ذهبت بثينة من حياة شريف وتركت له الأدب، وذلك الأمل الضخم الذي رصد حياته كلها لتحقيقه.
ومرت الأيام، وشريف عاكف على الدراسة والقراءة العنيفة التي لا تعرف الوهن، وسافر إلى الخارج يجمع إلى الأدب العربي الأدب الغربي، وجهد في الغرب، لم يقض لحظة مع فتاة ولم يترك هنيهة دون أن ينتفع بها، حتى إذا أتم ما أراد لنفسه أن يتم، عاد إلى مصر، وبدأ عمله أستاذا للأدب في الجامعة، وكاتبا في الجرائد والإذاعة ومؤلفا للقصص الطويل منها والقصير.
وانهال إنتاجه على عشاق الأدب ضخما رائعا كثيرا متدفقا فما هو إلا بعض العام حتى كان اسمه على كل لسان، تهمس به العذارى في وله، ويتشدق به شداة الأدب في إكبار، وينقده الأدباء في مرارة، وهو في شغل عن هذا جميعه بأدبه وبأمله في أن تحبه قارئة مثل بثينة وتعجب به، وتقصد إليه تقدم بين يديه إكبارها وإعجابها وحبها، فيخطبها ويتزوجها وينشآن بيتا كأحلام العذارى أو خيال الشاعر الولهان، أو كبيت بثينة وإن كان لا يدري ما فعل الله ببثينة.
ومرت الأيام وراح أهل شريف يلحون عليه أن يتزوج، وهو يصرفهم عن هذا الحديث كلما تحدثوا به، فإن ألحوا تركهم وخرج إلى مقعده في جروبي، هذا المقعد الذي يجلس إليه الآن فيستعيد الذكريات، ذكريات بثينة وقراءتها له وتسخر منه نفسه كلما حاول أن يجعل من الأيام الماضية ذكريات، ولكنه لا يحفل بسخريتها تلك بل هو يسترجع الذكريات، وقد كان خليقا به في يومه هذا أن يذكر، فقد آن له أن يحقق الأمل، أمل حياته جميعا، كم هو فرح، فرح؟!
ما أضعف الأديب حين يحاول أن يبين عن خالجة نفسه، أكل ما يصف به نفسه الآن أنه فرح! فرح فقط! وماذا تملك غيرها أيها الأديب، إنك لن تحاول أن تزوق الكلام لنفسك كما تزوقه لقرائك، والمشاعر الإنسانية معروفة (لا تتغير، أنت فرح ولن تحاول أن تعبر عن فرحك لنفسك) لأن نفسك تعرف مقدار فرحك فقد لازمتك منذ أن كنت صبيا إلى الآن ، وها هو ذا أملك يتحقق فأنت فرحان ينتاب فرحك بين الحين والحين غصة خوف ألا تعرفك الفتاة، وتطمئن نفسك بأن صورك تملأ الجرائد، ثم تخشى أن تختلف الصورة عن الحقيقة ثم تفكر في آخر صورة لك، ثم، ثم ها هي ذي الفتاة تقف إلى منضدتك، نعم إنها واقفة إلى منضدتك. - الأستاذ شريف، صباح الخير.
ويقف الأستاذ شريف ذاهلا حائرا فما كان يتوقع أن يرى كل هذا الجمال، لا، فما بثينة بهذا الجمال، لا ولا أمل هو يوما أن تكون فتاته بهذا الجمال، لا، وقبل أن يسترسل به الخيال يفيق إلى وقفتها ووقفته فيقول: الآنسة، آسف، أقصد منى. - أنا هي. - أهلا وسهلا، تفضلي، اقعدي.
وتقعد منى ثم ما تلبث أن تضحك ضحكة عالية مرحة منطلقة خالية لا يمسك بها شيء فهي رنين حلو، ولكن شريف ينظر إليها في تعجب. - خيرا، ماذا حدث؟ - انظر. - ماذا؟ - لقد طلبت جلاس وتركته يذوب حتى ملأ المنضدة ولم تلتفت إليه، أعرف أن الفنانين يسرحون ولكن لم أكن أعتقد أنهم يسرحون إلى هذا الحد.
وارتبك شريف فما يدري ماذا يقول أو يفعل! وراحت منى تتحدث في حديث آخر بعد أن نظف الخادم المنضدة، راحت تشرح له إعجابها به وبكتبه ومقالاته، وراح هو في خجل حيران وفي نشوة فرحانة يسألها عما أعجبها وهو يتمنى أن تسكت فقد بلغ به الخجل مداه، ويتمنى ألا تسكت فما لقي هذه السعادة جميعها قبل اليوم، وبين رغبته في سكوتها وأمله في استرسالها راحت منى تتحدث في انطلاق مرح في إعجاب كبير وهي تنظر إليه نظرات يملؤها الإكبار؛ فقد كانت ترى في جلستها تلك إليه أملا لا سبيل إلى تحقيقه.
وطال الحديث وشريف ينظر إلى الفتاة لا يحول عينيه عنها والسعادة تغمره من كل جانب، فجمال الفتاة معجزة وإعجابها به يفوق إعجاب بثينة بكاتبها لم يبق له من أمل بعد هذا. لا، لا أمل له أكثر من هذه السعادة التي يعيشها الآن ويتنفسها ويلتذ بكل نسمة فيها.
وتمكنت منه رغبة في الانطلاق فما يطيق أن يستقبل كل هذه السعادة جالسا إلى كرسي، إنه يريد أن ينطلق إلى الشوارع إلى الميادين، إلى الفضاء بل إلى الزحام، إلى الدنيا جميعا في هدوئها وضجتها، في سكونها وحركتها، إلى كل الدنيا.
अज्ञात पृष्ठ