أزهار الشوك
أزهار الشوك
أزهار الشوك
أزهار الشوك
تأليف
محمد فريد أبو حديد
أزهار الشوك
1
كانت ساعة الظهيرة عندما بلغ فؤاد أطراف القرية، وكانت البركة الخضراء تلمع ساكنة تحت الشمس، يخفف من حرها نسيم خفيف يجعد سطح الماء، وكان سرب من الإوز يسبح متصايحا في أركانها، وعلى جانبها بعض أطفال عراة من أبناء القرية المجاورة يتمرغون في التراب حينا ويغطسون في الماء حينا آخر، ويملئون الفضاء ضحكا وضجيجا.
وكان على جانب آخر من البركة كلب ناعس يتكئ برأسه على يديه ممدودتين في استرخاء، والدجاج يتواثب حوله ينبش الطين باحثا عن الطعام، فيثير حوله سحابة رقيقة من غبار.
अज्ञात पृष्ठ
وكانت قرية النجيلة من وراء البركة عن يسار الطريق، تدرج صاعدة على نشز من الأرض، حتى يطل أعلاها على أسفلها، وما بين ذلك طرق ضيقة ملتوية تتعرج في تلافيف صاعدة من دار إلى دار، فكانت القرية تبدو من بعيد كأنها قلعة، وتلوح من قريب قطعا من بناء مكدس فوضى، وكان فيما يلي البركة عن اليمين فضاء فسيح يتخذ أهل القرية جانبا منه «جرنا» ويعقدون فيه أسمارهم ويحتفلون بأعراسهم ويتفسحون فيه في ليالي الصيف القمراء، وكان يحف بذلك الفضاء أجم من النخيل يلقي عليه في الصباح ظلا ويخلع على منظره رونقا، ولكنه كان في الليل يلوح للأعين رهيبا يتحامى أهل القرية السير فيه خوف أن تعترض سبيلهم «الأرواح»، وكان إلى جانب النخيل كوم أحمر «كفري» يمد ذراعا نحو فضاء «الجرن» ويترامى من ورائه صاعدا ويزيد عرضا كلما قرب من طرفه البعيد.
وكان الفلاحون يتخذون من تراب الكوم سمادا لأرضهم؛ ولهذا تركوه مهشما مضطرب السطح بين حفر غائرة وأضراس بارزة، وعلى وجهه حطام مختلف الألوان بين قطع حمراء وزرقاء من الآجر والفخار، وعظام من جماجم أو ضلوع.
وكانت دار الأفندي متنزهة عن القرية إلى اليمين، يهبط إليها الطريق من حافة البركة على مسيرة دقائق بين الحقول الخضراء، وهي بسيطة البناء يحيط بها سور من شجيرات ملتفة شائكة تحجب الأنظار عنها ولا تحجب منظر الحقول عمن في داخلها، وكان في ساحة الدار بستان يتخذه الأفندي حقلا يزرع فيه ما يحتاج إليه من خضر وبقول، وفيه ساقية تظللها شجرتان من الجميز، ومن حولها بعض كروم ونخلات وأشجار شتى مبعثرة في غير نظام.
كان الأفندي في شبابه موظفا، ثم غادر الوظيفة، وآثر أن يعتزل في الريف، فاشترى قطعة من أرض تجاور قرية النجيلة، وبنى بها تلك الدار ليقيم فيها مع زوجه، وليس لهما سوى ولد وحيد يخطو إلى حدود العشرين في كلية الحقوق، فإذا أتى الصيف انتظر الوالدان وحيدهما في لهفة ليملأ عليهما الحياة في معتزلهما البعيد.
وكان فؤاد ابن الأفندي يقيم بالقاهرة مدة العام مع بعض لداته من طلاب العلم في منزل مستأجر، حرص أبوه على ذلك على غير رغبة من أمه التي كانت تود لو أقام في بيت من بيوت أخواله، فقد كان حسني أفندي يرى رأيا لا يرضى أن ينزل عنه في تربية وحيده، ولم يحدث له يوما أن ندم على رأيه، إذ مضى فؤاد في دراسته موفقا، فكان في كل عام يراه إذا عاد إليه كأنه عود طيب ينمو يانعا مزهرا.
وأقبل فؤاد من القاهرة حتى بلغ القرية، وكان يركب بغلة أبيه تسير به فارهة مطمئنة الظهر وعليها سرج ملون من نسيج الأعراب، ومن ورائه ثلاثة من أهل العزبة يحملون حقائبه.
فلما بلغ الدار نزل عن البغلة وأسرع داخلا يثب في خطواته حتى قفز سلالم المدخل وأخذ بيد أبيه يقبلها، وكان الوالد جالسا في صدر البهو، فلما لمح ولده قام إليه يستقبله، وقبله بين عينيه قائلا: أحمد الله على سلامتك.
وخرجت الأم فاتحة ذراعيها فضمت ولدها دامعة العين وهي ضاحكة، وقالت له وهي تربت: لقد نحفت يا فؤاد.
ثم دخلوا إلى الدار يستمتعون بالشمل المجتمع بعد فراق عام طويل، ودار فؤاد حول أركان الدار كأنه يستعيد عهدها، وقضى مع والديه ساعة يقص عليهما أنباءه ويستمع في شوق إلى أحاديثهما حتى أعدت مائدة الغداء، وكانت الأم قد حشدت لها كل ما عرفته شهيا عند وحيدها .
ولما هدأ فؤاد بعد العصر، خرج إلى المنظرة يريد أن يرى من هناك، فكل من في العزبة أصدقاء قدماء رأوه صغيرا، ثم فتى يافعا، ثم رأوه بعد ذلك شابا، وهو إذا حل بها كأنه عاد إلى كل بيت من بيوتها، وكان يعرف أنهم سيأتون إليه واحدا بعد واحد إذا فرغوا من عمل النهار، وكان به حنين إلى أن يراهم جميعا.
अज्ञात पृष्ठ
وأول من لقيه من أهل العزبة رحومة البدوي المرح الكسول.
كان رحومة أو «عبد الرحيم» شيخا في السبعين، ولكنه أعجوبة في الشيوخ، كان يسير عاري الصدر حتى في أشد الأيام بردا، ولا يلبس إلا ثوبا من القطن الخفيف الأزرق يشتريه في كل عيد فلا يخلعه إلا في العيد الذي يليه، فإذا اشتد البرد في ليالي الشتاء التحف بحريم من الصوف يتخذه في الليل غطاء ثم ينحيه عنه إذا حميت شمس النهار، فهو يجعله زينته إذا استقبل زائرا وبساطه إذا أكرم ضيفا، ومظلته إذا آذاه حر الشمس، وكان يسير مستقيم الظهر ويحب أن يجرش الفول بأسنانه البيضاء، فإذا رأى زكيبة منه أسرع إليها ليصيب منها قبضة يجرشها فولة بعد أخرى، وقد تزوج من نساء عدة من فقيرات الأعراب، ولكنه لم يعقب منهن ذرية سوى تعويضة، وكانت فتاة في السابعة عشرة إذ ذاك.
ولكنه كان كسولا، فأحب شيء عنده أن يستلقي في ظل النخيل ظهرا أو يعرج على حلقة من الناس يشارك في حديثها، وكان مرحا ظريف المجلس فما يكاد يمر بجمع حتى يدعوه ليستمعوا إلى آخر أخباره، وكان يترك حقله لامرأته وابنته؛ ولهذا كان لا يكاد يجد الكفاف من العيش، فإذا تذمرت امرأته فقذفته بما شاءت من قول ضحك ساخرا وانصرف عنها بكلمة لاذعة، ولكن ابنته كانت تحبه، فإذا سمعت أمها تعنفه وقفت لها تدافع عنه في حماسة وترد عليها تعنيفها.
وكان رحومة مع فقره متكبرا يكاد يكون غطرسا في بعض الأحيان، كان لا ينسى أنه حر بدوي من أحرار بدو لا ينبغي لهم إلا أن يكونوا حيث خلقهم الله، وكان يرى المال عرضا لا قيمة له في قيم الرجال، فقد يكون غني اليوم فقيرا في الغد، وقد يكون الفقير من بعد غنيا، ولكن المرء نفسه يبقى كما خلقه الله.
والناس عنده صنفان: فمنهم البدوي ومنهم غير البدوي، وما كان ينسى أن يشكر الله إذ خلقه بدويا.
ولما رآه فؤاد داخلا ناداه من أقصى (المنظرة): أين أنت يا رحومة؟
فصاح بصوته القوي: مرحبا!
وأسرع في مشيته ليلقاه مادا يده مصافحا، وكانت تحية حارة من مصافحة مكررة على طريقة الأعراب: إيش حالك؟ إيش لونك؟ وسأله فؤاد عن أخباره فجعل يقص عليه من الأنباء ما ادخره في عامه، وقص عليه نبأ سجن «سلومة».
كان فؤاد يعرف عبد السلام أو «سلومة» كما يسميه أهل ذلك الريف على طريقة الأعراب، كان الناس يسمونه الصقر أحيانا أو الذئب أحيانا، ففيه شبه لا شك فيه من الصقر والذئب معا، كان فارسا في حلبات «البرجاس» في موالد الأولياء، وكان مبارزا ماهرا بالعصى، إذا نازل أقرانه هزم أمهرهم واحدا بعد واحد، وكان يستطيع أن يضع الرصاصة حيث شاء من الهدف الذي يرمي إليه.
وكان شابا نحيفا يضع على رأسه عمامة صغيرة فوق «لبدة» ويلف أعلى جسمه بشملة بيضاء من صوف، وكان في أول أمره في عزبة الأفندي، ثم اتصل به أحد أعيان الريف المجاور واسمه إبراهيم ميسور فحبب إليه أن يكون عنده، وكان ذلك الرجل يستكثر من مثله ليكونوا له أتباعا، فانتقل سلومة إليه مع أمه وأخيه، ومع ذلك كان بين حين وآخر يزور الأفندي محافظة على مودته القديمة، ولكنه لم يبق على عهده الأول، فكان إذا سار أمام البيوت يخطر معجبا، ويتخذ في ملبسه زينة المترفين، فما لبث أن رأى من الأفندي انقباضا عنه فصار لا يزوره إلا لماما، وما مضى عليه إلا أعوام يسيرة في عزبة ميسور حتى تبدل تبدلا عجيبا، فقد ضرى في زهوه حتى صار فاتكا، يسطو بمن يخاشنه، لا تأخذه بأحد رحمة ولا تدفعه عنه رهبة، ثم تمادى في فتكه حتى كان الناس كلما اجتمعوا جعلوا حديثهم همسا عن آخر ما جناه.
अज्ञात पृष्ठ
ولكن أهل القرى كانوا يتحامونه ولا يجرءون على أن ينموا عليه، وكان إبراهيم ميسور يدفع عنه أذى الأقوياء، وإذا أجرم جريمة أسبل عليه جاهه وأقام له محاميا حتى يبرئه.
وأخذ «رحومة» يقص على فؤاد نبأ الرجل الذئب وما حدث بينه وبين سيده ميسور من القطيعة، فحكى له كيف انقلب «سلومة» على صديقه القوي فكشر له عن نابه، فلم ينم عنه ميسور حتى بعث به إلى السجن ليلقى جزاء جرائمه.
ولم يخل قلب فؤاد من الأسف عندما تمثل صورة ذلك الرجل وهو يطارد أقرانه رشيقا خفيفا فوق فرسه في حلبات السباق.
وسأل رحومة قائلا: وماذا فعلت أمه وأخوه؟
فقال رحومة: جاءوا إلى هنا.
فقال فؤاد راضيا: أود أن أراهما.
فقال رحومة: لا شك أنهما آتيان للسلام.
فقال فؤاد: وكيف حال تعويضة؟
فقال الرجل ضاحكا: كما تركتها في العيد.
وتذكرها فؤاد في يوم العيد السابق إذ أهدى إليها ثوبا من القطن زاهي اللون فضحكت قائلة: أألبس هذا؟
अज्ञात पृष्ठ
فما كانت تعويضة ترضى سوى ثوبها الأسود تتخذ له حزاما من الصوف الأحمر من نسج أمها، فاشترى لها فؤاد ثوبا أسود من قطن في حرير، فلما لبسته جاءت إلى الدار تهنئ سيدتها بالعيد، وكان «فؤاد» جالسا إلى جانب الساقية تحت ظل الجميزة يقرأ في كتاب، فحيته قائلة: تعيش لكل عام يا حاج فؤاد.
وكانت هذه طريقتها في خطابه، وما زال صوتها يرن في أذنه عذبا وهو يسأل عنها أباها.
كانت تعويضة كأنها زهرة برية يانعة، لها عينان سوداوان نجلاوان وأنف جميل فيه حلقة من فضة، وكان تحت فمها الحسن وشم يمتد من أسفل شفتها إلى ذقنها، ولها بشرة سمراء صافية تعلوها حمرة. أرأيت زهرة البر إذا تفتحت في خميلة شعثاء في شعب من شعاب الصحراء؟ هكذا كانت تعويضة تبدو إذا لبست ثوبها الأسود ومن حول وسطها حزامها الأحمر، وكان صوتها عذبا إذا نطقت بلهجتها، وتنطلق في حديثها هادئة كالنسيم حينا وثائرة كالعاصفة حينا، لا تختلج من تكلف أو حياء، ولا تتعثر من تردد أو خوف.
وكان فؤاد يحس لها ميلا ولا يملك كلما رآها أن يبسم لها، ويرتاح إلى سماع ندائها إذا نادته: يا حاج فؤاد.
وكان كلما أتى إلى العزبة في الصيف يقضي كثيرا من وقته في «غيطها» يساعدها في عملها، وكانت الأرض هناك كثيرة النجيل، فكانت هي وأمها لا تكادان تغيبان عن الحقل ساعة كأنهما تجاهدان هذا النجيل جهادا، فإذا ذهب فؤاد إلى حقلها جعل يقلع معها النجيل حينا أو يحول الماء من المساقي لري خطوط القطن أو يعزقه معها إذا جفت الأرض، وكان ذلك يثير في الناس عجبا في أول الأمر، حتى لقد تهامسوا فيما بينهم عنه وعنها، وبلغ الحديث إلى أبيه ففاتحه فيه فقال لأبيه ضاحكا: «لعلي أحب أن أتزوجها يا أبي»، فأمسك عنه أبوه فلم يعد إلى كلمة أخرى مثلها، بل لقد صار إذا رآه مقبلا ساعة الظهيرة محمر الوجه تبسم له قائلا: «هل فرغت من عملك في حقلها؟»
وكان فؤاد يجيب في ابتسامة هادئة متحدثا عما كان منه في يومه.
وكان فؤاد بعد هذا يرى تعويضة في ليالي القمر إذا اجتمع أهل العزبة في الفضاء المجاور للدار، كانت تحيي حلقة السمر الساذج، فترقص رقصة الأعراب في «الصابية»، تخطر رشيقة في الحلقة والأكف ترن وأصوات الإنشاد الصاخبة تدوي من حولها.
وكانت صورتها كلما خطرت لفؤاد بدت له كأنها لوحة من لوحات الفن الجريء أو صورة من صور الشعر الوحشي في عصر مضى.
ولكنه لم يسأل نفسه عما يحسه نحوها، فإنما كان يراها معجبا بحسنها كما يعجب بزهرة يانعة على حافة ترعة.
ومضى رحومة يتحدث في مرح عن تعويضة، وفؤاد يستمع إليه في اهتمام: لقد تجرأ محمود بن خضرة فجاء إليه يخطبها، ولم يرض رحومة أن يذكر اسم والد الفتى - الشيخ عبد المقصود شيخ البلد في قرية النجيلة - متعمدا أن ينسبه إلى أمه تحقيرا وازدراء، وكان محمود فتى يرضاه أهل النجيلة جميعا إذا طلب إليهم أن يكون صهرا، ولكنه كان فلاحا وما كان ينبغي له أن يجرؤ على مصاهرة رحومة البدوي، فرده رحومة ردا عنيفا، ولم تخل تعويضة من الغضب عندما ذكر أبوها اسم الفتى لها، وسأله فؤاد عن أخي سلومة، فانطلق رحومة يثرثر عنه، وكان حديثه مرحا عاطفا.
अज्ञात पृष्ठ
كان اسمه عبد القوي، ولكن رحومة نطق اسمه «قوية» على طريقة الأعراب؛ لأنه كان مثله بدويا، وكان في نحو الخامسة والعشرين عندما عاد إلى العزبة بعد أن ذهب أخوه سلومة إلى السجن رهن القضاء، جاء هو وأمه مبروكة فاتخذا لهما خيمة إلى جانب الكوم الأحمر، ورحب بهما الأفندي لأنه عرف قوية صغيرا، وكانت مبروكة أمه امرأة طيبة حلوة اللسان كريمة، فلما عادت إلى العزبة - بعد أن بعدت عنها بعض سنوات - لقيت من كل أهلها ارتياحا وبشاشة.
وأخذ «رحومة» يصف قوية وما فيه من شبه بأخيه في قامته وهيئته وفي فروسيته وفتوته، ولكنه لم يكن مثل أخيه غطرسا مزهوا، ولم يكن مثله شيطانا مرعبا، كان ينشد شعر البدو بصوت مليء مطرب، ويهز حلقات السمر ضحكا بألاعيبه الرشيقة وتندره المعجب، وكان فؤاد لم يره منذ سنوات ولم يعرف فيه شيئا مما تحدث به رحومة، فحبب إليه ذلك الحديث أن يراه.
وتوافد أهل العزبة على الدار ونزل الأفندي يستقبلهم مرحبا، فتنحى رحومة إلى ركن بعيد يجرش الفول، وامتلأ البهو بالزائرين بين شباب وكهول، وجاء من قرية النجيلة آخرون ليهنئوا الأفندي بسلامة ولده، وكانت أكواب الشاي تدور على الضيوف في خلال الأحاديث دورا بعد دور، وأدرك فؤاد في ذلك المجلس كل ما غاب عنه من أخبار ريفه في مدة العام الطويل.
2
رأى فؤاد بعد ذلك قوية وكان لم يره من سنين، كان ممدود القامة عريض الصدر ضخم الهامة، ولكنه كان طلق المحيا واسع العينين يبعث مظهره الثقة، وأنس إليه فؤاد منذ رآه وقربه، فوجده خفيفا إلى الخدمة سريعا إلى الاستجابة كلما أراد أن يجول في الريف جولة، فكان يستصحبه كلما أراد نزهة في الكوم الأحمر أو ذهب إلى الصيد في المناقع ذات الأعشاب الطويلة على حوافي الحقول، وكثيرا ما كان يصاحبه في الليالي التي يسهر فيها الفلاحون عند امتلاء الترع ليدركوا فرصة ري الزرع قبل أن تمضي مدة «النوبة».
ونشأت بينهما على الأيام مودة تشبه أن تكون صداقة، وكان قوية في كل تلك الجولات مرحا وثابا خفيف الروح يعرف اسم كل عشب وكل زهرة وحشرة، ويطرب لمشاهد الأرض والسماء في حماسة معدية، فكان فؤاد يطلع في صحبته على محاسن لم تبد له من قبل في مناظر الطبيعة الشعثاء، وأعداه منه طربه إليها حتى صار يتذوق كل ما فيها، حتى لقد أصبح يطرب إلى الموسيقى الوحشية التي تنبعث في هدأة الليل من أصوات الضفادع والحشر أو نعير السواقي.
وكان قوية يعرفه بمواقع النجوم في المساء وقبيل الصباح، ويسمي له أسماءها ويقص عليه قصصها، إذ كانت تعيش على الأرض قبل أن تصعد إلى السماء.
وكان فؤاد يذهب معه أحيانا إلى خيمته فيستمع إلى أحاديث أمه، إذ تحكي لهما قصص قومها في موطنها الأول بمريوط، وتجعل قصصها تفوح بعطر النرجس البري الذي ينبت على جوانب كثبانها، كانت تحدثهما أحيانا عن غارات قبائل البدو ومصارع أبطالها، وأحيانا عن نجوى أحباب الصحراء تحت ظلال النخيل في جوار العيون المتدفقة.
وكان فؤاد في بعض الأحيان يطيب له أن يقضي الليل عنده، فيمهد له قوية فراشا في جوار خيمته فيقضي ليلته تحت السماء، حتى إذا استيقظ في الصباح مسح الطل عن وجهه وهب نشيطا يجوس خلال الحقول قبل مطلع الشمس، يعجب بلآلئ عقود الندى فوق نسيج العناكب، ويملأ صدره من الهواء البليل الذي يفوح بروائح أعشاب البر السابحة في الفضاء.
وكانت مبروكة تعد له في الصباح طعاما من عصيد أو رقاق مبسوس، فيعجبه طعامها كما تطربه حفاوتها.
अज्ञात पृष्ठ
هكذا قضى فؤاد في العزبة شهرا لا يكاد صاحبه ينقطع عنه يوما، ثم جاء إليه قوية ذات مساء وكان على غير عادته كئيبا، فلما سأله عن أمره قال له: غدا محاكمة أخي.
وكان فؤاد قد نسي في تلك المدة ذكر سلومة أخي قوية، فلم تخطر له منه خاطرة ، وكان قوية كذلك لا يورد ذكره في أثناء جولة أو مجلس كأنه كان يتعمد ذلك تحرجا من ذكره، وشعر فؤاد بشيء يشبه أن يكون خجلا، إذ كان يكلف الفتى أن يصحبه ويمرح معه ولا يذكر أن له في السجن أخا يستحق مواساة أخيه، وعجب من قوية إذ كان يراه في تلك الأيام مرحا طروبا كأن قلبه لم يعرف في حياته حزنا أو ألما، ولم يدر أكان الفتى يحس الألم ويخفيه أم أنه كان كوحش البر ينسى الطعنة بعد أن يلعق موضعها؟!
فقال له بعد لحظة من صمت: أذاهب أنت لتراه؟
فأجاب قوية كأنه حسب سيده يلومه: إنه أخي!
وأطرق حزينا، فمد فؤاد يده إلى كتف الفتى قائلا: سنذهب معا.
فرفع قوية رأسه في دهشة وقال: لا تكلف نفسك هذه المشقة يا سيدي، فإنما جئت إليك معتذرا من تخلفي عنك غدا.
وتحرك قلب فؤاد عندما استأذن الفتى يريد أن يذهب فقال له: أتذهب إليه وحدك؟
فقال: ستسافر أمي معي.
فقال فؤاد في دفعة: بل أذهب معكما.
فرفع قوية يده إلى عينه فمسح دمعة فيها وقال بصوت متهدج: أشكرك يا سيدي، لا تكلف نفسك هذا العناء.
अज्ञात पृष्ठ
فقال فؤاد: لا عناء علي في هذا، ألا تحب أن أكون معكما؟
فصمت قوية حينا ثم قال مترددا: كيف تريد أن تذهب معنا لترى سلومة؟
فأجاب فؤاد: أليس أخاك؟
فقال حزينا: إنه أخي! ولست أعرف إلا أنه الذي رباني وأحبني وأكرمني، ولكنه سلومة الذي كان يرعب الناس جميعا.
كان يسبل حمايته علي وعلى أمي، ولكن الناس سيتحدثون عنك إذا ذهبت معنا.
وسكت لحظة كأنه ينتظر حكما.
فأجاب فؤاد: أعد لي ركوبتي في الصباح.
فلم يزد قوية على أن قال في صوت خافت: شكرا لك يا سيدي.
فلم يجب فؤاد وقد داخله من قول الفتى ما يشبه أن يكون حزنا، وفكر في حال هذين البائسين: قوية وأمه، إذ يقفان في حبهما مع الرجل الذي أجمع الناس كلهم على مقته.
وقضى صدرا من الليل في خيمة قوية مستمعا إلى حديثه وحديث أمه عن سلومة الذي أحباه، فلما عاد إلى داره كان يتطلع إلى الصباح حتى يرى ذلك الفاتك المروع الذي تجتمع عنده ميول شتى من المقت والمحبة معا.
अज्ञात पृष्ठ
وبكر ليدرك القطار الأول مع قوية وأمه، وكانت الأم تحمل تحت ذراعها صرة فيها هدايا لولدها، ومضى القطار الصغير يتبختر ويهتز وسط الحقول الخضراء، ومبروكة لا تفتأ تتحدث عن سلومة الذي كانت تحبه ولا ترى فيه سوى فلذة كبدها، كان حبها مثل حب الكلب لصاحبه لا يبالي ما هو سوى أنه صاحبه، فهو يحبه إذا كان سكيرا أو قاتلا أو لصا أو نذلا، ويرقد تحت قدميه ويترقب عودته من ليلته السوداء، فإذا رآه هب يتمسح به ويلعق وجهه حبا، ولو وقف العالم كله معاديا لذلك الصاحب البشع لما تزحزح الكلب عن محبته ولوقف إلى جنبه يقاتلهم جميعا.
وكان قوية حزينا مطرقا يختلس نظرات من فؤاد وهو يستمع إلى حديث أمه كأنه يرقب حركة وجهه متلهفا.
ولما بلغوا جانب السجن آخر الأمر رأوا عربة سوداء عند بابه، وعلى مقربة منها جمع من نساء ورجال في ثياب قاتمة، يجلسون القرفصاء على الأرض في ظل شجرة، وأفاق فؤاد عند ذلك إلى نفسه، فرأى أنه قد أقبل مع شاب مسكين وأمه لكي يروا سجينا وهم وقوف عند باب سجنه.
ودب إليه شيء من العجب كيف دفعه الفضول إلى مثل هذا الموقف المزري، وداخله شعور يشبه أن يكون ندما، فما كان ينبغي له أن يقف هكذا مع كل هؤلاء.
ورأى مبروكة وهي تهتز وتحاول أن تخفي ما بها، ثم رآها تذهب نحو حارس الباب مترددة، فناداها قوية: إلى أين يا أمي؟
فهمست له وهي تلمس الصرة التي تحت ذراعها.
ورأى فؤاد أنه واقف على مقربة منهما لا يفيدهما شيئا ولا يدري ماذا ينبغي له حيالهما، أيتركهما حتى يفرغا من أمرهما كما يتهيأ لهما؟ أم يذهب مع المرأة إلى حارس الباب فيقول له: إنه جاء معها لعله يظهر له إعظاما فيساعدها على إيصال الصرة إلى ولدها السجين؟ وأحس في نفسه حنقا شديدا، إذ يقف هناك كأنه أحد أولئك الجالسين تحت الشجرة في صغار، ولكنه لم يتحرك لشيء ووقف ينظر إلى من حوله كأنه يلهو بمنظر في مأساة.
وأراد قوية أن يجذب أمه عن الباب قسرا، ولكنها امتنعت عليه في قوة كان من العجيب أن تكمن في مثلها.
وفي تلك اللحظة سمعت صيحة من وراء الباب الأسود، فانفلتت الأم من ذراع ابنها وأسرعت تستقبل مبعث الصيحة، وكانت عيناها مفتوحتين لا تطرفان كأنها تنتظر جلادها، وفتح الباب وخرج منه جندي في يده سلاحه، فلما رأى المرأة وابنها قريبين صاح بهما: إلى أين؟
فوقفت المرأة في مكانها خاشعة ومدت يدها بالصرة إلى الجندي وقالت له كلمات بصوت خافت.
अज्ञात पृष्ठ
فصاح بها الجندي بصوت أجش ينهرها، فأخذها قوية يجذبها من ذراعها وهي تتكفأ وتتعثر، وثار الدم في رأس فؤاد وهو واقف في مكانه شاعرا بما يشبه أن يكون إهانة، أليست المرأة معه؟! ولكنه مع ذلك وقف جامدا!
وخرج من الباب جندي بعد آخر ثم جاء من بعدهم رجال، من بعدهم رجال في ثياب السجن حائلة اللون، وسار الجنود يحفون بهم عن يمين وشمال ومن وراء وأمام يحملون السلاح مشرعا، ورفعت مبروكة عينيها إلى الوجوه تتفرس في ملامحها وهب من كانوا تحت الشجرة وجعلوا يتصايحون بين عويل النساء وبكاء الصبية وضجيج الرجال، واقترب فؤاد من الجمع يدفعه دافع شديد إلى رؤية وجه سلومة، أكان ما يزال في هيئة البشر؟
كان - وهو يسير نحو السجناء - يدفعه ميل عجيب كمن يريد أن يطلع على وحش في قفصه من وراء قضبان الحديد، وصاحت مبروكة مولولة في صوت ممزق: ولدي!
ورفعت يدها بمنديل أسود إلى مؤخر عنقها تحركه يمنة ويسرة مع صراخها، فعض فؤاد على أضراسه جزعا وهو ينظر إلى سلومة.
كان رجلا طوالا متين البناء له جبهة مثل جبهة أخيه، وصدر عريض وعينان واسعتان يشع منهما بريق، ونظر نحو أمه بوجه متحرك ترددت عليه مسحة من رقة في لحظة قصيرة ولكنه عاد فتجهم ووقف رافعا قامته الفارعة، وهم برفع يديه كأنه يريد أن يحطم القيود التي تغلهما، ثم حول بصره إلى ناحية أخيه مسرعا وخيل إلى فؤاد أن نظرته لانت قليلا فعلت وجهه سحابة رقيقة تشبه الابتسامة ثم عبس مرة أخرى. حدث ذلك كله في لحظات لا تزيد على ثوان، ثم تحول كأنه ينزع نفسه قسرا، ومضى في خطوات سريعة واسعة حتى بلغ العربة السوداء فاندس فيها، وتمثلت لفؤاد عند ذلك صورة ذئب كاسر ينزوي في قفصه مكشرا، واجتمع في قلبه شعور مختلط مضطرب من إشفاق ورهبة.
وثارت الأم وتزايد صراخها ووثبت وثبة تخلصت بها من ذراع قوية كأنها تريد أن تلحق بولدها.
وصاحت تولول: ولدي!
فصاح بها الجنود ينهرونها وهم يغلقون باب العربة، وأدركها قوية ليحجزها، فارتمت على الأرض وجعلت تتخبط وتتدأدأ كأنها تريد أن تحطم عظامها.
ولم يدر فؤاد ماذا يصنع ولا كيف يحتال في موقفه المحرج الذي دفعه إليه الفضول والتسرع، واعتراه ذهول يمتزج به الحنق والخجل، فما زال في موضعه ساكنا حتى تحركت العربة وسارت تحمل من في جوفها، وكان لا بد له من أن يشرب الكأس حتى ثمالتها، فانتظر إلى أن استطاع قوية أن يدفع أمه ويسير بها، وقذفت الأم بالصرة التي كانت تحملها نحو باب السجن كأنها جاءت بقربان من زهر تضعه عند قبر، وساروا في الطريق صامتين والأم تكتم عويلها حتى بلغوا المحكمة فوقفوا عند بابها، ولم يستطع فؤاد أن يصبر فوق صبره فترك صاحبيه حتى يفرغا من أمرهما وذهب إلى مقهى قريب فجلس به خائرا، ولم يدر ما صنعت مبروكة المسكينة عندما سمعت الحكم على ولدها، ولكنه كان يسمع من بعيد صراخا مختلطا بين حين وحين كلما صدع القضاء بأمر من أوامره، وقضي الأمر بعد حين وعاد السجناء إلى العربة السوداء فسارت تحملهم في جوفها نحو الأفق المجهول، وخرج قوية مع أمه يسندها وهي متهالكة، فلما وقعت عين فؤاد عليه هز رأسه سائلا في صمت، فأجاب قوية بصوت مخنوق: مؤبد!
فمد يده إلى ذراع الأم صامتا يساعد ولدها على إسنادها، ثم دعا مركبة لتحملهم إلى العزبة، وقد هزه اليوم هزا عنيفا.
अज्ञात पृष्ठ
ولما حكى لأبيه ما كان في يومه قال والده: لقد عرفت سلومة من قبل يا ولدي.
قالها في رنة أسف عميق وأطرق حينا قصيرا ثم قال: ومع ذلك فقد عرفته من بعد قاسيا عنيفا كأنه إعصار.
ولست أدري كيف تجتمع هذه الخصال كلها في طبيعة واحدة.
كان سلومة إذا لجأ إليه ضعيف أعانه، وإذا نزل عليه ضيف بالغ في إكرامه، ولكنه كان إذا لم يجد ما يقدمه لضيفه لا يتردد في سرقة ما يقيم به الوليمة.
فقال فؤاد: لقد رأيت فيه شبها عجيبا من أخيه.
فقال الوالد: إذن فحاول أن تجنب أخاه مصيره إن استطعت، حاول أن تجعل منه إنسانا، إن أكثر من تذهب عنهم الإنسانية هم هؤلاء الذين لم يجدوا أحدا يأخذ بيدهم يا ولدي.
وتمنى فؤاد لو استطاع، فقد مست هذه الكلمات قلبه.
وذهب إلى الخيمة بعد الأصيل ليرى كيف حال مبروكة، فرأى أهل العزبة عندها يواسونها في مصابها، كأن سلومة لم يكن لكل ريفهم رعبا.
وقالت تعويضة وهي تربت كتفها: هل السجن إلا للشجعان يا خالة؟
ووقعت الكلمة على سمع فؤاد وقعا ثقيلا، أهذه هي تعويضة الحسناء تتكلم؟
अज्ञात पृष्ठ
3
أخذ فؤاد يحس في نفسه شعورا جديدا كان يزيد كلما مر عليه يوم، كانت تعويضة في أول الأمر لا تزيد في نظره على زهرة برية عند شاطئ الترعة، أو في خميلة برية في شعب من شعاب الصحراء، ولكنه صار يجد كل يوم ميلا قويا يدفعه إلى الذهاب نحو حقلها وإن لم يكن في الحقل ما يدعو إلى ذهابه، كان من قبل يخيل إلى نفسه أنه يساعدها ويرحمها ويضحك ساخرا إذا بلغه ما يتهامس به الناس عنه وعنها، وكان يذهب إلى حقلها كما يذهب الهواء وشعاع الشمس على سجيته غير متحرج، ولكنه أصبح يشعر شيئا من الحرج، ويكاد يود لو لم تقع عليه عين في طريقه إليها، ولكنه كان لا يملك مقاومة ميله فيذهب نحوها متعللا بالعلل، فإذا سمع منها لفظا وجد صداه يتردد في سمعه بعد أن يعود، فيزنه ويسترجعه ويحاول أن يدرك ما ينطوي فيه.
وأخذ يسأل نفسه أيرضى أبوه عنه لو عرف أن وحيده ينظر إلى تعويضة في مثل هذا الجد؟! لقد حدثه أبوه عنها مرة فيما مضى فلم يزد على أن ضحك قائلا: «لعلني أتخذها لي زوجة يا أبي»، فهل كان يضحك ساخرا لكي يخفي حقيقته عن أبيه أم كان يحاول أن يخدع نفسه ويخفي الحقيقة عنها؟ وتدسس في خفايا نفسه حتى لمح في أعماقها أمنية جريئة.
كانت تعويضة فتاة لا تقل عن سائر الفتيات ذكاء وحسنا وظرفا، بل لقد كانت أكثر ممن عرف منهن في ذكائها وحسنها وظرفها، وأصبحت تحرك قلبه كما لم يتحرك نحو فتاة أخرى من قبلها، أما كان يستطيع أن يسمو بها وأن يخلق منها ...؟ وأمسك عن المضي في التفكير كأنه اصطدم بما لم يقو على مقاومته، وماذا يستطيع أن يخلق منها؟
إن هذا الوشم الذي كان يزين ما تحت شفتها إلى ذقنها الجميل قد خالط دمها فلا سبيل إلى محوه عنه أبدا، ولعل إزالة ذلك الوشم كان أهون عليه من إزالة وشم آخر أعمق منه أثرا، لقد كانت كلماتها إلى مبروكة ترن في أذنه كلما تذكرها إذ قالت لها: «وهل السجن إلا للشجعان يا خالة؟» أكان يستطيع أن يخلق من هذه الفتاة ما يريد؟
كان كل شيء في تعويضة جميلا في عينه وإن كان لا يشبهه في العالم جمال آخر، كان جمالا وحشيا ترضاه العين أو ينجذب إليه الحس كله، كان قوة عنيفة كما ينبغي للجمال الوحشي أن يكون، ولكنه مع ذلك كان من عالم آخر غير عالمه بغير شك.
وكان فؤاد في كل ما جد في نفسه من تعويضة وما حدث به نفسه عنها وما تردد فيه من تحرج وخشية لا يستطيع أن يمنع نفسه من الذهاب إليها ليملأ عينيه منها ويتنسم الهواء الذي يفوح بعطرها.
هكذا مر عليه أكثر الصيف وهو أشد ما يكون متعة في مقامه، وذهب يوما إلى تعويضة وهو يجاذب نفسه حتى بلغ جانب حقلها وألقى إليها تحيته، ثم سأل نفسه: فيم جاء إليها؟ وكانت ترعى قطعة من غنم لها في حوافي الحقل فتركتها وأسرعت إليه تستقبله قائلة: مرحبا بك يا حاج فؤاد.
ثم لمست جانب طرحتها لتخفي وجهها الباسم وما كانت تفعل ذلك من قبل.
وكان صوتها على عهده ناغما وقوامها بديعا ويحيط بوسطها حزامها الأحمر وتتدلى ضفيرتاها الطويلتان على صدرها.
अज्ञात पृष्ठ
فقال ولم يجد ما يقوله: كيف حالك؟ وكيف حال غنمك؟
فضحكت قائلة: ولدت نعجتي اثنين، ذكرا وأنثى لم تضع نعجة مثلهما، ثم عادت مسرعة إلى غنمها وهي تقول: تريث حتى تراهما.
ودخل إلى الحقل وراءها حتى لقيها مقبلة بالسخلين، أحدهما أبيض لا شية فيه، والآخر مرقط ببياض في سواد، وكانا رشيقين كأنهما خشفا ظبية تجمعهما تعويضة إليها وهما يتواثبان ويثغوان في فزع، وهي تضحك وتحاورهما حتى انفلتا منها.
فقال فؤاد يضاحكها: وماذا سميتهما؟
فأمالت رأسها في خفر ونظرت إليه نظرة باسمة وقالت: لم أسم الأنثى.
فقال فؤاد: والآخر؟
فكركرت ضاحكة وهي تقول: قوية!
وكانت ضحكة خارجة من أعماق قلبها!
وخفق قلب فؤاد إذ سمع قولها وصاح: قوية؟
ثم تمالك نفسه فأمسك، وملأ عينيه منها كأنما لم تقع عليها عينه قبل تلك الساعة، فرآها فتاة لا زهرة، فتاة مليحة ممشوقة القوام غضة الشباب لدنة العود مملوءة حياة ومرحا، ولو أطاع نفسه في تلك اللحظة لاندفع نحوها فطواها بين ذراعيه متلهفا.
अज्ञात पृष्ठ
ثم قال: أهذا الحمل قوية؟
فاحمر وجهها عندما أجابت: أليس مثله شيطانا؟
فقال كأنه يعاتبها: أراه حملا ظريفا، ويا ليتك سميته باسمي.
فنظرت نحوه في دهشة وقالت كالمعتذرة: ليس قدر المقام يا حاج فؤاد.
وأحس عند ذلك بالجدار القائم بينهما، فلم يكن هو وحده الذي يعرف البون الذي يفصل بينهما، واستعجل الذهاب فحياها وعاد يسير نحو الدار ونفسه تنازعه أن ينظر إلى الوراء نحوها، فلما بلغ البيت استقبله أبوه أول شيء فتبسم له قائلا: كيف وجدت حقل تعويضة اليوم؟
وارتبك للمرة الأولى في حديث أبيه وقنع من الرد بابتسامة وتمتم بألفاظ لم يكد هو يعرف معناها.
وأحس كأن حملا ثقيلا أزيح عن كاهله عندما تركه أبوه وخرج من الدار نحو البغلة التي كانت عند الباب ليركبها في جولته التي تعود أن يجولها كل يوم حول المزرعة.
ودخل فؤاد إلى الدار فقضى بها سائر يومه، فلما أتى الليل قضى صدرا منه يطل على الفضاء من نافذة غرفته والظلام الدامس يلف الأرض وتلمع فيه النجوم وضاءة، وسأل نفسه: ما ذلك الذي تغير فيه؟ بل ما ذلك الذي تغير في كل ما حوله؟
ومع ذلك فإنه مضى فيما كان فيه يرى تعويضة في ليالي القمر في حلقة السمر تخطر في رشاقتها، ويراها في الحقل تزينه بطلعتها، وتدخل إلى الدار أحيانا فكأن شعاعا من النور ينفذ فيها.
ولما اقترب الصيف من نهايته لمح فؤاد في قوية تغيرا، إذ كان كلما رآه ذاهبا إلى غيط تعويضة ينفلت إلى خيمته داخلا، وإذا رآه في ليلة من ليالي السمر يحدثها أو يضاحكها يطرق بعد مرحه ويلوذ بالصمت حتى تمضي الليلة وينفض السامر وهو صامت، وقد رآهما مرة يقبلان معا من الحقل يسيران بين النخيل، وكان هو آتيا من القرية تجاههما، فما كاد يراهما حتى عاد أدراجه فاندس بين البيوت فغاب فيها، وكان فؤاد مع هذا يرى أن الفتى لا يلبث أن ينبسط بعد انقباض ويعود إلى ما اعتاد من مرح وطلاقة، فيراجع عنه نفسه ويعنف في لومها ويحسب أنه كان واهما، وهم أن يسأل الفتى مرارا عما بدا له منه، ولكن كبرياءه حالت دون هذا، وأخذ يتلمس له الأعذار في بدواته، فقد كان مثله جديرا بأن تكون له بدوات.
अज्ञात पृष्ठ
وذهب معه في عصر يوم من الأيام في جولة بالكوم الأحمر، وكان قوية - على عادته - مرحا ينشد شعره ويغني ويصيح كلما عثر على قطعة من خزف أو رأس محطم من تمثال أو قرص صدئ من نقود، وكان يصور حول كل شيء من ذلك قصصا من خياله وينطلق في تندره مفاكها، ثم عثر على تمثال صغير كامل من خزف مطلي بدهان أزرق، فوثب صائحا ومسح عنه التراب فلمع في ضوء الشمس كأنما قد فرغ منه صاحبه منذ ليلة، ومال على فؤاد هامسا: أما إنها لتميمة نادرة.
فتبسم فؤاد وأخذ التمثال منه فجعل يقلبه في كفه معجبا بحسن صنعته، وينظر إلى الكتابة الغريبة المنقوشة عليه، وأراد أن يحتفظ به لما فيه من إبداع فقال لقوية: أتسخو نفسك لي بهذا؟
فقال الفتى: هو لك.
وخيل إلى فؤاد عند ذلك أنه وجم قليلا، وحسب أنه قد يحتاج إلى ثمنه فقال له: سأبذل لك في ثمنه جنيها.
فقال قوية: وما حقي فيه حتى آخذ له ثمنا؟
فقال فؤاد مازحا: إذن خذه فاتخذه تميمة.
فقال الفتى: بل أظنك أنت في حاجة إليه.
ولو وجده فؤاد باسما أو مازحا لغضب من قوله، ولكن قوية كان يكلمه جادا.
فانفجر فؤاد ضاحكا ووقف مكانه ناظرا إليه في شيء من الدهشة قائلا: وما حاجتي إلى التمائم يا قوية؟
فقال قوية في سذاجة: ألست تحب أن تكون لك؟
अज्ञात पृष्ठ
فصاح فؤاد: ومن هي؟
فقال قوية مترددا: تعويضة.
فصاح فؤاد: تعويضة!
فأجاب الفتى: وهل عجب أن تتخذ تميمة تحببك إلى مثلها؟
وأحس فؤاد شيئا من الغضب يسري إليه عندما قال: خذ تميمتك فلا حاجة بي إليها.
فقال الفتى جادا: وهل كنت لأقتحمها عليك؟
فسكت فؤاد كأن صدمة أصابته، وخيل إليه أن الفتى يكشف له من نفسه ما كان يحاول أن يخفيه هو عنها.
فقال الفتى كأنه يعتذر: أليست تعجبك؟
فقال فؤاد: وهبها تعجبني.
فقال قوية: إذن فمن أكون أنا حتى أتعرض لها؟!
अज्ञात पृष्ठ
ولو أطاع فؤاد نفسه لصفع الفتى وتركه حيث هو ومضى عنه فلا يراه مرة أخرى، ولكنه تمالك نفسه وقال له: اسمع أيها الأحمق، أليس يعجبك منظر الزهرة؟
فقال قوية ولمع وجهه: وهل هي كذلك عندك؟
فقال فؤاد: هي كذلك، وما أنظر إليها إلا كما أنظر إلى كل هذا.
وأشار بيده إشارة شاملة إلى الحقول والسماء والفضاء، ولكن صوتا في داخله كان يراجعه ويتهمه بأنه يداري الحق ويخفيه.
وارتاح الفتى إلى قوله ارتياحا ظاهرا، وانطلق في مرحه ووضع التمثال في جيبه مترفقا وقال: إذن سأجعله تميمتي.
وسأله فؤاد في سيرهما: أأنت تحبها هكذا؟
فقال قوية في صوت متهدج:
لقد كنت أمنع نفسي عنها وأجحدها من أجلك، ولكني كنت أراها نورا لعيني، فكنت كلما تصورت أنك تحول بيني وبينها أذهب يائسا، وأنا أخشى أن يحملني يأسي على إنكار مودتك، فأبعد مسرعا كلما رأيتك معها، وأختبئ في خيمتي أو أدخل بين البيوت حتى لا تقع عيني عليكما، وكم قضيت الليالي مترددا بين إخلاصي لك وبين حبي لها، حتى لقد فكرت في هجر العزبة وأن أفر عنها محتفظا لك بمودتي، ولكن ما كان أجهلني وأحمقني! لا تؤاخذني يا سيدي فؤاد، فإننا قوم في عقولنا خفة تطيش معها قلوبنا، ومثلك من يلتمس الأعذار لمثلي.
وكان لكلماته أحسن وقع على قلب فؤاد مع ما كان فيه من حيرة وارتباك، واندفع قوية يغني بلهجته البدوية:
يا نوارة الشط رؤى الطل عاليها
अज्ञात पृष्ठ
وصبحتها مساقي الورد ترويها
يا نجمة الليل يا لله معاي نراعيها
وإن نمت في الفجر تبقى عيني تحميها
ولما انعقد سامر القرية في تلك الليلة كانت أناشيد قوية ترن في الفضاء مرحة مطربة، وكانت ألاعيبه وفكاهاته تهز الحلقة بضحكات عالية.
وأتى قوية في الصباح التالي إلى فؤاد يدعوه إلى الغداء معه، وألح في ذلك إلحاحا شديدا، فلما تمنع عليه استعان بأمه مبروكة حتى قبل إرضاء لها.
وذهب فؤاد إليه في خيمته يحس مزيجا من بشر وتقبض، يكاد يحمل نفسه على الدخول حملا، ولكن ترحيب مبروكة وحديثها ما لبثا أن أزالا عنه قبضته، ومدت مبروكة أمام الخيمة سفرة حافلة أعدت عليها طعاما على طريقة الأعراب من ثريد ولحم ورقاق مبسوس وشواء، وكان طعاما شهيا.
وجال فؤاد وقوية بعد الغداء جولة في الحقول، وجرى الحديث بينهما على عادته، ولكن فؤاد كان أقل حماسة من قوية الذي كان يفيض سعادة، فلم ينتبه إلى فتور صاحبه، كانت نشوة الحياة تملؤه فيعطي ولا ينتظر عطاء، ويتحدث ولا يعبأ أن يتلقى جوابا.
وعادا بعد جولتهما إلى العزبة، فلما رآهما الأب قال يخاطب الفتى: لم نسيت أن تدعوني يا قوية؟
فتبسم قوية صامتا.
وقال فؤاد: لقد كان غداء مبروكة عظيما كعادتها.
अज्ञात पृष्ठ
فقال الوالد ممازحا: فيه رقاق مبسوس بغير شك.
فأجاب فؤاد: وحمل مشوي لذيذ.
فقال الأب مازحا: أنى لك هذا يا قوية؟ لعلك لم تأخذه من وراء نعجة تعويضة!
فاحمر وجه الفتى وقال: كله من خيرك يا سيدي.
ثم أطرق في شيء من الارتباك، ولما مضى قوية بعد حين قال الوالد: لقد أحسنت يا ولدي في إجابة دعوته.
فقال فؤاد: لقد تمسكت مبروكة بي وألحت.
فسكت الأب لحظة ثم قال: قليل من الناس من يعرف هؤلاء على حقيقتهم، إننا يا ولدي نراهم من ظاهرهم ولا نعرف كثيرا مما في داخلهم.
فقال فؤاد في صوت خافت: لقد عرفت قوية يا أبي. - قد تكون عرفت منه جانبا وغاب عنك منه جانب، فإن هؤلاء يجمعون في أنفسهم أشخاصا أضدادا، وكلما رأيت هذا الفتى تذكرت سلومة أخاه.
وكانت ملاحظة الأب مفاجأة لفؤاد فقال في شبه صيحة: أهو مثله؟
فأجاب الأب هادئا: نعم هو مثله، وإن كنت أنت لا ترى الشبه بينهما، لقد عرفت سلومة قبل أن أعرف هذا، كان منه جانب من أنبل طباع البشر، ولكنه كان يمتزج بجانب آخر هو سلومة الذي يتحدث عنه الناس، فهل عرفت يا ولدي من أين أتى قوية بالحمل؟
अज्ञात पृष्ठ
فقال فؤاد في دهشة: لم أفكر في هذا؟
فقال الأب: أكبر ظني أنه قد سطا على أقرب جار فأخذه.
فتبسم فؤاد كأنه لا يصدق وقال: إذن فأنا شريكه.
فقال الأب: خذه كما هو يا ولدي، وحاول - كما قلت لك من قبل - أن تجعل منه إنسانا، حاول ألا تضيق بالشخص الأسفل الذي فيه؛ لكي تظهر منه الشخص الأعلى.
ولقد زادت دهشة فؤاد بعد أيام عندما عرف صدق فراسة أبيه، فإن ذلك الحمل كان حقا لأحد جيرانه، فمد إليه يده ليولم به وليمته، ولم يفض النزاع الذي ثار بين قوية وجاره إلا أن تدخل الأفندي، فدفع لصاحب الحمل ثمنه.
وبقيت من مدة الصيف أيام، وفؤاد ما يزال يحس في نفسه نزاعا يكاد لا يفارقه، فكان بين حين وحين يحتجب في الدار نهارا حتى إذا أقبل الليل قضى صدرا منه ساهرا وحده يطل على الحقول الصامتة، تؤنسه موسيقاها الوحشية، وتومض من فوقه النجوم البعيدة التي لا تفصح عن سرها.
ثم مضت تلك الأيام الباقية واستعد فؤاد للسفر وودع أبويه كما ودع العزبة وأهلها وكل أركانها.
وركب إلى المحطة آخر الأمر عائدا إلى القاهرة؛ كي يستأنف دراسته في عامها الأخير.
وسار قوية وراءه يودعه مع ثلاثة من الفلاحين يحملون حقائبه، وكان قوية يسير نشيطا منشدا طروبا، على حين كان فؤاد صامتا يكاد يكون حزينا، يتلفت حوله إلى الحقول وإلى الكوم والبركة الخضراء.
ولما مر بحقل تعويضة قامت تجري نحوه وهي تصيح: مع السلامة يا حاج فؤاد.
अज्ञात पृष्ठ