إن العلوم كشوف، كل كشف منها ينير العقل ويفتح البصيرة، ويجب أن نتعلمها؛ ولذلك نحن في حتمية فلسفية تطالبنا بإطالة أعمارنا حتى نستطيع استيعابها، وحتى يزول هذا التخصص الذي كثيرا ما يؤذي أكثر مما يؤذي الجهل.
ذلك أن المتخصص - كما قلنا - يحده تخصصه ويعميه عن شئون الحياة الأخرى، بل هو يعميه عن الأثر الحسن أو السيئ لما تخصص فيه من علم أو فن، فلو أن العلميين الذريين الذين اشتغلوا باختراع القنبلة الذرية كانوا على شيء من مهارة الذهن وعمق الذكاء في فهم الخير الإنساني كما كانوا في فهم الذرة لما ارتضوا اختراعها، هذا الاختراع الذي تجاوز القنبلة الذرية إلى القنبلة الهيدروجينية التي تخيم على عالمنا غيمة سوداء تهدد بمحو الحضارة وفناء الإنسان.
إن رجل العلم يجب أيضا أن يكون فيلسوفا، وإلا فهو خطر.
وهل أحتاج إلى أن أذكر أن رجلا من رجال العلم الإنجليز اقترح قبل سنوات حرمان الأمم المتخلفة - التي ترفض تحديد النسل ومنع الحمل - من العقاقير الجديدة «المضادات» التي تقتل بكتيريا الأمراض، وكانت حجته في هذا الاقتراح أنه ما دامت هذه الأمم تسرف في التناسل فلنتركها حتى تموت بالأمراض الميكروبية بلا دواء.
هذا النقص في الإحساس بالخير الإنساني هو ثمرة التخصص؛ إذ لو كان هذا الوحش قد درس الأدب والفلسفة والشعر والفنون الجميلة، كما درس العلم، لما أجاز لقلمه أن يكتب هذه الكلمات الكافرة.
ولكنه لم يجد الوقت لهذا التعميم في الدراسة لأن العمر قصير، فتخصص وقنع بالتخصص.
وقد بصر برنارد شو بهذه المشكلة وألف مسرحية بعنوان «العودة إلى متوشالح» يوضح فيها ضرورة الإطالة لعمر الإنسان.
لقد عاش متوشالح 969 سنة كما تقول التوراة، ولكن برنارد شو يطمع في 300 سنة يحياها كل منا، أو بالأحرى من أعقابنا، على الأرض.
وقد عاش برنارد شو 94 سنة وكان يفكر كثيرا في قيمة العمر الطويل، وكان يمكن أن يعيش أكثر من هذا العمر لو لم تقع له حادثة أدت إلى كسر ساقه، فلما لزم السرير بسببها وقع في نزلة شعبية كانت سبب وفاته.
واهتمامه بإطالة العمر هو اهتمام يمكن أن نصفه بأنه «وجودي»؛ فإن الوجودية كانت كامنة في جميع المفكرين الماديين قبل أن يصرح بها ويشرحها سارتر، فقد كان إبسن وجوديا عندما أخرج الزوجة من بيت زوجها في الليل تبحث عن استقلال شخصيتها وتربية ذهنها واقتحام الدنيا، وبرنارد شو وجودي عندما يطالبنا بأن نحيا في هذه الدنيا أقصى ما نستطيع من العمر الطويل كي ندرس العلوم ونسيح في الأقطار ونختبر ونتعلم ونستمتع.
अज्ञात पृष्ठ