملك أمرهم ويقبض على زمامهم ولا يعتصمون منه بعاصم غير عواصم طبعه وخلقه، ونريد بهم الخدم والعبيد والأرقاء، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق، ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى، لأنها تأتي من طبائع النفس وعقائدها، ولا تأتي بأمر آمر أو بدعوة داع.
فالصداقة لها الحقوق المتكافئة بين الصديقين لا يستطيع أحدهما أن ينساها زمنا طويلا إلا ذكره بها مذكر من صديقه الحافظ لحقوقه، القادر على مقابلة الجفاء بمثله، ولو في طوية نفسه.
والرئاسة قد تخول الرئيس حق السيطرة، وتفرض على المرءوسين واجب الطاعة، غير أنها قل أن تنطلق بغير وازع من خشية الغضب أو خشية الانتقاض يحسب له الرئيس كل الحساب، أو بعض الحساب.
والأب يعطف على بنيه فلا يعجب الناس لعطفه عليهم، لما ركب في طباع جميع الأحياء من حب الأب لولده، وإن اختلف الآباء في صفات العطف وفي استحقاقهم لبر الأبناء.
وكذلك الزوج يرفق بزوجته وليس له كل الاختيار في رفقه، لما يكون بين الزوجين من دالة يعتز بها الضعيف، ويستغني بها أحيانا عن القوة والرئاسة ...
أما العبد المملوك فلا عاصم له غير ما في نفس سيده من رحمة وخير، وإنه لمن الرحمة والخير أن يتبع السيد أمر الدين مع عبيده وخدمه الذين لا ينصرهم عليه ناصر في هذه الدنيا ... بل إنها لرحمة تؤثر ولو وقفت عند حدود الأوامر الإلهية، فإذا تجاوزتها إلى طواعية في الخير لم يفرضها الدين، ولم يفرضها العرف، ولم يطلبها العبد نفسه، فتلك هي الرحمة في أصدق معانيها، وهي أدل الدلالات على لباب الأخلاق. •••
ولقد علم القارئ من فصولنا السابقة أننا لم نكتب هذا الكتاب لشرح الأصول الإسلامية وتفصيل محاسن الدعوة المحمدية، فذلك غرض لا تتسع له هذه الفصول وليس لنا أن نتصدى له بعد من فصلوه وكرروا الكتابة فيه ...
وإنما نقصد بهذه الفصول إلى غرض قدمناه على كل غرض في موضوعه، وهو بيان البواعث النفسية التي توحي إلى النبي أعماله ومعاملاته، ولا شك في مطابقة هذه البواعث لكل أمر من أوامر الدين وكل نهي من نواهيه إلا أن الخير المطبوع شيء والخير المأمور شيء آخر، والخير المطبوع هو الذي قصدنا إلى بيانه بكل ما بيناه.
ففي كتابنا عن معاملة محمد للعبيد والخدم لا ننوي أن نفصل أحكام الإسلام وأوامر القرآن في هذه المعاملة، وإنما ننوي أن نبين مزية محمد على جميع السادة في هذا الباب، وهي مزية لا تتوافر لمن يقنعون بالتزام الأوامر والحدود، ولا للذين يرتفعون إلى أرفع مرتبة تفرضها هذه الأوامر والحدود.
الإسلام والرق
على أن هذا لا يمنعنا أن نوجز الإشارة بداءة إلى مزية الإسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق والاستعباد، لأن أناسا يخلطون بين اعتراف الإسلام بنوع من الرق وبين اعتباره مسئولا عن وجوده في الزمن القديم، ويردون شيئا من ذلك إلى عمل النبي عليه السلام ...
فمن الواجب أن نذكر أولا أن دينا من الأديان الأخرى لم يأمر بإلغاء الرق في شكل من أشكاله، سواء رق الحرب أو رق النخاسة والبيع والشراء، وإن أناسا من أقطاب المسيحية كالقديس أغسطين سوغوه واعتبروه جزاء عادلا للخطايا التي يقترفها المسترقون، وجاء بعض أحبار الكنيسة فحرموا على الأرقاء شرف الخدمة فيها بالوعظ والهداية، أنفة لها أن يدنسها لؤم العنصر الذي وسموا به الرقيق.
ويجب أن نذكر بعد هذا أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطا بالاسترقاق أشد الارتباط. فكان إلغاؤه طفرة واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة فخطوة والابتداء بتصعيبه وترغيب الناس عنه، وهو ما شرعه الإسلام.
فالإسلام قد بدأ بتحريم كل رق غير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن إطلاقهم وسماه منا وعفوا يشكر فاعله عليه:
فإما منا بعد وإما فداء (محمد: 4).
ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه، وأوجب حريته في حالات كثيرة يرجع معظمها إلى إرادته هو، إذا استطاع.
والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الإسلام هذا كان أجمل صنيع لقيه الأرقاء من دين أو شريعة، وأنه إذا كان هناك تمهيد لإلغاء الرق بتة فذلك هو تمهيد الإسلام دون غيره، وهو أقصى ما كان مستطاعا في نظام العالم القديم: نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار، كما جاء في بعض الإحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية واليونانية.
وقد نظر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة - ونعني به أرسطو - فأقره وأوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة وقيدا لا فكاك منه لطائفة من الناس، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها فلا غنى لها عن سيد ولا موئل لها من وال.
معاملة محمد لعبيده
ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن وأجمل وامتاز بأمر دينه على كل محسن إلى الأرقاء في زمانه. إلا أننا نقرر الواقع ولا نتعداه قيد شعرة حين نقول إن كثيرا من الأبناء لا يتمنون عند آبائهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد وعبيده. ومن من الآباء يحسن إلى أبنائه خيرا من إحسان محمد لزيد بن حارثة ولابنه أسامة؟
لقد أعتق زيدا ورآه أهلا للزواج بعقيلة من أقرب قريباته إليه وأولاهن بحدبه وتوقيره، وهي التي رآها بعد ذلك أهلا لزواجه بها وحظوتها لديه. فلم يعطه الحرية وكفى، ولم يعطه المساواة في العيش وكفى، بل رفعه إلى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع إليها السادة، ولا يثبتها شيء كما يثبتها شرف المصاهرة.
ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، وفي الجيش طائفة من أكابر الصحابة، فلو كان للنبي ولد في سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة، ولا ميزه أشرف من هذا التمييز.
نعم لم نعد الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا إن الابن لا يتمنى خيرا من معاملة محمد لعبده. فقد عرف زيد فعلا أن محمدا خير من أب وخير من أسرة كاملة يرجع إليها وترجع إليه ... فبقي معه ولم يذهب معه أبيه، ولم يبق معه إيثارا لبركة النبوة، فإن محمدا لم يكن قد أرسل بالدعوة يوم اختاره زيد وآثره على جميع آله. وإنما بقي معه لأنه الإنسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن آصرة الإنسانية عنده أوثق من آصرة الأبوة عند آخرين.
إن حب الوالد لوليده وراثة ألوف الألوف من الأجيال. بل وراثة الحياة في جميع الأحياء. فإذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة فقد بلغ الذروة العليا التي لا متسنم فوقها لراق.
لقد خيرت شريعة الإسلام المحسنين بين المن وإعتاق الأسرى، وبين الفداء بالمال أو المبادلة ... فأيهما اختار المالك فهو إحسان.
أما محمد فقد اختار المن، وزاد عليه فأعتق كل أسير صار إلى حوزته، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل منتم إليه، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالد من ضرب وتعزير ... وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب إلى الملاطفة منها إلى العقاب. ومن ذلك قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق، فما زاد على أن قال لها حين عادت: «لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك!»
ضرب سواك لابن عزيز ليس بالشيء الكثير.
ولكن محمدا يخشى القصاص إذا استباحه في معاملة وصيفة تهمل أمره، وهو الذي لا يهمل له أمر عند سادة الشرفاء.
وروى أنس أن النبي أرسله في حاجة فانحرف إلى صبيان يلعبون في السوق: «وإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه
صلى الله عليه وسلم
وهو يضحك، فقال: يا أنس! ... اذهب حيث أمرتك!»
كلمة أمر لا يقولها لخادمه إلا وقد ناداه مدللا، وقابله ضاحكا كأنه يعتب على قرين، وقد يلام القرين بأشد من هذا الملام.
وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده. فكان يجاملهم ويجبر كسرهم ويقبل منهم الهدية ويكافئ عليها، ويلبي دعوتهم إذا دعوه إلى طعام، ويوصي بهم قائلا: «هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» و«اتقوا الله في الضعيفين النساء والرقيق.»
البر بالخدمة
وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفى للهوان من البر بالخدم. فالبر بالخادم عطف عليه أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم إلى مقام السادة حيث لا يأنف السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم، وذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه، وذلك هو دأب النبي الذي جرى عليه في بيته وبين أهله وخدمه.
فقد كان يحلب شاته ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه، أي البعير التي يستقي عليه الماء. فإذا رأى الخدم لهم عملا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم، فتلك هي المساواة التي تمسح ضير الخدمة وتجبر كسرها، ولا تقتصر على العطف والرحمة.
ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكرين. فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر إلا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه وأتباعه، وهذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم ومقام المريد. فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبا لا خنوعا، وتوقيرا لا مذلة، وأدبا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب.
وعلى هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس فتحمل بينهم على محمل الذلة والخضوع. قال أبو هريرة - رضي الله عنه: «دخلت للسوق مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فاشترى سراويل، وقال للوزان: زن وأرجح. فوثب الوزان إلى يد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل فذهبت لأحملها فقال: صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله.»
ولقد يصح أن يقال إن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خدمه، وإن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم، وإنه جعل الخدمة على سنته ضربا من توزيع الأعمال، أو ضربا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئونه:
إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.
هذه كلمة السيد بإمامته، السيد بنسبه، السيد بسلطانه، السيد بالتفاف القلوب حوله، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه، ولو عمت هذه السيادة لبطل الاستعباد، وأصبح تفاوت الدرجات كتفاوت الأعمار شيئا لا غضاضة فيه على صغير ولا خنزوانة فيه لكبير، إنما هو تقسيم أعمال، وتعاون بين إخوان، وإن لم يكن تعاونا بين أمثال.
الفصل الثاني عشر
العابد
الطبائع الأربع
طبيعة العبادة، وطبيعة التفكير، وطبيعة التعبير الجميل، وطبيعة العمل والحركة ...
هذه طبائع أربع تتفرق في الناس، وقلما تجتمع في إنسان واحد على قوة واحدة. فإذا اجتمعت معا فواحدة منهن تغلب سائرهن لا محالة، وتلحق الأخريات بها في القوة والدرجة على شيء من التفاوت.
طبيعة العبادة تدعونا إلى الاتصال بأسرار الكون للمعاطفة والتآلف بيننا وبينها، تدعونا إلى الحلول من الكون في أسرة كبيرة.
وطبيعة التفكير تثير في نفوسنا ملكات الكشف والاستقصاء، تدعونا إلى الحلول من الكون في معمل كبير.
وطبيعة التعبير الجميل تشب النار المقدسة في سرائرنا، فتصهر معادن الجمال من هذه الدنيا وتفرغها في قوالب حسناء من صنع قرائحنا وألسنتنا، أو صنع قرائحنا وأيدينا، أو صنع قرائحنا وأوصالنا، تدعونا إلى الحلول من الكون في متحف كبير.
وطبيعة العمل والحركة تعلمنا كيف نتأثر بدوافع الكون وكيف نؤثر فيها، وتجذبنا إليها فنستمد منها القدرة التي تجذبها إلينا، تدعونا إلى الحلول من الكون في ميدان صراع ومضمار سباق.
وقلما تشعر بالكون بيتا لأسرة، ومعملا لباحث، ومتحف فن، ومضمار سباق في وقت واحد. إنما هي حالة من هذه الحالات تجب سائر الحالات، وقد تلحقها بها إلحاق التابع بالمتبوع والمساعد بالعامل الأصيل.
محمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعا على نحو ظاهر في كل طبيعة: كان عابدا ومفكرا، وقائلا بليغا، وعاملا يغير الدنيا بعمله ولكنه عليه السلام كان عابدا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة - قبل كل شيء - كان تفكيره وقوله وعمله، وكل سجية فيه.
تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه فولد في بيت السدانة والتقوى، وتقدمه آباء يؤمنون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه.
ونشأ يتيما من طفولته فانطوى على نفسه، وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار، والنظر إلى ما حوله بعين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح إلى الطهر واستقامة الضمير.
وتكون في بنيته عابدا من صباه ...
قيل إنه في الثانية أو الثالثة من عمره قد أدركته حالة يختلف شراح التاريخ في تفسيرها، ويرويها من سمعوا بها على روايات مختلفات لا ندري ما هو الواقع الصحيح منها، ويتعجل بعض المؤرخين الأوروبيين فيحسبها ضربا من الصرع على غير سند علمي أو تاريخي محقق يستند إليه.
كل ما يمكن أن نجزم به من هذه الحالة أو من غيرها أن محمدا قد تكون ليتلقى الوحي الإلهي، وأن لهذا التكوين استعدادا لا بد أن يلحظ من أوائل صباه، لأن البنية الحية لن تتهيأ له في أيام ولا في أشهر ولا في سنوات، ولن تستطيعه إلا إذا تمت أهبتها له والمولود في صلب أبيه، ولا نقول في المهد أو في الرضاع.
فمن الأقوال المتواترة أنه كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، وكرب لذلك وتربد وجهه، وأخذته البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي، وسمع عند وجهه كدوي النحل، وقد يصدع فيغلف رأسه بالحناء. وقد شاب فقال: «شيبتني هود وأخواتها.» وعدد حين سئل عن أخواتها سورا أخرى من القرآن الكريم، وليس هذا من خليقة كل بنية إنسانية: إنما هو خليقة البنية التي تتلقى وحيا وتستوعب سرا وتهتز لنبأ عظيم.
صفة العابد
وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسا كله وحياة كله. يراه من ينظر إليه فيرى فؤادا يقظا يتنبه لكل خالجة نفسية وكل نبأة خفية، يسرع في مشيته، ويلتفت فيلتفت بكل جسمه، ويشير فيشير بكل كفه، ويفكر فلا يزال يطرق إلى الأرض أو يرفع بصره إلى السماء، ويدعو فيرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، ويغضب فتحمر عيناه ووجنتاه، ويمتلئ عرق جبينه، وينام وقلبه يقظ لا ينام؛ حس مرهف يدني إليه ما وراء الحجاب، ويوقظ سريرته لأخفى البواطن، ويجعله أبدا في حالة قريبة من حالة الوحي حيثما هبط الوحي عليه.
هذه صفة عابد يفكر ويعبر ويعمل، وليست بصفة عابد ينقطع للعبادة أو ينقطع للتفكير، أو يعمل كما يعمل بعض النساك الذين هزلت بنيتهم الجسدية فلم يبق لهم إلا عكوف الصومعة أو رحلة الزهادة.
كانت عبادة محمد خلوا بالنفس إلى حين، أو عجبا من بدائع الكون التي ألفها الناس لأنهم لم يوهب لهم في أبصارهم وبصائرهم تلك النظرة الجديدة التي ترى كل شيء كأنه في خلق جديد.
ما أعظم دهشة الناظر أن يرى الشمس قد خلقت اليوم أمام عينيه.
دهشة لا تعدلها دهشة ...
وهي هي دهشة العين التي أبت أن تكل من الألفة لأنها أبدا في نظر جديد، أو في نظر إلى كل منظور كأنه مخلوق جديد .
وهكذا كانت عبادة محمد عليه السلام؛ عجب من بدائع الكون في كل نظرة يراها لأول مرة، وتفكير في الخلق ينتهي إلى الإيمان لأنه يبدأ بالعجب، ولا يزال أبدا بين العجب والإيمان.
وإن محمدا باعث الإيمان إلى القلوب، لقد كان يجدد إيمانه كما يجدد عجبه كل يوم، وكان يدعو الله فيقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ... وقيل له في ذلك فقال: «إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله. فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ.»
حركة متجددة في الحس وفي الفكر وفي الضمير.
فلا انقطاع عن الحس للعبادة كل الانقطاع.
ولا انقطاع عن الحس للتفكير كل الانقطاع.
وإنما هو تفكير من ينتظره العمل، وليس بتفكير من ترك العمل ليوغل في الفروض ومذاهب الاحتمال والتشكيك؛ ثلث أيامه لربه وثلثها لأهله، وثلثها لنفسه، وما كان في فراغه لنفسه ولا لأهله شيء يخرجه عن معنى عبادة الله والاتصال بالله، على نحو من التعميم.
بهره الجمال من صباه؛ جمال الشمس والقمر والنهار والليل والروض والصحراء، وجمال الوجوه التي يلمح عليها الحسن فيطلب عندها الخير. إنما هو الخير على كل حال ما قد طلب من الجمال، وإنما جمال الله هو الذي قد كان يدعوه إليه، كلما نظر إلى خلق جميل.
فكر في الخلق فآمن بالخالق، واستقر هنالك لا يتقدم ولا يتأخر. فقال: «إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله.»
تلك هي نهاية التفكير التي ينتهي إليها عقل مستقيم خلق لعبادة عامل، وتعليم الناس عبادة وعملا، ولم يخلق ليوغل في الفروض ويتقلب بين الشكوك.
وإنا لنسأل مع هذا: إلى أين انتهى المفكرون الذين أوغلوا في شكوكهم وتطوحوا بها إلى قصوى ما تفرضه الفروض؟
إلى أين انتهى «كانت»
Kant
إمام المفكرين في هذا الباب بين فلاسفة العصر الحديث، إن لم نقل الحديث والقديم؟
انتهى إلى أن النفس نفسان والوجود وجودان: نفس حسية ونفس حقيقية ... ووجود محسوس ووجود حق هو ذات الوجود.
النفس الحقيقية تدرك الوجود الحقيقي عندما ترجع إلى قرارها، ثم لا تتخطى بإدراكها عالم الباطن إلى عالم المحسوسات التي يتناولها التعبير وتصوير الكلام ...
أليس معنى هذا أن إيمان النفس الباطنة أمر لا يتعلق بالبرهان؟ وأن المرجع غاية المرجع إنما هو الإيمان ولا شيء غير الإيمان؟
بل حتى البرهان الأكبر على وجود الله نعود إليه لنسأله ونسمع منه فماذا يقول؟
يقول لنا إن العدم معدوم فالوجود إذن موجود، وإنك إذا آمنت بالوجود فلا مناص لك من الإيمان به في صفته المثلى، لأنك تحتاج إلى مقتض لفرض النقص ولا تحتاج إلى مقتض لفرض الكمال في وجود لا يتطرق إليه العدم.
وما الفارق بين الإيمان بالله والإيمان بالوجود في صفته المثلى؟
هنا ينتهي الإيغال في الفروض والشكوك.
وهناك انتهى الإيمان، بغير إيغال في فروض ولا شكوك.
ألا تتلاقى النهايتان؟ ... أولا تضل الفروض والشكوك حيث تضل ثم لا يخطو لها قدمان وراء خطو الإيمان؟
لهذه السنة التي استنها النبي عليه السلام في عبادته الروحية كثرت وصاياه بإدمان التفكير في خلق الله واجتناب التفكير في ذات الله فقال في حديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله.» وقال في هذا المعنى: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا.» وقال في حديث قدسي: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لأعرف.» أو كما جاء في رواية: «فخلقت الخلق فبي عرفوني.»
طريق الوصول
وخلاصة هذه الأحاديث وما في معناها أن التفكير في حقائق الوجود هو طريق الوصول إلى الله ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة: إيمان بالوجود الأبدي في صفته المثلى، وتفكير في حقائق الوجود كما نراه ونحسها ونعقلها، وذلك قصارى ما عند العقيدة، وقصارى ما عند الفلسفة، وقصارى ما عند العلم إذ يقف العلم عند حده، وهذا هو العلم الذي فرضه الإسلام على كل مسلم ومسلمة، وقال النبي في رواية ابن عباس: «أنه أفضل من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله» لأنه سبيل الوصول إلى الله.
ومن الواجب أن نذكر بعد هذا جميعه أن محمدا نبي، وأن النبي يعلم جميع الناس الإيمان، وتلك سبيل جميع الناس فيما يفتح لهم من أبواب التفكير وأبواب الاعتقاد. فهم يضلون في تيه الشكوك والمناقضات التي يتعمق فيها الفلاسفة والمنطقيون، ولا يبلغون إلى هداية أقوم وأسلم من هداية الإيمان بالخالق والتفكير في الخليقة، فإما هذه الهداية وإما الضلال الذي لا هداية وراءه، وليس لنبي أن يحجب طريق الهداية ويفتح طريق الضلال. •••
وقد تكلمنا في هذا الفصل عن روح العبادة أو عن فطرة العابد التي توحي إليه «عبادته الروحية» ...
أما عبادة الشعائر الظاهرة فهي عبادة الإسلام كما فرضت على جميع المسلمين؛ يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة على الشريعة التي يتبعها كل مسلم، وقد يطلب إلى نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلى غيره، على سنة السماحة والتيسير التي أثرت عنه في كل عمل من أعماله وكل سجية من سجاياه ... «فكان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه»، وربما قام الليل أكثره أو أقله ولا يدين أحدا بالتهجد كما كان يتهجد أو بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم، بل قد نهى الناس أن يشتدوا في العبادة؛ فيصبحوا كالمنبت «لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى»؛ لأن الناس جميعا يتلقون الأمر بالعبادة كما يتلقون الأمر بفريضة واجبة، فهم في حاجة إلى الرفق والتيسير.
أما النفس المفطورة على العبادة فالصلاة عندها مناجاة حب وفرحة لقاء، ومطاوعة لميل الضمير وميل الجوارح على السواء. •••
وكان محمد «إذا حزبه أمر صلى.»
كذلك إذا حزب الأمر نفسا رجعت إلى من تحب فخف وقرها، وانفرج كربها، وأنست بعد وحشة، واهتدت بعد حيرة.
ومتى وجدت النفس «فرحة اللقاء» في الصلاة فلا إجهاد فيها لجسد ولا تضييق فيها لوقت، بل فيها الترويح عن الجهد والتنفيس عن الضيق، ولا سيما إذا كانت النفس من سعة الأفق بحيث تحيي ما تحيي من ليلها ونهارها في الصلاة والعبادة، ثم تؤدي عملها وتفكر تفكيرها. ولا يحسب أحد يعرفها أنها تنقطع بالصلاة والعبادة عن حق من حقوق حياتها، أو عن حق من حقوق بني الإنسان.
الفصل الثالث عشر
الرجل
المختار
عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت الأنباء بأوصافهم السماعية وأوصافهم المرسومة في الصور والتماثيل. غير أننا لا نعرف أحدا من هؤلاء العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصريه، فنحن نعرفه بالوصف خيرا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية والمطابقة، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة، وقد تحكي للمتفرسين شيئا من طبائعهم التي تنم عليها سيماهم، إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته وكل لمحة من لمحاته؛ في سيماه وفي هندامه، وفي شرابه وطعامه، وصلاته وصيامه، وحله ومقامه، وسكوته وكلامه، لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجا من العطف والتدين، وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض، لم يختلف الوصف مرة إلا كما تختلف نظرة الناظر إلى وجه واحد بين ساعة وأخرى، فيقول غير ما قال آنفا ثم لا يبدو التناقض ولا قصد التحريف بين القولين.
وخلاصة المحفوظ من الروايات المتواترة أن النبي عليه السلام كان مثلا نادرا لجمال الرجولة العربية، كان كشأنه في جميع شمائله مستوفيا للصفة من جميع نواحيها، فرب رجل وسيم غير محبوب، ورب رجل وسيم محبوب غير مهيب، ورب رجل وسيم يحبه الناس ويهابونه، وهو لا يحب الناس ولا يعطف عليهم ولا يبادلهم الولاء والوفاء. أما محمد عليه السلام فقد استوفى شمائل الوسامة والمحبة والعطف على الناس، فكان على ما يختاره واصفوه ومحبوه، وكان نعم المسمى بالمختار.
إذا نظر إليه الناظر رأى رجلا أزهر اللون، عظيم الهامة، مفاض الجبين، سبط الشعر، أزج الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب، أدعج العينين في كحل، أقنى الأنف يحسبه من لم يتأمله أشم العرنين، أسيل الخد، ضليع الفم غزير اللحية، جميل الجيد، عريض الصدر، واسع ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، لا بالمشذب ولا بالقصير، مربوعا أو أطول من المربوع، معتدل الخلق متماسكا، لا بالبدين ولا بالنحيل ...
وإذا أقبل يتحرك نظر إليه الناظر فرأى رجلا يصفه الأقدمون بأنه «حي القلب» ويصفه المحدثون «بالحركة والحيوية» ...
يمشي فكأنما يتحدر من جبل وينحط من صبب، ويرفع قدمه فيرفعها تقلعا كأنما ينشط بجملة جسمه، ويلتفت فيلتفت كله، ويشير فيشير بكفه كلها، ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى ويضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، ويفتح الكلام بأشداقه ويختمه بأشداقه، وربما حرك رأسه وعض شفته في أثناء كلامه، وهو على هذه الحركة الحية جم الحياء؛ أشد حياء من العذراء، نضاح المحيا إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه، وإذا رضي تطلقت أساريره وتبين رضاه.
واقترن النشاط والحياء بالقوة والمضاء في هذه البنية الجميلة ... فكان عليه السلام يصرع الرجل القوي، ويركب الفرس عاريا فيروضه على السير، ويداعب من يحب بالمسابقة في العدو، قالت عائشة رضي الله عنها: «خرجت مع النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال
صلى الله عليه وسلم : تقدموا ... فتقدموا ... ثم قال: تعالي حتى أسابقك. فسابقته فسبقته، فسكت.
حتى إذا حملت اللحم وكنا في سفرة أخرى قال
صلى الله عليه وسلم
للناس: تقدموا ... فتقدموا ... ثم قال: تعالي أسابقك. فسابقته فسبقني، فجعل
صلى الله عليه وسلم
يضحك ويقول: هذه بتلك!»
وهذا بعد أن قارب الستين، إنها لمسابقة تنم على فتوة الروح فوق ما نمت عليه من فتوة الأوصال.
وتجلت هذه الأريحية في علاقته بكل إنسان من خاصة أهله أو من عامة صحبه. فرقت حاشية جده حتى عطفت على كل أسى، ورحمت كل ضعف، وامتزجت بكل شعور.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «دخل النبي
صلى الله عليه وسلم
على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا. فقال: يا أم سليم ... ما بال أبي عمير حزينا؟
فقالت: يا رسول الله مات نغيره. تعني طيرا كان يلعب به.
فقال
صلى الله عليه وسلم : أبا عمير! ما فعل النغير؟ ... وكان كلما رآه قال له ذلك.»
وهذه قصة صغيرة تفيض بالعطف والمروءة من حيثما نظرت إليها، فالسيد يزور خادمه في بيته، ويسأل أمه عن حزن أخيه، ويواسيه في موت طائر، ولا يزال يرحم ذكراه كلما رآه.
ومثل هذا عطفه على الضعف البشري في رجل مثل عبد الله الخمار الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحده من الخمر، ولا يتمالك أن يضحك منه.
قبوله للدعابة
وكان نعيمان بن عمرو أشهر الأنصار بالدعابة، لا يقيل منها أحدا، ولا يراه النبي فيتمالك أن يبتسم ... وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه وعلمه بموقع الفكاهة من نفسه: جاء أعرابي إلى الرسول فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه، فقال بعض الصحابة لنعيمان: «لو نحرتها فأكلناها؟ ... فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم النبي
صلى الله عليه وسلم
حقها.» فنحرها نعيمان. وخرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: «واعقراه يا محمد!» فخرج النبي يسأل: «من فعل هذا؟»
قالوا: «نعيمان» ... فاتبعه النبي حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد فأشار إليه رجل ورفع صوته: «ما رأيته يا رسول الله.» وهو يشير بأصبعه إلى حيث هو، فأخرجه رسول الله وقد تعفر وجهه بالتراب فقال: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: «الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني!» فجعل رسول الله يمسح عن وجهه التراب ويضحك ... ثم غرم ثمن الراحلة.
ونعيمان هذا هو الذي باع عاملا لأبي بكر الصديق، وهو يعلم أن النبأ واصل إلى النبي لا محالة.
سافر أبو بكر إلى بصرى تاجرا ومعه نعيمان وسويط بن حرملة عامله على زاده. فجاءه نعيمان وطلب إليه طعاما فأباه عليه حتى يأتي أبو بكر، فأقسم نعيمان ليغيظنه. وذهب إلى قوم فقال لهم: «تشترون مني عبدا لي؟» قالوا: «نعم!» قال: «إنه عبد له كلام ، وهو قائل لكم: لست بعبده أنا رجل حر ... إلى أشباه ذلك. فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا على عبدي ...» قالوا: «لا ... بل نشتريه ولا ننظر إلى قوله.» فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم أداهم إياه فوضعوا عمامته في عنقه ولم يحفلوا بقوله، وجعلوا كلما قال لهم: «أنا حر! ... إنه يتهزأ ولست أنا بعبده.» سخروا منه وقالوا: بل عرفنا خبرك فدع عنك اللجاجة ... فلما جاء أبو بكر سأل عنه فقص عليه نعيمان قصته، وذهبوا جميعا ليلحقوا بالقوم فيفتدوه ويعيدوه.
ثم قدموا على رسول الله فضحك من فعلة نعيمان، وجعل يذكرها حولا كاملا كلما رآه.
من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل بأعظمها جدا ووقارا وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم وتحويل مجرى التاريخ ثم يطيب نفسا للفكاهة ويطيب عطفا على المتفكهين ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ، فللجد صرامة تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الحياة ... ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق إلا دلت على شيء من ضيق الحظيرة ونقص المزايا وإن نهضت بالعظيم من الأعمال.
فاستراحة محمد إلى الفكاهة هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كل ناحية من نواحي العاطفة الإنسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال.
وكان محمد يتفكه ويمزح كما كان يستريح إلى الفكاهة والمزاح، وكان دأبه في ذلك كدأبه في جميع مزاياه: يعطي كل مزية حقها ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمروءة. فعبد الله الخمار كان يجد من قلب النبي عطف القلب الكبير على نقيصة الضعف في الرجل السكير، ولكنه كان يجد من تأديب النبي جزاء الشارب الذي يخالف الدين ويخل تماديه بالشريعة، عطف يجمل بالنبي على أحسن ما يكون، لأنه يجمل بالإنسان على أفضل ما يكون.
وإذا مزح محمد فإنما كان يعطي الرضا والبشاشة حقهما، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروءة. فكان مزاحه آية من آيات النبوة لأنه كان كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي كريم.
قال لعمته صفية: لا تدخل الجنة عجوز! ... فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول:
إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا (الواقعة: 35-37).
ففهمت ما أراد وثابت إلى الرضاء والرجاء.
وطلب إليه بعضهم أن يحمله على بعير فوعده أن يحمله على ولد الناقة فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟
وكان عليه السلام يقول لحاضنته السوداء أم أيمن وهي عجوز: «غطي قناعك يا أم أيمن!»
وسمعها في يوم حنين تنادي بلكنتها الأعجمية: «سبت الله أقدامكم!» فلم تنسه الغزوة القائمة أن يصغي إليها ويداعبها بين نذر الحرب وصليل السيوف. وأقبل عليها يقول: «اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان!»، فكانت هذه الدعابة في ذلك الموقف المرهوب كأنها تربيت سيد الفصحاء على تلك اللكنة البريئة.
أريحية محمد
هذه الأريحية الفياضة هي الحلية الباطنة التي تمت بها حلية محمد في عيون الناس، وهي جواب محمد لما كان له في قلوبهم من حب وإعظام، أو هي الآصرة التي تجمع بين قلبه وتلك القلوب في نطاق الأسرة الإنسانية؛ يحبونه ويحبهم ويشعرون به ويشعر بهم، وليس قصارى الأمر أنه وسيم وأنه محبوب وأنه مهيب.
سمت يقابل العيون بجمال.
وأريحية تقابل النفوس بجمال.
وقد سرت هذه الأريحية في صميم طويته فامتزجت طواعية وارتجالا بجميع خصاله وجميع علاقاته بالناس ولا سيما الضعفاء والمكسورين. فكان أحرص إنسان على جبر القلوب وتطييب الخواطر وتوخي المؤاساة واجتناب الإساءة، يتفقد أصحابه كبارا وصغارا ويسأل عنهم، ويتحدث إلى ذوي الأقدار وعامة الناس فلا يحسب صغيرهم أن أحدا أكرم عليه منه، ويتحدث إليه من شاء فلا يقطع عليه حديثه وإن طال. وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ومن جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، وما أخذ أحد بيده فأرسلها حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها ...
ومن سننه التي اتبعها وأوصى باتباعها أن يجيب دعوة من دعاه ولا يرد دعوة عبد ولا خادم ولا أمة ولا فقير، وفي ذلك يقول من وصاياه في آداب الولائم والمحافل: «إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق.»
يبدأ من لقيه بالسلام ويمر بالصبيان فيقرئهم سلامه. وربما خفف صلاته إذا جاءه أحد وهو يصلي ليسأله عن حاجته ويلقاه بالتحية.
يتقي الغضب جهده ويعالجه إذا أحسه بعلاج من الروح، فيقبل على الصلاة والتسبيح، أو بعلاج من الجسد، فيجلس إذا كان قائما ويضطجع إذا كان جالسا، ويأبى الحركة التي ينزع إليها وهو غضبان.
آدابه الاجتماعية
وكان في آدابه الاجتماعية قدوة الرجل المهذب في كل زمان. فلم ير قط مادا رجليه بين أصحابه، وتعود كلما زار أحدا ألا يقوم حتى يستأذنه، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في إناء، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، وربما نهض بالليل فيشوص فاه بالسواك، ولا يزال يستاك ويوصي بالاستياك بعد الطعام والتيقظ من النوم، وكان يتطيب ويتحرى النظافة ويقول لصحبه: «اغتسلوا يوم الجمعة ولو كأسا بدينار.»
وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور، فيأكلون في جيل بأصابع اليد ويأكلون في الجيل الآخر بالشوكة والسكين، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض وهي عرضيات يقاس بها عرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع، فلا ضير على الناس أن تختلف عاداتهم باختلاف بيئاتهم من أمة لأمة ومن جيل لجيل. وإنما الضير فيما يتناول الطبع السليم والذوق الحسن وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان ... فلم يكن أحد يشكو من محضره بإنصاف، وذلك هو ملاك التهذيب الكامل في أصدق معانيه ...
صاحب هذا السمت رسول ...
وصاحب هذه الآداب رسول ...
وخلاصة سمته وآدابه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب ... فالسماحة هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها، والسماحة هي الصفة التي ترقت في محمد إلى ذروة الكمال.
ومن يكون الرسول إن كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة؟ الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعا يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى - بل صفته الكبرى - أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه. وهذه هي السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير، وصيانة الحرمات للعاجز والقدير.
هذه علامة رسالة لا علامة أصدق منها ولا أجدر منها بالقبول، لأنها علامة من داخل السريرة ... وليست علامة من خارجها قد تلازم أو تفارق من تعروه ... وليس للنوع البشري مقياس صحيح يقاس به محمد فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل ... يعطيه هذه المرتبة من يدين بالإسلام ومن يدين بغير الإسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل.
فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين.
عزيمة الزهد والإيمان
وليس أولى بالحب والتبجيل ممن يطلب خير الناس ويزهد في نعمة العيش وهي بين يديه.
فقد ثبت أن محمدا لم يستمتع بدنياه ولم يشبع ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله، وقالت عائشة - رضي الله عنها: «لقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به وأمسك بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع ... وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقوتك.» فيقول: «يا عائشة! ما لي وللدنيا ... إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا.»
وقالت زوجه أم سلمة تصف ما وجدته في بيته ليلة عرسها: «... فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وقعب فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت القعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وطعام أهله ليلة عرسه.»
رآه عمر وقد أثر في جنبه حصير فقال له: «يا رسول الله! قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير، وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله» فاستوى جالسا، وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ... أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا!»
وقد مات ودرعه مرهونة، ولا ميراث لأهله مما ترك من عقار وهو قليل.
فما عسى أن يقول قائل في قدر هذا الرجل ... آمن به أو لم يؤمن؟
أيقول إنه رسول وإنه كان يعلم أنه رسول فصدع بأمر ربه واحتمل ما احتمل في سبيل طاعته وفي سبيل إصلاح خلقه؟
تلك إذن منزلة الأنبياء التي تستوجب له مقام أصفياء الله عند من يؤمن بالله.
أم ينكر النبوات ويقول إنه رجل أراد الخير، وهو لا يعلم أنه رسول ولا أن الله مطالبه برسالته إلى خلقه، ولكنه تجرد لهدايتهم في غير مأرب يناله ولا نعمة ينعم بها لأنه لا يطيق لهم شرا، ولا ينتظر في الدنيا ولا الآخرة جزاء؟
من قال هذا وغض من قدر رجل يحب الناس ذلك الحب، ويغار على هدايتهم تلك الغيرة فهو إنسان ممسوخ الضمير. •••
فمحمد الرجل في المقام الأول بين الرجال؛ في المقام الأول بخلقته، وفي المقام الأول بنيته، وفي المقام الأول بعمله، وفي المقام الأول بالقياس إلى المشبهين له في دعوته.
ونرى عن يقين أنه لم يحرم نفسه ذلك الحرمان إلا استزادة لأسباب الإيمان وشحذا للعزيمة في سبيل ذلك الإيمان، وإعذارا إلى الله وإلى الناس فيما تجرد له من إصلاح.
لأن محمدا لم يكن كارها لطيبات الدنيا، ولا حاضا لأحد على كراهتها والإعراض عنها. فإذا قنع بما قنع فإنما فعل ذلك ليرتفع بإيمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره ...
كأنه يخشى إذا استوفى حظوظ النعيم الميسرة له أن يحسب تلك الحظوظ غرضا من الأغراض التي نظر إليها حين نظر إلى هداية الناس.
فليكن الإيمان إذن هو كل غرض وكل عمل وكل جزاء ... وتلك راحة ضميره ومن وراء راحة ضميره أن يظفر الناس بجهده كله في هدايتهم غير منقوص ولا مظنون.
إذا هدى الناس واستمتع بالعيش خشي أن يحسب المتعة من آماله.
وإذا هدى الناس وكفى كانت الهداية هي جملة الآمال وغاية الآمال. فلينقص حظه من العيش ليكمل حظه وحظ أمته من إيمانه، وليتم بذلك حسابه لنفسه وحسابه عند الله وحسابه بين الناس ...
وما حساب أولئك جميعا؟
حساب رجل هو وازع نفسه في السر والعلانية، وهو أحق الناس أن يقيم وازعا للناس.
رجل ولا كمثله الرجال.
الفصل الرابع عشر
محمد في التاريخ
اتصال التاريخ بمحمد
أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدا في عبقريته، أو محمدا في نفسه، أو محمدا في مناقبه التي يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية، ومن لا يدين له برسالة.
ونريد بهذا الفصل - وهو خاتمة الكتاب - أن نذكر كلمة موجزة عن محمد في التاريخ، أو محمد في العالم وأحداثه الخالدة. وهو بحث يغنينا فيه الإيجار، لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان محمد فيه.
محمد في نفسه عظيم بالغ في العظمة، وفاقا لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة.
فما مكان هذه العظمة في التاريخ؟ ... وما مكانها في العالم وأحداثه الباقية على تعاقب العصور؟
مكانها في التاريخ أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله، وأن حادثا واحدا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله.
فلا فتوح الشرق والغرب، ولا حركات أوروبا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشف القارة الأمريكية، ولا مساجلة الصراع بين الأوروبيين والآسيويين والأفريقيين، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح.
كان التاريخ شيئا فأصبح شيئا آخر، توسط بينهما وليد مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام إلى هذه الغبراء ... ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء! ما أقواها بعد ذلك أثرا في دوافع التاريخ! ما أضخم المعجزة! وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك بسنين حيثما بحث عنها المنجمون والعرافون!
على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان.
وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال، فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ، ويبتعث دوافع الشعوب.
أما غير الجائز فهو أن تنفتح للإنسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان، وبغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار.
ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالما مغلقا تحيط به الظلمات، فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم وراء التخوم، ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم، ودنا به مرتبة إلى الله.
يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير. فمن أنكرها فإنما ينكر تقدم الإنسان كثيرا أو قليلا في هذه الطريق.
عقد عالم أوروبي
1
مقارنة بين محمد وبوذا والمسيح فسأل: «أليس محمد نبيا على وجه من الوجوه؟» ثم أجاب قائلا: «إنه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء؛ فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة، وإنه لخليق في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بني إسرائيل، لأنه جازف بحياته في سبيل الحق، وصبر على الإيذاء يوما بعد يوم عدة سنين، وقابل النفي والحرمان والضغينة، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة، فصابر على الجملة قصارى ما يصبر عليه إنسان دون الموت الذي نجا منه بالهجرة، ودأب مع هذا جميعه على بث رسالته غير قادر على إسكاته وعد ولا وعيد ولا إغراء ... وربما اهتدى إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان، إلا أن أحدا آخر غير محمد لم يقم في العالم مثلما أقام من إيمان بالوحدانية دائم مكين، وما أتيح له ذلك إلا لمضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الإيمان، فإذا سأل سائل: ما الذي دفع بمحمد إلى إقناع غيره حيث رضي الموحدون بعبادة العزلة؟ ... فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في إيمانه بصدق ما دعا إليه.»
والحقيقة التي يراها المنصف - مسلما كان أو غير مسلم - هي هذه: هي أن فتوح محمد فتوح إيمان، وأن قوة محمد قوة إيمان، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل. لقد جاء الإغراء الذي أشار إليه العالم الأوروبي وهو داع مهدد في سربه، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته، فما حفل بالإغراء وهو بعيد من مقصده ولا حفل به وهو واصل إليه.
جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة - وهو في مبدأ أمره - فقال له واعدا ملاطفا، بعد أن أعياهم تخويفه متوعدين: «يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسبا، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.» فقال عليه السلام: قل يا أبا الوليد.
فقال: «يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.» فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم، ثم تركه يعود كما أتى ...
ثم أدرك النبي غاية ما سعى إليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب، ولم يكن النعيم المستطاع أفعل في إغرائه من النعيم الموعود، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم به عتبة بن ربيعة، وكان النبي أزهد فيه من زهده في النعيم الموعود ... فلم كل هذا؟ لم هذا الجهاد؟ ولم هذا العناء؟ ولم هذا الصبر إن لم يكن في سبيل الإيمان؟ وأي نبي له من الإيمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ورسالة أكبر من هذه الرسالة؟ ... وأي إنسان يعرف تعظيم الأنبياء إن لم تظفر نبوة محمد عنده بالتعظيم؟
التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه؛ حكمه أنفذ من حكم الشانئين والأصدقاء، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين ... لأنه حكم الله.
وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذبين، وكان في عمله أعظم الرجال أثرا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنا يبعث الإيمان، وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان.
وسيطلع في الأفق هلال ويغيب هلال، وسيذهب في الليل قمر ويعود قمر، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت لتأريخ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ولا مواعد الأشغال ولا أدوار الدواوين والحكومات ولا ينتظرونها إلا هداية مع الظلام وسكينة مع الليل؛ أشبه بهداية العقيدة في غياهب الضمير.
يوم الغار
ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يومئ إلى بقعة من الأرض هي غار الهجرة، أو يومئ إلى يوم لمحمد هو أجمل أيام محمد، لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهام لا يعلوه تفكير ولا تعليم.
لم كان يوم الهجرة ابتداء التاريخ في الإسلام، ولم يكن يوم الدعوة؟ ولم لم يكن يوم بدر أو يوم ولادة النبي أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ؟ ... كل يوم من هذه الأيام كان في ظاهر الرأي وعاجل النظر أولى بالتأريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام.
فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءا لتاريخ الإسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والإيمان ومواقف الخلود من كل مؤرخ وكل مفكر يرى غير ما رآه.
لأن العقائد إنما تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب: كل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة، أما النفس التي تعتقد حقا ويتجلى فيها انتصار العقيدة حقا فهي النفس التي تؤمن في الشدة وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء.
وليس يوم أحق بالتأريخ إذن من اليوم الذي هجر فيه النبي بلده؛
إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (التوبة: 40).
ليقل من قال إن التوقيت بما قبل الهجرة وما بعدها كان توقيتا معروفا على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ... وليقل من قال إن دخول المدينة هو المقصود بالتأريخ من الهجرة، وهو يوم عظيم ... ليقل من قال هذا أو ذاك، فإن تاريخ النصر في القرآن إذ هو «ثاني اثنين» في الغار.
وإن ابن الخطاب لنبيل ملهم الفؤاد - سواء كان هو المقترح أو مجيب الاقتراح - حين نظر إلى غار «ثور» ولم ينظر في التأريخ إلى نصر المدينة ولا إلى نصر بدر ولا إلى نصر أحد ولا إلى نصر فارس، ونظر إلى تلك «الجنود التي لم تروها» وقد نراها نحن الآن.
يوم الدعوة لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن الدعوة كلمة يستطيعها كل إنسان ويستطيع النكول عنها بعد قليل أو كثير.
ويوم ميلاد النبي لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن ميلاد محمد لم يكن معجزة الإسلام كما كان ميلاد عيسى معجزة المسيحية، ولأن محمدا بشر مثلنا في مولده. ولكنه سيد الرسل يوم دعا ويوم نجا بالدعوة إلى حيث تنجو وحيث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصديق، وهما اثنان في غار.
كذلك تؤرخ العقائد والأديان؛ بالشدة تأريخها وليس بالغنائم والفتوح، وإنها لشيء في القلوب فلنعرفها إذن حين لا تكون إلا في القلوب، وحين يكون كل شيء ظاهر كأنه ينكرها وينفي وجودها، وهي يومئذ من الوجود في الصميم.
يوم عقيدة ورجاء
إن يوم الغار ليوم له عبرته وعزاؤه في كل يوم ولا سيما أيام القلق والحيرة والانتظار ...
إنه يوم عقيدة فهو يوم رجاء، ويوم نظر إلى المستقبل الذي ينظر إليه من ليس له رضا في حاضر عهده، وحاضر العالم في عهده هذا لا يرضي أحدا من محبيه ... حيثما غلبت الحيرة والقلق في العالم فهنالك أمر واحد كن منه على أتم اليقين؛ كن على يقين أن العالم يبحث عن عقيدة روحية! لأنه يضيق بالحاضر وينظر إلى المستقبل، وكل مستقبل فلا محل له من جوانح الصدور إن لم يكن موضع رجاء ومرجع إيمان، وغاية سعي يستحق الكفاح ...
وفي التاريخ الإنساني كله لم تقم قط حركة عظيمة على الماضي الذي لا مستقبل بعده، إنما تقوم الحركات العظمى جميعا على الرجاء في غد محجوب، أو على شيء يمكن أن يتحقق في حياة الإنسان، وشيء يبقى أبدا موضع الرجاء البعيد ...
لقد كان علي فتى يستقبل الدنيا، وكان أبو بكر كهلا يدبر عنها، يوم أعانا محمدا في يوم ثور ... ولكنهما كانا معا على أبواب غد واحد ورجاء واحد، يستوي فيه الفتى والكهل والشيخ الدالف إلى قبره، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء العيان.
المستقبل للإيمان
ماذا فتح الإسلام لأبي بكر من عوالم الحياة؟ ... هل رجع به إلى الماضي أو أقبل به على المستقبل؟ هل مشى به في حركة إلى أمام أو قفل به في رجعة إلى وراء؟ ... الحق أن الإسلام مثل المستقبل للشيخوخة كما مثل المستقبل للشباب، وانفصل من حالة لا تبقى ليتصل بحالة يرجى لها البقاء، وكان يفتح أمام أبي بكر - وليس أمام علي وحده - باب الحياة الصالحة في الدنيا وباب الحياة الخالدة في الآخرة ... وهكذا كل عقيدة فما هي بعقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد إن كان خيرها كله شيئا يناله الإنسان في أيامه ... فلا مناص في العقيدة من خير وراء أيام الفناء.
ليذكر هذا جميعه من يتحفزون للنهوض، ومن يبتغون الحركة ويقودون الخطوات المقبلة في عجلة أو أناة.
لن تتحرك أمة إلا إذا فتحت أمامها باب المستقبل، ولن تلتفت إلى الماضي إلا إذا كان فيه التقاء بالمستقبل، ولن تعيره الحياة إلا وهو مبعوث من جديد في صورة الخلق الجديد.
ليذكر هذا من يحارون في أمر العالم اليوم وهو غارق في دمائه، ضائق بحاضره، معرض عن ماضيه ...
فيم يحار؟
في طلب المستقبل، في طلب العقيدة، في طلب المسوغ للوجود، لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقة مع الحيوان.
فالإيمان للمستقبل ...
وعسى أن يكون المستقبل للإيمان.
وعسى أن يستجد العالم عزاء باقيا من يوم الغار ومن صاحب يوم الغار.
अज्ञात पृष्ठ