وساد الصمت لا لأن أحدا لم يجرؤ على الاحتجاج فحسب، ولكن لأن هذا القبول أنقذهم من النزاع القائم في صدورهم بين غضبة ضمائرهم ورغبتهم في الاستمتاع ببهجة العيد ولذائذه. وهم إلى هذا كله كانوا يؤمنون بأمهم إيمانا كبيرا، كأنها لا يمكن أن تخطئ، فإذا كانت قد ارتضت قبول الهدية فلا ضير من قبولها. هذا ما قالوه لأنفسهم ، أو هذا ما قاله لنفسه الحائر منهم لينجو من حيرته. وكانت الأم أسوأ حالا منهم، ولم تجد من عزاء إلا في هذه الحقيقة؛ وهي أن فريد أفندي اضطرها إلى القبول بإلحاحه، وحرارة صداقته، وقد رحبت بإثارة نفيسة للموضوع؛ لعلها تجد في قبول الأبناء عزاء، فلما أنست من الابنين المهمين معارضة تضاعف ألمها وصرحت بالحقيقة فيما يشبه الاعتراف بالذنب، وضاعف من آلامها أنهم باتوا لا يشبعون إلا في الأعياد شأن المساكين الذين كانوا يقصدونهم فيمن يقصدون من أهل الخير، انحدار يعقبه انحدار ولا تدري أين يقف. أما حسن فقد اطمأن، ولم ير بأسا من أن يتفلسف فقال بلهجة الوعظ: قبل النبي مرة هدية أهداها إليه يهودي فهل يكون فريد أفندي شرا من اليهود؟!
فتساءل حسين في دهشة: من قال هذا؟ - التاريخ! - أي تاريخ!
فصاح به حسن: أحسبت أنهم يقولون لك كل شيء في المدرسة؟
فقال حسنين بحدة: حدثنا عن التاريخ الذي تعلمه الشوارع!
فتظاهر حسن بالغضب وقال: قسما برب العزة، لولا أنك سبب هذه الهدية لكسرت رأسك.
ثم استدرك قائلا: وعلى هذا كله كان الواجب يقضي بأن يهدوا إلينا خروفا كاملا لا نصف خروف (ثم ملتفتا إلى نفيسة) احذري أن تقبلي الهدية إلا إذا كان فيها نصف الكبد أيضا.
30
وقفا متقابلين ينتظران الترام، هي في معطفها القديم الذي تود أن تستبدل به أحسن منه ولو نصف عمر، وهو في البذلة التي تبدو عليه قلقة جافية. وكان يلوح في وجهه التردد، والرغبة المعذبة في الإفصاح عن شيء يثقل عليه الإفصاح عنه، ثم خاف أن يجيء الترام قبل أن يتكلم فقال في ارتباك: نفيسة، يخجلني جدا أن أصرح لك بأمر.
فتساءلت الفتاة: ماذا بك؟
فقال همسا: أمرني أبي أن أصحبه اليوم إلى حضرة شيخ الشاذلية فرفضت حتى أثرت غضبه.
अज्ञात पृष्ठ