هؤلاء علموا برنارد شو
كان برنارد شو يعد نفسه محظوظا قد حابته الأقدار لأنه لم يتعلم في جامعة، وأن كل ما حصل عليه من تعليم لا يزيد على مستوى الصبي الذي ينقطع عن الدراسة النظامية المدرسية منذ السنة الأولى الابتدائية، ومعنى ذلك أنه علم نفسه.
هذا هو المعنى، أما الدلالة فهي أنه كان يختار ما يتعلمه، وكان اختياره يتوقف على حاجاته الذهنية والنفسية، كما يختار الجائع ما يحتاج إليه من طعام، وكما أن الجائع يختار لنفسه أفضل مما نختار نحن له، كذلك طالب الثقافة يحسن الاختيار لنفسه أكثر مما نحسن له هذا الاختيار؛ لأنه يسير فيه وفق كفاءاته وعلى مهل وتدبر وبصيرة بالمستقبل، وقد ذكر أحد الأدباء الإنجليز أنه التقى ببرنارد شو وهو بعد في الحلقة الثالثة من عمره في مكتبة المتحف البريطاني، وكان أمامه كتابان أحدهما «رأس المال» لكارل ماركس، والثاني كتاب عن الموسيقى بالحروف الموسيقية، وكان يراوح بينهما في الدرس.
ويذكر برنارد شو تسع سنوات أيام شبابه كان فيها مغفلا لا يلتفت إليه أحد، وكان كل ما كسبه في هذه السنوات من قلمه ستة جنيهات، ولكنه يظلم نفسه حين يقول هذا القول؛ لأن أي كاتب مهما ضعفت منزلته يستطيع أن يكسب مائة ضعف هذا المبلغ في هذه السنوات؛ إذ إن هناك أعمالا في الصحف، وأيضا هناك من المؤلفات الرائجة ما يرد عليه هذا الكسب.
نقول أعمالا في الصحف ومؤلفات رائجة، ولكن مع التفاهة.
ولكن برنارد شو رفض أن يؤلف أو يكتب شيئا تافها منذ نصب لنفسه قصة حياته، وهو أن يكون مفكرا نافعا، كما أنه في هذه السنوات التسع كان يربي نفسه، يقرأ ولا يكتب، أو يقرأ كثيرا ويكتب قليلا.
وهو كثيرا ما يشير في مؤلفاته إلى المدارس الثانوية وإلى الجامعات في احتقار وغضب؛ لأنها تملأ جماجم الصبيان والشبان بحشو المعارف التي تؤذيهم في نموهم الثقافي حتى تجعل هذا النمو كما يزداد بدلا من أن يكون تطورا يرتقي بهم، وهو يذكر مثلا درامات شكسبير فيقول إنه قرأها جميعها واستمتع بجمالها وتعمق توتراتها، ولكن الطالب الذي يقرأ (أو يدرس) إحدى هذه الدرامات، مع التعليقات والتفسيرات التي يعد بها نفسه للامتحان، لا يعود شكسبير؛ لأنه - لفرط ما تعب في درسه - لا يطيق قراءة شيء منه، بل لعله لا يطيق حتى رؤية هذه الدرامات ممثلة على المسرح.
إن مؤلفات شكسبير يجب أن نستمتع بها قراءة في الكتب، أو رؤية على المسرح، ونحن في طرب الفن والاستمتاع وليس في العرق والدموع، وما يقال عن شكسبير يقال مثله عن سائر الأدباء.
وإني لأذكر هنا ما حدث لي مما يشير برنارد شو إلى دلالته، فقد كنت قد حفظت وأنا في السنة الثالثة بالمدرسة الابتدائية قصيدة أبي العلاء «خفف الوطء»، ولم أفهم لها معنى إلا أنها تجري في الدروس ضمن العذاب المقرر لنا، وكرهت أبا العلاء بسبب هذا العذاب، ولم أعد إليه إلا بعد نحو عشرين سنة حين وجدت فيه دنيا من البر والخير والفن والأدب، وما زلت إلى الآن أعود إليه كي أضحك معه في إلحاده وأتعمق تلميحاته، ولا أعرف أني أحب أديبا عربيا قديما قدر حبي للمعري الذي أوشك معلم اللغة العربية أن يقطع بيني وبينه وهو يعذبنا بإعراب أبياته في قصيدته «خفف الوطء».
التربية الذاتية هي التربية الناجعة، وهي اختيار، في حين أن التربية الجامعية إجبار؛ ولذلك سرعان ما يتخلص منها خريج الجامعة. وبعد، بل يكاد يكون محالا أن يتعلم أحدنا الأدب في الجامعات؛ لأن الأدب تربية ذوقية، وكفاح نفسي، ومثابرة الليل والنهار، وتغيير للأهداف، وتطور، وارتياد للقديم والجديد، وبحث في الصين وإنجلترا، وتطرق إلى الدين وتعمق للفلسفة، وكل هذا - بل بعضه - لا تستطيع أن تقوم به أية جامعة.
अज्ञात पृष्ठ