والعجيب أني تضايقت قليلا، مع أني كنت شبه متأكد أن ما تحكيه إما أنها تقوله ببساطة وببراءة، أو هو مجرد رد مباشر على حديثي عن لورا.
وافترقنا حين هبطت من التاكسي الذي كنت قد أصررت على استصحابها فيه إلى قرب بيتها، وحين سلمت عليها مودعا كانت يدها طرية في يدي، وكنت أنا الذي أشد على قبضتها بقوة، وأنا متأكد أنها قبل أن تختفي عند الناصية ستستدير لتراني.
وعاد بي التاكسي وحدي، وقال لي السائق: هيه، على فين يا أستاذ؟ - والواقع لم أكن أدري إلى أين، تماما مثل ليلة افترقنا ذلك الفراق المؤلم المرير.
11
وفي المساء قررت أن أخرج وأتفسح، وأدخل السينما، وأقص شعري، وأرى القاهرة في الليل، وأقابل أصحابي، وأفعل كل تلك الأشياء التي ما حفلت بالقيام بها طيلة الأسبوعين الماضيين، وكأني كنت غائبا عن الوعي بالدنيا. •••
ولا بد أن حياتنا سلسلة متشابكة من ملايين الصدف الصغيرة التي قد يغير وقوع إحداها قبل الأخرى بثوان أو بعدها بثوان مجرى حياتنا كله.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فأية صدفة تلك التي دفعتني حين عدت إلى البيت بعد توصيل سانتي إلى أن أجلس على المكتب بدلا من أن أستريح فوق كرسي بعيد أو كنبة؟ وأية صدفة دفعتني لأن أخرج القلم من جيبي وأبدأ أعبث به في الورقة الفاضية أمامي وأكتب حرف «ن» دون غيره من الحروف الأبجدية، أكتبه أكثر من مرة ثم أكمله وأجعله «نصر»؟ ثم أضع القلم وأسبح في جلستي الماضية مع سانتي، وتعود عيناي من لا نهائيتهما لأرى الورقة وما عليها، وأرى كلمة نصر وأتذكر كلمة نصر التي كانت تطبعها دعاية الحلفاء أيام الحرب وتلصقها على الجدران وتملأ بها كل مكان، وأتذكر صورة تشرشل وهو يرسم بأصبعه علامة النصر، ثم يخطر لي سيف النصر وله بعض سمنة تشرشل وأتبين أني لم أره من مدة، وأحس بأني مشتاق إليه بالذات، مع أني كنت أيامها زاهدا في مقابلة كل من أعرفهم من أصدقاء؟ ثم أعود إلى هيامي وسرحاني وأنسى كل شيء عن أحمد سيف النصر ورغبتي في رؤيته، ثم أتبين أن السينما قد حان ميعادها وأن علي مغادرة المنزل في الحال.
وأركب أتوبيس 7 (وكان أيامها يمر بالزمالك في طريقه إلى العتبة)، وتأتي وقفتي قريبا من السائق، وتسترعي انتباهي نمرة الأتوبيس وقد انزلق عنها الحاجز الذي يحجبها عن داخل العربة ، وبدت اللمبة الكهربائية الصغيرة التي تضيء الرقم. وأدرك أن شكل رقم 7 لا يتغير إذا نظرنا إليه من الخلف، وتعلق هذه المشكلة بتفكيري، وأتذكر الدرس الإنجليزي الذي أخذناه في رابعة ابتدائي عن أصل الأرقام، وكيف أن الرومان أخذوه عن العرب، وأتذكر أنه في هذا الدرس بالذات قال لنا معوض أفندي مدرس الإنجليزي إن هناك كلمات إنجليزية أصلها عربي وانتقلت إلى أوروبا أثناء الحروب الصليبية، كلمات مثل «درب»
Durb
بمعنى اضرب، التقطتها الآذان الأوروبية من أفواه فرسان العرب وهم يهاجمون ويقولون اضرب. وتنقلني طريقته في الشرح إلى القرون الوسطى والعرب وهم يطردون الغزاة، والناصر صلاح الدين، وبالذات الناصر صلاح الدين، وكيف تصورته لحظتها في ضخامة معوض أفندي، ولكن بلا منظاره الكابي الأسود أو عينيه الضعيفتين. وفجأة وجدتني أترك القرون الوسطى ورابعة ابتدائي وأعود إلى الورقة التي كنت أعبث فيها، وكلمة نصر التي كتبتها، وأحمد سيف النصر.
अज्ञात पृष्ठ