ما أملك سوى هذا المنديل؛ فقلت: هو البغية، ناولنيه، فقال: خذه، لابارك لك الرحمن فيه! فأخذته فبعته بدينار وكسر، واشتريت به لحمًا وخبزًا ونبيذًا، ثم صرت إليهما، فإذا هما يتساقطان حديثًا كأنه الدر، فقال: ما صنعت؟ فأخبرته، فقال كيف يصلح طعام وشراب وجلوس، مع وجه مليح بعير نقل ولا ريحان ولا طيب! اذهب فألطف بتما ما كنت في أوله.
قال: فخرجت، فاضطربت في ذلك حتى أتيت به؛ فألفيت باب الدار مفتوحًا، فدخلت فلم أر لهما، ولا لشيءٍ مما كنت جئت به أثرًا. فأسقطت في يدي، وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما، وبقيت متلهفًا حائرًا، أرجم الظن، وأجيل الفكر سائر يومي؛ فلما أمسيت قلت في نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقعني على أثرٍ! ففعلت، ووقعت على سرداب، وإذا بهما قد نزلا فيه، وأنزلا معهما ما احتاجا إليه؛ فلما أحسست بهما، دليت رأسي، ثم صحت: مسلم! ثلاثا، فكان من إجابته أن غرد بصوته، وقال:
بت في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف
قال دعبل فقلت: ويلك! من يقول هذا؟ قال:
من له في حر أمه ألف قرنٍ ... قد أنافت على علو مناف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما، فلم يجيباني بشيء، وباتا في لذتهما، وبت ليلة يقصر عمر الدنيا عن ساعة منها طولًا وغما وهما، حتى أصبحت ولم أكد.
فخرج إلى مسلم، وهي معه، فجعلت أشتمه وأفتري عليه، فلما أكثرت قال: يا أحمق، منزلي دخلت، ومنديلي بعت، ودراهمي أنفقت، فعلى من تثرب يا قواد! فقلت: مهما كذبت علي، فما كذبت في الحمق والقيادة. وانصرفت وتركتهما.
وذكر صاحب كتاب نجباء الأنباء
أن الرشيد اطلع من مستشرفٍ له على قصره، فرأى ولده عبد الله المأمون يكتب على حائط وهو صغير، فقال للخادم: انطلق حتى تنظر ماذا يكتب عبد الله، واحرص على ألا يفطن لك، فذهب الخادم فتسلل حتى قام من خلفه، وهو مقبل على الحائط، فنظر وعاد إلى الرشيد، فأخبره أنه كتب:
قل لابن حمزة ما ترى ... في زيرياجٍ محكمه؟
قال الخادم: إني تسللت عليه، حتى قمت من خلفه وهو لا يعلم لغلبة الفكر عليه، فقال له الرشيد، ارجع فسله عما يكتب، فسيقول لك: إني مفكر في التتميم على هذا البيت، فقل له: اكتب تحته:
1 / 26