ويحدث هذا كله وأنا أغادر الأوتوبيس عند شارع سليمان، وأخترق الممر الجانبي في طريقي إلى السينما، وألقي نظرة على دكانة السجائر التي في الممر وألمح التليفون فأجد نفسي بلا تفكير أتوقف وأتناول السماعة وأطلب نمرة أحمد سيف النصر، ولو وجدت الخط مشغولا لمضيت في طريقي إلى السينما ببساطة، ولكني وجدته «بالصدفة» ليس مشغولا، وبالصدفة أيضا كان سيف النصر هناك وهو الذي رد علي، وبصدفة ثالثة كان خاليا ليس وراءه عمل، وهكذا وجدتني أتواعد معه على اللقاء، ونختار أين؛ فقد كنا نفضل إذا التقينا أن نجلس في مكان هادئ يسمح لنا بحديث متصل لا تزعجنا أثناءه ضجة، وأخيرا يقع اختياره على بار سيسيل.
وأعدل عن مشروع السينما وأذهب إلى البار وأجلس أنتظره، ويغيب أحمد وتتجاوز الساعة الميعاد الذي كنا قد اتفقنا عليه بربع ساعة، وأقرر القيام وقد فرغ حماسي للقائه أو انتظاره، ولكني أكتشف أني بالصدفة كنت قد ناديت على ماسح أحذية وأنه لا يزال ينظف الحذاء ولا بد من البقاء في مكاني حتى ينتهي، ولو كان الرجل قد انتهى من الحذاء قبل هذا بثوان أو لو لم أكن قد طلبت منه أن ينظفه أصلا لكنت قد قمت ولما قابلت سيف النصر، ولما ترتبت على مقابلتي له تلك الأحداث الهائلة الخطيرة.
ولكن الذي حدث أنه بعد دقيقة واحدة من قراري أن أغادر البار، كان سيف النصر قد جاء.
دخل ممتلئا، رأسه الدسم محني إلى الأمام، ويده اليمنى مرفوعة قليلا وتتقدمه كالعادة، ونظراته تائهة فيه أمامه مشتتة لا تستقر على شيء بذاته كنظرات المجانين. وكان اللقاء صاخبا ضاحكا عكر هدوء البار الدائم إلى حين.
ثم بدأنا نتحدث ذلك الحديث الذي يعقب اللقاء، آخر الأخبار وما جد على كل منا من جديد، وانتهى ذلك الحديث السريع وكنا قد انتهينا من جرد محتويات البار من رجال وأثاث على حد سواء، وتبادلنا الأحكام الخاطفة التي أصدرناها بشأن كل منهم. وحلت فترة الصمت التي لا بد أن تحل لنهضم فيها ما فات وننتقل منها إلى آفاقنا الأخرى.
في تلك اللحظة فقط أدركت بهدوء وبلا استنكار لماذا طاردتني صورة أحمد سيف النصر في ذلك المساء، ولماذا أردت لقاءه.
كان هو الحكيم المبشر والنبي الإنسان الذي اخترته ليحاكمني، ولأعرف منه أين أقف وإلى أين أسير.
كنت قد وصلت إلى تلك المرحلة من مراحل عواطفنا، المرحلة التي لا بد أن نفضفض فيها ونقص، ولم يكن الأمر بالنسبة إلي سهلا؛ فأنا لا أستطيع أن أقص علاقتي بسانتي على أحد، وكل المحيطين بي من أصدقاء وزملاء لا أستطيع أن أحكي لهم شيئا، أما الناس العاديون فكيف لهم أن يفهموا قصتي ووقائعها، وهي أشياء لا يمكن فهمها إلا لمن احتك بهذا النوع من العمل، وإلا لمن يعرف خطورته ويقدر موقفي؟ وسيف النصر كان الحل، كان جراحا بأحد مستشفيات القاهرة، وكان يسبقني بعدة أعوام في التخرج، وكان قد اشترك في الحركة الثورية التي سرت في بلادنا عقب الحرب العالمية الثانية، ثم ابتعد عنها لأسباب لا أعرفها، وحين جمعتنا ظروف عملنا كأطباء في مستشفى واحد كان هو أحد نجوم الجراحة الشبان فيه، وكنت أنا لا أزال حديث التخرج ، ومع هذا فقد كنت أنظر إلى سيف النصر باحتقار على اعتبار أنه أحد «الفارين» من الحركة الوطنية. وكان هو ينظر إلي بإشفاق كبير على اعتبار أني لا أزال من المتحمسين الذين يحول حماسهم بينهم وبين أن يروا الحقيقة. غير أن علاقة العمل والاحتكاك اليومي أزالا الكثير من شعورينا المتبادلين، وأصبحت شديد الإعجاب بقدرته العلمية الخارقة وبشخصيته وآرائه. كان لطيفا غريبا ينظر إلى الأمور أحيانا من زوايا قل أن تخطر على البال، وينسى نفسه في أحيان كثيرة وهو يحكي أو وهو يلقي درسا عن أحد الأورام فيسكب على نفسه فنجال القهوة، أو يسهو عن إلقاء نهاية سيجارته فتظل تحترق حتى تلسع أصابعه أو تنطفئ من تلقاء نفسها وتظل مطفأة إلى أن ينتبه ويلقيها.
وعلى مر الأيام بدأت علاقة أعمق تنشأ بيننا، وبدأ هو يكتب بعض مقالات للمجلة، وبدأت أنا الآخر أسلم بكثير من آرائه وانتقاداته عن نشاط الجماعة، وبدأنا نشعر أننا متفقان في نقط كثيرة وأننا متجاوبان.
وقلت له: اسمع يا أحمد، أنا عايز أحكي لك مشكلة خاصة بي ودقيقة جدا، فهل أنت مستعد لسماعها؟
अज्ञात पृष्ठ