وصلت إلينا بيعة اشترى بها من سعى فيها، وفغر عن فيها، (خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين) ولو استحق الورد إمامة، أو استوجب خلافة، لبادر بها آباؤنا، ولعقدها أوائلنا التي لم تزل تجاوره في مكانه، وتجيء معه في أوانه.
وأما من عقد تلك البيعة، وكتب تلك الصفيحة فلم ير له قط صورة [ولا تلا من ذمة سورة]، فإذا قد جهلت قدره، ولم تعلم أمره، هلا شاورت مصاحبيه واستخبرت مختبريه حتى تقف على حقيقة خبره، وتعلم جلية خيره، فبأي شيء أوجبت تقديمه، ورأت تأهيله لما غيره أشكل له، وأحق به، وهو نور البهار البادي فضله بدو النهار، والذي لم يزل عند علماء الشعراء، وحكماء البلغاء، مشبها بالعيون التي لا يحول نظرها، ولا يحور حورها، وأفضل تشبيه للورد الخد عند من تشيع فيه، وعني به، وأشرف الحواس العين، إذ هي على كل منول عون، وليس الخد حاسة، فكيف تبلغه رياسة؟: [الكامل]
أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسد
وأصح تشبيه للورد وأقربه من الحق قول الحكيم ابن الرومي في شعره الطائي. لقد وافق ووفق وشبه وحقق، فقفا_وفقكما الله ولا أخلاكما من هداه_بالنواوير المخاطبة لنا، المسخنة لأعيننا، واعرضا عليها مطلبنا، وبينا لها مذهبنا، وأنبا البهار مفردا تأنيبا يقيمه ويقعده، ويقصده فيقصده، على مشاركته على نفسه وسعايته في إبطال حقه، فلولا استجابته لها، وكونه معها، ما تحصن لتلك مراد، وحياه عنا بالسلام الأثير بعد الملام الكثير، ووالله العظيم حقه الواسع رزقه، لو جاورناه في وطن، أو صحبناه في زمن، لبايعناه منذ مدة مبايعة العبيد، ونفديه لفضله علينا بالطريف والتليد، وراجعنا بعد هذا بالمذهب التي تبني عليه، وتجري إليه، فإن وافقت لم يشذ عنا من النواوير إلا من لم تشهر عينه، ولا يعد فينا صيته وأينه مع أن جماعتنا تعلم فضل ما صنعناه، وتوالي من واليناه، وإن خالفت لم تستضر مخالفتها ولم نضطر إلى محالفتها، فنحن جل النواوير، وعمدة الأزاهير، نعقد للبهار ونقدمه على جميع الأنوار.
فوصل كتابها إليهما، وورد خطابها عليهما وعندها البنفسج والخيري النمام، والنرجس مشاورة لهما، ومستمدة بآرائهما في الخروج عما دخلت فيه، والتخلص مما اكتسبت به سوء الأثر. وقبيح قبيح الخبر من تقديم الورد على البهار على أنه ملك الأنوار. والخيري الأصفر والأقحوان يكثران تأنيبها، ويسفهان أراءها، ويجددان الشكر لله على استنفاذهما مما ورطها فيه، وتأخيرهما عما ألحقها به.
فلما وصل كتاب النواوير الربيعية زهي متصلة من تلك الخطيئة وقع منها مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. وأعاد الخيري الأصفر والأقحوان التأنيب لها والتعديد عليها فقالت: لا تكثرا لومنا، ولا تطيلا تأنيبنا، فلو لم تكن لنا سقطة، ولا نسبت إلينا غلطة، لخرجنا عن الأمر المعلوم والحد المعروف، فلا بد للكل من تدبير دبري ورأي غير مرضي، وقد قيل: "اللبيب من عدت سقطاته، والأريب من حصلت هفواته". وإذ قد استيقظنا من نومه الجهل، فأغمد عنا سيف العذل، ووالله إننا لأحقاء بالتأنيب، أحرياء بالتثريب، إذ عجلنا عظيمة لم ننعم النظر فيها، وأنفذنا كبيرة لم نعان عويص معانيها، وقديما حمد التأني وذمت العجلة. ومن أمثالهم: "رب عجلة تهب ريثا". ورحم الله القائل: [البسيط]
وقد يكون مع المستعجل الزلل
لكننا نصفع قفا الحوبة بيد التوبة، ونجلو دجا الاقتراف بصبح الاعتراف. فسر الخيري والأقحوان بما بدا منها من الإقرار بذنوبها، والاعتذار من خطاياها وبنت معا على مجاوبة الأنوار الربيعية بإنفاذ ما رغبته وإكمال ما ابتدأته. ثم خرجت بأسرها إلى البهار معتذرة إليه، متنصلة مما جنته عليه، وسألته العفو عن ذنوبها، والإمساك عن تأنيبها، والطاعة لها بالتقدم عليها، والتملك لجميعها.
فأجابها إلى رغبتها، وأطلبها في طلبتها، وأنشدها قول بن المعتز: [الخفيف]
دية الذنب عندنا الاعتذار
ثم قرأ عليه الأقحوان والخيري الأصفر كتاب النواوير الربيعية إليهما، فلما وصلا إلى الفصل الذي سألوهما فيه التعديد عليه والتأنيب له قال:
1 / 17