كان الليل داكن السحنة، وكانت الأنوار لا تدع سحنته على حال، أنوار موزعة في المينا صفراء وبيضاء وحمراء تزخرف الليل وكأنه سبورة سوداء محلاة بطباشير مشع ملون. وكان البحر هو الآخر يأخذ لونه من لون الليل إذا ما اسود اسود، وإذا ما حفل بالأضواء حفلت صفحته بالأضواء. وكان الديدبان بكل مدفعه صغيرا جدا، وبناء النافي ضخما، أنواره مشتعلة كلها، وفيه صمت كصمت القبور.
كان المكان بأجمعه يشبه قلعة مهجورة، وكأننا ضارب الطبلة حين هبط القلعة الخاوية في رواية الفرق الأجنبية.
وحادثنا العساكر .. فلاحين إنجليزا وأبناء فلاحين وعمالا، كل ما يعرفونه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وكشف واحد عن ساعديه ليرينا رحلته عبر الدنيا وكان على كل يد من يديه أكثر من وشم. هذا رسمه في هامبورج بألمانيا وآخر في الهند وثالث في سنغافورة والرابع في مصر.
ورأيت في الوشم علامات، وكان العسكري الشاب يعلم بها انحسار الشمس عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكان المساكين يعلمون أنهم آخر من سيرحل عن بورسعيد ولكنهم كانوا لا يدركون معنى أنهم آخر الراحلين.
كانوا يداعبون بعضهم بعضا ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص وكانوا يقولون قبرص ومن عيونهم يطل الأسى، وتطل أمنية: أن يكون الرحيل إلى إنجلترا، فالغيبة طالت والحنين إلى الوطن غريزة.
وجاء الضابط عصبيا ومنفعلا، وفي أعماقه ترقد أرستقراطية إنجليزية ابتلى بها العالم من قديم الزمان. لماذا جئتم وكيف جئتم وماذا تريدون؟ وحين حاولنا إفهامه استنكر أن نقتحم على حامية بورسعيد معسكرها في مبنى النافي.
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية».
الحامية!
لقد كنا محتلين إذن! هؤلاء العساكر السذج، وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد! بورسعيد، هذه المدينة المصرية التي كنا نردد دائما أنها مصرية كانت محتلة، وكان لها حامية!
अज्ञात पृष्ठ