حين نطق الرجل بالكلمة انبثقت في ذهني معان كثيرة كانت مختفية وكان الاختفاء قد طال عليها. جيش الاحتلال، والحامية، والإنجليز والوطن المستعمر المحتل، كانت معاني مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها. وكان أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسوا. كنت ذاهبا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكان الأمر جزءا من الرحلة، وإذا بضابط متعجرف يذكرني في آخر لحظة من لحظات الاحتلال، أننا كنا محتلين.
وحانت الساعة.
ومضى العساكر والضباط إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل بالأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يوشوش ويدوي، والباخرة واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط هادئون، سائرون إلى الباخرة في دقات أحذية رتيبة وظهورهم محملة، والبنادق في أيديهم، ولا أحد يشهد، ولا صوت يرتفع، ولا طلقة تدوي، ولا هزة تعتري الكون وتزلزل الأرض والسماء، والاحتلال ينتهي بهذه الخطوات الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية جاءت في إجازة وقضت في مصر ثمانين عاما، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ وجميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء تهفهف ليكمل المشهد، ويسدل الستار.
ولكم أحسست بالمرارة.
ما أردت أبدا أن يكون هكذا رحيل الأعداء.
كنت أود بعمري أن تودعهم رصاصات، وتهفهف فوقهم قنابل، وينتظرهم خضم البحر، إنهم أعداؤنا، استعمرونا وأذلونا وأذاقونا المر، وقتلونا ونهبونا وسلبونا وها هم يرحلون.
ليت رحيلهم كان بمعركة وانسحابهم تم بهجوم.
أعداؤنا يرحلون، بعد ثمانين عاما، ترى كيف صبرنا هذه الثمانين؟
ولماذا تأخر الرحيل؟
अज्ञात पृष्ठ