وأعجب من هذا في المعارضات. وأبلغ منه في مذاهب المقابلات والمناقضات بناء الشيء وهدمه، وتشييده ثم وضعه ونقضه، كقول حسان بن ثابت.
أخبرني أبو رجاء قال: حدثني أبي قال: حدثني عمر بن شبة قال: حدثني هارون بن عبد الله الزبيري قال: حدثني يوسف بن عبد الله الماجشون عن أبيه قال: قال حسان: أتيت جبلة بني الأيهم الغساني وقد مدحته فقال لي: يا أبا الوليد إن الخمر قد شغفتني فاذممها لعلي أرفضها فقلت:
ولولا ثلاثٌ هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شارب حين يشرب
لها نزقُ مثل الجنون ومصرع ... دنيٌّ وأن العقل ينأى ويعزب
فقال: أفسدتها فحسنها، قلت:
ولولا ثلاثٌ هن في الكأس أصبحت ... كأنفس مال يستفاد ويطلب
أمانيها والنفس يظهر طيبها ... على حزنها والهم يسلى فيذهب
فقال: لا جرم. والله لا تركتها أبدًا.
قلت: وها هنا وجه آخر يدخل في هذا الباب، وليس بمحض المعارضة، ولكنه نوع من الموازنة بين المعارضة والمقابلة، وهو أن يجري أحد الشاعرين في أسلوب من أساليب الكلام وواد من أوديته، فيكون أحمدهما أبلغ في وصف ما كان من باله من الآخر في نعت ما هو بإزائه، وذلك مثل أن يُتأمل شعر أبي دؤاد الإيادي والنابغة الجعدي في صفة الخيل. وشعر الأعشى والأخطل في نعت الخمر، وشعر الشماخ في وصف الحمر، وشعر ذي الرمة في وصف الأطلال والدمن، ونعوت البراري والقفار، فإن كل واحد منهم وصاف لما يضاف إليه من أنواع الأمور، فيقال: فلان أشعر في بابه
1 / 65