وأطلع أمه على صورة واضحة من سيرة حسن؛ فقد كان صدره أضيق من أن يتسع لها وحده، واستمع لما جاد به لسانها من ضروب العزاء والنصح بقلب مغلق، كان في الحقيقة متهجما متشائما حاقدا، ولما كان لديه بضعة أيام من الفراغ قبل أن يبدأ عمله بالفرقة؛ فقد خطر له أن يسافر إلى طنطا للقاء حسين، وعاوده شعوره القديم بالحاجة إلى مشاورة أخيه فيما يلم به من أحداث. بيد أنه لم يقدم على تنفيذ فكرته وبدا كالمتردد، وفيما بين هذا وذلك لم يجد من سلوى إلا في شقة فريد أفندي. ولكنه كان يذهب إليها ناشدا عزاء لا ملبيا شوقا، ولم تغب عنه حقيقة مشاعره، فحمل كآبته العامة مسئولية تغيره، ثم أخذ يستبين أن تغيره أعمق من أن يكون أثرا عارضا وقتيا، وتساءل في حيرة ألم يعد يحبها؟! عرض له هذا التساؤل أول ما عرض في ضحى اليوم الذي جاء بعد زيارته لحسن بيومين، وكان يجالس بهية على انفراد بحجرة الاستقبال على حين شغلت الأم بالمطبخ، فجعل ينظر إلى الفتاة متسائلا ألم يعد يحبها؟! هي فتاته، بجسمها وروحها، ولم تزل مثار رغبة جامحة، ولكن كأنه يرغب في أن يولي عنها فيما يرغب أن يولي عنه من ماضيه جميعا. وتحير بين رغبته فيها وما يتساءل عنه من انتهاء حبه لها! أيمكن أن يرغب فيها ولا يحبها في آن؟ إنه يجذب إليها بقوة عنيفة، ولكن يرغب به عنها ما يرغب به عن عطفة نصر الله وعطفة جندب. لم تعد الأمل الذي يرنو إليه، وما هي إلا لوثة في دمه يبغي منها شفاء، وأدام النظر إليها حتى خال وجهها الهادئ المهذب عقابا مجسما، فوجد وخزا في قلبه، وطرد أفكاره دون أن يبت فيها برأي وسمعها تقول له: لا تحملق في هكذا.
ما ألذ أن يضمها إلى صدره ويمطرها قبلا! إنه لا يدري ما هو فاعل بها غدا، ولكنه يأسى على طول حرمانه.
وقال مبتسما: إني أفكر في تقبيلك قبلة حارة نبدأ بها حياة جديدة. - لا يحلو لك إلا هذا الكلام! - هل ثمة ما هو أحلى؟
فترددت قليلا ثم خفضت عينيها قائلة: يوجد ما هو أهم!
وحدس ما تعنيه بلا تردد، وساوره قلق. ولكنه تجاهل ظنه متسائلا: أهم من القبلة؟! - أحب أن تحدثني جادا ولو مرة. - ولكني أود أن أقبلك جادا!
فتفكرت فيما يشبه الحيرة، كأنما تغالب خطرة ثم بدا كأنها تغلبت على حيرتها فقالت : ألا تدري ماذا قالت أمي؟
صدق حدسه! لا بد مما ليس منه بد! وتساءل متبالها: ماذا قالت؟
فقالت بصوت منخفض وفي عناء من حياء: قالت لي لقد طال انتظارك، وها قد صار ضابطا!
وأحس في أعماقه بحنق حام كأنه سمع تجديفا، ومع أنه كان يعلم بأنه ليس له حق في حنقه إلا أنه كره الأم في تلك اللحظة، ثم تساءل: هل تتعجل الزواج؟
فتضرج وجهها بالاحمرار وغمغمت: كلا، ولكنها ترى أنه آن أن تعلن الخطبة. - ألم يتم هذا؟!
अज्ञात पृष्ठ