بين الأدب والسياسة
أدب الصيف
حوار في الأدب
عيد
طيف
ضمير حائر
الضمائر القلقة
في الذوق
خوف
النفوس القلقة
अज्ञात पृष्ठ
الوسائل والغايات
لبنان
الصيف
دين
شياطين الإنس ... والجن
جوع وأحاديث
بين الأدب والسياسة
أدب الصيف
حوار في الأدب
عيد
अज्ञात पृष्ठ
طيف
ضمير حائر
الضمائر القلقة
في الذوق
خوف
النفوس القلقة
الوسائل والغايات
لبنان
الصيف
دين
अज्ञात पृष्ठ
شياطين الإنس ... والجن
جوع وأحاديث
بين بين
بين بين
تأليف
طه حسين
بين الأدب والسياسة
جد وهزل
نعم جد وأي جد، لك ما شئت وما لم تشأ، إن استطعت أن تظفر بجد أحزم وأصرم وأعظم وأقسى من هذا الجد الذي يلم بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها حزنا لا يشبهه حزن، وفي بعض نواحيها الأخرى سرورا لا يقاس إليه سرور.
نعم، وهزل أي هزل، لك ما شئت وما لم تشأ، إن استطعت أن تظفر بهزل أبدع أو أروع أو أخف على الروح، أو أدعى إلى الضحك، أو أقدر على التلهية والتسلية من هذا الهزل الذي يلم بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها قهقهة وإغراقا في القهقهة، ويثير في بعض نواحيها الأخرى بكاء لا يبخل أصحابه بالدموع.
अज्ञात पृष्ठ
وتعال معي يا سيدي فانظر عن يمين، ثم انظر عن شمال، واسمع لما يأتيك من هذا الوجه، ثم اسمع لما يبلغك من ذلك الوجه، ثم حدثني أو حدث الناس بما ترى وما تسمع إن استطعت أن تخلص للحديث، فإني أخشى أن ترى من ملكهم الحزن فتحزن، أو ترى من ملكهم الضحك فتغرق معهم فيما هم مغرقون فيه.
انظر يا سيدي إلى يمين، فسترى أصحاب الجاه الرفيع والعز المنيع والسلطان الواسع والصوت البعيد قد ردوا إلى حياة لو أنها برئت من الجاه والعز، وخلت من سعة السلطان وبعد الصوت لكانت على أصحابها شرا ونكرا، ولكنها امتلأت بالعبر التي جعلتها نكالا لما بين يديها وما خلفها، وعظة لمن يستطيع أن يتعظ، ودرسا لمن يحسن أن يفهم عن الأيام ما تلقي من دروس.
انظر يا سيدي عن يمين ؛ فسترى الإبراشي باشا كاسف البال، ضيق الصدر، شاحب الوجه، مقطب الجبين، مخفوض الرأس، مقوس الظهر، مطبق الفم، معقود اللسان، وسترى من حوله الغرور وبنات الغرور، ثم اليقظة وبنات اليقظة، وهن يتراقصن ويتبادلن فيما بينهن أحاديث عنيفة لينة فيها حزن ويأس، وفيها سخرية ودعابة، والرجل بين هؤلاء الراقصات يقظان كالنائم، ونائم كاليقظان، قد زلزلت به الأرض زلزالا شديدا، لم يتصل ولم يطل أمده، ولكن الأرض على ذلك ما زالت تدور به وتضطرب من تحته، حتى أصبح لا يملك قدرة على أن يحقق شيئا أو يثبت في نفسه شيئا، أو يفكر في شيء، أو يقدر شيئا، إنما هو داخل مأخوذ يرى هؤلاء الراقصات يضطربن من حوله، بعضهن ينتحبن ويبعثن في الجو نشيجا وزفيرا، وبعضهن يضحكن ويبعثن في الجو صياحا متصلا، فيه الرضى وفيه الابتهاج، وفيه السخر من طغيان الطغاة والاستهزاء بظلم الظالمين، والاستخفاف بهذه الآمال العذاب الكذاب، التي تملأ الإنسان غرورا وجهلا وحمقا وثقة بالنفس واطمئنانا إلى الأيام، والرجل يرى ولا يحقق، والرجل يسمع ولا يفهم، والرجل قد أخذه هذا الذهول، حتى إنه ليود لو استطاع أن ينهض فيرقص مع هؤلاء الراقصات المحزونات، أو يدور مع هؤلاء الدائرات المبتهجات؛ ولكنه واهن، خائر القوى، منهوك الجسم كما أنه منهوك العقل، قد سكن هو واضطرب من حوله كل شيء، بل سكن جسمه واضطرب في نفسه وعقله وقلبه وجوفه كل شيء.
ثم انظر يا سيدي وأبعد النظر قليلا؛ فسترى رجلا آخر قد تقدمت به السن بعض الشيء، وأرسلت على صدره لحيته إرسالا، ودارت على رأسه خرقة بيضاء ... هو جاثم في مكانه يهم أن يقول فلا يستطيع أن يقول، يهم أن يعمل فلا يستطيع أن يعمل، يهم أن يفكر فلا يستطيع أن يفكر، وإنما أخذت عليه طرق القول والعمل والتفكير أشباح لا تنقطع تمر أمامه متتابعة، وهو يراها تخرج من مكانها لا يستطيع لها ردا، ولا يملك منها مهربا، ولا يبلغ لها إحصاء، يرى كأن الأرض تمر أمامه مرا، ولا يمر منها جزء إلا انفتح فيه قبر، وخرج من هذا القبر شبح أو أشباح، وهو لا يدري ما خطب هذه الأشباح التي تطيف به، وتدور من حوله، وتنشق له عنها الأرض، وتنفتح له عنها القبور، وهو يكاد يصيح لو استطاع الصياح، ويكاد يسأل لو أطاق السؤال، ولكن هاتفا يهتف به: أرح نفسك من السؤال والصياح؛ فإنما أنت رجل تحب القبور وزيارة القبور، وأنت رجل محزون مكدود، لا تستطيع أن تسعى إليها زائرا ولا عاتبا ولا متوسلا ولا مستعطفا، فهي تسعى إليك، وهي تلم بك وتقف عندك، وهي تقرأ ما في نفسك، وتفهم ما في قلبك، وكم تحب أن تجيبك إلى ما تبتغي، وتعينك على ما تريد، لولا أن القبور لا تملك للناس نفعا ولا ضرا، ولا تغني عنهم من الله شيئا.
لقد ألممت بالقبور إلماما في إثر إلمام، وأطلت عند القبور مقاما في إثر مقام، فانظر لهذه القبور تلم بك، وتقيم عندك. ولقد وقفت عند القبور فهمهمت ودمدمت وزمزمت وتمتمت، فاسمع لهذه الأشباح التي تنشق لك عنها القبور، إنها من حولك تهمهم وتدمدم وتزمزم وتتمتم، ولقد ضاعت جهودك عند القبور، وجهود القبور ضائعة عندك، لم تحفظ عليك قوتك حين كنت قويا، ولم ترد عنك ضعفك حين أصبحت ضعيفا، الله وحده هو الذي يحفظ القوة على الأقوياء، ويرد الضعف عن الضعفاء، ولكنه قد قضى ألا يحفظ قوة على قوي، ولا يرد ضعفا عن ضعيف، حتى يخلص له قلبه ونيته وقوله وعمله، فليتك أخذت من بعض هذا بحظ، فيغني عنك الآن حين لا يغني أحد ولا شيء عنك من الله شيئا. والرجل يرى، والرجل يسمع، والرجل لا يحقق ما يرى ولا يفهم ما يسمع، وإنما هو قلب مضطرب، وعقل مختلط، ونفس مفرقة، وخواطر مشردة، وعبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
وأبعد نظرك يا سيدي قليلا، فسترى أشباحا ضئيلة نحيلة شاحبة ذائبة أو كالذائبة تذهب وتجيء، تقول وتعمل، تتصرف تصرف الأحياء؛ وليست من الحياة في شيء، إنما هي حياة كالموت، أو موت قد ترددت فيه أنفاس من حياة، وأطل النظر إلى هذه الأشباح الذاهبة الجائية الرائحة الغادية، فستتبين بعد الجهد والعناء أشخاصها، وستعلم أنها أشخاص قوم كان إليهم الحول والطول، وكان في أيديهم الحل والعقد، كانوا وزراء يأمرون وينهون، يرفعون ويخفضون، يذلون ويعزون، يبسطون الرزق لمن يشاءون، ويكفون الرزق عمن يشاءون، يقضون بأهوائهم فيما لا ينبغي أن يقضى فيه إلا بأحكام الدستور والقانون، ولكنهم ألغوا الدستور وأهدروا القانون، واتخذوا من أهوائهم وشهواتهم نظما تقوم مقام الدستور والقانون.
انظر إليهم يا سيدي أين هم وسلهم، أو سل عنهم يا سيدي، ما خطبهم وماذا يصنعون؟ لقد لفظتهم الأرض ونبذهم الناس، وانصرف عنهم أشد الناس إلحاحا عليهم وحبا لهم وتهالكا على تملقهم، تحدث إليهم يا سيدي إن استطعت، فلن تسمع منهم إلا ما يصور الضغينة والحقد، والموجدة والبغض، واليأس والقنوط، والتحرق على ما مضى، والتشوق إلى ما لا سبيل إليه، وصل إلى ضمائرهم إن استطعت الوصول إليها؛ فلن ترى فيها ندما، ولا أملا، ولا استغفارا، ولا اعتذارا، ولا توبة، ولا نزوعا إلى التوبة، إنما هو الحزن اللاذع على نعيم مضى، وانتهاز الفرصة وتربص الدوائر وملاطفة الأحلام، لما قد تتكشف عنه الأيام من نعيم تتقطع دونه الأعناق، وتتمزق دونه القلوب.
وألق نظرة واسعة عريضة يا سيدي إلى هذه الأشخاص الذابلة الناحلة التي تدب على الأرض دبيب النمل، لم يدركها الموت المهلك، ولم يبلغها اليأس المريح، وإنما هي عاملة جادة، تملقت أولئك حتى ذهب عنهم السلطان، وهي تنتهز الفرصة لتتملق هؤلاء ما أقبل عليهم السلطان، تريد أن تملأ بطونا لا تمتلئ، وأن تفعم جيوبا لا تفعم، وأن تصيب من لذات الحياة ما تبيع في سبيله القلوب والعقول، والشرف والكرامة، والضمائر والأخلاق. انظر، إنهم كثيرون، كانوا شياطين مردة، فأصبحوا اليوم ملائكة أطهارا، ينتظرون أن تتيح لهم الظروف خلع أجنحة الملائكة والدخول في أثواب الشياطين. انظر واسمع، ولكني أراك محزونا أسفا كئيبا، قد ضاقت نفسك بما ترى وما تسمع، وقد صغر في نفسك كثير من المعاني والخصال التي لم تكن تحب أن تراها صغيرة ولا حقيرة ولا متضائلة . قد ثقل عليك الجد فلا بأس عليك، أرح نفسك من الجد وتحول إلى شمال فانظر واسمع، وحدثني عما ترى وما تسمع.
وانظر غير بعيد إلى التقاليد؛ فسترى منظرا عجيبا، وستسمع أغاني أقل ما توصف به أنها مضطربة مضحكة مسلية لذيذة، أشد إثارة للذة وإبهاجا للنفس من أغنية السواقي السبع التي يتغنى بها الشباب في بعض الأحياء الوطنية، ومن يتغنى السواقي السبع ويردد أنغامها الحلوة وألحانها الشجية إذا لم تتغن بها التقاليد، وما أدراك ما التقاليد! انظر إليها فلن يثوب نظرك إليك، ولن ينقضي عجبك مما ترى.
هذا رجل ضخم فخم، طويل عريض، غليظ الوجه، واسع الشدقين، عظيم الأنف، عذب الصوت، حلو الغناء، يا له من صوت، ويا له من غناء، استمع إن كنت تحب الطرب، واعجب إن كنت تريد العجب، ألا ترى إلى هذه الأشياء الكثيرة المنتشرة المختلفة المتنوعة التي تضطرب من حوله، بعضها يرقص وبعضها يدور، بعضها يقفز في الجو، وبعضها يثب في الهواء؟!
अज्ञात पृष्ठ
تبين هذه الأشياء إن استطعت أن تتبينها، وأحط بها إن أتيح لك أن تحيط بها، إن فيها الحي والميت، إن فيها الصائح والصامت، إن فيها الغالي والرخيص، إن فيها المبتذل والنفيس. هذا ديك يصدح، وهذه دجاجة تصيح، وهذا أرنب يعدو، وهذه أداة تدور، وهذه حقيبة تمتلئ، ثم تفرغ، ثم تمتلئ، ثم تفرغ. وهذا مصباح قد علق وهو يضطرب اضطرابا، ويدور حول نفسه دورانا، وهذا بساط قد نشر في الجو ينتظر من يجلس عليه؛ ليطير به إلى حيث يريد الله، وهذا نرد يدعو اللاعبين، وهذا شجر قد اكتسى من أخضر الورق، وآتى من جميل الزهر وطيب الثمر، وهذا مطر ينهمر انهمارا، وتصبه السماء صبا، ولكن احذر أن تدنو منه؛ فإني أخشى على رأسك أن يشج، وعلى أنفك أن يجدع، وعلى وجهك أن يصيبه أذى، وعلى ذراعك أن تتحطم، وعلى ساقك أن تندق.
إن السماء يا سيدي لا تمطر ماء ولا عسلا ولا خلا ولا زيتا، ولكنها تمطر علبا مختلفة الأحجام، متباينة الأشكال، قد اختلفت فيما بينها ، وتنوعت محتوياتها، ففي هذه «مربى» البرتقال، وفي هذه «مربى» السفرجل، وفي هذه «مربى» المشمش، وفي هذه لون من ألوان الحلوى، وفي هذه فن من فنون الفاكهة. واحذر هذه القطرات الغريبة، التي لا تكاد تبلغ الأرض حتى تنحطم عليها انحطاما، ويخرج منها شراب مختلف ألوانه، فيه ري للظمأ، وفيه تملق للفم، وفيه حلاوة وعذوبة، وقد يؤذي بعض الحلوق أحيانا، إنها زجاجات الشراب يا سيدي، عصير العنب، وعصير البرتقال، وعصير الليمون.
وانظر إلى هذه الأقراص التي تدور لا تريد أن تقف، ولا تحب أن تسقط؛ وإنما هي تدور في مكانها، وتبعث من حولها روائح غريبة لا تحبها الأنوف جميعا، ولكن من النفوس ما تطير من حبها شعاعا. تبين هذه الأقراص يا سيدي؛ ألم تعرفها بعد؟ ألم يهدك إليها عبيرها هذا المنكر الغريب كما هدى عمر بن أبي ربيعة إلى صاحبته عبيرها ذاك، الذي كان يصدر عن خيمتها فيملأ الجو عرفا وطيبا؟ انظر إلى هذه الأقراص؛ إنها أقراص الجبن يا سيدي، وأي جبن! ما شئت من ألوان الجبن، جبن أجنبي وجبن مصري، جبن رقيق وجبن غليظ، جبن خشن وجبن ناعم، جبن جاف كأنه الحجر، وجبن رطب يسيل لعابه ويتحلب منه المش، وتجري فيه فنون من دقيق الحيوان.
وانظر إلى هذه الآنية التي تدنو وتنأى وتقرب وتبعد، وتصعد في الجو، وتهوي نحو الأرض، داعية إلى نفسها مدلة بما فيها، أتعرفها؟ أتعرف ما تحتوي من الألوان؟ إنها القشدة؛ القشدة التي يبيع فيها بعض العمد نفوسهم بيعا. انظر يا سيدي إلى ما سميت وما لم أسم، وإلى ما وصفت وما لم أصف، انظر إلى الأشياء والأحياء كيف تضطرب وتدور، وتأتي هذه الحركات العجيبة الغريبة، على صوت هذا المعنى البارع الرقيق الرشيق، الخفيف الظريف، الوسيم القسيم، الذي يتغنى التقاليد، وجمال التقاليد، وقدس التقاليد، وما يجب للتقاليد من حماية، وما يجب للأخلاق من رعاية، وما يجب للضمائر من صفاء، وما يجب للأيدي من نقاء، وما يجب للمناصب من كرامة، وما يجب لأصحاب المناصب من ارتفاع عن الصغائر، وتنزه عن الدنيات.
انظر يا سيدي إلى يمين، فخذ بحظك من الحزن، وانظر إلى شمال فخذ بحظك من السرور، فلا خير في الحياة إذا لم تكن حزنا وسرورا، ولذة وألما، وجدا ولهوا. انظر عن يمين وانظر عن شمال، ثم انظر أمامك إلى هذا البلد الحزين التعس، الذي يعدو على حقوقه أصحاب الجد، ويلهو بمنافعه أصحاب اللهو، وهو يحتمل عدوان أولئك، ويحتمل لهو هؤلاء، محزونا حينا، مسرورا حينا آخر، ساخرا من أولئك وهؤلاء دائما؛ لأنه قد بلا من الدهر خيره وشره، وذاق من الأيام حلوها ومرها، ووثق بأن عدل الله قريب، وبأن الحق منتصر مهما يتصل سلطان الباطل، وبأن صرح الجور مندك مهما يشيد بأضخم الأحجار وأصلب الصخور.
ولكن دعنا من فلسفة الأخلاق؛ فما تتسع الحياة لفلسفة الأخلاق، وحدثني عن هذه الأشياء التي تضطرب، وهذه الأحياء التي تتطاير وتتصايح، ما خطبها؟ من أين أقبلت؟ وإلى أين تريد؟ أو أين ومتى تحب أن تستقر؟ زعمت وزارة المعارف أنها أقبلت من مدارس وزارة المعارف المنبثة في أرجاء مصر قاصدة إلى بيت وزير من وزراء المعارف، في حي من أحياء القاهرة، أو في قرية من قرى الريف. لا تهز رأسك، ولا ترفع كتفيك، فما في هذا الحديث من شك، وما في هذا الحديث من ريب، إنهما تقريران نشر أولهما صباح الأحد، ونشر ثانيهما صباح الثلاثاء، وزعم ناشرهما أنه أخذهما من وزارة المعارف، ولم تنكر عليه الوزارة ما زعم، ثم لم ينكر وزير المعارف ذاك ما نسب إليه في أول هذين التقريرين، وسنرى أينكر ما نسب إليه في ثاني هذين التقريرين.
خرجت إذن هذه الأشياء، وخرجت إذن هذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد. فليت شعري! أسار إليه منها ما سار، وطار إليه منها ما طار، حبا له وهياما به، وشوقا إليه؟! أم سار السائر وطار الطائر؛ استجابة لدعاء وتحقيقا لرجاء، وشفاء لبعض ما في الصدور؟! ... خرجت إذن هذه الأشياء وهذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بيتي وزير التقاليد، فليت شعري! أؤديت أثمانها كما ينبغي أن تؤدى الأثمان؟ أم أديت لها أثمان لا تعدل قيمتها، ولا تلائم ما حملت إلى الوزير من لذة وبهجة وراحة ومتاع؟! ... أما وزارة المعارف فتنبئنا بأن هذه الأشياء قد بيعت من الوزير بثمن بخس، وبأن للدولة عند الوزير مائة وبعض المائة من الجنيهات، وليت شعري! ما حكم الله في هذه المائة وبعض المائة من الجنيهات؟ أتبقى عند وزير التقاليد؟ أم تؤدى إلى وزير المعارف ليؤديها إلى وزير المال؟ وليت شعري! أأنشئت مدارس الزراعة والصناعة لتصلح بيت الوزير وما تملك من أدوات الزرع؟ ولتذيق الوزير والذين يدعوهم إلى مائدته ما في الحياة من لذة وبهجة ونعيم؟! أم أنشئت مدارس الصناعة والزراعة لتعلم المصريين كيف يصنعون ويزرعون، وكيف يتخذون الصناعة والزراعة وسيلة إلى ترقية الحضارة واكتساب العيش والتماس الحياة؟!
وليت شعري! ماذا يقول لضمائرهم هؤلاء الناس الذين طعموا على مائدة الوزير من ألوان الجبن والقشطة، وشربوا عند الوزير ألوان الشراب، واستمتعوا على مائدة الوزير بلحم تلك الطير التي أهديت إليه إهداء أو أخذت له أخذا، والتي أدى أثمانها الصورية إلى الدولة هذا البيطار أو هؤلاء التلاميذ؟!
وليت شعري ماذا يقول الوزير لضميره وماذا يقول للوزير ضمير الوزير؟ وليت شعري! أيسمع الوزير إذا جلس في مكتبه وحيدا أو مع أصحابه، أحاديث هذا المتاع الذي انبث في الحجرة، وهذه الإطارات التي علقت على الجدران؟ أيفهم هذه الأحاديث؟ أتثير في نفسه ألما؟ أتبعث في قلبه ندما؟ أتسبغ على وجهه الحمرة التي تسبغها المخجلات على وجوه الذين يخجلون؟ وليت شعري! ما حكم وزير المعارف القائم في هذا العبث بالمدارس والاستغلال للتعليم والإفساد لعقول الطلاب، وعقول المعلمين، وأخلاق الموظفين؟ وليت شعري! ما حكم وزير المال في هذا العبث المخزي بأموال الدولة؟ وليت شعري! ما حكم رئيس الوزراء ومجلس الوزراء في هذا الخزي المنكر وهذا الفساد العظيم؟ أليس من سبيل إلى أن يسأل المسيء عما أساء؟ ويؤخذ المذنب بما أذنب؟ ويعاقب الآثم على ما قدمت يداه؟ أقضي على هذا البلد أن تقترف فيه الآثام سرا وجهرا وتجترح فيه السيئات خفية وعلنا، وتهدر فيه القوانين، وتنتهك فيه الحرمات، ثم لا يسأل آثم عن إثم، ولا يؤخذ مجرم بجريمة، وإنما يستمتع المسيء بمثل ما يستمتع به البريء؟
نعم، ليت شعري، وليت شعري، وأنا أستطيع، وأنت تستطيع أن تردد معي هذا السؤال ألف مرة ومرة دون أن تنتهي إلى جواب؛ فمنذ عام ونصف عام تظهر الفضيحة إثر الفضيحة، وتعلن المخزية إثر المخزية، والمصريون ينظرون ويسمعون ويألمون ويشكون، ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا، كلا، لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عوقب المسيء على إساءته، ولن تصلح للمصريين حياة إلا إذا سئل المجرم عن جريمته، ولن تكون لمصر سمعة تلائم ما تؤمن به لنفسها من كرامة، إلا إذا عرف الأجانب واستيقنوا أن مدارس الصناعة والزراعة لم تنشأ لإصلاح بيوت الوزراء وإرضاء حاجاتهم إلى الدجاج والأرانب وألوان الفاكهة والحلوى.
अज्ञात पृष्ठ
نعم، لن تستقيم لمصر أمورها حتى تنهى التقاليد وزير التقاليد وأمثاله عن استغلال المدارس لما لم تنشأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم ينشأ له السلطان.
أما بعد، فقد كنت أظن يا سيدي أنك ستحزن إن نظرت إلى يمين فرأيت الطغاة وقد انهزموا بعد انتصار، وذلوا بعد عز، وأنك ستضحك إن نظرت إلى شمال فرأيت التقاليد تلعب حول وزير التقاليد، ولكني رأيتك محزونا في الحالين، يضحك وجهك وتبكي نفسك، فلا تلمني في هذا، ولكن لم حياتنا المصرية، واذكر أن أبا الطيب قد تنبأ لك ولي ولأمثالنا منذ ألف سنة بهذه الحال:
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
إبريل 1935
أدب الصيف
أقبل الصيف، وأقبل معه قيظ شديد مرهق لا يصهر الأبدان وحدها، ولكنه يصهر معها العقول، ولعله يصهر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضا، فيدفع قوما من الأمر إلى ما لم يكونوا ليدفعوا إليه لو لم يشتد القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيمنعهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومن ضبط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون. ولكني لم أكتب لأحصي آثار القيظ الشديد المرهق في أبدان الناس وعقولهم وأخلاقهم، وإنما أريد أن أسجل أن هذا القيظ الشديد المرهق لا تستقيم معه الأحاديث عن الشعر القديم عامة، وعن شعر الجاهليين خاصة. فالأحاديث عن هذا الشعر تحتاج - فيما يظهر - إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المطمئن، وهذا الفراغ الفني الذي يتيح للذوق أن يستأني ويتمهل ويسيغ الأشياء في غير جهد ولا مشقة، ولا تعرض لهذا العناء السريع الذي نتعرض له حين يسلط الجو علينا هذا الحر الشديد.
وأكبر الظن أن صاحبي الذي تعود أن يسرع إلي، إذا كان ميعادنا من كل أسبوع لنأخذ فيما تعودنا أن نأخذ فيه من أحاديث الشعر القديم، قد أحس من الصيف مثل ما أحس، وأنكر من نفسه مثل ما أنكر، واستيقن أن طاقته لا تستطيع أن تثبت لدرس الشعراء القدماء، وما يعرضون له من صور مهما تكن جميلة رائعة، موفورة الحظ من الروعة والجمال، فإنها أبية عصية، لا تسمح بمكنونها، ولا تتكشف عن مخزونها إلا بعد شيء من التردد والتمنع والإباء، يكلف الذين يطلبون إليها جمالها وروعتها شيئا من جهد، وفضلا من عناء.
يظهر أن صاحبي قد أحس هذا كله فأخلف الموعد لأول مرة، ثم أخلفه للمرة الثانية، ثم سألت عنه والتمسته في مظانه، فلم أهتد إليه، ولم أدل عليه، وخيل إلي أنه قد فر من هذا الجو فرارا، وأي شيء أيسر عليه من الفرار، وهو لا يحتاج إلى مثل ما نحتاج إليه نحن من التهيؤ الطويل الثقيل للأسفار، فلا بد لي إذن من أن أستيئس من التحدث إليه في الشعر القديم حتى تنجلي غمرة الصيف، وإذا كان هو على لينه ورقته واعتصامه بهذه الرقة وذلك اللين من أعراض الحر والبرد قد فر من أحاديث الشعر القديم، فما أجدر غيره من الناس أن يضيقوا بهذه الأحاديث، وما أجدر الكتاب إذا لم يكن لهم بد من الكتابة أن يرفقوا بقرائهم إذا كتبوا، وألا يتحدثوا إليهم من الموضوعات فيما يكلفهم جهدا وشططا.
والكاتب مدين لقارئه بهذا الرفق، أو قل: إن الكاتب مدين لنفسه بأن يرفق بقرائه إن كان حريصا حقا على أن يقرءوه، راغبا حقا في أن يتحدث إلى عقولهم اليقظة المفكرة، لا في أن يكون سبيلهم إلى الضجر والسأم، أو إلى الفتور والنوم.
अज्ञात पृष्ठ
ويخيل إلي أن الكتاب الغربيين يقدرون هذا الطور من حياتهم وحياة قرائهم قدره، فهم يرفقون بأنفسهم وبالقراء إذا أقبل الصيف، وهم يتخففون من الموضوعات الضخمة الفخمة، والمسائل المشكلة المعضلة التي يعرضون لها في غير الصيف من فصول السنة، وهم لا يعرضون من الأحاديث إلا للسهل اليسير الذي لا يكلف المتحدث ولا السامع مشقة، ولا يكلفه جهد التروية والتفكير، وهم ينتهون - بفضل هذا الرفق بأنفسهم وبالقراء - إلى إنشاء أدب خاص يتناول موضوعات قلما تتناول في غير فصل الصيف، ويتناولها في صور قريبة مواتية قلما تظهر في الشتاء أو الربيع.
وهذا الأدب الخاص الذي تمتلئ به الصحف الغربية في هذا الفصل من فصول السنة يمكن أن نسميه: أدب الصيف، أو أدب الإجازة، أو أدب الراحة والاستجمام.
وموضوعات هذا الأدب الصيفي تفرض نفسها على الكتاب والقراء فرضا، كما أن موضوعات الأدب كلها تفرض نفسها فرضا على الكتاب والقراء الذين يستحقون أن يسموا كتابا وقراء. فإذا أقبل الصيف تفرق الطلاب والتلاميذ وفرغوا لحياة الأسرة وقتا غير قصير، فتغيرت حياتهم تغيرا ظاهرا، وكانت خليقة أن تثير عناية الكاتب وعناية القارئ معا، وأن تدعوهما إلى التفكير المشترك فيما يلقى الطلاب والتلاميذ من الجهد العنيف المحتوم أثناء السنة الدراسية، وفيما ينتهي إليه الطلاب والتلاميذ من نتائج هذا الجهد التي ينكشف عنها الامتحان، وفي الملاءمة بين هذا الجهد المتصل وبين طاقة الطلاب والتلاميذ وانتفاعهم وتكون عقولهم، وأخلاقهم وأجسامهم، وفي حياة الدرس وحياة الفراغ، وما يكون للأسرة من تأثير في هذه الحياة أو تلك ومن تأثر بهذه الحياة أو تلك، وأظن أن موضوعا من هذه الموضوعات خليق أن يلهم الكاتب المجيد فصولا خصبة قيمة تثير في نفس القارئ كثيرا من العواطف، وتدفعه إلى كثير من التفكير.
على أن الطلاب والتلاميذ إذا فرقهم الصيف من مدارسهم، وردهم إلى الآباء والأمهات، لم يستقروا في دورهم ومنازلهم أكثر الوقت، وإنما يزعجهم الصيف عنها إزعاجا، أو قل: إنهم ينتقلون عنها مختارين، وقد تهيئوا لهذا الانتقال، وتهيأت له أسرهم أيضا. وأكبر الظن أن هذا الانتقال قد كان عزاءهم وعزاء آبائهم وأمهاتهم عما يجدون من جهد، وما يلقون من عناء في الدرس المرهق والعمل المتصل، وأكبر الظن أنهم كانوا يتمثلون هذا الانتقال وما سيعقبه من راحة لأجسامهم وعقولهم، ومن تغيير لما يرون ويسمعون ويحسون.
كانوا يتمثلونه أول العام آسفين عليه بعد أن قضوا حاجتهم منه، ثم يتمثلونه أثناء العام مشوقين إليه بعد أن بعد عهدهم به، ثم يتمثلونه آخر العام راغبين فيه أشد الرغبة، مندفعين إليه أشد الاندفاع يعدون الأيام والليالي التي تفصل بينهم وبينه، ويستعينون بذلك على المسائل المشكلة، والكتب الطوال الثقال، وعلى أهوال الامتحان التحريري وأخطار الامتحان الشفهي، وعلى هذه الساعات المخوفة التي تعلق فيها نتائج الامتحان على جدران المدارس والجامعات. وإذا تفرق الطلاب والتلاميذ مع أسرهم فهم يهجرون دورهم ومنازلهم ومدنهم وقراهم إلى الجبال أو إلى البحار، أو إلى البحيرات، أو إلى السهول الجميلة النضرة والغابات الكثيفة الملتفة. وكل هذا خليق أن يوصف، وأن يكون موضوعا للحديث الطريف الممتع.
والغريب أن الزمن يستدير في كل عام كهيئته في الأعوام التي مضت، وأن الصيف يلم ويمضي، وأن الطلاب والمدرسين يتفرقون عن مدارسهم ويعودون إليها، ويلمون بأسرهم ويرحلون عنها، ويقصدون إلى الجبال والبحار وإلى الأودية والسهول، ثم يردون إلى مدارسهم وجامعاتهم، كما يرد الآباء والأمهات إلى مناصبهم وأعمالهم، وأن الكتاب يتحدثون إليهم في كل صيف عن هذه الموضوعات دون أن يستنفدوا ما يقال عنها أو يكتب فيها، ودون أن يكرروا ما يقولون، أو يعيدوا ما يكتبون، كأن كل صيف إذا أقبل يقبل بشيء جديد، ولا يعود على الناس بمثل ما كان قد حمل إليهم من قبل. هذا غريب في ظاهره، ولكن قليلا من التفكير الذي يحتمله الصيف ولا يمنع منه اشتداد القيظ يدل على أن هذا لا غرابة فيه، فكل صيف يقبل ككل يوم يقبل، إنما يحمل إلى الناس ذكريات لما مضى، وآثارا لما انقضى، فيها الرضى وفيها السخط، فيها اللذة وفيها الألم، ويحمل إليهم كذلك آمالا فيما يقبل من الدهر، كما يحمل إليهم خوفا وإشفاقا.
بل إن كل صيف يقبل ككل يوم يقبل، لا يحمل الجديد للناس وحدهم، وإنما يحمل الجديد للأشياء أيضا، فهل أنت واثق بأن الغابة التي تراها في هذا الصيف بعد أن رأيتها في الصيف الماضي قد احتفظت لك بكل ما أرتك في العام الماضي من شجر وزهر، ومن أوراق وغصون، ومن طير وحيوان؟ هل أنت واثق بأنها لم تغير هذا كله أو بعضه، أو بأن الأحداث لم تغير هذا كله أو بعضه، ولم تذهب منه بما رأيت، ولم تحدث لك منه ما لم تر؟ وهل أنت واثق بأنك حين تعود إلى هذا المصطاف الذي تعودت أن تنفق فيه الصيف، ستلقى الوجوه التي لقيتها في العام الماضي، وتسمع الأحاديث التي سمعتها في العام الماضي، وتخوض مع الناس فيما كنت تخوض معهم فيه أثناء العام الماضي؟ كلا، بل أنت واثق بأنك ستلتمس كثيرا من الأشياء التي أعجبتك وراقتك حين ألممت بهذا المكان أو ذاك، فلا تجدها، وستحزن عليها شيئا من حزن، وستثير غيبتها في نفسك قليلا أو كثيرا من الأسى، وستجد في هذا الأسى وذلك الحزن شيئا من هذه اللذة الشاحبة التي نسميها: الشوق والحنين. فأي غرابة في أن يجد الكتاب والشعراء جديدا يتحدثون به إلى الناس كلما أقبل الصيف؟
وإني لأعرف فصلا من فصول الأدب الصيفي الفرنسي، رأيته يتجدد في كل عام إذا أقبل الصيف، وجعلت أتتبع بعض ما أستطيع أن أتتبعه منه كلما سنحت لي الفرصة، فما أحسست أني ضقت به أو زهدت فيه أو أدركني سأم من قراءته، ولا أحسست أني أقرأ شيئا معادا وحديثا مكررا.
وما أشك في أن هذا الفصل من الأدب الفرنسي الصيفي قديم قد بدأ الفرنسيون في كتابته منذ زمن بعيد، وما أشك في أنه سيظل جديدا أبدا، سيكتب الفرنسيون فيه كل عام لا يسأمهم ولا يسأمونه، وهو وصف باريس إذا أقبل الصيف فخلت من أهلها الباريسيين، واستعدت للقاء زوارها الغرباء.
كثير جدا ما يقوله الفرنسيون في مدينتهم هذه حين ترسل أهلها إلى الجبل والبحر، وتستقبل الغرباء من أهل الأقاليم أو من أهل البلاد الأخرى القريبة والبعيدة، فهم يصفون شكل المدينة الذي يتغير ويختلف بتغير المضطربين فيها، والمندفعين في شوارعها والمزدحمين على قهواتها وأنديتها، وهم يصفون لغة باريس أو لغة أماكن معينة في باريس، فهي فرنسية باريسية أثناء العام، ولكنها فرنسية إقليمية أو فرنسية أجنبية أثناء الصيف. وهم يصفون هذه الملاهي والملاعب التي تغلق أبوابها وترسل أصحابها إلى مدن الصيف، وهذه الملاهي والملاعب التي لا تغلق أبوابها، وإنما ترسل رجالها إلى مدن الصيف، وتستخدم ما يسمونه: البطانة؛ لتلهية الغرباء وتسليتهم. ثم هم يصفون هؤلاء البائسين من الباريسيين الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى أن يقيموا في باريس حين يرحل عنها الناس، فإن كانوا من الفقراء أو من الطبقات الوسطى احتملوا مقامهم في مدينة النور المهجورة في شجاعة وكبرياء، وصبر على المكروه، وإن كانوا من الأغنياء والمترفين احتملوا ذلك في حياء شديد، وجدوا في التنكر والاستخفاء. فإن لقيهم لاق أو عثر بهم عاثر اجتهدوا في التماس المعاذير والتعلات، يعللون بها ما لا يقبل التعليل من إقامتهم في هذا البلد الذي لا مقام فيه لرجل يعرف الذوق والأوضاع الاجتماعية، ويعرف ما يليق وما لا يليق، وما يحسن وما لا يحسن.
अज्ञात पृष्ठ
وللكتاب الفرنسيين فنون في تصوير هذا الفصل من الأدب الصيفي تلقاها في صحفهم على اختلافها، تلقاها في صحفهم الهازلة، كما تلقاها في صحفهم الجادة. ثم لهم فصول يصفون فيها السواحل وحياة المستحمين، وأخرى يصفون فيها مدن الماء، وأخرى يصفون فيها مصايف التلاميذ الفقراء، ولهم بعد هذا فصول يصفون فيها هذه الألوان من اللهو الذي يبتكره المصطافون ابتكارا؛ ليستعينوا به على الوقت والفراغ، وليستعين به بعضهم على بعض.
وهناك طائفة من الكتاب إذا أقبل الصيف ولم يجدوا ما يكتبون عن بلادهم كتبوا عن البلاد الأخرى، يسعون إلى ذلك، ويبلغونه بالسفر وبالقراءة، فهذا الناقد من نقاد التمثيل ينظر، فيرى الملاعب قد أقفلت أو أعرضت عن التجديد أثناء الصيف، فينتهز الفرصة، ويتحدث إلى قرائه عن الأدب التمثيلي الأجنبي في فصول ظريفة من أجمل ما يقرأه الناس، فإذا لاحظت أن المثقفين من الأوروبيين - وما أكثرهم - يشغلون بالعمل في أكثر السنة، ولا يجدون من الوقت ما يحتاجون إليه ليقرءوا كل ما يحبون أن يقرءوا من آثار الكتاب والشعراء والعلماء التي تظهر في فصل الإنتاج العقلي، وأنهم يجمعون هذه الآثار ويضمون بعضها إلى بعض، وينتظرون بها فصل الإجازات؛ ليعكفوا عليها إذا ظفروا بقسطهم من الراحة، أقول، إذا لاحظت هذا، عرفت أن القراء من المثقفين الأوروبيين يشقون على أنفسهم في حقيقة الأمر؛ لأنهم يقرءون ما ادخروا لأنفسهم أثناء العام، وهم لذلك في حاجة إلى أن يرفق بهم الكتاب، فلا يكلفوهم جهد القراءة العنيفة الفنية الدسمة - إن صح هذا التعبير الذي لا أحبه وإنما أضطر إليه.
هذا هو الذي يكون، أو هو بعض الذي يكون في أوروبا إذا أقبل الصيف. فما الذي يكون في مصر حين يقبل هذا الفصل من كل عام؟ أما أن الطلاب والتلاميذ يتفرقون ويعودون إلى أسرهم ويصطاف القادرون منهم على الاصطياف؛ فشيء ليس فيه شك، وأما أن المصريين أنفسهم يرحلون عن مدنهم وقراهم، بل عن قريتهم الكبيرة التي نسميها القاهرة؛ ليصطافوا في مصر وفي غير مصر؛ فهذا شيء ليس فيه شك أيضا، بل ليس من شك في أن كثيرا من أهل القاهرة يهجرون مدينتهم إذا كان الصيف، وفي أن كثيرا من أهل الأقاليم يتخذون هذه المدينة الجميلة الثقيلة مصطافا؛ لأنها أقل حرا من أقصى الصعيد ومن كثير من قرى الريف، وفي أن كثيرا من أهل القاهرة يعجزون عن الرحلة، ويضطرون إلى المقام، فيكرهون ذلك ويضيقون به، ويلتمسون لأنفسهم منه المعاذير، ولكن الغريب أن شيئا من هذا كله لا يلهم كتابنا وأدباءنا حديثا من أحاديث الصيف هذه التي تمتلئ بها الصحف الأوروبية في هذا الفصل من كل عام.
شيئان اثنان يعني بهما الكتاب المصريون إذا كان هذا الفصل، أحدهما: موسم الامتحانات وما يثير من ضجيج وعجيج، ومن شكاة واستعطاف، ومن نقد للأسئلة ولوم للسائلين. والثاني: مصايف البحر وما تثير من هذا السخط الذي تمتلئ به نفوس جماعة من المتحرجين، يغضبون للحياء والأخلاق، ويكتبون الفصول الطوال يستعدون بها الحكومة على حماية الحياء والأخلاق، وما أظن أن كتابنا يعنون بغير هذين الأمرين من أمور الصيف خاصة.
هم إذن لا يرفقون بأنفسهم، ولا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعا، وصدوا عنها صدودا، وأراحوا أنفسهم من الكد، واستمتعوا بفترة قصيرة من الهدوء الذي هم أهل له. ولكن الصحف لا بد من أن تظهر، ولا بد من أن تظهر ممتلئة الأنهار، وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء كل العناء، أولئك يريدون أن يملئوا الصحف فلا يجدوا ما يملئونها به، وهؤلاء يريدون أن يقرءوا فلا يجدون ما يقرءون. وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي العام، ومع ذلك فما أبعد الصيف عن أن يكون فصلا من فصول الكساد لو عرفنا كيف نستقبله ونحتمله ونعاشره ونفارقه، كما يفعل غيرنا من الناس، على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف؛ لعلي أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته، ولهم علي ألا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال.
يونيو 1935
حوار في الأدب
لم يرفع لي رأسه حين دخلت عليه، ولم يردد علي التحية حين أهديتها إليه، وإنما ظل مطرقا ممعنا في إطراقه، صامتا مغرقا في صمته، تمضي عينه رفيقة في كتاب قد وضعه أمامه على المائدة، وتعبث يده عبثا منتظما بقلم قد أخذت تضرب به صحفا منتثرة على المائدة على يمينه كأنما يداعب به هذه الصحف.
وليس من شك في أنه كان يقرأ ما يقرأه في عناية شديدة، وقد أخذ قلمه ونثر هذه الصحف ليسجل ما يخطر له من الملاحظات، وكنت خليقا أن أضيق بهذا الإعراض الذي لقيني به، وأنكر هذا الانصراف الذي ألح فيه، لولا أن الكلفة بينه وبيني مرفوعة، والألفة بينه وبيني متصلة، ولولا أني أعرف منه هذا النبو عما تعود الناس فيما بينهم من صلات قد يكون حظها من التكلف والنفاق أعظم من حظها من السذاجة واليسر، ومن هذه الصراحة التي لا تدع بين النفوس حجبا ولا أستارا.
وقد كان من الممكن أن أدخل عليه فلا ألقي إليه تحية ولا أنتظر منه جوابا، وإنما أعمد إلى هذا المكان الذي ألفته من غرفة عمله فأستقر فيه هادئا منتظرا أن يفرغ لي، أو أستقر فيه نشيطا لبعض ما أنشط له من العمل حين أدخل هذه الغرفة المغرية بالقراءة والجد لكثرة ما اشتملت عليه من الكتب المتنوعة في الفن والأدب والعلم. ولكني في ذلك الصباح دخلت عليه كما أدخل على غيره من الناس، وأهديت إليه التحية كما أهديها إلى غيره من الناس، فلما آنست منه هذا الإعراض ذكرت أني أزوره هو لا غيره من ذوي المودة والمعرفة، فعدت إلى ما ألفت من الأمر عند لقائه، وأقبلت على ما أردت أن أقبل عليه من عمل، وتركته لكتابه وقلمه يقرأ في أحدهما بعناية، ويعبث بأحدهما الآخر في نظام واطراد.
अज्ञात पृष्ठ
ولم تمض لحظات قصار حتى نسيت مكاني منه ومكانه مني، وإذا أنا أثوب إلى نفسي فجأة كأنما آت من بعيد يدعوني إلى نفسي وإلى ما حولي، هذا الصوت أو هذه الأصوات التي أسمعها مختلطة متمايزة في وقت واحد؛ فصوت إنسان يرتفع في الغرفة فيملؤها بهذه الألفاظ: أما الآن فقد فرغت لك فافرغ لي، وصوت كتاب متوسط الضخامة يلقى على المائدة في عنف، وصوت قلم نحيل ضئيل يلقى على المائدة إلقاء بين العنف والرفق، فيضطرب عليها اضطرابا يسيرا.
قلت لصاحبي: قد فرغت لي حين أردت، أو حين أتيح لك الفراغ، فأما أنا فلا أريد أن أفرغ لك، أو قل: لم يتح لي بعد أن أفرغ لك. فلم يرد علي جوابا، ولكنه مشى رفيقا إلى صاحبي ونظر في الكتاب الذي كان يقرأ لي فيه، ثم انتزعه من يد صاحبي انتزاعا، وقال: هذا كتاب قرأته منذ أعوام، وما ينبغي أن تقرأه وحدك، فسنقرأه معا، وسيكثر الحوار بيننا حول ما جاء فيه من الخواطر والآراء، وسنبدأ هذه القراءة - إن شئت - بعد ساعة إذا رددت عليك تحيتك بأحسن منها، وإذا شربنا من القهوة قدحا أو قدحين، وأحرقنا سيجارة أو سيجارتين، وأدرنا الحديث بيننا قليلا أثناء ذلك حول صاحبكم هذا الذي أقمتم له الدنيا وأقعدتموها منذ عام، والذي تقيمون له الدنيا وتقعدونها منذ أول هذا القرن.
قلت حول أبي العلاء ... إليك عني؛ فقد شبعت من حديث أبي العلاء حتى أدركتني التخمة أو كادت تدركني، فدعني أسترح منه، ودعني أرح منه الناس حينا، فقد صدقت؛ لقد أقمنا الدنيا وأقعدناها بحديث أبي العلاء، ولقد أقمنا أنفسنا وأقعدناها بحديث أبي العلاء؛ حتى أخذنا الدوار، وآن لرءوسنا أن تستقر، ولأعصابنا أن تهدأ، ولألسنتنا وعقولنا أن تأخذ في حديث آخر. فإذا أخذنا وأخذ الناس قسطا من راحة، وحظا من دعة؛ عدنا إلى حديث أبي العلاء، قمنا به وقعدنا وأقمنا الناس به وأقعدناهم، فإن قصة أبي العلاء لم تنته بعد.
قال صاحبي وهو يضحك: لا تخدع نفسك ولا تخدعني، فما سئمت حديث أبي العلاء ولا ضقت بهذا الدوار الذي اضطرك إليه هذا الحديث، وما أعرف أنك تحب شيئا كما تحب هذا الدوار الذي يفنيك في صاحبك ويشغلك عن غيره من الناس والأحداث والخطوب. على أني لن أحاورك فيما شغلتم به أنفسكم وشغلتم به الناس من آراء أبي العلاء في الفلسفة والسياسة والأخلاق والدين وشئون الاجتماع، فكل هذه الأشياء قد ضقنا بها حقا، وآن لنا أن نستريح منها وقتا، إنما أريد أن أحاورك في شعر أبي العلاء؛ فقلما تحدثتم في هذا الموضوع، وقلما حاولتم أن تتعمقوه، وقد جعل بعضكم يزعم للناس أنه شعر، وجعل بعضكم الآخر يزعم للناس ألا حظ له من شعر، أو أن حظه من الشعر ضئيل.
قلت: وتريد أنت أن تأتي بالقول الفصل في هذه القضية، وأن تمحو الخصومة فيها محوا، وتلغيها إلغاء، وترد الناس إلى شيء من الوفاق لا يختلفون بعده أبدا ... قال: لا تعبث بي، ولا تسرف في إساءة الظن برأيي؛ فإني لم أصل من الجهل بأمور الشعر إلى هذه المنزلة، ومتى رأيت الناس يصلون إلى الاتفاق في أمر شاعر من الشعراء فيقضوا له جميعا بالتفوق أو بالتوسط أو بتواضع المنزلة؟ قلت: فسنظل مختلفين في شعر أبي العلاء كما نحن مختلفون في شعر غيره من الشعراء. قال: فإن الخلاف في شأن أبي العلاء يأخذ شكلا خاصا لم يأخذه الخلاف في شعر المتنبي وأبي تمام أو مسلم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم قد فرغوا للشعر، وقصروا عليه حياتهم، ووقفوا عليه جهودهم، وسلكوا إليه الطرق التي تعود الشعراء أن يسلكوها إلى الإجادة في الفن.
فأما أبو العلاء فأمره لا يخلو من غرابة؛ فهو من أكثر الشعراء شعرا، ولعله إن وصلت إلينا آثاره كلها أن يكون أكثرهم شعرا، ثم هو لم يسلك في الشعر طريقة واحدة، ولم يقصد به إلى غاية واحدة من غايات الفن، وإنما قصد إلى غايات مختلفة متنوعة، كما سلك طرقا متمايزة متباينة؛ فهو شاعر كغيره من الشعراء يصور عواطف نفسه وأهواءها، ويصور عواطف الناس وأهواءهم، ويصور مظاهر الطبيعة من حوله كما استطاع أن يصورها، يشارك في المدح والرثاء، كما يشارك في الفخر والوصف، وكما يشارك في الهجاء إلى حد قريب. ولكنه يذهب مذاهب أخرى؛ فيقول في الفلسفة، وفي الفلسفة التي لم يتعود الشعراء أن يطرقوها ولا أن يخضعوها للنظم، ويقول في السياسة على غير النحو الذي ألفه الشعراء السياسيون، ويقول في النقد الاجتماعي والديني، ويذهب مذهب الألغاز، كما يذهب مذهب الرمز.
ثم هو يسلك في هذه الأغراض كلها طرقا؛ منها المستقيم البين، ومنها الملتوي الغامض، يسلك طريق الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، فيسهل في ألفاظه حينا، ويشق فيها على نفسه وعلى الناس حينا آخر، ويلزم عمود الشعر مرة كما لزمه القدماء، فيجري على طبعه وعلى طبع اللغة، وينحرف عنه مرة أخرى، فيمضي على طريقة أبي تمام وأصحابه، صانعا حينا ومتصنعا حينا، ويمضي على طريقة المتنبي؛ فيأخذ في هذا التكلف الذي يلجأ إليه الشعراء حين توشك شجرة الشعر أن تجف، وحين توشك زهرات الشعر أن يدركها الذبول، ثم ينحرف عن هذا كله مرة واحدة، ويسلك في اللزوميات وغير اللزوميات طرقا لم يسلكها أحد قبله، فيتجافى بألفاظه ومعانيه عن المألوف، ويتجافى بالقافية خاصة عن المألوف، فيكلف نفسه ويكلف الناس من أمره شططا، ويخضع المعاني للقوافي، ويجعل نفسه وخواطره وعواطفه عبيدا لهذه القوافي.
فأنت ترى أن أمر الشعر عند أبي العلاء ليس كأمر الشعر عند غيره من الشعراء، بل هو أشد التواء وأكثر تعقيدا؛ ولهذا اختلف في حظه من الشعر وفي تقدير ما ترك من الكلام المنظوم القدماء والمحدثون جميعا، وظهر هذا الخلاف في عصره وفي آثار تلاميذه الذين سمعوا منه على كل حال. قلت: وماذا تريد أن أصنع؟ اختلف الناس في شعر أبي العلاء قديما وحديثا، وسيظلون مختلفين في شعره؛ فدعهم يختلفوا، فلو شاء ربك لاتفقوا، ولكنه لم يشأ، وهم مختلفون في شعر أبي العلاء كما هم مختلفون في الشعر كله، وكما هم مختلفون في كل شيء.
قال: فإني كنت مشغولا حين دخلت عليه بقصيدة من قصائده تلك التي قالها في بغداد، قرأتها مرة ومرة، وجعلت أنظر في أبياتها بيتا بيتا، ثم أنظر فيها كلها جملة، ثم أنظر فيما قيل حول أبياتها من الشرح والتفسير، ثم أسأل نفسي؛ أكان أبو العلاء شاعرا أم لم يكن؟ أأقرأ شعرا جيدا أم أقرأ شعرا متوسطا أم أقرأ شعرا رديئا؟ والغريب أني لم أكن أظفر بجواب مقنع عن سؤال واحد من هذه الأسئلة، أو قل: إني كنت أظفر بأجوبة مختلفة لكل هذه الأسئلة، فقد كنت أرى أن أبا العلاء شاعر؛ لأني كنت أهتز لبعض أبياته، وكنت أرى أنه ليس شاعرا؛ لأني كنت أزور عن بعض أبياته، وكنت أرى أني أقرأ شعرا جيدا وشعرا متوسطا وشعرا رديئا، ولولا أن هذا كله قد دفعني إلى كثير من الحيرة والاضطراب لمضيت في قراءتي، ولخليت بينك وبين كتابك هذا الذي كنت مقبلا عليه.
قلت: فأول ما ينبغي أن نسجله: هو أن هذه القصيدة لم تملك عليك أمرك، ولم تستأثر بقلبك، ولم تخرجك عن طورك، وإنما أتاحت لك السؤال والجواب والتفكير والتقدير، فهي إذن ليست قصيدة رائعة، ولو قد كانت كذلك لما اضطررت إلى حيرة ولا إلى اضطراب، ولكن أرجو ألا تكون من هؤلاء الذين يقضون على الشاعر ببيت من أبياته أو قصيدة من قصائده. قال: لست من هؤلاء، ولست أرى أن هذه الحيرة التي دفعت إليها تمنع أن تكون هذه القصيدة رائعة؛ فقد أكون أنا مصدر هذه الحيرة، وقد يكون ترددي في أمرها ناشئا عن قصور مني، لا عن قصور من الشاعر أو تقصير. وأنت تعلم أن من خير ما تنتهي إليه الآثار الفنية في نفوس الذين يشهدونها أن تثير فيها الحيرة والتردد والاضطراب. ولست أخفي عليك أني لا أحب الإعجاب اليسير، ولا أغالي بهذه الروعة التي تأخذني من جميع أقطاري، وتمنعني من التفكير والتقدير والحكم.
अज्ञात पृष्ठ
قلت: وما عسى أن تكون هذه القصيدة التي أضاعت علينا كل هذا الوقت، فقد شربنا القهوة وأحرقنا سجائر لا سيجارتين، وأجلت قراءتنا لهذا الكتاب البائس إلى أجل غير مسمى. قال: هي قصيدته التي قالها في بغداد يصور فيها حنينه إلى المعرة، والتي أولها:
طريق لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن وما لي
قلت: كفى الله عنك، لقد شككت في غير موضع للشك، وأدركتك الحيرة في غير مصدر للحيرة، فهذه القصيدة من خير ما قال أبو العلاء؛ لأنها تصور أكرم ما يحب الرجل، أو قل: أكرم ما يحب الشاعر أن يصور من ذات نفسه. قال: هذا شيء أحدث نفسي به ولا أكاد أحققه؛ لكثرة ما في هذه القصيدة من إغراب والتواء يأتيانها من هذا الحديث الطويل عن الإبل، ومن هذا الحديث الطويل عن الطريق وأهوالها، ومن هذه الألوان المتكلفة من الاستعارة والمجاز والطباق. قلت: فإنك لا تعيب على القصيدة إلا أنها شعر. قال: وما ذاك؟ قلت: تعيب على القصيدة ما فيها من حديث طويل عن الإبل وعن الطريق وأهوالها، وما فيها من ألوان الفن البياني؛ كأنك تريد من أبي العلاء أن يتحدث إليك حديثا مباشرا يسيرا قريب المنال بما أراد أن يقول، ولو أنه استمع لك وأجابك إلى ما تريد لما زاد على أن يقول إنه ما دام على فراق المعرة مشوق إلى أن يعود إليها، لا يعدل بها ولا بأرض الشام مدينة أخرى وإن كانت بغداد، ولا أرضا أخرى وإن كانت العراق.
إنه لم يرد أن يقول أكثر من هذا، أستغفر الله! بل أراد أن يقر الطمأنينة في نفس إخوانه من أهل الشام، على أنه لم يزل عزيزا كريما لم يذل نفسه بالسؤال، ولم يبتذل وجهه بتملق الأغنياء وإن كان حظه من المال ضئيلا، أفتراه وقد حدثك هذا الحديث على هذا النحو اليسير أرضى حاجتك إلى الجمال الفني، وأثار من قلبك هذه العواطف المختلفة؛ عواطف الحنان والحنين والشوق والشكوى والارتفاع عن الصغائر والدنيات؟ قال: كلا، ولكنه يجعل بيني وبين هذا الجمال وهذه العواطف والخواطر حجبا كثافا من ألفاظه وأساليبه، فلو قد قربها إلي بعض التقريب ... قلت: فإنك تطلب إلى الشاعر ما لا ينبغي أن يطلب إلى الشعراء، فليس من الحق على الشاعر أن يقدم إليك فنه الرائع وأنت هادئ وادع مطمئن ناعم البال؛ وإنما الحق عليك أن تجد كما جد، وتتعب كما تعب، وتشقى بالتماس الجمال كما شقي هو بعرض هذا الجمال. ذلك أحرى أن يجعل استمتاعك بالفن فيما تدركه عن استحقاق، وذلك أحرى أن يجعلك شريك الشاعر في هذا الجهد الخصب الخالد الذي يبذله الشعراء وقراؤهم وسامعوهم؛ ليصلوا إلى هذه الغاية العليا، وهي تصفية النفس وتنقية الذوق وترقية الطبع وإصلاح الضمير.
وبعد، فما الذي أعياك من هذه القصيدة؟ وصفه الإبل؟ فإنه لم يصف إلا حنينها إلى ما ألفت من أرض الشام، وهو قد افتن في تصوير هذا الحنين؛ فجعل الإبل تتطاول إلى هذا البرق المقبل من الشام، وتتطاول حتى تكاد أن تقطع أعناقها لتصطلي بنار هذا البرق. وجعل هذه الإبل ترجع حنينها إلى الشام تتلو كتابا منزلا فيه حب الوطن وإيثاره على كل وطن آخر، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تنشد قصيدة لا يدرى أحديثة هي أم قديمة؛ لأن الحنين إلى الوطن خالد، لا يدري أحد أحديث هو أم قديم، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تغني أصواتا في الثقيل الأول من ضروب الغناء، فيها إبطاء وأناة وتمهل؛ لأن الحنين إلى الأوطان يلزم النفس في جميع خطوات الحياة، وجعل هذه الإبل تريد أن تطير إلى أوطانها في الشام، لولا أن العقال يمنعها من أن تطير، وهو مع ذلك ليس واثقا بأن العقال يمنعها من الطيران، ولولا رفقه بها وحبه لها لأمر صاحبه بأن يقيدها بالسيف.
وهل تظن أن الإبل أحست شيئا من ذلك أو حاولته؟ كلا، وإنما هو أبو العلاء قد أحس هذا كله وأكثر من هذا كله، وحاول هذا كله وأكثر من هذا كله، وأدى ما أحس وما حاول في هذا النحو من الرمز كما أداه الشعراء منذ العصر القديم، ثم لم يستطع أن يكتفي بالرمز؛ فجعل الرمز وسيلة إلى خلق البيئة وإنشاء الجو الشعري كما يقال في هذه الأيام، حتى إذا بلغ من ذلك ما أراد صرح عن نفسه في غير لبس ولا التواء ولا تردد ولا استحياء، فقال هذين البيتين اللذين ما أظنك تجادل في روعتهما التي تأتيهما من صدق العاطفة، قال:
ومن لي بأني في جناح غمامة
تشبهها في الجنح أم رثال
تهاداني الأرواح حتى تحطني
अज्ञात पृष्ठ
على يد ريح بالفرات شمال
ولا يرعك قوله: «تشبهها في الجنح أم رثال»؛ فإنه أسلوب مألوف من أساليب القدماء حين كانوا يشبهون السحاب بالنعام، ولكنك تحب التصريح والكلام القريب، فهو يتمنى ما كان ينكره على الإبل من العودة إلى أرض الشام تحمله إليها غمامة أو تتهاداه الريح حتى تبلغ به شاطئ الفرات غير بعيد من حلب والمعرة.
وإذا كنت تريد تصريحا أصرح ووضوحا أوضح فاقرأ قوله:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تغيث بها ظمآن ليس بسال
ولا يشغلك الشعر عن التاريخ؛ فأبو العلاء يقول هذه القصيدة بعد أن وصل إلى بغداد بليال قليلة، وهو يقول بعد ذلك:
دعا رجب جيش الغرام فأقبلت
رعال ترود الهم بعد رعال
अज्ञात पृष्ठ
فهو إذن قد وصل إلى بغداد في جمادى الثانية، وأكبر الظن أن هذه القصيدة هي أول ما صور شوقه إلى المعرة بعد أن وصل دار السلام.
وأنت تريد الكلام الواضح اليسير الذي لا التواء فيه ولا غموض، ولا رمز فيه ولا تلميح، فاقرأ قوله:
أإخواننا بين الفرات وجلق
يد الله لا خبرتكم بمحال
أنبئكم أني على العهد سالم
ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغيرها
تيممه غيلان عند بلال
وهممت أن أمضي في الحديث، ولكن صاحبي يمس كتفي مسا رفيقا وهو يقول: على رسلك، ألست ترى أنا ننصف أنفسنا وننصف أبا العلاء إن استأنفنا قراءة «سقط الزند» من أوله؟ قلت: هذا شيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أنك ستقرأ معي هذا الكتاب الفرنسي الذي صرفتني عنه آنفا، أو ستخلي بيني وبينه حتى أقرأه؛ فقد شغفت بهذه الصحف الأولى منه. قال وهو يضحك: ولن تمضي فيه حتى تزداد به شغفا وكلفا.
نوفمبر 1944
अज्ञात पृष्ठ
عيد
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
هذا سؤال ألقاه المتنبي على أحد الأعياد في مصر منذ ألف عام، وأظن أن كل شاعر أو غير شاعر يستطيع أن يلقيه اليوم على عيد الاستقلال الذي تنعم به مصر السعيدة، ويستطيع أن يلقيه في نفس اللهجة اليائسة البائسة التي اصطنعها المتنبي، فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ألف عام في مصر، ولكن شيئا واحدا لم يتغير؛ وهو أن الشعب المصري ما زال كما تصوره قصيدة المتنبي راضيا ناعما رضي البال، تختلف عليه الأعياد فيستقبلها مبتهجا مغتبطا؛ لأنها تحمل إليه من ألوان السعادة والبهجة والغبطة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والشعراء وأمثال الشعراء من المفكرين والمفلسفين هم وحدهم الذين ينظرون إلى هذا الشعب، فإذا رأوه ساهيا لاهيا، وراضيا ناعما؛ رسموا على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، وقالوا كما قال المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
وقد أرادت دورة الفلك أن يستقبل المصريون اليوم عيدين في نهار واحد: عيد قديم بعد به العهد؛ وهو عيد وفاء النيل، وعيد حديث قرب به العهد؛ وهو عيد الاستقلال. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1936 أمضى المصريون - وكانوا يومئذ مجتمعي الكلمة موحدي الرأي - هذه المعاهدة التي تنظم الأمر بيننا وبين حلفائنا الإنجليز، ثم عادوا فقرروا أن هذا اليوم سيصبح عيدا وطنيا يذكر فيه المصريون خطوة خطيرة خطوها في سبيل الاستقلال. وما أظن أنهم قرروا أن يكون هذا اليوم عيدا يطمئن المصريون إليه ويقنعون بما يصور من ظفرهم ببعض الحقوق، وإنما أعتقد أنهم اتخذوه عيدا يثير في المصريين الأمل والشجاعة ومضاء العزم، يذكرهم بأنهم جاهدوا فظفروا ببعض الحق، فيجب عليهم أن يجاهدوا ليظفروا بالحق كله. مهما يكن من شيء؛ فالمصريون سعداء اليوم قد قرت عيونهم، وطابت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم؛ لأن النيل قد وفى لهم بما عاهدهم على أن يمدهم به في كل عام من الري والخصب والثراء، ولأن حلفاءهم الإنجليز قد وفوا لهم بما عاهدوهم عليه من احترام الاستقلال والاعتراف بالكرامة، والاحتفاظ لهم بالمودة والحب على أساس من الحق والعدل والمساواة.
وفى النيل فيجب أن يسعد المصريون، ووفى الحلفاء فيجب أن يسعد المصريون، وهم سعداء. ألا ترى إلى الحكومة قد قررت إراحة الوزارات والمصالح من العمل في هذا العيد السعيد، فأباحت للموظفين أن يناموا حتى يرتفع الضحى، وأن يستيقظوا آمنين لا يشفقون من الانتقال إلى دواوينهم مع صعوبة الانتقال، ولا من هذه الأعمال الشاقة المرهقة التي ينهضون بها في مكاتبهم، وأذنت لهم بأن يقيموا في بيوتهم إن يشاءوا، ويختلفوا إلى أنديتهم وقهواتهم إن أحبوا، يلقى بعضهم بعضا باسما، ويلقي بعضهم إلى بعض ألوان الحديث، يتندرون بما تنشر الصحف من أخبارهم وأخبار نظرائهم، ويتحدثون بما تنشر الصحف من ضروب الخصام والصراع بين المصريين، ويتفكهون بما تنشر الصحف المضحكة من ألوان الفكاهة وفنون الصور وصنوف الإشاعات، يجدون في هذا كله اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، ومتى تلتمس اللذة إذا لم تلتمس في يوم العيد، ومتى يطلب النعيم إذا لم يطلب يوم وفاء النيل بالري والثراء، ويوم وفاء الحلفاء بالكرامة والاستقلال؟
ألا ترى إلى الحكومة قد أمرت أن ترفع الأعلام على الدواوين في العاصمة والأقاليم؛ ليرى الناس جميعا أن الأمة المصرية راضية مبتهجة، تحتفل بعيدها السعيد، أو بعيديها السعيدين؟ كل شيء يدل في وضوح وجلاء على أننا سعداء، ويوجد بيننا مع ذلك من يرسم على ثغره هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويقول في لهجة المتنبي الساخرة اللذاعة:
عيد بأية حال عدت يا عيد
अज्ञात पृष्ठ
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
ذلك لأن هؤلاء الناس يرون أشياء لا تراها الحكومة، أو لا تحب أن تراها، أو لا تحب أن يظهر أنها تراها، وهم حين يرون هذه الأشياء يشعرون بأن هذه السعادة الظاهرة ليست من السعادة في شيء، وإنما هي تجلد على احتمال الشر، وتكلف لاحتمال الشقاء، واحتيال للتخلص من المكروه. فهؤلاء الذين أذنت لهم الحكومة بالراحة من الاختلاف إلى الدواوين لا يسعدون بالراحة، كما أنهم لا يسعدون بالعمل، وإنما هم أشقياء حين يذهبون إلى مكاتبهم، وأشقياء حين يستقرون في بيوتهم، وأشقياء حين يختلفون إلى أنديتهم، وحين يتجاذبون أطراف الحديث يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي خلقت لتحدث في الحياة أمورا ذات خطر، فردت إلى الخمول والخمود، والرضى بالقليل، والقناعة بما لا يقنع به إلا العاجزون الذين فرض عليهم التواضع في الآمال والأماني، وفي المطامع والمآرب فرضا.
يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي كان يمكن أن تكون كبارا، فاضطرت إلى أن ترضى بالصغر والضآلة، وتقنع بالهين من الأمر، فترضى بالعمل الذي لا يغني حين تعمل، وترضى بالراحة العقيمة المجدية حين تستريح.
إن هذه الثغور الباسمة لا تصور نفوسا باسمة، وإنما هو ابتسام يصور الكآبة، وابتهاج يصور الحزن، ورضى يصور السخط الذي عجز حتى عن أن يعلن نفسه إلى أصحابه؛ فاستقر دفينا في أعماق القلوب، يملأ نفوس أصحابه استخفافا بالحياة، وانصرافا عن جلائل الأعمال، ويقنعها بما كتب لها من هذه الحياة التافهة التي تمر بأصحابها وبمن حولهم وبما حولهم كما يمضي الماء الرفيق على الحجارة الملس، فلا يترك فيها أثرا يسيرا أو عميقا.
إن هذه الأعلام التي تخفق مع الريح لا تصور خفقات القلوب ولا خلجات النفوس؛ لأن القلوب لا تخفق، ولأن النفوس لا تختلج، وإنما هي حياة راكدة لا تدل على شيء، لا تصور فوزا قد ظفر به أصحابها، ولا تصور أملا يطمح إليه أصحابها، وإنما تصور أياما تمضي يتتابع فيها الليل والنهار في غير طائل ولا غناء. لقد وفى النيل للمصريين بالري والثراء، ولكن ما حظ المصريين من هذا الري؟ وما نصيب المصريين من هذا الثراء؟ إنهم يبلغون ما يقرب من عشرين مليونا من الناس قد وفى لهم النيل جميعا بالري والثراء، فكم منهم يستمتع بهذا الري؟ وكم منهم ينعم بهذا الثراء؟ آحاد الألوف أو عشرات الألوف أو مئات الألوف إن شئت، ولكن هناك ملايين وملايين من المصريين لا ينعمون بهذا الري؛ وإنما يشربون ماء يحمل إليهم المرض والأذى والعناء، ولا يستمتعون بالثراء وإنما يصارعون البؤس والحرمان، فيصرعهم البؤس والحرمان آخر الأمر وهم يسمعون أن حكومتهم تحتفل بوفاء النيل، وهم يعلمون أن النيل قد وفى، وهم يحتفلون بالعيد؛ لأن الأعياد قد خلقت للاحتفال بها، وهم يرضون عن وفاء النيل ويبتهجون به؛ لأن وفاء النيل شيء يسر ويشيع الابتهاج.
ولكن وفاء النيل بالقياس إليهم معناه: الكد الذي لا يعصم صاحبه من الجوع، والعناء الذي لا يحمي صاحبه من الحرمان. معناه: العمل لتمتلئ بعض الأيدي، وتظل يد العامل خالية لا تمسك شيئا. معناه: الشقاء لتكتظ بعض البطون، ويظل بطن العامل خاليا يمزقه الجوع. معناه: العمل لينعم فريق من الناس، وليمعن أكثر الناس في هذا الابتئاس البغيض الذي ألفه أصحابه حتى رأوه حقا عليهم، وحتى وثقوا بأنه نصيبهم من الحياة؛ فرضوا به واطمأنوا إليه، ولم يحاولوا تغييره ولا التخلص منه؛ لأنهم لا يستطيعون مغالبة القضاء؛ فهم ماضون في شقائهم، محتملون لآلامهم، راضون بما قسم لهم. والمتنبي وأمثاله ينظرون إليهم فيفهمون عن صمتهم، ويبينون عن غيهم بهذا البيت:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
كذلك يحتفل المصريون بوفاء النيل، فأما احتفالهم بالاستقلال فليس أقل روعة ولا بهجة ولا جمالا، هو ملائم كل الملاءمة لحياتهم المادية التي يحيونها.
كانوا يظنون أن إمضاء المعاهدة خطوة تقرب من الأمل، وتدني من الحق، وكانوا يظنون أنهم قد دافعوا عن الديمقراطية، وأبلوا في الدفاع عنها بلاء حسنا، وكانوا يظنون أنهم قد صبروا حين قل الصابرون، وأنهم قد وفوا حين قل الأوفياء، وأنهم قد ثبتوا حين زاغت الأبصار، وطارت النفوس، وبلغت القلوب الحناجر، وأن هذا كله سيبلغهم آمالهم، ويكسبهم حقوقهم، ولكنهم نظروا فإذا الذين لم يصبروا ولم يثبتوا ولم يفوا أحسن منهم حالا، وأدنى منهم إلى تحقيق الآمال وإرضاء المطامع والمآرب.
अज्ञात पृष्ठ
كانوا يظنون أنهم سيبلغون الاستقلال الكامل، وأن حلفاءهم سيهدون إليهم ما بقي من هذا الاستقلال أداء للحق واعترافا بالجميل؛ فنظروا فإذا حلفاؤهم يؤثرون الصمت، ثم يقولون: سننظر في الوقت الملائم مقدرين لمصالحنا المتبادلة ...
كانوا يظنون أن حكومتهم ستطالب بهذا الحق وستجد في الظفر به لا تريح ولا تستريح، فإذا رئيس حكومتهم يعلن إليهم أنه ينتهز الفرصة ولن يقصر عن انتهازها حين تسنح ...
كانوا يظنون أن السلام سيحمل إليهم أمنا وعدلا ورضى، فإذا السلام يمثلهم فيما كانت الحرب تفرض عليهم من الخوف والجور والظلم، وكانوا يظنون أن السلام سيردهم أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ فإذا السلام يمسكهم في القيود والأغلال كما أمسكتهم الحرب في القيود والأغلال.
كانوا يقدرون أنهم سيحتفلون في هذا اليوم بكسب الحقول ونيل الآمال، فإذا هم يحتفلون في هذا اليوم بإمضاء المعاهدة التي أكل الدهر عليها وشرب، والتي أبلتها الأعوام القليلة؛ لكثرة ما في هذه الأعوام من الأحداث والخطوب، وإذا هم اليوم كما كانوا في سنة 1937؛ بعد أن مضى عام واحد على إمضاء المعاهدة يرضون بالقليل وينتظرون الكثير كأن الحوادث لم تحدث، وكأن الخطوب لم تلم، وكأن إيطاليا وألمانيا واليابان لم تستسلم بلا قيد ولا شرط.
فهم من أجل هذا كله يحتفلون بوفاء الحلفاء كما يحتفلون بوفاء النيل. يوم من الأيام يمر وتتبعه أيام أخرى ليست خيرا منه، وعسى ألا تكون شرا منه. نعيم قد قسم للقلة، وبؤس قد فرض على الكثرة، وسلطان قد أتيح للقلة، وخضوع قد فرض على الكثرة، ومصالح الحكومة ودواوينها معطلة، والموظفون يستريحون في الدور، ويقطعون الوقت في الأندية، والشمس تشرق باسمة ساخرة، والليل يقبل عابسا مزدريا، والأعلام تخفق، والشعب يعمل، والمتنبي وأمثاله يرسمون على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويسألون في صوت ساخر حزين:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
1944
طيف
ألقى كل واحد منهما إلى صاحبه نظرة دهشة واجمة، فيها كثير من هذه الغفلة الحائرة التي تنشأ من المفاجأة، والتي تلم بالآمن المطمئن حين يفجأه من الأمر ما لم يكن ينتظر، بل ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت النظرة التي ألقاها كل منهما إلى صاحبه خاطفة أول الأمر، ولكنها عادت فطالت واستقرت شيئا ما، ولزمت مع ذلك صمتا، إن صور شيئا فإنما يصور انعقاد اللسان حين تسيطر الحيرة على العقل فلا يفكر، وعلى القلب فلا يشعر، وعلى اللسان فلا يقول.
अज्ञात पृष्ठ
وقد لبث كل منهما بإزاء صاحبه ذاهلا غافلا لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول، ولو قد عرض لهما هذا اللقاء المفاجئ لأصابتهما الحيرة وقتا طويلا أو قصيرا، ولانتهيا آخر الأمر إلى مخرج من هذه الحيرة بكلمة تنفرج عنها الشفاه، أو ضحكة تنفغر لها الأفواه. ولكنهما في موقفهما هذا لم يكونا يستطيعان أن يخرجا من حيرتهما الصامتة إلى الضحك أو إلى الكلام؛ فقد كان بينهما هذا القبر القائم يضطرهما إلى شيء من الوقار لا يملكان معه ضحكا إن أرادا الضحك ، ولا كلاما إن أرادا الكلام. وهما من أجل ذلك قد لبثا صامتين واجمين يلتمسان مخرجا من هذا الصمت، ومنصرفا عن هذا الوجوم، فلا يجدان إلى شيء من ذلك سبيلا، وقد أخذ كل واحد منهما يحدث نفسه بالانصراف عن هذا القبر، يرى في هذا الانصراف فرجا من هذا الحرج، ومخرجا من هذا الضيق، ولكن كل واحد منهما كان يسأل نفسه: أيبدأ هو بالانصراف؟ أم ينتظر حتى يضطر صاحبه إلى أن ينصرف؟
وإنهما لفي هذه الحيرة المتصلة وإذا خطو يسمع وقعه من بعيد، فيرفعان رأسيهما، وينظران من حيث يسمعان، فإذا شخص يقبل بطيئا رزينا متكلفا الوقار، ولا يكاد يدنو منهما حتى يعرفاه كما يعرف كل واحد منهما نفسه؛ فهو صديقهما الثالث الذي تعود أن يلقاهما حين يقبل المساء من كل يوم، وأن يسمر معهما حيث تعودوا أن يسمروا في ناد من أندية القاهرة أول الليل، وأن ينصرف معهما إلى حيث تعودوا أن ينصرفوا حين يوشك الليل أن ينتصف، فيلقون في بعض الأندية الخاصة من يلقون من رفاق اللهو وخلان العبث والمجون، حتى إذا كاد الليل يبلغ ثلثيه أوى ثلاثتهم إلى تلك الدار التي تعودوا أن يأووا إليها في آخر الليل، وقد خلصت نفوسهم للهو، وصفت ضمائرهم للعبث، وحسن استعدادهم للمجون، أو قل إن شئت: لاستيفاء حظهم من المجون.
هنالك يكون شرب الكئوس الأخيرة، وهنالك تنطلق الألسنة بما تشاء في غير تكلف ولا تحرج، وهنالك ترسل النفوس على سجيتها في غير احتياط ولا تحفظ، وهنالك يخلع الإنسان عن نفسه هذه الخصال المصطنعة التي فرضتها الحضارة على المتحضرين، ويصير إلى حال من الإنسانية المترفة الفاجرة التي تنحط بصاحبها أو ترتقي بصاحبها؛ لا أدري، إلى حيوانية مترفة لا أدب فيها ولا وقار.
حتى إذا انهزم الليل وولى مدبرا، وانتصر الصبح وأقبل ظافرا؛ انسلوا من هذه الدار لا تكاد أقدامهم تحملهم، ولا تكاد أجسامهم تسع نفوسهم، ولا تكاد ألسنتهم تنطق، ولا تكاد عقولهم تفكر، ولا تكاد قلوبهم تشعر؛ لأنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الاستمتاع بإنسانيتهم المهذبة التي نعمت حتى أفسدها النعيم، وأثرت حتى أطغاها الثراء، وارتقت حتى انحدر بها الارتقاء إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، ولا يكادون يبلغون باب الدار متثاقلين متهالكين يسندهم الخدم مكبرين لهم، ساخرين منهم، حتى يتلقى كل واحد منهم سائق سيارته فيقره على شيء من الجهد في السيارة، يظهر الإكبار له ويضمر الاستهزاء به، ثم يمضي بهذا المتاع الغالي الرخيص حتى ينتهي به إلى داره، وحتى يرد منه إلى أهل الدار شيئا عظيما جدا في أعين الناس، حقيرا جدا في عين نفسه وفي عين أهله، وهو هذه البقية التي تركها الصبى واللهو والخلاعة والمجون.
فإذا تقدم النهار، وارتفع الضحى، وزالت الشمس أو كادت تزول؛ أفاقت هذه البقية البالية من نومها الثقيل الغليظ، وتلقاها عمال الترف، أولئك الذين يجددون البالي، ويحسنون القبيح، ويقيمون المتهدم، ويردون الشباب إلى من فارقهم الشباب ... وما هي إلا ساعات حتى تستأنف هذه البقايا البالية حياة جديدة فيها نشاط وقوة، وفيها جمال ونضرة، وفيها شوق مجدد إلى اللهو، وفيها نزوع مستأنف إلى المجون. ولا يكاد النهار يبلغ آخره حتى يخرج من هذه الدور أشخاص فيها كثير من المرح، وكثير من الفنون، وكثير جدا من الجهل والغرور، وإذا هؤلاء الأشخاص يلتقون في ناديهم الذي تعودوا أن يلتقوا فيه، فتكون الدعابة الفاترة، وتكون الفكاهة الباردة، ويكون المزاح السخيف، ويكون الإقبال الفاتر على العبث الفاتر. وكلما تقدم الليل ازداد النشاط، واشتد المرح، وعظم الخطر من العربدة، وأخذ كل جسم من هذه الأجسام يصير ثوبا قد دخلت فيه نفس جنية، طغى عليها الهوى، وجمحت بها الشهوة، واندفع بها حب الإثم إلى غير حد، وإذا هم يستأنفون ليلا كليلهم الماضي، ويستقبلون حياة ناعمة بائسة كحياتهم الماضية، ويعودون إلى دورهم مع الصبح بقايا محطمة لا تريد شيئا، ولا تقدر على شيء، ولا تصلح لشيء حتى يشتمل عليها النوم فيرد إليها شيئا من قوة، ثم يتناولها عمال الترف الذين يرقعون البالي ويجددون القديم، فيعملون ويعملون، ويحتالون ويتكلفون، حتى يردوا هذه البقايا البالية أشخاصا قادرة مريدة ، ولكنها لا تقدر إلا على الفساد، ولا تريد إلا الإثم والمجون.
ولكنهم في هذه المرة لم يلتقوا في ناديهم ذاك الذي تعودوا أن يلتقوا فيه حين يقبل الليل، وإنما التقوا في مكان لم يكن ينتظر أن يلتقوا فيه، ولا أن يذهب إليه واحد منهم، فليس فيه لهو وليس هو مظنة للهو، وليس فيه سمر ولا هو مظنة للسمر، ومتى لها الناس بين القبور؟ ومتى سمر الناس حول قبر لم تمض على إقامته إلا أسابيع قليلة؟ كيف ذهب هؤلاء النفر إلى هذا المكان الموحش في قلب الصحراء؟ وكيف التقى هؤلاء النفر حول هذا القبر الذي لم تستقر فيه صاحبته إلا منذ أمد قريب؟ هذه هي المسألة التي ألقاها كل واحد منهم على نفسه، فوجد الجواب عليها سهلا يسيرا، وهم أن يفكر فيها ويستقصي التفكير ويتعمقه، لولا أنه لم يخلق للتفكير ولا للاستقصاء ولا للتعمق؛ وإنما خلق للعبث الذي لا يغني، واللهو الذي لا يجدي، والمجون الذي يفسد المروءة ويذهب بنضرة الأجسام والنفوس.
فلم يكد ثالث القوم يرى صاحبيه حتى أخذه ما أخذهما من الدهش، وعراه ما عراهما من الذهول، وغشيه ما غشيهما من الوجوم، ولكنه لم يملك نفسه طويلا وإنما هم أن يضحك؛ ثم استحى من القبر، فولى مدبرا وتبعه صاحباه، حتى إذا بعدوا عن هؤلاء القوم الذين لا تزاور بينهم ولا وصل، إلا أن يكون نشور كما يقول أبو نواس؛ تساءلوا: كيف كان سعيهم إلى هذا المكان؟ ووقوفهم عند هذا القبر؟ والتقاؤهم على غير ميعاد؟
وقد جعل بعضهم يكذب بعضا في شيء من الحيرة المتبلدة، أو من التبلد الحائر، ولكنهم تواصفوا ما رأوا، ووازنوا بين ما سمعوا، فلم يروا بدا من أن يصدق بعضهم بعضا، ولم يروا بدا من أن يعترفوا بهذا الأمر الغريب العجيب الذي كان خليقا أن يملأ قلوبهم روعا ونفوسهم هولا، لولا أنهم تعودوا أن يجدوا في الكأس ما يغسل قلوبهم من كل روع، وينفي عن نفوسهم كل هول. ولست أدري إلام صارت أمورهم جميعا؛ ولكن أعلم أن أحدهم - على أقل تقدير - قد أدركه ذهول يشبه الجنون، وغفلة تشبه الخبل، وألمت به علة لست أدري أيثبت لها أم يعجز، عسى أن يقاومها ويجد إلى البرء منها سبيلا.
وقد تسألني أنت عن سعيهم إلى هذا المكان الموحش في الصحراء، ووقوفهم عند هذا القبر الذي لم يقم إلا منذ أمد قريب، والتقائهم على غير ميعاد بين هذه القبور حين أخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وتجرر على هذه القبور أشعة شاحبة، إن صورت شيئا فإنما تصور حزنا كأنه كان صدى يردده الجو لهذا البلى الذي كان يعمل جاهدا فيما احتوته هذه القبور.
ولست أكره أن أقص عليك مصدر هذا كله، ولكني أعتقد أنك ستدهش لما أقص عليك من قصص، وتستنكر ما أسوق إليك من حديث، فأنت وما شئت من الشك، وأنت وما أحببت من الثقة، وإنما الشيء الذي أطمئن إليه أنا كل الاطمئنان، هو أني إنما أحدثك بشيء قد وقع، وأصور لك في هذا الحديث أمرا قد كان. وكل ما أتمنى هو ألا يعرض لك مثل ما عرض لهؤلاء النفر الثلاثة، الذين أفسد عليهم أمرهم ما أغرقوا فيه من عبث ولهو، وما تهالكوا عليه من إثم ومجون.
अज्ञात पृष्ठ
كان هذا القبر الذي التقوا عنده مستقرا لغانية حسناء رائعة الحسن، بارعة الجمال، فاتنة الظرف، ساحرة الطرف، تعودوا أن يلقوها في تلك الدار التي كانوا يأوون إليها من آخر الليل، ويستنفذون فيها ما بقي لهم من قدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاء سواء؛ تعدل بينهم فيما تهدي إليهم من ظرفها وخفتها ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودد الذي يغري ويطمع، حتى يخيل إلى المرء أنه مشرف على الغاية، ومنته إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المهلك، والقنوط الذي يملأ القلوب لوعة وعذابا، فكان كل واحد من خلانها يستطيع أن يتمثل قول جميل:
ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
ولكنهم كانوا أجهل جهلا، وأحمق حمقا، وأفرغ أفئدة، وأسخف عقولا من أن يتمثلوا الشعر أو شيئا يشبه الشعر، إنما كانوا أصحاب لذة غليظة جافية، يشقون لينعموا، وينعمون ليشقوا، ويألمون ليلذوا، ويلذون ليألموا، دون أن يوازنوا بين شقاء ونعيم، أو بين لذة وألم، قد دفعوا إلى الحياة وما فيها من نعيم وبؤس، فهم مندفعون إلى الحياة لا يفكرون في نعيم ولا بؤس، دفعهم إلى هذه الحياة المنكرة ثراء لم يجدوا في كسبه عناء، وتربية لم تمنحهم أحلاما راجحة، ولا بصائر نافذة، ولا قلوبا قادرة على أن ترتفع عن اللذات المادية الآثمة والشهوات المندفعة الجامحة.
فكانوا إذا يلقون صاحبتهم تلك فيمن يلقون من خليلات اللهو ورفيقات العبث والمجون يجدون في هذا اللقاء حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وإنجاحا وإخفاقا، ولكنهم قد اتصلت نفوسهم جميعا بهذه الفتاة اتصالا شديدا، وتعلقت قلوبهم بها تعلقا عنيفا، واشتدت آمالهم فيها، وعظم بأسهم منها، حتى أخذ بعضهم ينفس على بعض ما يصدر عنها من لفظ ولحظ وإشارة، وحتى كاد بعضهم يصبح فيها لبعض عدوا. وهم على ذلك كانوا يجتمعون ويفترقون، لا يزيدهم الاجتماع إلا تنافسا وتباعدا، ولا يزيدهم الافتراق إلا حرصا على التداني وكلفا باللقاء.
وقد أخذ كل واحد منهم يظن بصاحبه الظنون، يزعم أنها تؤثر فلانا من دونه، ويشتد حقده على فلان ومكره به وكيده له، حتى كاد الأمر ينتهي بهم إلى أعظم الشر، ولكن الأيام أراحتهم من هذا العناء المهلك، فردت عنهم هذا الشر المستطير؛ لأنها اختطفت من بينهم هذه الغادة الحسناء في حادثة من هذه الحوادث التي تنقل الناس من الدار الأولى إلى الدار الآخرة في طرفة عين، فاجتمعت قلوبهم على الحزن والثكل، وحزن هؤلاء وأمثالهم لا يتصل ولا يطول؛ فما هي إلا أيام حتى يستأنفوا حياتهم كما ألفوها عابثة ماجنة، وسخيفة فارغة.
ولكن أحدهم يفيق من نومه مروعا مفزعا شديد الذهول؛ فقد رأى طيف هذه الغادة الحسناء يلم به في أثناء نومه الثقيل، فيذود عنه النوم ويرده إلى يقظة شديدة، وإذا هو ينظر فيرى صاحبته كما تعود أن يراها؛ فاتنة ساحرة، تدنو منه وتتلطف له وتتودد إليه، وتقول له في صوتها العذب الذي يسحر القلوب: ما كنت أحسب أنك ستتركني حيث أنا وحيدة مستوحشة لا تهدي إلي زيارة ولا تحدث بي عهدا ... ما أسرع ما نسيتني، وإني على ذلك لم أنسك، ولا يمكن أن أنساك، ألمم بداري قبل أن يقبل الليل. ثم تنصرف عنه، وينظر فلا يرى شيئا، ويتسمع فلا يسمع شيئا، وينهض فيستأنف حياته كما تعود أن يستأنفها كل يوم؛ لا يلقي بالا إلى ما رأى، ولا يلقي بالا إلى ما سمع، فإذا كان الغد جاء الطيف كما جاء أمس، وتحدث إليه بمثل ما تحدث به أمس.
وقد تكررت هذه الزيارة مرة ومرة حتى لم يشك في أن من الحق عليه أن يلم بهذا القبر، وأن يهدي إليه تحيته في طاقة من الزهور، وقد فعل، فلم يكد يبلغ القبر حتى رأى صاحبه، ولم يكد يقوم على القبر مع صاحبه حتى أقبل صاحبهما الثالث، فلما انصرفوا عن القبر قص أحدهم على صاحبه ما رأى وما سمع، فإذا كل واحد منهم قد رأى مثل ما رأى، وسمع مثل ما سمع، وأبطأ مثل ما أبطأ، ثم أقبل على القبر كما أقبل عليه يحمل إليه التحية وطاقة من الزهر.
अज्ञात पृष्ठ
أتراها أرادت أن تستبقي بينهم المنافسة والخصام بعد موتها؟ وأن تضطرهم إلى أن يحفظوا لها من الود مثل ما كانوا يظهرون لها قبل أن تموت؟ أم تراها أضغاث أحلام قد عبثت بنفوس هؤلاء النفر الثلاثة؟ ولكن كيف يتفق أن يلم الطيف بهم في يوم واحد، ويتراءى لهم في صورة واحدة؟ ويلقي إليهم حديثا واحدا؟ ويضرب لهم موعدا واحدا؟
قلت لصاحبي حين انتهى من حديثه إلى هذه الأسئلة: لا أدري، ولا أستطيع أن أفتح عليك، فسل من شئت من الجامعيين الذين يدرسون دقائق علم النفس؛ فلعلك تجد عندهم غناء.
1945
ضمير حائر
أوى إلى سريره راضيا ناعم البال، وهب من سريره موفورا طيب النفس، ونام بين ذلك نوما هادئا هانئا لم تنغصه مروعات الأحلام، ولم يكد يخرج من غرفته حتى تلقاه الصبية من بنيه وبناته بوجوه مشرقة تتألق فيها نضرة النعيم، وثغور جميلة تبسم عن مثل اللؤلؤ المنضود، وحملت إليه أصواتهم الرخصة العذبة تحية الصباح، فردها عليهم في صوت حلو يجري فيه الحزم الصارم ويشيع فيه الحنان الرفيق، وأنفق معهم ساعة حلوة يداعب هذه ويلاعب ذاك، ثم خلص منهم بعد جهد، وفرغ لنفسه؛ ليصلح من شأنه قبل أن يغدو إلى عمله، وكان عمله خطيرا، وكان اهتمامه لهذا العمل وعنايته به أعظم منه خطرا؛ لأنه كان قوي الضمير حريصا أشد الحرص على أداء الواجب كاملا، وكان أبغض شيء إليه أن يتهمه أحد، أو أن يتهم هو نفسه بأيسر التقصير.
ولم تكن عنايته بحسن زيه وجمال شكله أقل من عنايته بالعمل والواجب، فقد استقر في نفسه منذ بلغ الشباب أن من كمال المروءة أن يكون الرجل حسن المنظر جميل الطلعة ما وسعه ذلك، وأن تقع عليه العين فلا تقتحمه، وتبلغه الأبصار فلا تزور عنه ولا تعدوه إلى سواه، ذلك أدنى أن يحببه إلى النفوس، ويحسن مكانه في القلوب، ويجعل محضره خفيفا، وعشرته شيئا يطلب ويرغب فيه.
وكان الله قد منح صاحبنا حظا من جمال الخلقة، وخلقه في تقويم حسن، فزاده ذلك عناية بنفسه واهتماما بمنظره، وشجعه الناس على ذلك بما كانوا يهدون إليه من ثناء، وشجعه النساء خاصة على ذلك بما كن يحمدن من صورته الرائعة وزيه الأنيق وحسن تلطفه في اللقاء والعشرة والحديث، كل ذلك فرض عليه العناية بجسمه وزيه وشاربه أكثر مما تعود الناس أن يصنعوا، فكان يخلو في غرفته كل صباح، وكان يخلو في غرفته كل مساء وقتا غير قصير، ثم يخرج من غرفته ليغدو إلى عمله، أو ليروح إلى ناديه، فلا يكاد أهله يرونه حتى يحدث منظره الرائع في نفوسهم فجاءة جديدة على كثرة معاشرتهم له ومخالطتهم إياه.
وقد خلا في ذلك الصباح إلى نفسه في غرفته، فأطال الخلوة، وغير وبدل من زيه ما استطاع التغيير والتبديل ، حتى إذا أعد نفسه للناس، أو اعتقد أنه أعد نفسه للناس وهم أن يخرج؛ ألقى إلى المرآة هذه النظرة السريعة الخاطفة التي كان يلقيها إليها دائما كأنما يسألها رأيها الأخير قبل أن يخرج للقاء الناس، وكان رأيها الأخير دائما حسنا مقنعا يشيع في نفسه شيئا من الرضى الهادئ والثقة المنتظرة. ولكن رأي المرآة الأخير في ذلك الصباح لم يكن حسنا ولا مقنعا ولا مشيعا للرضى والثقة، وإنما كان مزعجا مروعا؛ فلم تكد عينه تبلغ المرآة حتى ارتدت عنها مذعورة، ثم عادت إليها مشفقة، وارتدت عنها وقد نقلت إلى قلبه ذعرا يبلغ الهلع، وإذا هو يرتد عن مكانه، ويرجع أدراجه مسرعا، ويحول وجهه عن المرآة تحويلا تاما حتى لا تخطئ عينه فتمتد إليها مرة أخرى.
وقد أخذ قلبه يخفق خفقا شديدا سريعا متصلا، وأخذت جبهته تنضح بشيء من عرق بارد، وأخذت قطرات من هذا العرق تنطبع على وجهه، وجعل الدوار يعبث به وبكل شيء من حوله، حتى خيل إليه أن الغرفة كلها قد استدارت؛ فأصبحت المرآة وراءه، وأصبحت هذه المائدة - التي كان يجلس إليها ليصلح من شأنه - أمامه. وإذا هو مضطر إلى أن يتماسك ويتمالك، وإذا هو عاجز عن ذلك، فيجلس على أول كرسي يبلغه مضطربا ممعنا في الاضطراب حائرا، لا يكاد يتبين حيرته، ولا يكاد يتبين مصدرها، ومع ذلك فقد كان مصدر هذه الحيرة يسيرا جدا غريبا جدا في وقت واحد. كان يسيرا؛ لأنه لم يكن إلا ما رأى في المرآة، وكان غريبا؛ لأنه لم ير في المرآة وجهه؛ وإنما رأى أقبح وجه يمكن أن يكون الله قد خلقه، وأبشع منظر يمكن أن يمتحن الله به الناس أو القرود.
وقد طال جلوسه على كرسيه، وإطراقه إلى الأرض، وإغراقه في الحيرة، ثم أخذ جسمه يهدأ شيئا فشيئا، وجعل قلبه يستقر في صدره قليلا قليلا، وامتدت يده فاترة إلى منديل أمره على وجهه فجفف به العرق، وارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة فيها شيء من غموض وشيء من رضى؛ فقد ثابت نفسه إليه وجعل يسخر من هذا الروع الذي ألم به، فأكبر الظن أن شيئا من علة قد ألم بمعدته فأفسد عليه مزاجه شيئا ما. ثم أنشأ يسأل نفسه عما طعم أمس وعما شرب؟ فلم ينكر من طعامه ولا من شرابه شيئا، فقد طعم أمس وشرب كما كان يطعم ويشرب كل يوم، ولكن بمعدته شيئا - من غير شك - هو الذي خيل إليه ما خيل حين مد عينه إلى المرآة.
अज्ञात पृष्ठ
ومن المحقق أنه لم يكن يحس ألما ولا يشعر بشيء مما يشعر به المرضى حين يطرأ عليهم المرض، ولكن لا سبيل إلى تعليل هذه الظاهرة الطارئة إلا بشيء أصاب معدته أو كبده. وهو على كل حال قد استرد شيئا من طمأنينته، فعاد إلى شأنه يصلح منه ما أفسد هذا الاضطراب، فلما بلغ من ذلك ما أرضاه أزمع أن يخرج من غرفته دون أن يسأل هذه المرآة المشئومة عن شيء، ولكن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ألقى في روعه - مع كثير من اللباقة والمكر - أن من الحق عليه أن يسأل هذه المرآة التي تعود أن يسألها دائما، والتي تعودت أن تصدقه دائما، فمن يدري لعل شيئا ألم به فغير من وجهه وشكله وهو لا يدري؟
وما ينبغي أن يظهر الناس منه على ما لا يحب أن يظهروا عليه، وقد ألقى نظرته إلى المرآة؛ فارتدت عينه مذعورة ثم عادت إلى المرآة مشفقة، ثم ارتدت وقد حملت إلى قلبه جزعا وهلعا، وإذا هو يجاهد ليحبس صيحة قد همت أن تخرج من حلقه فتملأ الغرفة من حوله وتدعو إليه أهل الدار، ولكنه رد هذه الصيحة إلى مستقرها ولم يتح لها أن تنفجر، واستأنف اضطرابه ذاك. ثم ثابت إليه نفسه بعد لأي فيسرع إلى الجرس يدقه، فإذا دخلت عليه الخادم، رفع إليها وجهه وظل صامتا حينا يريد أن يعرف أتنكر الخادم من أمره شيئا، فلما رأى الخادم كدأبها كلما دعاها إليه؛ قائمة واجمة تنتظر أمره، لا تنكر شيئا، ولا تعرف شيئا، أو لا تظهر معرفة ولا إنكارا؛ قال لها في صوت هادئ يكاد يضطرب: أنبئي سيدتك أني أنتظرها.
وأقبلت زوجه بعد حين، فرأته قائما باسما ينتظر مقدمها، فلما رأته أخذها منظره كما تعود أن يأخذها كل صباح وكل مساء، وسألها هو: أتنكرين من أمري شيئا؟ قالت متضاحكة: وماذا تريد أن أنكر من أمرك! إنما أنت كما تعودت دائما أن أراك؛ رائع الشكل، جميل المنظر، خلاب للنساء. إلى أين تريد أن تغدو اليوم؟ فإني أراك تكلفت عناية بزيك قلما تتكلفها؟ قال: وإلى أين أغدو إلا إلى عملي؟ قالت: فإن عملك لا يحتاج إلى كل هذا التأنق. ولكنه أعاد عليها قوله: أفي الحق إنك لا تنكرين مني شيئا؟ قالت - مغرقة في الضحك: في الحق إني أنكر منك هذا الإسراف في التجمل. قال في شيء يشبه الذهول: إن هذه المرآة تنبئني بغير ما تقولين. ثم ألقى على المرآة نظرته الخاطفة تلك وارتد عنها وجلا مذعورا يقول لامرأته: التمسي لي طبيبا.
وقد عاده طبيب وطبيب وطبيب، عادوه متفرقين، وعادوه مجتمعين، وفحصوا من جسمه كل ما يمكن أن يفحصوا، فلم يروا به بأسا، ولم يشخصوا له علة، ولم يصفوا له دواء، وقال له قائلهم: ما نرى بجسمك من بأس، فالتمس دواء نفسك عند نفسك، فما نظن إلا أن في ضميرك شيئا يؤذيك على علم منك أو على غير علم. وقد غيرت المرآة في غرفته مرة ومرة، ولكن المرايا كلها جعلت كلما التمس نفسه فيها ردت إليه صورة غير صورته، وشكلا غير شكله، وملأت قلبه فرقا وروعا.
وقد تسامع أعوانه وأصحابه بأنه مريض منذ لزم غرفته وانقطع عن عمله، فجعلوا يسعون إليه ليعودوه، يلقاه أقلهم، ويرد عنه أكثرهم، ويتنبأ أولئك وهؤلاء من أمره بغير الحق، تخترع لهم العلل، وتبتكر لهم الأدواء، فيصدق منهم من يصدق، ويكذب منهم من يكذب، ويشك منهم من يشك. وكنت مع هؤلاء الأصدقاء الذين سعوا إليه وسألوا عنه، ثم أتيح لهم أن يروه، وكنت أثيرا عنده كما كان أثيرا عندي، لا أخفي عليه من ذات نفسي شيئا كما لا يخفي علي من ذات نفسه شيئا، وقد لقيته فيمن لقيه من أصحابه ذات يوم، فسمعنا منه وقلنا له وضربنا معه أخماسا لأسداس في أمر علته، نصدق نحن في حيرتنا، ويتكلف هو لنا الحيرة تكلفا لا يكاد يخفى علي، فلما هممنا أن ننصرف استبقاني في لباقة وظرف فبقيت، ومضى الحديث بيننا ألوانا ساعة من نهار، ثم عدنا إلى علته؛ فإذا هو يتحدث إلي بأمره كله في وضوح وجلاء.
قلت ضاحكا: ألعلك قرأت هذه القصة الإنجليزية التي كتبها أوسكار ويلد وسماها: صورة دوريان جري؛ فإن فيها ما يشبه قصتك من بعض الوجوه. قال: فإنك تعلم أني لا أقرأ الإنجليزية ولا أقرأ لغة أوروبية، ولا أعرف أن هذه القصة قد نقلت إلى العربية. قلت: أولم يتحدث إليك قط متحدث عن هذا الكتاب وكاتبه؟ قال: سمعت أطرافا من الحديث عن أوسكار ويلد، ولكن لم أسمع عن هذا الكتاب من كتبه قليلا ولا كثيرا، فحدثني أنت عن هذا الكتاب. قلت: لقد قرأته منذ زمن بعيد، وأذكر أنه يعرض على قرائه قصة فتى حسن رائع الحسن، جميل بارع الجمال، اتخذ له صديق مصور صورة تطابق شكله جمالا وروعة، وقد اقترف هذا الفتى في مستقبل أيامه سيئات كثيرة، واجترح آثاما مختلفة، فبغضت إليه نفسه أشد البغض، وقبحت صورته المصنوعة في عينه أشنع القبيح، فنفاها من حجرات داره وغرفاته إلى حيث ينفى سقط المتاع. ولكنه كان يلم بها من حين إلى حين تزيدا من بغضه لها وسخطه عليها، واستعذابا لهذا السخط وذلك البغض.
ثم أصبح الناس ذات يوم فرأوه مقتولا إلى جانب صورته، أراد أن يمزق الصورة فمزق صدره. وقد أراد أوسكار ويلد - فيما أظن - أن يصور تأثير الندم على ما يقترف من الآثام في بعض الضمائر والنفوس، فلم تكن هذه إلا مرآة لضمير دوريان جري، رأى فيها ما كان يملأ ضميره من السيئات المنكرة والجرائم البشعة.
قال صاحبي في صوت يأتي من بعيد: وما أنا وهذه القصة؟ قلت في صوت يأتي من بعيد أيضا : خشيت أن تكون قد قرأتها أو سمعت عنها فأثرت في أعصابك تأثيرا سيئا، فما أكثر ما تؤثر الكتب قيمها وسخيفها في أعصاب الناس، فتحملهم على غير ما أراد المؤلفون أن يحملوهم عليه. قال صاحبي وعلى ثغره ابتسامة حزينة: هون عليك؛ فإني لم أقرأ هذا الكتاب، ولم أسمع عنه، ولم أتأثر به قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فإن من حقه أن يقرأ.
قلت - وقد ندمت بعد ذلك على ما قلت: فالتمس في أثناء نفسك وأحناء قلبك خطأ لعلك قد دفعت إليه أو مساءة لعلك قد قدمتها إلى بريء، فإني أعلم أنا نجهل من أمر الضمير الإنساني أكثر مما نعلم، ومن يدري؛ لعل في ضميرك الخفي ندما على شيء أتيته ثم أنسيته، ولعلك إن استكشفته أن تصلحه وتستغفر الله منه، فتقل هذا الندم الذي أخشى أن يكون هو الذي ينغص عليك الحياة. وتركت صاحبي حائرا مبهوتا، ثم أنبئت بعد أيام أنه يمرض في بعض المستشفيات، فلما سألت عن جلية ذلك قص علي محدثي عجبا من الأمر؛ فقد كان صديقي هذا البائس من قوم كرام، مات أكثرهم وبقي أقلهم، وكان الذين ماتوا - رحمهم الله - يرتفعون عن الصغائر، ويمتنعون على الدنيات، وتأبى نفوسهم فيما تأبى جحود العارف وإنكار الجميل، ورثوا ذلك عن آبائهم، وأحبوا أن يورثوه أبناءهم، فحال بينهم وبين ذلك هذا التطور الحديث الذي غير مقاييس الأشياء، وأدار أعمال الناس وأقوالهم على المنافع العاجلة والمآرب القريبة، لا على ما كان يألف آباؤنا من رعاية الحق، وتقدير المعروف.
وكان صديقي هذا البائس أحرص الناس على أن يشبه الذين سبقوه من قومه في كل ما كانوا يأتون ويدعون من الأمر، ولكن أحداث الدهر وخطوب الأيام وما تحمل من رغبة ورهبة ومن إغراء وتنفير كانت أقوى من خلقه وإرادته، فلم يستطع أن يكون خليقا بالذين سبقوه من قومه، وإنما كان خليقا بالذين عاصروه من أترابه. وكان قومه يستحيون من أنفسهم قبل أن يستحيوا من الناس، وكان هو يستخفي من الناس ولا يستخفي من ضميره ولا من الله؛ وهما معه أينما كان. فلما قصصت عليه قصة أوسكار ويلد، كنت كأنما كشفت عن نفسه الغطاء، فأصبح يتحدث إلى امرأته وإلى خاصته بأن هذا الوجه القبيح الذي كان يراه في المرآة لم يكن وجهه؛ فوجهه ما زال جميلا رائعا، وإنما هو مرآة ضميره؛ لأن ضميره بشع دميم.
अज्ञात पृष्ठ