لقد زاد إيمان فؤاد في تلك الأيام السوداء بثبات قومه وقوة جنانهم، فما ذلك التسليم للقدر إلا أثر من تجربة أمة شهدت من أحوال الحياة ما لم يشهد سواها، وعرفت من الخطوب ما لم تعرفه الأمم الأخرى.
ومع ذلك فقد كان يضيق أحيانا بحر المدينة في النهار فيتذكر الأيام التي كان يقضيها في العزبة، ويتذكر الكوم القديم والبركة والنخيل والدار العزيزة التي تركها لإبراهيم ميسور، ويود لو رآها مرة أخرى.
وكانت صورة تعويضة وزوجها قوية تعود إليه باسمة هشة بشة كأنها ترحب بمقدمه إليها، أكان قوية راضيا عن زواجه؟ أكانت تعويضة سعيدة تلك الزهرة الباسمة في خميلة شوكها بقطعة من الصحراء؟ ولكن أنى له رؤيتهما وقد صارت العزبة غريبة عنه بعد أن ملكتها يد أخرى؟
وكان كلما أمضه الحر خرج إلى أطراف المدينة يبترد في أوقات الأصيل أو يمد نزهته إلى صدر من الليل تحت ضوء القمر، فإن القاهرة - وإن قست بحرها في النهار - تتجلى في ليلها كأنها قطعة من الخلد، فنسيمها وصفاء سمائها ولمعان نجومها وجفاف أنفاسها، كل ذلك يذهب بعناء النهار الذي مضى بحره ووهج شمسه فلا يلبث المكدود أن ينسى كد يومه كأنه حلم كريه مضى، أو كأنه يزيل ما أصابه من الكد في حلم سعيد غمره.
وذهب فؤاد يوما إلى حديقة الحيوان، وكانت منذ صغره تحرك نفسه بجمال تنسيقها، وتشرح صدره ببهاء منظرها.
وسار في تلافيف طرقها فوقف عند حظائرها يتأمل ما بها من ظباء ووعول أو كواسر من الوحوش، ووقف عند حظيرة الأسود وكان دائما يحس نوعا من المتعة القاسية عندما يقف عندها، كان بها أسد ضخم يسرع الخطا في رقعة حظيرته الضيقة، فما يلبث أن يبلغ مداها فيرتد عائدا في عنف ويحك رأسه وصدغه بقضبانها، فإذا خطا خطوتين بلغ طرفها الآخر فارتد وما يزال عنيفا دائبا، إذ كان الأمل ما يزال يطمعه في الخلاص، وقف فؤاد حينا أمام الحظيرة كأنه يسأل الأسد عما يحس عندما يرى هذا البشر الضعيف واقفا من وراء قفصه؟ ونفر الأسد عند ذلك نفرة فزع فؤاد لها، كما فزع من كانوا معه وقوفا أمام الحظيرة، وضحكوا بعد ذلك وارتدوا عن السور الذي يفصلهم عن الحظيرة كأنهم كانوا في مزاح، أليست المقادير قاسية على هذا الأسد إذ جعلته جبارا مخيفا؟ أما كان خيرا له لو خلق قطا أليفا أو دابة من دواجن الأرض تعيش مطمئنة لا يخشى بأسها؟
وسأل فؤاد نفسه ماذا يكون حال الأسد لو خلا من عنفه وبطشه، واستطاع أن يألف وأن يؤلف؟ أليس خوفه والخوف منه هو الذي أنمى مخالبه هذه الباطشة وأنيابه هذه الفتاكة؟ أليس الخوف هو الذي جعله دائم التكشير عن أنيابه دائم الحنق على من يلقاه؟
وتذكر حال هذه الأمم المتحاربة التي لا تختلف في شيء عن هذا الأسد الوحش إلا في نوع العدة التي تقاتل بها، أليس الخوف هو الذي أنمى مخالبها وأنيابها وملأ قلوبها حنقا وكرها؟ ألا ما أشقى ذلك الأسد في بطشه وعنفه وهو يذرع قفصه الحديدي في قلق وحنق! حقا إن السعادة لا تجد سبيلا إلى القلوب التي تمتلئ حنقا وعنفا وبطشا، وخيل إليه في تلك اللحظات أن تلك الأمم القوية الباطشة لن تعرف إلى السعادة سبيلا إلا إذا تخلت عن عنفها وبطشها معا.
وما زال يتنقل من حظيرة إلى أخرى ومن خميلة إلى خميلة ومر بشجيرات شائكة فيها أزهار بيضاء ناصعة تزين أطرافها صفرة فاقعة، وتخرج من ثغورها أهداب دقيقة، فكانت بديعة في شكلها ظريفة في لونها، فتذكر لوحة سعيد، وتذكر تعويضة البدوية الحسناء، وتساءل: أيستطيع أن تقع عينه مرة أخرى عليها؟ وتذكر علية ولكنها كانت زهرة أخرى، كانت منعمة كتلك الأزهار في الأحواض السهلة التي تمد جذورها الصغيرة القصيرة فتروى على هينة من الماء المتدفق إليها.
ووقف حينا أمام حظائر القردة وهي صنوف شتى بين صغير وكبير، ومن ألوان شتى وهيئات تفرق بينها فروق أبعد مما يفرق بين الأسود والضباع، ومع ذلك فهي جميعا قردة في أعين الواقفين حول حظائرها لا يعبئون إلا أن يلهوا بمناظرها.
अज्ञात पृष्ठ