وشيء آخر يجعل التعليم الجامعي ناقصا بل مشوها؛ ذلك أن جميع الجامعات على الرغم مما تزعم من «استقلال» تؤيد النظم الحكومية القائمة، فترفض دراسة فولتير لأنه كافر، وترفض دراسة كارل ماركس لأنه ثائر، وترفض دراسة لورنس لأنه فاسق ... إلخ. ولكن طالب الأدب خارج الجامعة يجد الحرية المطلقة في الاختيار، ويطلب المنهل والمرعى كما يفهمه عقله، وعندئذ يجد الوسيلة بل العناد لتأثيث ذهنه وبعث المركبات الأدبية والفنية في نفسه.
يروي «أندريه جيد» عن أيامه الأولى في الامتصاص الثقافي أنه كان فيما بين سن السادسة عشرة والعشرين متعلقا أشد التعلق بكتابين يقرأهما ويعود إليهما، هما الكتاب المقدس وألف ليلة، والجمع بين الاثنين يكاد يعد كفرا في نظر أستاذ جامعي، ولكن أندريه جيد لم يتعلم الأدب في جامعة إنما تعلمه - أو بالأحرى نما إليه - وهو حر مطلق يختار ويرعى وينهل كما يشاء.
ومثل هذا الكلام لا يقال بالطبع عن تعليم العلوم التطبيقية التي تحتاج إلى معامل لا تستطيع تأسيسها غير الجامعات.
وعندما أتأمل حياة برنارد شو وأتجسس على المعلمين الذين تعلم عليهم واستلهمهم في صياغة حياته وأدبه وتكوين رجولته، أجد أربعة يبرزون في مؤلفاته حيث تتكرر أسماؤهم كما تشرح أفكارهم، هم كارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وصمويل بطلر، وهنريك أبسن.
وبرنارد شو معروف بين الجمهور بأنه مؤلف مسرحي، ولكنه في الواقع كان أكبر من ذلك، كان رجلا أولا وقبل كل شيء، يجابه الدنيا كما هي بلا استسلام للخيال، وكان إنسانا حساسا لا يطيق الاستعمار أو الاستغلال أو الإذلال، وكان فيلسوفا يضع الفلسفة على المسرح في الوقت الذي كانت المسارح فيه مشاهد سخيفة للغرام أو القتال أو الزنا أو التهريج.
وأعظم المفكرين الذين تأثر بهم برنارد شو هو كارل ماركس داعية الاشتراكية، وبرنارد شو اشتراكي، دعا إلى الاشتراكية نحو ستين سنة، ولم ينحرف عنها ولم يعرف إصلاحا شاملا للشعب في عيشه وثقافته وحضارته غيرها، وكان كارل ماركس فيما بين 1880 و1930 مغمورا في إنجلترا لا يعرفه غير المثقفين، بل الخاصة من المثقفين.
وقد آمن برنارد شو بنظرياته لأنه كان يجد أن الفقر هو علة المرض والجهل والدنس والجريمة، وأنه لا إصلاح لكل هذه الرذائل سوى تعميم اليسر بين جميع أفراد الشعب، وأنه لا سبيل إلى هذا التعميم سوى الاشتراكية، وأكبر مؤلفاته «المرشد للمرأة الذكية عن الاشتراكية» هو شرح مبسط لهذا المذهب، وقد أنفق الكثير من سني عمره في خدمة «الجمعية الفابية» التي كانت تدعو إلى الاشتراكية، ومع أن هذه الاشتراكية كانت تدرجية إصلاحية، على خلاف ما دعا ماركس؛ فإن برنارد شو كان على دراسة تامة لزعيم الاشتراكية الثورية، وقد انتهى هو وزعماء هذه الجمعية في أواخر حياتهم إلى الإشادة بالنظام السوفيتي الذي اعتمد زعماؤه من لنين إلى ستالين على كارل ماركس.
وليس بين مفكري القرن التاسع عشر من أخصب التفكير بين الكتاب، وبعث الدراسات العميقة للتاريخ والاقتصاد والعلم، وجعلنا نرتفع من الفهم إلى الدلالة بشأن الأخلاق والارتزاق وفلسفة العيش والشرف والإنسانية مثل كارل ماركس؛ فإنه خميرة إذا دخلت العقول تناولت أبعادها وأعماقها وعملت فيها نضجا وإيناعا.
والماركسية يمكن أن نعرفها في سطرين وأن نشرحها في ألف صفحة.
فأما السطران فهما أن المجتمع، بما فيه من حكومة وأخلاق، وأساليب للعيش وآراء في الدين، واتجاه في السياسة والأدب والشعر، ينبني كله على نظام اقتصادي ارتزاقي إنتاجي معين، فإذا تغير هذا النظام تغير المجتمع.
अज्ञात पृष्ठ