كان اسمه عبد القوي، ولكن رحومة نطق اسمه «قوية» على طريقة الأعراب؛ لأنه كان مثله بدويا، وكان في نحو الخامسة والعشرين عندما عاد إلى العزبة بعد أن ذهب أخوه سلومة إلى السجن رهن القضاء، جاء هو وأمه مبروكة فاتخذا لهما خيمة إلى جانب الكوم الأحمر، ورحب بهما الأفندي لأنه عرف قوية صغيرا، وكانت مبروكة أمه امرأة طيبة حلوة اللسان كريمة، فلما عادت إلى العزبة - بعد أن بعدت عنها بعض سنوات - لقيت من كل أهلها ارتياحا وبشاشة.
وأخذ «رحومة» يصف قوية وما فيه من شبه بأخيه في قامته وهيئته وفي فروسيته وفتوته، ولكنه لم يكن مثل أخيه غطرسا مزهوا، ولم يكن مثله شيطانا مرعبا، كان ينشد شعر البدو بصوت مليء مطرب، ويهز حلقات السمر ضحكا بألاعيبه الرشيقة وتندره المعجب، وكان فؤاد لم يره منذ سنوات ولم يعرف فيه شيئا مما تحدث به رحومة، فحبب إليه ذلك الحديث أن يراه.
وتوافد أهل العزبة على الدار ونزل الأفندي يستقبلهم مرحبا، فتنحى رحومة إلى ركن بعيد يجرش الفول، وامتلأ البهو بالزائرين بين شباب وكهول، وجاء من قرية النجيلة آخرون ليهنئوا الأفندي بسلامة ولده، وكانت أكواب الشاي تدور على الضيوف في خلال الأحاديث دورا بعد دور، وأدرك فؤاد في ذلك المجلس كل ما غاب عنه من أخبار ريفه في مدة العام الطويل.
2
رأى فؤاد بعد ذلك قوية وكان لم يره من سنين، كان ممدود القامة عريض الصدر ضخم الهامة، ولكنه كان طلق المحيا واسع العينين يبعث مظهره الثقة، وأنس إليه فؤاد منذ رآه وقربه، فوجده خفيفا إلى الخدمة سريعا إلى الاستجابة كلما أراد أن يجول في الريف جولة، فكان يستصحبه كلما أراد نزهة في الكوم الأحمر أو ذهب إلى الصيد في المناقع ذات الأعشاب الطويلة على حوافي الحقول، وكثيرا ما كان يصاحبه في الليالي التي يسهر فيها الفلاحون عند امتلاء الترع ليدركوا فرصة ري الزرع قبل أن تمضي مدة «النوبة».
ونشأت بينهما على الأيام مودة تشبه أن تكون صداقة، وكان قوية في كل تلك الجولات مرحا وثابا خفيف الروح يعرف اسم كل عشب وكل زهرة وحشرة، ويطرب لمشاهد الأرض والسماء في حماسة معدية، فكان فؤاد يطلع في صحبته على محاسن لم تبد له من قبل في مناظر الطبيعة الشعثاء، وأعداه منه طربه إليها حتى صار يتذوق كل ما فيها، حتى لقد أصبح يطرب إلى الموسيقى الوحشية التي تنبعث في هدأة الليل من أصوات الضفادع والحشر أو نعير السواقي.
وكان قوية يعرفه بمواقع النجوم في المساء وقبيل الصباح، ويسمي له أسماءها ويقص عليه قصصها، إذ كانت تعيش على الأرض قبل أن تصعد إلى السماء.
وكان فؤاد يذهب معه أحيانا إلى خيمته فيستمع إلى أحاديث أمه، إذ تحكي لهما قصص قومها في موطنها الأول بمريوط، وتجعل قصصها تفوح بعطر النرجس البري الذي ينبت على جوانب كثبانها، كانت تحدثهما أحيانا عن غارات قبائل البدو ومصارع أبطالها، وأحيانا عن نجوى أحباب الصحراء تحت ظلال النخيل في جوار العيون المتدفقة.
وكان فؤاد في بعض الأحيان يطيب له أن يقضي الليل عنده، فيمهد له قوية فراشا في جوار خيمته فيقضي ليلته تحت السماء، حتى إذا استيقظ في الصباح مسح الطل عن وجهه وهب نشيطا يجوس خلال الحقول قبل مطلع الشمس، يعجب بلآلئ عقود الندى فوق نسيج العناكب، ويملأ صدره من الهواء البليل الذي يفوح بروائح أعشاب البر السابحة في الفضاء.
وكانت مبروكة تعد له في الصباح طعاما من عصيد أو رقاق مبسوس، فيعجبه طعامها كما تطربه حفاوتها.
अज्ञात पृष्ठ