बिला क़्यूद
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
शैलियों
لكن مع حلول آخر ذروة جليدية، كانت ثقافات العصر الحجري القديم العلوي قد صارت ثرية باللغة واستخدام الرموز، وهو التطور الذي يمكن رؤيته بوضوح في البقايا الوفيرة من الرسومات والمنحوتات والنقوش الحجرية التي تركتها شعوب العصر الحجري القديم العلوي. فلا يدل التعقيد والتفصيل المتزايدان في اللغة المنطوقة على أن هؤلاء الناس قد تطورت لديهم القدرة على تقاسم كمية هائلة من المعلومات المعقدة وتناقلها فحسب - مع تطور الحكي الذي يصف الأحداث التي كانت تقع بمرور الزمن - ولكن أيضا على أنهم كانوا قادرين على التعبير عن كيفية توالي الأحداث في تسلسلات متوقعة.
كل المعلومات المفصلة حول دورات حياة النباتات والحيوانات وسلوكها في بيئة المجتمع - التي كانت من قبل مقتصرة على المعلومات التي يستطيع فرد واحد تحصيلها في عمر واحد - صارت هي الحكمة المتراكمة لثقافات بأسرها، حين ابتكر البشر لغات وافية التفاصيل. وعندما أدمجت هذه المعلومات المعقدة في التراث الشفهي لمجتمعات العصر الحجري القديم، صارت تشكل الحكمة الجماعية لآلاف الأشخاص، التي تراكمت على مر أجيال عدة.
ببساطة ربما كان المقدار الضخم للمعلومات الضرورية من أجل النجاح في زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات المستأنسة يفوق مقدرة أي فرد على الاكتساب والتذكر؛ لذلك فمن المحتمل أن جمع معرفة آلاف الأفراد وخبراتهم كلها في شكل تراث شفهي، بالإضافة إلى المناخات الأكثر دفئا ورطوبة التي ظهرت منذ أحد عشر ألف عام، كان هو مزيج العوامل المصيري الذي جعل الانتقال من البحث عن الطعام إلى فلاحة الأرض أمرا ممكنا.
إلا أنه ثمة عنصر أساسي آخر كان يجب إضافته إلى هذا المزيج قبل إمكان التحول التام إلى نمط الحياة الزراعي: كان يجب على الناس في هذه العصور التوقف عن حياة التجوال وبدء العيش بشكل دائم في موقع واحد. رغم أنه من المنطقي افتراض أن الناس لم تبدأ العيش في مكان واحد إلا حين بدءوا زراعة غذائهم، فإن الدليل الأثري في منطقة الهلال الخصيب يدل على العكس تماما: جاء العيش في مكان واحد أولا ثم جاءت ممارسة الزراعة. في الواقع لا تظهر مجتمعات العصر الحجري الحديث الزراعية في السجل الأثري إلا بعد أن بدأ الناس العيش في مكان واحد بنحو ألف عام.
العيش في مكان واحد
قبل حدوث تحول الزراعة، حين وجد مجموعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحالة أنفسهم في ظروف معيشية مواتية، وبدأ عددهم يزيد بحيث لم يعد مجرد بضع عشرات، كان الأخذ بأنماط التقاسم والتعاون العادية سيصير غير عملي أكثر فأكثر، وكان الناس سينزعون للانقسام إلى فصائل، وكان النزاع بين الفصائل المختلفة سيصبح أكثر تشعبا وتكرارا. في نهاية المطاف، مالت هذه الجماعات البدوية العظيمة الحجم للانقسام إلى مجموعتين أو أكثر، وذهبت كل منها في سبيلها. وهذا مثال على عملية «الانقسام» التي تقع من وقت لآخر في المجتمع الانقسامي الاندماجي المعهود لدى البشر وغيرهم من الرئيسيات. كان نمط الحياة البدوي يجعل الانتقال إلى أراض جديدة أمرا سهلا وطبيعيا بالنسبة إلى الجماعات، وكانت عملية الانقسام تجعل حجم جماعات الصيد وجمع الثمار صغيرا نسبيا؛ مما سهل الحفاظ على التضامن ويسر التعاون بين أفراد الجماعة.
لكن المجتمعات الزراعية ليس لديها هذه الرفاهية؛ إذ إنه مع الاعتماد على محاصيل معينة تنمو سنويا في أماكن محددة، تحتم المصالح الشخصية على الشعب الزراعي البقاء في مكان واحد. فبعد قضاء ساعات لا تحصى في بناء منازلهم الكبيرة الدائمة، لا يمكنهم ببساطة شد الرحال والانتقال إلى أماكن أفضل للصيد؛ لذلك ظلت مستوطناتهم راسخة في مكانها، وكلما يصير الغذاء وفيرا يزيد حجم جماعاتهم الاجتماعية أكثر ولا تستطيع الانقسام بسهولة.
منذ 17 ألف عام، كانت تعيش جماعات قليلة منعزلة من البشر الحديثين يسمون النتوفيين - يعيش أغلبهم في الهلال الخصيب أو بالقرب منه - وقد أخذت تحصد كميات كبيرة من الحبوب البرية وتخزن هذه الحبوب لفترات طويلة. ولا تشبه البقايا الأثرية التي تركوها وراءهم أيا من البقايا التي تركتها الجماعات البشرية السابقة عليهم.
كانت منازل النتوفيين أبنية راسخة من الطوب اللبن، أرضها مغطاة بمادة شبيهة بالملاط مصنوعة من الجير، جرى سحقها حتى صارت مستوية وملساء. وكانوا يصنعون مناجل من حصوات دقيقة صغيرة حادة - شظايا حجرية صغيرة للغاية بالكاد تزيد عن حجم الطوابع البريدية - كانوا يثبتونها في مقابض خشبية، واستخدموا هذه المناجل في حصد نوعي القمح البري الثنائي الحبة والوحيد الحبة الذي كان ينمو بكميات بوفيرة في تلال الهلال الخصيب. وكذلك صنعوا هاونات ثقيلة من أحجار بركانية ضخمة، واستخدموا هذه الهاونات في طحن الحبوب البرية لتصير دقيقا. وأقاموا أبنية خاصة ليستخدموها كمخازن غلال لتخزين كميات كبيرة من الحبوب، ذات أرضيات من الألواح الخشبية مرتفعة عن الأرض لحماية مخزونهم الثمين من الحشرات والقوارض.
تشير كل هذه الأدلة إلى أن النتوفيين بدءوا يعيشون في مكان واحد طوال العام؛ نمط المعيشة الذي يصفه اختصاصيو علم الإنسان بأنه «مستقر». وبالتخلي عن حياة الترحال - حتى مع الاستمرار في الصيد وجمع الثمار - أخذ النتوفيون أول خطوة حاسمة على طريق إنتاج الغذاء، غير أنهم ظلوا باحثين عن الطعام؛ فالحبوب التي كانوا يحصدونها كانت تنمو بريا؛ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يعدون الأرض أو يزرعون البذور من أجل محاصيلها من الحبوب، كذلك الحيوانات التي كانوا يذبحونها ويتغذون عليها كانت أنواعا برية؛ إذ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يحتفظون بالحيوانات في حظائر أو مرابط ويعلفونها من أجل ذبحها فيما بعد.
अज्ञात पृष्ठ