ومن المحقق أنه لم يكن يحس ألما ولا يشعر بشيء مما يشعر به المرضى حين يطرأ عليهم المرض، ولكن لا سبيل إلى تعليل هذه الظاهرة الطارئة إلا بشيء أصاب معدته أو كبده. وهو على كل حال قد استرد شيئا من طمأنينته، فعاد إلى شأنه يصلح منه ما أفسد هذا الاضطراب، فلما بلغ من ذلك ما أرضاه أزمع أن يخرج من غرفته دون أن يسأل هذه المرآة المشئومة عن شيء، ولكن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ألقى في روعه - مع كثير من اللباقة والمكر - أن من الحق عليه أن يسأل هذه المرآة التي تعود أن يسألها دائما، والتي تعودت أن تصدقه دائما، فمن يدري لعل شيئا ألم به فغير من وجهه وشكله وهو لا يدري؟
وما ينبغي أن يظهر الناس منه على ما لا يحب أن يظهروا عليه، وقد ألقى نظرته إلى المرآة؛ فارتدت عينه مذعورة ثم عادت إلى المرآة مشفقة، ثم ارتدت وقد حملت إلى قلبه جزعا وهلعا، وإذا هو يجاهد ليحبس صيحة قد همت أن تخرج من حلقه فتملأ الغرفة من حوله وتدعو إليه أهل الدار، ولكنه رد هذه الصيحة إلى مستقرها ولم يتح لها أن تنفجر، واستأنف اضطرابه ذاك. ثم ثابت إليه نفسه بعد لأي فيسرع إلى الجرس يدقه، فإذا دخلت عليه الخادم، رفع إليها وجهه وظل صامتا حينا يريد أن يعرف أتنكر الخادم من أمره شيئا، فلما رأى الخادم كدأبها كلما دعاها إليه؛ قائمة واجمة تنتظر أمره، لا تنكر شيئا، ولا تعرف شيئا، أو لا تظهر معرفة ولا إنكارا؛ قال لها في صوت هادئ يكاد يضطرب: أنبئي سيدتك أني أنتظرها.
وأقبلت زوجه بعد حين، فرأته قائما باسما ينتظر مقدمها، فلما رأته أخذها منظره كما تعود أن يأخذها كل صباح وكل مساء، وسألها هو: أتنكرين من أمري شيئا؟ قالت متضاحكة: وماذا تريد أن أنكر من أمرك! إنما أنت كما تعودت دائما أن أراك؛ رائع الشكل، جميل المنظر، خلاب للنساء. إلى أين تريد أن تغدو اليوم؟ فإني أراك تكلفت عناية بزيك قلما تتكلفها؟ قال: وإلى أين أغدو إلا إلى عملي؟ قالت: فإن عملك لا يحتاج إلى كل هذا التأنق. ولكنه أعاد عليها قوله: أفي الحق إنك لا تنكرين مني شيئا؟ قالت - مغرقة في الضحك: في الحق إني أنكر منك هذا الإسراف في التجمل. قال في شيء يشبه الذهول: إن هذه المرآة تنبئني بغير ما تقولين. ثم ألقى على المرآة نظرته الخاطفة تلك وارتد عنها وجلا مذعورا يقول لامرأته: التمسي لي طبيبا.
وقد عاده طبيب وطبيب وطبيب، عادوه متفرقين، وعادوه مجتمعين، وفحصوا من جسمه كل ما يمكن أن يفحصوا، فلم يروا به بأسا، ولم يشخصوا له علة، ولم يصفوا له دواء، وقال له قائلهم: ما نرى بجسمك من بأس، فالتمس دواء نفسك عند نفسك، فما نظن إلا أن في ضميرك شيئا يؤذيك على علم منك أو على غير علم. وقد غيرت المرآة في غرفته مرة ومرة، ولكن المرايا كلها جعلت كلما التمس نفسه فيها ردت إليه صورة غير صورته، وشكلا غير شكله، وملأت قلبه فرقا وروعا.
وقد تسامع أعوانه وأصحابه بأنه مريض منذ لزم غرفته وانقطع عن عمله، فجعلوا يسعون إليه ليعودوه، يلقاه أقلهم، ويرد عنه أكثرهم، ويتنبأ أولئك وهؤلاء من أمره بغير الحق، تخترع لهم العلل، وتبتكر لهم الأدواء، فيصدق منهم من يصدق، ويكذب منهم من يكذب، ويشك منهم من يشك. وكنت مع هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا إليه وسألوا عنه، ثم أتيح لهم أن يروه، وكنت أثيرا عنده كما كان أثيرا عندي، لا أخفي عليه من ذات نفسي شيئا كما لا يخفي علي من ذات نفسه شيئا، وقد لقيته فيمن لقيه من أصحابه ذات يوم، فسمعنا منه وقلنا له وضربنا معه أخماسا لأسداس في أمر علته، نصدق نحن في حيرتنا، ويتكلف هو لنا الحيرة تكلفا لا يكاد يخفى علي، فلما هممنا أن ننصرف استبقاني في لباقة وظرف فبقيت، ومضى الحديث بيننا ألوانا ساعة من نهار، ثم عدنا إلى علته؛ فإذا هو يتحدث إلي بأمره كله في وضوح وجلاء.
قلت ضاحكا: ألعلك قرأت هذه القصة الإنجليزية التي كتبها أوسكار ويلد وسماها: صورة دوريان جري؛ فإن فيها ما يشبه قصتك من بعض الوجوه. قال: فإنك تعلم أني لا أقرأ الإنجليزية ولا أقرأ لغة أوروبية، ولا أعرف أن هذه القصة قد نقلت إلى العربية. قلت: أولم يتحدث إليك قط متحدث عن هذا الكتاب وكاتبه؟ قال: سمعت أطرافا من الحديث عن أوسكار ويلد، ولكن لم أسمع عن هذا الكتاب من كتبه قليلا ولا كثيرا، فحدثني أنت عن هذا الكتاب. قلت: لقد قرأته منذ زمن بعيد، وأذكر أنه يعرض على قرائه قصة فتى حسن رائع الحسن، جميل بارع الجمال، اتخذ له صديق مصور صورة تطابق شكله جمالا وروعة، وقد اقترف هذا الفتى في مستقبل أيامه سيئات كثيرة، واجترح آثاما مختلفة، فبغضت إليه نفسه أشد البغض، وقبحت صورته المصنوعة في عينه أشنع القبيح، فنفاها من حجرات داره وغرفاته إلى حيث ينفى سقط المتاع. ولكنه كان يلم بها من حين إلى حين تزيدا من بغضه لها وسخطه عليها، واستعذابا لهذا السخط وذلك البغض.
ثم أصبح الناس ذات يوم فرأوه مقتولا إلى جانب صورته، أراد أن يمزق الصورة فمزق صدره. وقد أراد أوسكار ويلد - فيما أظن - أن يصور تأثير الندم على ما يقترف من الآثام في بعض الضمائر والنفوس، فلم تكن هذه إلا مرآة لضمير دوريان جري، رأى فيها ما كان يملأ ضميره من السيئات المنكرة والجرائم البشعة.
قال صاحبي في صوت يأتي من بعيد: وما أنا وهذه القصة؟ قلت في صوت يأتي من بعيد أيضا : خشيت أن تكون قد قرأتها أو سمعت عنها فأثرت في أعصابك تأثيرا سيئا، فما أكثر ما تؤثر الكتب قيمها وسخيفها في أعصاب الناس، فتحملهم على غير ما أراد المؤلفون أن يحملوهم عليه. قال صاحبي وعلى ثغره ابتسامة حزينة: هون عليك؛ فإني لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع عنه، ولم أتأثر به قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فإن من حقه أن يقرأ.
قلت - وقد ندمت بعد ذلك على ما قلت: فالتمس في أثناء نفسك وأحناء قلبك خطأ لعلك قد دفعت إليه أو مساءة لعلك قد قدمتها إلى بريء، فإني أعلم أنا نجهل من أمر الضمير الإنساني أكثر مما نعلم، ومن يدري؛ لعل في ضميرك الخفي ندما على شيء أتيته ثم أنسيته، ولعلك إن استكشفته أن تصلحه وتستغفر الله منه، فتقل هذا الندم الذي أخشى أن يكون هو الذي ينغص عليك الحياة. وتركت صاحبي حائرا مبهوتا، ثم أنبئت بعد أيام أنه يمرض في بعض المستشفيات، فلما سألت عن جلية ذلك قص علي محدثي عجبا من الأمر؛ فقد كان صديقي هذا البائس من قوم كرام، مات أكثرهم وبقي أقلهم، وكان الذين ماتوا - رحمهم الله - يرتفعون عن الصغائر، ويمتنعون على الدنيات، وتأبى نفوسهم فيما تأبى جحود العارف وإنكار الجميل، ورثوا ذلك عن آبائهم، وأحبوا أن يورثوه أبناءهم، فحال بينهم وبين ذلك هذا التطور الحديث الذي غير مقاييس الأشياء، وأدار أعمال الناس وأقوالهم على المنافع العاجلة والمآرب القريبة، لا على ما كان يألف آباؤنا من رعاية الحق، وتقدير المعروف.
وكان صديقي هذا البائس أحرص الناس على أن يشبه الذين سبقوه من قومه في كل ما كانوا يأتون ويدعون من الأمر، ولكن أحداث الدهر وخطوب الأيام وما تحمل من رغبة ورهبة ومن إغراء وتنفير كانت أقوى من خلقه وإرادته، فلم يستطع أن يكون خليقا بالذين سبقوه من قومه، وإنما كان خليقا بالذين عاصروه من أترابه. وكان قومه يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس، وكان هو يستخفي من الناس ولا يستخفي من ضميره ولا من الله؛ وهما معه أينما كان. فلما قصصت عليه قصة أوسكار ويلد، كنت كأنما كشفت عن نفسه الغطاء، فأصبح يتحدث إلى امرأته وإلى خاصته بأن هذا الوجه القبيح الذي كان يراه في المرآة لم يكن وجهه؛ فوجهه ما زال جميلا رائعا، وإنما هو مرآة ضميره؛ لأن ضميره بشع دميم.
अज्ञात पृष्ठ