الأيام الخضراء
أحببت وهمي
أخلفت الموعد
ملاعب الصبا
لقاء ولا وداع
فوق السعادة
الطابق الأعلى
حنان وهوى
على الطريق
حديث ولقاء
وظيفة دائمة
وأنا ... ما ذنبي
هو الله
سماء ولا أرض
الرحمة القاسية
عودة السيد سكر
الأيام الخضراء
أحببت وهمي
أخلفت الموعد
ملاعب الصبا
لقاء ولا وداع
فوق السعادة
الطابق الأعلى
حنان وهوى
على الطريق
حديث ولقاء
وظيفة دائمة
وأنا ... ما ذنبي
هو الله
سماء ولا أرض
الرحمة القاسية
عودة السيد سكر
الأيام الخضراء
الأيام الخضراء
تأليف
ثروت أباظة
الأيام الخضراء
أحببتها وأنا لا أدري ما الحب، عرفه الناس معنى أو عرفوه شجوا وأسى وألما، أو لعلهم عرفوه خيالا وأحلاما ورؤى، أما أنا فعرفته لعبا في الملعب، وتقاذفا بالكرة، وقفزا وجريا وضحكا، ولهوا عابثا، كنت ألقاها لم أغير من ملابس المدرسة شيئا اللهم إلا تلك المريلة التي كانوا يضعونها فوقي، وكانت تلقاني هي أيضا بلا تجمل أو زواق اللهم إلا أن تخلع هي أيضا تلك المريلة التي كانت توضع عليها، ثم نلتقي في فناء منزلها أو في فناء منزلنا بغير ميعاد مدبر أو اتفاق سابق، وإنما ينزل كل منا إلى صاحبه، ويكون اللعب في أقرب فناء من اللقاء.
أحببتها يوم ذاك وأحبتني، أحببتها كما أحب الكرة التي كنا نلعب بها، أو كما أحب الحبل الذي كنا نقفز من فوقه، وأحبتني هي أيضا كحبها لهذه الأشياء، وما كنا ندري من الحب إلا حبنا لهذه الأشياء.
كان كل منا يرى الآخر مكملا للعبه، كما يرى الكرة والحبل مكملين للعبه. كان كل منا يحب الآخر كجزء من مرح الطفولة وحلاوة اللعب وعربدة اللعب.
لم تكن تعرف من أنا بالنسبة إليها وما كنت أدري، قصارى الأمر بيننا أنني كنت أعرف أنها بنت لأنها ترتدي ملابس البنات، وأنها كانت تعرف أنني ولد لأنني أرتدي ملابس الأولاد. لم أكن أعرف الأنثى فيها، ولم أكن أعرف معنى الأنوثة جميعا، بالنسبة إلى الرجل، ولم تكن تعرف الرجل في ولا معنى الرجولة الذي أمثله، لا ولم تكن تعرف الرجل بالنسبة للأنثى.
لم يكن هذا الجهل يمنعني أن أقدمها على نفسي، وأترك لها فرصة أن تغلبني في بعض الأحيان، وليس في كل الأحيان، وأن أهفو إليها مسرعا إذا سقطت، وتسارع هي إلي إذا وقعت، ولكن أكان هذا قبل أن ندرك شيئا عن الهوى؟ أم أنه كان بعد أن أدركنا شيئا من معناه؟ أكان هذا الاهتمام بها ونحن في الطفولة الأولى البلهاء أم أنه كان ونحن في أواخر الطفولة مشرفان على الوعي أو بعض الوعي؟
أتراه حين كنا في الطفولة الواعية التي تحس ولا تبين ولا تشعر ولا تعبر وتخفق ولا تنطق؟! أتراه كان كذلك، وكيف لي أن أذكر؟
لقد شب حبي معي فاختلطت أدواره وتمازجت أيامه فما أدري كيف عرفته؟ وكيف استبان في كامل الوعي مني؟ أتراني عرفته حين كنت ألقاها ونحن في بواكير الشباب فتعلو وجهها الحمرة، وتمسك بلساني لعثمة فتمر بي وأمر بها لا يحيي الواحد منا صاحبه إلا بهذه الحمرة، وإلا بتلك اللعثمة، لا، لقد عرفت الحب قبل ذلك، عرفته وجيبا وخفقا في الفؤاد شديدا إن أنا ذكرتها، وإن أنا خلوت إلى نفسي؛ فقد كنت أذكرها كلما خلوت إلى نفسي، وعرفته هائم الفكر حذرا أخشى أن يكون حبها وهما من الأوهام. قرأت عن الحب وسمعت به من الرفاق، وعرفت ما الرجل وما الأنثى ورحت أنطلق في فسيح الفضاء لا أفكر إلا فيها، أخشى كلما فكرت في حبها أن يكون وهما من الأوهام.
وفي يوم لقيتها وقد خلا بنا الطريق، وعلت الحمرة وجهها وأمسكت اللعثمة لساني، ولكن الطريق خال بنا نسير في اتجاه واحد متباعدين، فوجدتني أثوب إلى نفسي بعض الشيء ووجدتني أقترب منها، ووجدت حمرة الخجل تزداد وضوحا على وجهها، ولكني كنت قد جمعت بعض نفسي، وكنت قد دربت لساني طويلا على الجملة التي سينطلق بها، فما إن اقتربت حتى ألقيت جملتي مفككة المقاطع متباعدة الكلمات ولكني نطقتها وسمعتها وأجابت، وأود لو أجابت بغير لسانها إلا إنها أجابت على أية حال، نعم أذكر ما قلت: «ماشية وحدك يا هناء.»
وأومأت برأسها أن نعم، ثم ترابطت الكلمات فرحت أحادثها، وراحت هي تضحك أو تبتسم أو تسكت لا تقول شيئا، لا شيء على الإطلاق اللهم إلا قولتها في آخر حديث لي: أخاف أن يرانا أحد.
فأتلفت حولي مذعورا وما إن أثق من خلو الطريق حتى أقول لها: لا تخافي.
ثم أعود إلى حديث طويل ما زلت أدرج فيه من موضوع إلى آخر حتى استطعت آخر الأمر أن أرجوها لتسمح لي بانتظاري لنقطع هذا الطريق سويا، ولم تجب إلا بجملتها الوحيدة: أخشى أن يرانا أحد.
ولكني ظللت مع الأيام ألتقي بها في الطريق، وأحكي لها وتستمع هي، لم أقل لها - أحبك - فقد خشيت إن أنا قلتها ألا تراني بعدها أبدا، لقد كان الطهر الذي يشيع حولها مخيفا يمسك لساني بل يمسك عقلي أن يفكر في التصريح بحبي لها، وينقضي الطريق، وأعود إلى الوحدة، وأعود إلى خوفي ألا تكون محبة لي، ولم أخلص من حيرتي وخوفي إلا بالمذاكرة العنيفة؛ فقد انتهيت إلى أنني ما زلت في المرحلة الثانوية وأنها قد تتزوج قبل أن أحصل أنا على شهادة التوجيهية؛ فذاكرت ومنيت نفسي أنني إذا صرت في الجامعة قد أجد بعض الجرأة أن أخطبها ونتزوج، ذاكرت كما لم أذاكر من قبل، وأصبحت أعد السنين عدا، وأطارد الزمن في عنف وإصرار حتى أصبحت في التوجيهية، وسمعت همهمة تدور حولي أن هناء معرضة للخطبة، ولقيتها في الطريق وسألتها فازداد وجهها احمرارا وتلعثم لسانها وهي تقول: نعم. - وماذا فعلت؟ - رفضت الخطبة. - صحيح؟ - صحيح.
ولم أسأل لماذا رفضت؛ فقد أبى حبي أن يجعل للرفض سببا إلا أنها هي تحبني، وألهيت الزمن بالمذاكرة، كنت لا أفيق من الكتاب إلا في موعد عودتها من المدرسة، لا أفكر إلا في أن أحصل على الشهادة لأصبح جديرا بها، وكنت أفكر إذ ذاك في شيء آخر طالما ضقت بالتفكير فيه، لقد كان أبي خريج جامعات أوروبا وكان أمله أن يرسل بي إلى جامعته لأنال فيها الشهادة التي نالها، وقد كنت تواقا إلى تحقيق أمله هذا؛ فقد كان أملي أيضا، ولكني كنت كلما فكرت في اغترابي عن هناء بعيدا، بل بعيدا عن حبها، بل بعيدا عن مصر كلها، لا أشم النسمة التي تداعب شعر هناء، ولا أتنفس الهواء الذي تتنفسه، ولا أشرب الماء العذب الذي جرى في دمائها والذي يتحول على وجهها حمرة خجل كلما لقيتها، كلما فكرت في ذلك أحسست شيئا قويا عنيفا يهيب بي ألا أسافر.
كان التفكير فيها وفي السفر يعسر علي كثيرا من الكتب فأسرح وأطيل التفكير، حتى لقد كان صديقي أشرف ينتبه إلى انصرافي عن المذاكرة فيسألني عما بي، وقد كتمت عنه حبي فترة طويلة من الزمان؛ فقد كنت أخشى أن يجعله سخرية ويجعل مني ضحكة له، ولكنه اكتشف حبي حين رآني معها في الطريق، فلم أستطع الكتمان وألقيت إليه بخبيئة قلبي في جد حازم جعله يأخذ مأخذا لا مجال فيه لغير المشاركة العنيفة، ولكن هذا لم يمنعه أن يحثني على المذاكرة بدلا من السرحان؛ فنفضت إليه خشيتي أن تتزوج قبل أن أحصل على الشهادة، وخشيتي أن أسافر إلى الغرب، وكان يقول: هل تتردد في السفر من أجل هذا؟ إنك إن لم تسافر وتزوجتها لظللت طول عمرك تكرهها لأنها كانت حجر عثرة في سبيل مستقبلك، ولظلت هي طول حياتها تكره نفسها وتكره زواجها بك لأنه منعك من المستقبل اللائق بك، لا، اخطبها وسافر. ولكن لا بد لك أن تسافر.
وحصلت على الشهادة وراح أبي يجهز لسفري، ورحت أنا أتحين الفرصة لأحادثه في أمر خطبتي، ولكن كيف؟ كنت طفلا كبيرا في السابعة عشرة من عمري أحس أنا أني كبير وأفهم كل شيء، بل لعلي كنت معتقدا أنني أفهم ما لا يفهمه أبي نفسه، ولكن من يعترف معي بكبري هذا وعقلي وحكمتي؟! كان أبي وأمي يعاملانني كأني طفل لا أزال، حتى لقد فكرا أن يرسلا معي خادما إلى الخارج ليرعى شأني، ويقوم على أموري فما استطعت أن أصرفهما عن هذا التفكير إلا بشق الأنفس وكثير اللجاج، بل وبالبكاء أيضا، نعم بالبكاء فقد كنت حتى ذلك الحين أبكي إن أصر أبي على أمر لا أريد تنفيذه.
كيف إذن أحدثهما عن حبي، وعن رغبتي في الخطبة وهما يريان أنني ما زلت محتاجا إلى ...!
لم أجد من ألقي إليه بما أنا فيه إلا صديقي أشرف الذي عرف حالي جميعا أثناء المذاكرة، قصدت إليه في بيته وظللت أقول وأقول، وأبين له كيف أنهم يجهلون في بيتي قدري، وكيف أنهم يستصغرون شأني ويستهينون بعبقريتي، وكان أشرف يكبرني بعض الشيء فانتهز الفرصة وراح يقف مني موقف المرشد الناصح، وأنا أضيق بحديثه غاية الضيق حتى لم أطق أن أكمل الجلسة، وخرجت من عنده وأنا أشد ضيقا مما كنت حين قصدت إليه.
وتحدد موعد السفر، وما لبث هذا الموعد أن حل، وأصبحت في اليوم الذي سأسافر في مسائه، وقد عزمت أمري على مفاتحة أبي، وقد هيأ لي الوهم أنني ما إن أخبره برغبتي في الزواج حتى يسارع إلى أهل هناء فيخطبها لي في نفس اليوم، بل في نفس الساعة.
قصدت إلى حجرة أبي وقد أعددت نفسي إعدادا تاما، ولكن لم أجد أبي؛ فقد انصرف في باكر الصباح ليكمل ما أحتاج إليه، وأخبرهم في البيت أنه لن يرجع إلا بعد الظهر.
ولم أطق أنا البقاء فخرجت عازما ألا أعود أنا أيضا إلا بعد الظهر.
وبعد الظهر عدت، وما كدت أصل إلى الحي حتى تدافعت إلى أذني زغاريد تنبعث من بعيد ويقترب صداها كلما اقتربت إلى البيت، ماذا ترى بعث هذه الزغاريد؟ ليس هناك إلا سبب واحد.
لا بد أن أشرف أخبر أبي برغبتي في الزواج من هناء، وأراد أبي أن يفاجئني بهذه المفاجأة الهائلة الرائعة العظيمة، كم هو عظيم أبي هذا! كم هو وفي أشرف صديقي! أحقا تحققت الأحلام؟ أحقا هدأ لي مضطرب الفؤاد واستقرت بي نفسي الحائرة؟ وتزداد الزغاريد قوة وكأنها تجيب أن نعم، نعم، لقد تم لك ما تريد.
وبلغت مصدر الزغاريد، إنه بيت هناء، إذن فهو ما فكرت فيه، وإذن تحققت الآمال، ووجدت بالباب سيارات وقوما متجمعين، ووجوها يطيب البشر من قسماتها، ولكن أين أبي من هؤلاء؟ أين سيارته؟ وأين سائقنا؟ أين نحن في هذه الجموع؟ لا، لم يكن هناك، عدوت جريا إلى منزلنا فوجدت أبي جالسا في مكتبه، ورأى اضطرابي وأدركه، ولكن لم يلفت أمره ولم يسألني، «ما لك؟» بل قال في صوت شوق عاطف: أين أنت يا أخي؟ أتترك البيت في هذا اليوم وسيأتي الناس لتوديعك، وأمك تهفو أن تقضي معك هذه الساعات التي تسبق سفرك؟ - والله كنت ... كنت ... كنت أودع أصحابي ... أبي ... - نعم. - أبي ... - نعم. - ما هذه الزغاريد؟ - يا سيدي هناء تخطب اليوم، وأنا ذاهب لأهنئ أباها فقد دعاني الرجل وألح علي أن أذهب، وهو يريدك أيضا، أتأتي؟
وتلعثمت وأنا أجيب أبي بأسى قانط مرير: لا، لا يا أبي فإني سأنتظر مع أمي، وأنتظر المودعين. وابتسم أبي ابتسامة وجدتني أمامها عاريا من سري الكبير، لقد كان الرجل يعرف كل شيء، قال لي ذلك، قالها دون أن ينطق كلمة واحدة، قالها في ابتسامته تلك التي ترقرقت على محياه، وخرج.
وخلوت أنا إلى حجرتي، لم أنتظر المودعين، ولم أجلس إلى أمي، وإنما لجأت إلى الكذبة التي يستعملها الجميع إذا شاءوا أن يخلوا إلى أنفسهم، نعم ادعيت مرضا وصداعا، وخلوت إلى حجرتي، أستعيد الأيام، أيام الفناء والكرة والحبل والطريق واللعثمة والحمرة، والأحاديث، ذهب هذا جميعه، هذه الخائنة، ولكن ما ذنبها؟! وهل تملك من أمر نفسها شيئا؟ بل هل أملك أنا من أمر نفسي شيئا؟! ها أنا ذا مسوق إلى السفر، مرغم على السكوت حتى لا أستطيع أن أنبث بخالجة نفسي ورغبتي، ما ذنبها؟ إنما يحكم عليها من يحكم علي، آه من الآباء! فكرت ألا أسافر، ولكن ماذا أقول، وكيف أعصي أبي، لا إني سأسافر لا لأني خائف من أبي، ولكنني سأسافر لأني زعلان من أبي، ولماذا أزعل منه؟! هل أخبرته بشيء؟ لقد كان يعلم، وماذا كنت أنتظر؟ أن يأتي هو إلي ويقول لي سأخطب لك هناء، وما له! ولماذا لا يفعل؟ نعم سأسافر لأنني زعلان.
وسافرت ومضت السنون بي في أوروبا، وخطابات أشرف توافيني بأخبار هناء فتحيي في القلب حبا كان خليقا أن يضعف.
رأيت المرأة في الغرب، رأيتها في أوضح صورها بشاعة، وكانت رؤيتي لها تعيد حبي لهناء إلى شبابه الأول، أرى العيون الفاجرة، فأذكر عيونها المسبلة! وأرى الوجوه البريئة فأذكر حمرة وجهها! وأرى الأجسام الفائرة فأذكر جسمها الذي لا يبعث إلى ذهنك إلا فكرة الورود تتفتح عنها أكمامها في حياء وفي زهو وفي كبر، أرى النسوة عاريات وإن سترت أجسامهن الملابس، فأذكر ذراعيها العاريتين يسترهما جلال الحياء فيها وبراءة الأجواء التي تشيع من حولها. ورأيت الغرب فعرفت المرأة فازداد حبي لحبي الطفل الذي تركته في مصر بين أيد غريبة عني وعنها وعن طفولتنا وصبانا ومطالع شبابنا.
كنت قد أوشكت أن أنتهي من دراستي حين جاءني خطاب من أشرف يحمل إلي نبأ عجيبا، لقد مات زوج هناء، مات، يا لفرحتي! ودوى عن الفرحة ضمير بريء يستجدي أن يفرح للموت، عدت إلى خطاب صديقي، يا له من مقصر! ألا يذكرني إن كانت هناء تعيسة بموته وما مدى تعاستها، ولم يذكر الخطاب أين تسكن، أوحدها أو مع والديها؟
ولم يحن موعد عودتي إلى مصر إلا وأنا أعلم كل شيء عن هناء؛ أين تسكن، ومتى تخرج، ومقدار حزنها، ومدى تمتعها بالحياة.
عرفت كل شيء.
ووصلت إلى مصر، فكان أول ما عملت أن اتصلت بها بالتليفون. - أتراك تذكرينني؟ - أعرف الصوت ولا أصدق أذني، أتراك هو؟ - أنا هو. - أنت ... - أنا ... عرفتني؟ - وهل تتصور أن أنساك؟ وهل تتصور أنني نسيتك؟ - أكلمك لأعزيك. - شكرا، متى أراك؟ - وتلعثمت وأنا أقول: ترينني؟! - طبعا، ما لك هكذا وكأنك لم تسافر إلى الخارج. لا تزال اللعثمة تعتريك! - متى أراك؟ - كما تحب! - الآن؟ - الآن.
واتفقنا على الموعد وذهبت إليه، غير أن في الصوت جرأة، وفي الحديث امرأة وفي اللهجة إقبال، ماذا ترى حدث؟ أن تدعوني هي إلى اللقاء وقد كانت لا تلتفت إلي وأنا أحدثها في الطريق، هذا الصوت، وهذه اللهجة ليست غريبة علي، إنني أعرفها، سمعتها ، ولكن بلغة غير اللغة، نعم لقد كن هكذا يحادثنني في الخارج، ترى ألم تصبح هناء ... هناء.
وأقبلت في الموعد، امرأة، ربتة العود عالمة العينين خبيرة النظرات، متجملة الوجه، متأنقة الملبس، وجلست.
وتحادثنا، كنت أحادثها عن أيام الطفولة والصبا، وراحت تحادثني عن الأنوثة التي التقيت بها في أوروبا، راحت تسألني في جرأة عارية عما فعلت في أوروبا، بل راحت تنبئني عما فعل بها زوجها.
ذعرت، ليست هذه هناء، إنها امرأة، عرفت مثيلاتها الكثيرات، ليست هذه حبي، ليست هذه طفولتي، لا ولا هذه أحلامي، أرجعوا الأيام، أعيدوا إليها طفولتها، وصباها وبواكير شبابها لأرى طفولتي وصباي وبواكير شبابي.
كان لقاؤنا الأول هو الأخير، حاولت أن تدعوني فما زادني هذا إلا بعدا، لقد فقدت هناء التي عرفتها؛ فما خلقت إلا امرأة، امرأة كاملة ولكن ليس لي فيها ذكريات ولا آمال.
أحببت وهمي
لا تلمني يا صديقي وأنت كثير اللوم. نعم إني أسرف في إنفاق المال وأرمي به في كل متجه، لا أفكر في العاقبة ولا أريد أن أفكر فيها، ولكن لا تلمني فما تدري أنت مقدار السعادة التي أحس بها وأنا أقذف بهذا المال، لا، لا تدري وأرجو الله ألا تدري أبدا، وأرجو الله ألا تحس بهذه السعادة التعسة التي أحسست بها.
قد انقطعت عنك شهورا فما تعلم من أمري شيئا، وقد كان آخر ما بيني وبينك أنك عرفت بخطبتي وهنأتني في لقاء عابر سريع، ثم درت أنا في هذه الدوامة التي لم أفرغ منها إلا اليوم.
لم تعرف شيئا عن خطيبتي، نعم لم تعرف شيئا عن ندى، أحببتها يا أخي منذ أنا صبي يدرج إلى باكر الشباب وأحبتني، رأيت فيها فتاة منسوجة من الإشراق، فهي حيثما تحل فرحة نشوى، المرح مجالها، والنور مسبحها، والصفاء محياها، والطهر هي ...
أحببتها يا أخي فخطبتها فازددت حبا لها، وأي عجب أن أحب خطيبتي، ومرت بنا في أيام الخطبة فترة وسنانة حالمة حييت فيها بقلب خافق ينتابه الذعر من الغد؛ فقد اعتادني الذعر منذ غمرتني هذه السعادة. ولكنني كنت حين أسير معها أنسي سعادتي وذعري، ولا أذكر إلا أنني أسير مع ندى وقد التف ذراعها على ذراعي فأحس كأن ذراعها ستار يحجب عني من الدنيا شرورها، ويفسح أمامي مجالات الجمال فيها والإشراق.
كان هذا يا صديقي، ثم كانت ليلة اتفقنا فيها على أن نذهب إلى السينما في الغد، وتركتها وأنا أفكر في هذا الغد وأنتظره حتى جاء فاشتريت التذاكر، وذهبت إليها قبل الموعد وانتظرتها على أسفل السلم في بيتها. وطالت بها الغيبة فأخذت أصيح في مزاح جاد وأخذ أهلوها يضحكون من ثورتي المرحة ويشاركونني فيها حتى بدت أخيرا على رأس السلم مشرقة حلوة ضاحكة مشاركة في الصياح المرح، وراحت تنزل السلم وثبا، ولكنها توقفت في منتصفه هنيهة لم يلحظها إلا أنا، وتابعت وثبها إلى أسفل حتى أدركتني.
وسحبتها من يدها إلى الخارج دون أن أتيح لها أن تعرض أناقتها على أمها وأبيها. واحتوانا الطريق وفي نفسي غصة جاهدت نفسي على إخفائها بعض الحين ثم لم أطق السكوت: ندى ... - هيه ... - لماذا توقفت وأنت تنزلين السلم؟
وكان السؤال مفاجأة لها فقد كانت تأمل ألا يرى أحد توقفها.
فقالت في تردد: أنا؟ - نعم أنت، لماذا توقفت؟ - يا أخي، مسألة بسيطة، ألا يفوتك شيء أبدا؟! وماذا ستفعل؟! - أتخفين عني؟ عني أنا؟! أنا طبيب فإن كنت لا أعجبك فدعيني أذهب بك إلى أي طبيب يعجبك. - يا سيدي الحكاية لا تحتاج إليك والحمد لله. ابعد عني وابحث عن رزقك مع غيري. - بل معك أنت. - يظهر أن الزبائن انفضوا عنك في هذه الأيام، على أي حال أمرك.
وذهبت بها إلى العيادة وكان اليوم إجازة فانفردت بها في عيادتي ورحت أسألها في دقة عن كل ما تحس به، وأخذ قلبي يزداد خفوقا مع كل إجابة، واتصلت بأحد أطباء التحليل من أصدقائي وطلبت إليه أن يذهب إلى عيادته فورا، وذهبنا، النتيجة سرطان في الدم، عرفت أنا النتيجة ولم تعرفها هي.
وعدت بها إلى المنزل، نعم أنا طبيب، وأعرف ألا أمل مطلقا، لكنني إنسان أيضا يا أخي، ومحب ، أنا لا أطيق الحياة خالية من هذه المريضة، لا، لا أطيقها.
لم أخبر أحدا من أهلها بمرضها، وحملت العبء وحدي وأنا وحدي بين الناس جميعا الذي كان خليقا أن يتهاوى تحت هذا العبء ولكني حملته.
تركتها في البيت وخرجت وحدي إلى الطريق إلى قلبي المحطم، أمرن لساني على ما سيقول، وأهيئ نفسي للطريق الذي اخترته. ولكنني في وحدتي هذه لم أشعر بحيرة، ولم أفكر في طريق آخر غير الطريق الذي رسمته لنفسي في سرعة خاطفة واستقر أمري عليه.
ذهبت في اليوم التالي إلى أهلها وأخبرتهم أني مسافر إلى الخارج في مهمة علمية، ورحت أدور بالحديث معهم حتى أقنعتهم أنه لا بد من الزواج العاجل، وجاءت هي بعد أن انتهينا إلى هذا القرار، وفوجئت به ثم ما لبثت أن دخلت غرفة وحدها ونادتني فذهبت إليها: - أحمد، ماذا عرفت أمس من تحليل الدم؟
كنت قد أعددت نفسي لكل مفاجأة؛ فصنعت ضحكة كبيرة وقلت: عرفت أنه لا بد من الزواج السريع. - أهذا وقت الضحك؟ - وماذا أعمل مع خطيبتي العبيطة التي تربط تعجيلي الزواج بتحليل الدم؟ - لماذا لم تخبرني أمس عن رحلتك إلى الخارج، أنت لم تخف عني شيئا. - أخفيت هذا الشيء. - لماذا؟ - لأنني اعتقدت أنه لو تم لهيأ لي مفاجأة سارة أفاجئك بها، وخشيت أن أخبرك ثم لا يتم فيسبب لك هذا ضيقا لا أريده لك أبدا. - أحمد، هل أنت صادق؟ - وهل كنت عمري كاذبا؟ - أحمد إني خائفة.
ولم أستطع أن أتحكم في لساني وهو يقول: وأنا أشد خوفا.
وارتاعت المسكينة فانتفضت تقول: لماذا، لماذا يا أحمد؟
واستعدت نفسي الجازعة وقلت لها: أخاف من السعادة التي تغمرني، أخاف من السعادة يا ندى.
واغرورقت عيناي بالدموع، وتعلقت بجفنيها دمعتان، فأما دموعي فبعض الألم الذي أخفيه، وأما دموعها فمن حديثي إليها عن سعادتي.
والتقت الدموع، دموع الألم ودموع السعادة، فاعجب معي يا أخي من إحساسين على طرفي نقيض كان التعبير عنهما واحدا!
أتسخر مني يا صديقي؟ بربك لا تفعل فإنه يحلو لنا حين نغوص في أحزاننا أن نجعل من أنفسنا فلاسفة، وإن كنا في عميق إحساسنا نعرف أننا لسنا من الفلسفة في شيء.
ولكننا نخادع أنفسنا ونرتاح إلى هذا الخداع مع علمنا أنه خداع.
أتسخر مني يا صديقي، لا تتعجل السخرية، فسوف أفسح لك مجالا للسخرية لا ينتهي أمده، لا تفرغ سخريتك كلها، فإن كان فيما قلت ما يثير هذه الابتسامة الهازئة التي تضعها على فمك فإن فيما عملت ما يثير قهقهتك الساخرة العالية؛ فاحتفظ ببعض سخريتك ولا تفرغها جميعا فإن ما قمت به بعد ذلك يحتاج إلى كل السخرية التي تزدحم في نفسك.
سافرت إلى أوروبا مع زوجتي، نعم سافرت بعد أن أعدت قراءة ما كتب عن مرض زوجتي وبعد أن تأكدت ألا فائدة ترجى من السفر، إلا أنني وجدت مجلة غير علمية تقول إن هناك بحثا يدور عن هذا المرض، سافرت إلى هذا البحث، ألم أقل لك احتفظ بسخريتك؟!
توهمت أنني قد أجد أملا بجانب هذا البحث الدائر، وإلى هذا الأمل سافرت، وتجسم الأمل في نفسي حتى كاد أن يصبح حقيقة، وفي أوروبا أنكرت أنني طبيب، وأصبحت أفعل ما يقول به الأطباء ملتمسا في كل كلمة أملا أزيد به أملي، مكثت مع زوجتي ولا عمل لي إلا تنفيذ ما يقول به الأطباء الباحثون لا أناقشهم في شيء، ولا أفكر إلا فيما يقولون، وقد أعلم أنهم مخطئون ولكنني أخطئ نفسي وأصدقهم، وأخفي على زوجتي ما يقولون وما أعلم، وأوهمها أنني أعمل في البحث الذي جئت من أجله، وأوهمها كلما عرضتها على طبيب أنه صديق لي يريد أن يفحصها، ليست زوجتي غبية أيها الصديق، لقد عرفت أنها مريضة، وعرفت أن مرضها خطير ولكنها لم تشأ أن تشعرني بمعرفتها حتى لا تنغص علي فرحتي بأنني استطعت أن أخفي عنها مرضها، وكانت تراني أمامها سعيدا دائما فلم تشأ أن تشعرني أنها عرفت بمرضها حتى لا تقطع هذه السعادة المصطنعة التي كنت أخلقها لنفسي أمامها، أكانت كاذبة هذه السعادة جميعها أم كان بعضها حقا، لا تسخر يا صديقي ، لقد استطعت - وأنا الطبيب - أن أقنع نفسي أن الأطباء سيشفون زوجتي من المرض.
نعم، توهمت هذا، وأحببت وهمي وعشت فيه، حتى أصبحت السعادة التي كنت أفتعلها، حقيقة أومن بها لا تقبل مني شكا ولا نقاشا.
وتلومني لأني طلبت إليك أن تبيع كل ما أملك، وتلومني اليوم لأني طلبت إليك أن تبيع أدوات العيادة، لا، لا تلمني يا صديقي، لقد اشتريت بما أرسلت إلي من نقود أملا ضخما ووهما حلوا أحببته، وأحببت العيش فيه وبه.
واليوم يا صديقي ماتت زوجتي، ومات الأمل، ومات الوهم وطالعتني الحقيقة بلا خداع ولا كذب ولا وهم.
لقد أسرفت في الإنفاق، وما أقل ما أنفقت في سبيل هذه الأيام التي تخليت فيها عن الحقيقة وعن العلم وفرغت إلى هذا الأمل الذي أنشأته وذلك الوهم الذي أحببته.
أتسخر مني؟ اسخر ما شاءت لك السخرية، أما أنا فأقسم لك، أقسم بها، لو عادت الأيام إلى الوراء لفعلت ما فعلته ثانية وثالثة وألفا، أيها الصديق لقد كرهت الحياة وأحببت الوهم فمن لي بهذا الوهم، من لي به؟!
أخلفت الموعد
دق جرس التليفون في منزل الأديب الكبير الأستاذ شريف لطفي، ورفع الأستاذ سماعة التليفون فبلغ سمعه صوت ناعم حلو: من؟ الأستاذ شريف؟ - أنا هو. - صباح الخير يا أستاذ. - صباح الخير. - أنا يا أستاذ إحدى المعجبات بكتابتك، وأتمنى أن أراك، أرجوك أن تحدد لي موعدا.
وارتبك الأستاذ بعض الحين، فهذه أول مرة تكلمه فيها سيدة على غير معرفة، وكاد يغيب في طوايا ذكريات سعيدة لولا إحساسه أن هناك من ينتظر رده فسارع يقول: متى تريدين الموعد؟ - الآن، في هذه اللحظة إن أمكن. - الآن! في هذه اللحظة؟ - يا أستاذ أنا أكلمك بعد تردد طويل، كنت أخاف أن أضايقك ورددت نفسي عن تليفونك أياما بلغت شهورا، وأخيرا جمعت جرأة لا أعرف من أين حصلت عليها لعلها من كتابك الأخير، واستطعت أن أكلمك، وأريد أن ... - أنت غير محتاجة إلى هذا الاعتذار الطويل يا ... - منى، اسمي منى. - يا آنسة؟ - نعم، آنسة منى إذا شئت، وما أحب إلا أن تقول منى، منى بغير شيء قبلها ولا بعدها.
وخفق قلب شريف خفقا عنيفا وهو يقول: طيب يا منى، أراك الآن ولكن أين أنت؟ - أنا في الجيزة. - طيب أنا سأنتظرك في جروبي. - متشكرة يا أستاذ، متشكرة جدا يا أستاذ.
ووضعت منى السماعة وظل الأستاذ لحظات ممسكا بالسماعة، ثم قفز إلى ذهنه خاطر أرسله يقول: «يا منى، يا منى» ولكن هيهات فقد انقطع الخط وانتهى الأمر. فوضع شريف السماعة وهو حائر! كيف سيعرفها أو كيف ستعرفه؟ وهما لم يلتقيا، أتراه صديق يمزح معه؟! ولكن لا، فما عوده الأصدقاء هذا المزاح، وإن مكانته لا تسمح بمثل هذه الصغائر، على أية حال ماذا عليه لو ذهب إلى جروبي وجلس إلى إحدى موائده فطالما جلس إلى موائده، فإنه هناك وفي جروبي بالذات يستطيع أن يستعيد الذكريات، وسمع الأستاذ نفسه تضحك منه ضحكة ساخرة هازئة، ذكريات؟ أي ذكريات يا أستاذ؟ وهل لك ذكريات؟ لقد قطعتها حياة خالية بلا حياة فيها ولا ذكريات، أي ذكريات، يا أستاذ؟!
وغضب الأستاذ من نفسه وزجرها في عنف، وحاول أن يجيب ولكنه وجد نفسه وجها لوجه أمام كرسي جروبي، وقد وقف الخادم أمامه يبدو عليه أنه ينتظر أمره، ويفرض عليه في الوقت ذاته أن يطلب شيئا، وانصرف الخادم وخلا الأستاذ إلى نفسه.
أليس لنا ذكريات أيتها النفس، كم أنت خبيثة تنكرين الماضي وتتنكرين للأيام الخوالي، أما تذكرين أيام الهوى؟! أيام أن كنت خالية إلا من الحب، فارغة إلا من الأمل، خفيفة إلا من الأحلام.
وأمعنت نفس الأستاذ في الإساءة إليه، وراحت تجيبه في سخرية، متى؟ متى يا أستاذ كان لي حب، أو أمل، أو أحلام؟ فإني والله منذ عرفتك خالية بلا حب، فارغة بلا أمل، خفيفة بلا أحلام، وها أنا ذا اليوم بلا ذكريات، أستاذ أتراك تريد أن تضحك مني أيضا كما تضحك من قرائك، فتؤلف قصة تجعل من نفسك بطلها، وتريدني أن أصدق ما تقول؟
وأجاب الأستاذ في غير احتفاء بهذه السخرية؛ فقد غمرته الذكريات فهو منها في طوفان.
أما تذكرين، أما تذكرين؟
وقالت النفس، لا، لا أذكر. ولكن الذكريات راحت تنهال في خاطر شريف كجدول مزدحم الأمواج.
كان إذ ذاك صبيا مشرفا على الشباب، ملهوفا إلى الغد، لا أمس له ولا حاضر، وإنما عيناه شاخصتان إلى المستقبل يرقبه من خلال الغيب عجلان، يود لو أن الأيام تقاصرت، ولو أن الليالي انحسرت، يحب الشمس المشرقة ثم ما يلبث أن يكرهها ويرى فيها قديما لا بد أن يزول لتأتي الشمس الجديدة شمس الغد شمس الشباب.
كذلك كان شريف، وكانت بثينة هي الجارة، فتاة في ربيع العمر من الشباب على وجهها حمرة الفرح، وعلى صدرها استكبار الواثق المزهو، ولف الشباب عودها فهي عود مورق تعرف الأوراق أين تنبت فيه، وكيف تنبت؟! غضة كالغصن الجديد مشرقة كالزهرة، حلوة فتانة، تنظر إلى الغد بعين وسنانة حالمة وتلتذ كل لحظة تعيشها وتعتصر كل لذة في هذه اللحظة، وتنبت لنفسها ذكريات من الأمس ولا ذكريات لها ولا أمس، ولكنه الشباب يحب الماضي والحاضر والمستقبل.
كانت بثينة أكبر من شريف فلم تجد بأسا أن يجلس إليها وأن تجلس إليه ولم يجد أهلها ولا أهله في ذلك بأسا، وانعقدت بينهما صداقة كان هو فرحا بها، وكانت هي فرحة به أيضا، وكانت بثينة تحب الأدب والأدباء، وكانت تخص أديبا معينا بحبها، وكانت تقرأ على شريف لهذا الكاتب بالذات فتكثر القراءة وكان هو يقبل على ما تقرأ في تكاسل وعزوف، ومرت الأيام ولم تلحظ بثينة أن الأيام مرت وأنها أطلعت في وجه شريف الغض شعيرات تتلوى، وأنها جعلته يشتري الكتب لكاتبها المفضل إن أصدر جديدا، أو لغيره إن لم يصدر هو.
أحب شريف الفتاة، وأحب الأدب في غمرة حبه الأصيل، وأحست الفتاة بحبه للأدب ولم تحس حبه لها.
ومضت الأيام حتى كان يوم فوجئ فيه شريف ببثينة تتزوج، وكان زوجها هو كاتبها المفضل.
ومنذ ذلك اليوم ولا أمل له في حياته إلا أن يصبح كاتبا مثل زوج بثينة، وإلا لن يجد زوجة تعجب به كما أعجبت بثينة بكاتبها.
ذهبت بثينة من حياة شريف وتركت له الأدب، وذلك الأمل الضخم الذي رصد حياته كلها لتحقيقه.
ومرت الأيام، وشريف عاكف على الدراسة والقراءة العنيفة التي لا تعرف الوهن، وسافر إلى الخارج يجمع إلى الأدب العربي الأدب الغربي، وجهد في الغرب، لم يقض لحظة مع فتاة ولم يترك هنيهة دون أن ينتفع بها، حتى إذا أتم ما أراد لنفسه أن يتم، عاد إلى مصر، وبدأ عمله أستاذا للأدب في الجامعة، وكاتبا في الجرائد والإذاعة ومؤلفا للقصص الطويل منها والقصير.
وانهال إنتاجه على عشاق الأدب ضخما رائعا كثيرا متدفقا فما هو إلا بعض العام حتى كان اسمه على كل لسان، تهمس به العذارى في وله، ويتشدق به شداة الأدب في إكبار، وينقده الأدباء في مرارة، وهو في شغل عن هذا جميعه بأدبه وبأمله في أن تحبه قارئة مثل بثينة وتعجب به، وتقصد إليه تقدم بين يديه إكبارها وإعجابها وحبها، فيخطبها ويتزوجها وينشآن بيتا كأحلام العذارى أو خيال الشاعر الولهان، أو كبيت بثينة وإن كان لا يدري ما فعل الله ببثينة.
ومرت الأيام وراح أهل شريف يلحون عليه أن يتزوج، وهو يصرفهم عن هذا الحديث كلما تحدثوا به، فإن ألحوا تركهم وخرج إلى مقعده في جروبي، هذا المقعد الذي يجلس إليه الآن فيستعيد الذكريات، ذكريات بثينة وقراءتها له وتسخر منه نفسه كلما حاول أن يجعل من الأيام الماضية ذكريات، ولكنه لا يحفل بسخريتها تلك بل هو يسترجع الذكريات، وقد كان خليقا به في يومه هذا أن يذكر، فقد آن له أن يحقق الأمل، أمل حياته جميعا، كم هو فرح، فرح؟!
ما أضعف الأديب حين يحاول أن يبين عن خالجة نفسه، أكل ما يصف به نفسه الآن أنه فرح! فرح فقط! وماذا تملك غيرها أيها الأديب، إنك لن تحاول أن تزوق الكلام لنفسك كما تزوقه لقرائك، والمشاعر الإنسانية معروفة (لا تتغير، أنت فرح ولن تحاول أن تعبر عن فرحك لنفسك) لأن نفسك تعرف مقدار فرحك فقد لازمتك منذ أن كنت صبيا إلى الآن ، وها هو ذا أملك يتحقق فأنت فرحان ينتاب فرحك بين الحين والحين غصة خوف ألا تعرفك الفتاة، وتطمئن نفسك بأن صورك تملأ الجرائد، ثم تخشى أن تختلف الصورة عن الحقيقة ثم تفكر في آخر صورة لك، ثم، ثم ها هي ذي الفتاة تقف إلى منضدتك، نعم إنها واقفة إلى منضدتك. - الأستاذ شريف، صباح الخير.
ويقف الأستاذ شريف ذاهلا حائرا فما كان يتوقع أن يرى كل هذا الجمال، لا، فما بثينة بهذا الجمال، لا ولا أمل هو يوما أن تكون فتاته بهذا الجمال، لا، وقبل أن يسترسل به الخيال يفيق إلى وقفتها ووقفته فيقول: الآنسة، آسف، أقصد منى. - أنا هي. - أهلا وسهلا، تفضلي، اقعدي.
وتقعد منى ثم ما تلبث أن تضحك ضحكة عالية مرحة منطلقة خالية لا يمسك بها شيء فهي رنين حلو، ولكن شريف ينظر إليها في تعجب. - خيرا، ماذا حدث؟ - انظر. - ماذا؟ - لقد طلبت جلاس وتركته يذوب حتى ملأ المنضدة ولم تلتفت إليه، أعرف أن الفنانين يسرحون ولكن لم أكن أعتقد أنهم يسرحون إلى هذا الحد.
وارتبك شريف فما يدري ماذا يقول أو يفعل! وراحت منى تتحدث في حديث آخر بعد أن نظف الخادم المنضدة، راحت تشرح له إعجابها به وبكتبه ومقالاته، وراح هو في خجل حيران وفي نشوة فرحانة يسألها عما أعجبها وهو يتمنى أن تسكت فقد بلغ به الخجل مداه، ويتمنى ألا تسكت فما لقي هذه السعادة جميعها قبل اليوم، وبين رغبته في سكوتها وأمله في استرسالها راحت منى تتحدث في انطلاق مرح في إعجاب كبير وهي تنظر إليه نظرات يملؤها الإكبار؛ فقد كانت ترى في جلستها تلك إليه أملا لا سبيل إلى تحقيقه.
وطال الحديث وشريف ينظر إلى الفتاة لا يحول عينيه عنها والسعادة تغمره من كل جانب، فجمال الفتاة معجزة وإعجابها به يفوق إعجاب بثينة بكاتبها لم يبق له من أمل بعد هذا. لا، لا أمل له أكثر من هذه السعادة التي يعيشها الآن ويتنفسها ويلتذ بكل نسمة فيها.
وتمكنت منه رغبة في الانطلاق فما يطيق أن يستقبل كل هذه السعادة جالسا إلى كرسي، إنه يريد أن ينطلق إلى الشوارع إلى الميادين، إلى الفضاء بل إلى الزحام، إلى الدنيا جميعا في هدوئها وضجتها، في سكونها وحركتها، إلى كل الدنيا.
قال لمنى: هلم بنا. - إلى أين؟ - إلى الشارع، أريد أن أسير، هلم. - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - ولكني لا أستطيع. - لماذا؟ - لأنني أنتظر خطيبي هنا، فقد طلبت إليه أن يأتي إلى هنا.
ولم يسمع شريف شيئا مما قالت بعد خطيبي، فقد جمدت عيناه تنظران إلى عينيها وجمدت شفتاه لا هما مفتوحتان ولا هما مغلقتان.
وجمدت خلجات وجهه بين الدهشة والألم وبقايا فرحة تنحسر لتفسح مكانا لألوان شتى من المشاعر لا مجال فيها لفرح أبدا.
وبعد فترة لا يدري أقصرت أم طالت انتبه إلى نفسه ناظرا إليها فوجد صورته في عينيها الشابتين، وجد صورته الجازعة مطبوعة على عينيها الضاحكة المستبشرة، رأى صورته في عينيها فأطال التحديق، لقد نسي الأستاذ شريف شيئا وذكرته صورته ما نسي، نسي ذلك الشيب الذي اشتعل في رأسه فحرق مستقبله، وفى لحظة وامضة أدرك الأستاذ شريف ألا مستقبل له، وأدرك ألا ماضي له أيضا، لقد أكل الأدب ماضيه ومستقبله، وألهاه عن السنوات التي تمر لا تراعي القلب الشاب ولا الأمل الطفل وإنما هي تدمغ حيث تمر فتجعل من صبي الأمس عجوز اليوم.
كان الأستاذ شريف يقترب إلى الخمسين من عمره ولا يحس.
ولم يفق الأستاذ شريف إلا حين جلس إلى مكتبه وأخرج ورقة وقلما وكتب عنوان قصته الجديدة: «أخلفت الموعد».
ملاعب الصبا
على ضفاف الصحراء، جلس حمدان بن ربيعة يمد طرفه إلى الأفق البعيد، فلا يرى بعينيه غير انطباقة السماء على الرمال، فيخترق بفكره هذا الأفق ويوغل إلى ما وراءه، إلى هناك، إلى ملاعب الصبا، ومدارج الطفولة، هناك حيث انطبعت يوما على الرمالات البيض آثار ركبته ويديه وهو طفل يحبو، وآثار قدميه الطفلتين وهو حدث يتعثر في خطواته الأولى، وهناك حيث محت الرياح آثار قدميه الصغيرتين وهو صبي يدرج إلى الشباب، وويل لحمدان من ذكرياته لأيام الصبا؛ فهي أولى ذكريات وعاها عقله، وهي أحلى ذكريات صنعتها له الأيام.
كان ذلك منذ نيف وعشرين عاما، وكانت الحياة بين يديه لعبا مع الأطفال من أترابه.
وكانت هي بينهم تلعب كما يلعبون، ويجرى عليها من أحكام اللعب ما يجرى عليهم لا يراعون أنها ابنة شيخ القبيلة، وما شأنهم بأبيها؟ إنما هي عضو في جماعتهم لا يعنيهم من شأنها إلا مرحها ولعبها وإتقانها هذا اللعب.
وهكذا عاش حمدان في جهالة الطفولة لا يدرك مقدار السعادة التي تتيحها له هذه الجهالة، وإنما يدرك قواعد اللعبة التي يمارسونها تمام الإدراك، ويتقن هذه اللعبة كل الإتقان.
وكانت هي - لمياء - تعجب بمهارته، وتنضم دائما إلى الفريق الذي يضمه، سعيدة أن تراه إلى جوارها لا تعرف سببا لهذه السعادة، سعيدا هو أن يراها إلى جواره، لا يدرك باعثا لهذه السعادة.
ومرت الأيام، وويل لحمدان في جلسته هذه حين يذكر مرور الأيام، لماذا مرت؟ ألا تعرف هذه الأيام شيئا إلا أن تمر فتجعل من العقول الجاهلة الحالمة السعيدة عقولا مبصرة واعية شقية، أما كانت تستطيع هذه الأيام أن تتوقف فلا تمر، أو تتمهل فلا تثب هكذا وثبا عنيفا يطيح بالأماني العذاب، ويقضي على الآمال الباكرة المشوقة إلى أن تصبح حقائق واقعة، مرت الأيام كالرحى الثقيلة تطحن سعادتنا الجاهلة، وأنسنا الساذج، مرت الأيام، فألقت على وجه لمياء حلاوة الشباب بعد عربدة الطفولة ولمست جسمها فإذا هي فارعة الطول هيفاء غيداء تخطر كالهواء، وتسعى كالأمل وتشرق كالشباب، ولمست الأيام عقل لمياء الطفل الجاهل فتفتح إلى أفكار الشباب، وصار يدرك سبب السعادة التي كانت تحسها، وأصبحت تخجل من هذه السعادة وتحاول ما وسعها الجهد أن تخفيها في عميق نفسها.
ومرت هذه الأيام نفسها على حمدان فعلمته أن ذلك الشعور بالسعادة إنما هو الحب الذي يتحدث عنه الشعراء ويتهامس به الشبان، علمته الأيام أيضا أنه فقير، أبوه تابع لأحد وجهاء الحي، وعلمته الأيام أن دونه ودون لمياء المستحيل؛ فهي لن تصبح له في يوم من الأيام، بل إنه لن يستطيع أن يكشف لها عن حبه مهما يعظم، عرف حمدان هذا جميعه ولكن بعد فوات الوقت، بعد أن كان الحب قد تغلغل في نفسه فهو بعض من الدماء التي تجري في عروقه، وهيهات للشاب المسكين أن يسيطر على حب هو بعض من دمائه.
وكان الشبان من أبناء الأتباع يجتمعون فيتحدثون عن رجال الصحراء والكهوف حديثا يملؤه الفخر وتحيط به هالات من التمجيد، وكان حمدان يستمع إلى هذا الحديث بأذن واعية وقلب خافق متطلع إلى المستقبل، وكانت النسوة يستمعن إلى هذا الحديث في تظاهر بالخوف لا يخلو من الإعجاب، ونظر حمدان إلى نفسه في قبيلته تلك فوجد نفسه ضائع الأصل، منهار الأمل، ووجد أترابه يتمتعون بالمستقبل المشرق، بينما هو بينهم تابع بلا أمل وتمكن اليأس من حمدان وامتلأت نفسه بالحقد على مجتمعه هذا الذي يحيا فيه؛ فهو ينظر إلى أصدقاء الملعب نظرة كلها الحسد، وينظر إلى لمياء في حسرة عنيفة، وينظر إلى مستقبله في مرارة قاتلة، ويراود ذهنه ذلك القصص عن قطاع الطرق، ومن خلال هذا الطريق المحفوف بالمخاطر يلمع لعينيه وميض أمل، وما يمنعه أن يصبح قاطع طريق؟! أهو غضب أبيه؟ وما يهمه غضب أبيه ذلك الرجل الخامل الذي لم يستطع أن يصنع لنفسه إلا هذه الحياة الحقيرة ليس فيها غير الشرف والعفة والفقر والحرمان؟ أتعوقه أمه؟ وما شأنها به وهي التي رضيت أن تشارك أباه حياته تلك المهينة؟ لا، إن شيئا من هذا لا يمكن أن يمنعه، لعلها لمياء، لا، لا تستطيع لمياء أن تمنعه فهو إن بقي إلى جوارها سيظل التابع الفقير، وستظل هي ابنة الأكرمين وسيراها يوم تتزوج ولن يستطيع حينئذ أن يمد لها يدا أو حتى نظرة، أما إذا رحل واتخذ سبيله في قطع الطرق فلعله، لعله يومئذ يستطيع أن يجمع مالا يعوضها به عن ضعة أصله، ولعله، ولعله يومئذ يستطيع أن يختطفها ويذكرها بالملعب وأيام الصبا ويناشدها ذلك الحب الطفل.
واتخذ حمدان طريقه وهجر منازله وأحلام صباه وملاعب طفولته وبدأ يمارس مهنته الجديدة في عنف لم تسمع به العرب من قبل، وما أسرع ما تكونت حوله عصابة ألقت إليه قيادها فهو يدبر للهجوم ويتزعمه. وبث لنفسه الجواسيس في الأحياء فهو على علم بكل قافلة تهم بالمسير، وهو يتخير من بين هذه القوافل أكثرها مالا فينقض عليها، ولا بد له أن يصيب من أموالها ما يريد مهما تكن هذه القافلة منيعة الحراسة كثيرة العدد.
كان حمدان جالسا على ضفاف الصحراء تمر بذهنه الأفكار عن أمسه الغابر وعن حاله هذا الذي صار إليه، وكان أفراد العصابة قد عرفوا فيه حبه لهذه الخلوة فلا يقطعونها عليه فهم جالسون أو نائمون داخل المغارة ينتظرون الجواسيس القادمين ليعرفوا منهم القوافل المعدة للسفر.
وجاء الجواسيس فتجمعت حولهم العصابة وألقى كل جاسوس بما يعرف من أنباء إلا واحدا بقي مترددا لا تبين عليه حماسة من يحمل أخبارا فسأله حمدان: هيه يا عامر مالك صامتا، ما أنباؤك؟ - ليست هناك إلا قافلة صغيرة. - قافلة من؟ - قافلة لمياء. - لمياء؟! - نعم، لمياء بنت شيخ القبيلة، تم زواجها بالأمس وهي في طريقها إلى منازل زوجها. - زوجها، أتزوجت، متى؟ ومن زوجها؟
فأجاب عامر دهشا من هذا الاهتمام المفاجئ: تزوجت بالأمس من عكرمة الحضرمي، وسترحل إليه يوم السبت القادم. - ولكنك لم تخبرني أنها خطبت قبل اليوم؟! - لقد تمت الخطبة والزواج أمس.
وأطرق حمدان مفكرا، وكاد الدمع يفضح دخيلة نفسه، ولكنه سرعان ما تمالك عن البكاء، فسأله أحد أفراد عصابته: وما شأننا نحن بهذه القافلة الضئيلة، إنها ستخرج في يوم كثير القوافل وما أظنك ستترك القوافل الغنية الوفيرة الأموال لتأخذ قافلة هذه العروس.
ولكن حمدان كان يرى في قافلة هذه العروس آماله كلها قد تحققت فليس بينه وبينها إلا أن يمد بيده فإذا هذه الأوهام التي كانت تداعب خياله يوم ترك الحي قد أصبحت حقائق واقعة، وإذا حبه الذي كان أملا مستحيل التحقيق قد وافى؛ فها هي لمياء بين يديه لم يمنعها عنه مانع من زوج أو أب أو قبيلة، إنها حبه وصباه وشبابه، وهو، وتردد حمدان قليلا ، أجل هو، أتراه أيضا حبها وصباها وشبابها أم أن الأيام قد غيرت هذا الحب، نعم إنها لم تقل يوما إنها تحبه، لم تقل ذلك بلسانها، ولكنه رأى من عينيها أنها تحبه، وسمع تلك البسمة التي كانت ترتسم على وجهها عند اللقاء إنها تحبه، ولكن أترى ما كان يسمعه حقا أم هي أوهام محب وخيال شاب؟! سوف يعلم، وينهي حمدان إلى عصابته إنه اختار قافلة لمياء فيطيعون أمره في صمت.
ومنذ ذلك اليوم وحمدان لا يعمل شيئا إلا أن يترقب القافلة القادمة، وإلا أن يهيئ للمياء كل وسائل الراحة حتى لا تضيق بحياتهم المقفرة؛ فهو يقيم لها خيمة من الحرير تملؤها الوسائد اللينة والبسط النفيسة والأرائك الأنيقة.
وبدت القافلة في الأفق واستعد حمدان وعصابته، وما هي إلا بعض الساعات حتى كانت إغارة حمدان على قافلة العروس قد نجحت، فاختطفت العصابة لمياء وهرب أفراد القافلة جميعا حين رأوا كثرة العصابة.
وأدخلت لمياء إلى خيمتها، واتخذت لنفسها مكانا على إحدى الأرائك وبعد قليل دخل حمدان في أجمل ملبس، وانبعث في لهفة إلى لمياء يجثو تحت أقدامها. - لمياء. - من؟ اللص. - لمياء؟ إنه أنا، أنا. - ومن أنت؟ - أنا حمدان، ألا تعرفيني؟ - ومتى عرفتك؟ - أنا حمدان، صديق الصبا، أخو الطفولة، ماذا؟ أتراك نسيتني؟! - أنا لم أعرفك حتى أنساك! - إن وجهي لم يتغير كثيرا منذ تركت الحي، فما هذا الجفاء، ألأنني اختطفتك؟ لقد حسبت أن هذا يزهيك، أما ترين أنني ما فعلت هذا إلا لأني أحبك، نعم، أنا لم أقلها قبل اليوم، وكيف كان يمكن أن أقولها وأنت في سماء بيتك، وأنا في وضيع حقارتي، أما اليوم فانظري حواليك، انظري هذه البسط وتلك الوسائد وهذه الأرائك، اليوم نعم، اليوم أقولها أحبك، اليوم أنت لي، أنت حبي وصباي وشبابي، حمدان يا لمياء، ألا تذكرينني، حمدان؟ - لا، أنا أعرفك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، وجهه كوجهك وقوامه كقوامك، ولكن نفسه غير نفسك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، عرفته ونحن أطفال وعرفته ونحن شباب فكان في الطفولة مرح النفس محببا إلينا حين نلعب، قريبا من نفوسنا جميعا، وكان في شبابه رجلا شريف النفس عفيف الخلق، أما حمدان هذا الذي يجثو هنا، أما أنت فقاتل سفاك، قاطع طريق، أما أنت أيها الرجل فأنا لم أعرفك قبل اليوم ولن أعرفك. - لقد ظننت، لقد خيل إلي، يا لي من واهم مخدوع. - لم يكن حمدان واهما ولا مخدوعا.
فيجيبها حمدان في لهفة منتشية: إذن يا لمياء، هو أنا، أنا حمدان. - بل لست هو ولن تكونه، لقد مات حمدان إلى غير رجعة. - أتخادعيني؟ - بل لقد مات حمدان.
ويثور حمدان من ذلك الهدوء القاتل الذي تطالعه به حبيبته؛ فما هو بمن يطيق هذه المداورة فهو يقول في ثورة عنيفة: بل هو حي أمامك، وستكونين له شئت هذا أم أبيت، أنت هنا ملكي، أنت جاريتي، أنت لا حول لك ولا قوة، أنا كل شيء لك أنا مستقبلك ولا مستقبل لك إلا بي، أفهمت؟ - لقد فهمت هذا منذ جئت إلى هذه الخيمة، نعم، أني جارية اختطفني اللصوص. فأنا ملك لمن اختطفني فما لك ثائرا؟! أنت لم تقل هذا في أول الحديث، وإنما ادعيت أنني أعرفك وأنك تعرفني فكذبتك، أما أنني ملكك فهذا حق، أترى أيها اللص أنني لا أعارض في الحق أبدا. - لمياء، لمياء، بعض هذه القسوة ... - أي قسوة فيما أقول أيها اللص، لقد أردتني جاريتك، وها أنا ذا أطيعك، مرني بما تشاء أطعك، لن أخالف لك أمرا مهما يكن. - حتى لو طلبت إليك أن تهبي لي قلبك؟
وتجيبه لمياء في ضحكة ساخرة: أرأيت القلب يوهب بالأمر أيها اللص، لا، لا يمكن أن أطيع هذا الأمر، اللهم إلا إذا أردت أن تقتلني أو تسرق قلبي من بين ضلوعي. - بعض السخرية يا لمياء. - فبعض العقل أنت، أتأمرني أن أهب لك قلبي، حبي ويحك لقد أفرطت، أهب أحلام شبابي وآمال مستقبلي لقاتل، سفاك، وأهبها إطاعة لأمره. جهلت الحب يا فتى وادعيت كذبا. - أعرف أنني أستطيع أن أنالك، وأعرف أنني أستطيع أن آمرك فتصبحي لي وحدي، ولكن لم يكن هذا حلمي ، لقد كنت أحلم بحبك لا بجسمك، فأنت حرام علي منذ اليوم. - بعد أن اختطفتني وأنا في طريقي إلى زوجي؟! ألم تفكر فيما عسى أن يقال عني، ألم يدر بذهنك ذلك العار الذي ستلحقه بي؟! - لا والله لم يدر بذهني هذا؛ فقد كنت أحسب أنني سألقى فيك حبي القديم، أما اليوم، أما وقد ذكرت أنت هذا العار فلا وحياتك ما كنت لأجعل العار يلحق بك أبدا، ويخرج حمدان من ثيابه خنجرا لامع النصل فتجزع لمياء قائلة: ماذا أنت صانع؟ - سأجعل منك أعظم امرأة في هذه الأحياء، لقد طلب الرجال قتلي فلم يستطيعوا، لأكونن قتيلك، سأقتل نفسي بيدي، وقولي أنت لمن يسألك إنك قتلتني لتدافعي عن شرفك فأنقذته، فاذهبي أنت إلى السعادة في ظلال زوجك وحسبي أنا من الأيام ذكريات الصبا التي عشت بها ولها حتى اليوم.
وما إن يكمل حمدان قوله حتى يغرس الخنجر في قلبه في سرعة خاطفة وتذهل لمياء عن نفسها، لا تعرف ماذا تفعل فيسارع حمدان قائلا في حشرجة: أسرعي بالهرب، أسرعي قبل أن يأتي أحد، أسرعي، واذكريني، اذكريني أنني قاتل وسفاك وقاطع طريق ولكنني، أحببت، ووفيت ومنعت اسمك أن يلم به السوء.
وركعت لمياء إلى جانب حمدان في لهفة ملتاعة: لماذا يا حمدان، لماذا فعلت هذا بنفسك؟! إنما أردت بكلامي أن ترجع عن طريقك هذا، أنا هي لمياء التي عرفتها يا حمدان، فارجع إلى الحياة لتعيش شريفا نقيا كما عرفناك، حمدان، حمدان.
وجرت دموع لمياء غزيرة على وجه حمدان، دموع فيها حب قديم، وفيها حزن جديد، ولكن حمدان لم يحس بحب أو بحزن كان قد ترك الدنيا بكل ما فيها من مشاعر.
وخرجت لمياء تنفذ ما أمرها به حمدان في ذهول حائر، ودون أن تحس ولت وجهها إلى منازل أبيها، وما يأتي الصباح من الغد حتى تكون قد رجعت إلى الحي تقص عليهم ما كان من حمدان، لم تقل إنها قتلته بل روت الحقيقة كما هي، وكأنما أرادت بها أن تنال من قلوبهم الغفران للص الذي غسلت دماؤه خطاياه.
لقاء ولا وداع
هو :
وحدك؟
هي :
وحدي.
هو :
وتحبينني؟
هي :
وأحبك!
هو :
وأنت على هذا الجمال الآسر، حتى ليخيل إلي أنك صنعت جسمك بيدك، أو ليخيل إلي أنك مكثت في عالم الغيب أجيالا عدة تسألين الله أن يخلقك نوعا وحدك من الجمال، فسمع سبحانه سؤالك وأجاب سؤالك، فكنت على ما أرى الآن لونا فريدا من الجمال بلا شبيه ولا قرين، بل إنك حتى في رفيع سمائك لا يليك من ألوان الجمال تال، فسماؤك شاهقة الرفعة، قريبة كل القرب من بارئك، وسموات الجمال الأخرى بعيدة عنك كل البعد، فكأنما هي الأرض منك إن جاز لي أن أقارن.
هي :
شاعر أنت؟
هو :
لا شأن لك بي، أجيبني أنت، كيف أمكنك أن تكوني على هذا الجمال؟ ثم كيف خرجت به غير مستور إلى الطريق وحدك بلا رقيب عليه عات شديد؟
هي :
أغيرة ولم نتعارف؟
هو :
إنما هو عجب، أليس لك زوج؟ أليس لك محب؟ هل بلغ العمى بالعباقرة النابغين وبالأغنياء واسعى الغنى إلى حد أن واحدا منهم لم يرك فيلقي بجبهته عند أقدامك عابدا مكبرا؟
هي :
بل هناك من كان يفعل ذلك.
هو :
كان ثم لم يعد، فعزاء يا سيدتي، وهل مات منذ عهد قريب؟
هي :
بل إنه ما زال حيا.
هو :
حيا ويتركك تخرجين وحدك؟ حيا ويجعل منك هذه الشقية التي تجيب أول متحدث إليها؟ حيا! لعل أنفاسا تتردد في جسمه بين ذهاب وأوبة، ولعله يسير ويأكل، ويشرب، وينام. ولكنني ما زلت مصرا على أنه مات، هو ميت وإن كان يملأ الدنيا بالحياة!
هي :
وأي عجب في ذلك، ها أنت ذا وحدك، وأنت جميل، ألست حلو الحديث، وحدك أرى وحدتك على وجهك، وأراها في حديثك المندفع الطويل الذي آده الصمت الطويل. وحدك أكاد لم أر شخصا تحيط به كل هذه الوحدة التي تحيط بك، أليست لك زوجة أو صديقة تلقي إلى واحدة منهما هذا الحديث الذي ألقيته إلى الآن؟
هو :
أنا يا سيدتي لا أزوق لك الكلام تزويقا، ولا أختلقه اختلاقا، وإنما رأيتك وحدك فأخذني جمالك ثم حادثتك فأجبتني فأخذتني وحدتك.
هي :
وحدة أحاطت فخرجت أبددها فكنت أنت.
هو :
فهي وحدة طارئة!
هي :
بل وحدة دائمة سئمتها فحزمت أمري على هجرانها، وأنت؟
هو :
وحدة طالما تمنيت أن أبددها فعجزت، وكيف كان يمكن أن أبددها؟ إنني أبحث عن امرأة، وأريدها جميلة، أراها فأرى سعادتي في وجهها، وأريدها ذكية، أحادثها فيعود إلي حديثي يحمل منها فهما وعطفا وهوى، والنساء يا أخت الوحدة: إما ساقطة تعرض نفسها في السوق، وأنا لا أشتري أخوتي في الآدمية، أو جميلة لها زوجها أو خطيبها فلا أمل لي فيها ولا رجاء، أو قبيحة لا بد أن أروض نفسي على قبحها، وبحسبي من الشقاء وحدتي فلا خير لي عندها! كذلك كنت يا أخت الوحدة قبل أن ألقاك! وأقسم بالفنان الذي أبدعك ما كلمت واحدة قبلك دون تعارف، وأقسم ما هممت بذلك حتى رأيتك فقلت انطق، فإن صمت فلا أحد يرى خزيي، وإن تكلمت.
هي :
هه، وماذا إن تكلمت؟
هو :
الحقيقة أنني لم أفكر فيما يكون عليه الأمر لو تكلمت، فما كنت أتوقع أن تتكلمي وإن نطق القدر.
هي :
ولكن هذا اليأس يحيط بك طارئ، فأنا لا أعتقد أنك تحيا فيه طوال يومك لا بد أنه ابن ساعة ثم يمضي.
هو :
ابن ساعة ويمضي ولكن كثيرا ما يعود، يعود زاحفا بالوحدة والضيق، فأرى نفسي وأنا بين الجموع منفردا.
هي :
أنت متزوج؟
هو :
نعم.
هي :
وزوجتك؟
هو :
كنت أحبها حتى تزوجنا.
هي :
فكرهتها؟
هو :
لا وحقك فما عرفت الكره يوما، ولكني أصبحت أرى فيها الشقاء، أن بلغ الشقاء ذروته، جامدة كالقدر، أنانية كالحيوان، لا شأن لها بي ولا يهمها أين اضطرب في هذه الحياة، كل شأنها أن تطلب فأجيب، فلا شكر ولا حمد ولا ثناء، ولا هي حتى تحبس سوء نفسها أو لسانها.
هي :
كانت تلك حالك يا مسكين!
هو :
ولا تزال، صدر لي ديوان شعر عدت به إلى بيتي فرحا، أول كتاب يصدر لي، أعطيته لزوجتي فوضعته جانبا وراحت تستجوبني في كل حقير تافه من أمورها فتركتها وخرجت لا أدري أين طريقي؟ هيه يا أخت الوحدة لقد بحت لك بكل شيء.
هي :
بل ليس بعد.
هو :
ماذا؟
هي :
فيم يدور شعر ديوانك؟
هو :
رعاك الله يا أخت وحدتي، إن زوجتي لم تسألني ما سألته الآن، لا عليك وأخبريني أنت فيما خروجك وحدك وجمالك معجزة، والليل أسود والذئاب كثير؟
هي :
أكبرته فتزوجته فأحببته.
هو :
ما أسعدك! حب يقوم على الزواج، حب دائم.
هي :
كان ذلك.
هو :
ثم؟
هي :
ثم راح الناس يمتدحون له جمالي فغاظه ذلك، وأصبح يرى أن من يمتدحني إنما يقصد إلى ذمه هو؛ فهو يعتقد أنه قبيح الوجه، كان جمالي وبالا علي وعليه، أبى أن يقنع من الدنيا بالمال الوافر والزوجة الجميلة فأراد أن يكون له من الجمال ما لم تهبه له الطبيعة، فكفر بكل السعادة التي تحيط به وأحال حياتي وحياته شقاء مستعرا.
هو :
وأية حياة تقوم بينكما؟
هي :
لا حياة بيننا، هو في عمله طول يومه، فإذا عاد عند المساء فالضيق والضجر وألوان من السخط وأفانين من العذاب، الزوجية بيننا هي هذا العذاب وليس في حياتنا من معانيها إلا الشجار المستمر والغضب المتلاحق.
هو :
أشبهت حياتك حياتي، مسكينة!
هي :
أومثل هذه حياة؟ إنها الموت.
هو :
بل الموت خير منها، فإننا عند الموت لا نختلف ولا نحترق في كل يوم مرات، وإنما عند الموت لن نجد أجسامنا تلك تطالبنا بحقوقها بعد أن احترقت.
هي :
فخرجت أنتقم.
هو :
ولهذا خرجت أنا.
هي :
أنتقم من زوجي الذي جعل شبابي شيخوخة، ومن نعمة جمالي نقمة ولعنة، أريد أن أنتقم.
هو :
وأنتقم أنا من زوجتي التي قتلت أحلام صباي، ورؤى شبابي، وصرعت كل نجاح لي في ضجيج سخطها وتفاهة رغبتها، لن تجدي شخصا صالحا لتحقيق انتقامك مثلي أنا.
وشع في عينيها وميض كالشرر الساطع وهي تقول: أظنك على حق.
فأحاط هو ذراعها بذراعه وهو يقول: بل إني على حق. - وماذا تريد؟ - هلم بنا.
وسار الاثنان شعلتين من الانتقام والرغبة تشقان طريقهما إلى الحريق، وكان الطريق طويلا، وكانت الثورة في نفسيهما تبحث عن الطريق الطويل، وراح الحديث ينحدر بينهما في قوة عارمة، ثم ما لبث أن أصابه بعض وهن، فإذا هو حديث طبيعي بلا رعد ولا نيران ولا وعيد، ثم انتهى آخر أمره إلى حديث هامس حلو يدغدغ الأذن والقلب والعقل، وراح الناقمان يسكب كل منهما على صاحبه أسلوبا من الفهم الهادئ الواعي، فترتاح نفس كانت ثائرة، ويهدأ مضطرب كان راعدا، ويسيران الطريق، طويل طريقهما، ولكنه نجوى بلا غزل، وأفكار معربدة بلا لذة ووهج أحمر يحف به، ولكنه وهج النار وليس وهج النور. الحديث بينهما يتصل بكلمة أو لا يتصل، لم تسله إلى أين؛ فقد كانت الأمكنة جميعها تستوي، أما هو فقد كان يعرف طريقه، وإن كان يسلكه لأول مرة، إنها شقة صديقه التي طالما دعاه إليها أغراه بأن مفتاحها عند البواب متروك لأقرب الأصدقاء. وعند البواب قائمة طويلة بهؤلاء الأصدقاء الذين يسمح لهم باستعمال المفتاح وهو أول هؤلاء الأصدقاء.
نعم إنه يعرف طريقه.
وبلغا العمارة وسألا البواب عن المفتاح فأخذاه وصعدا وفتحا الباب ثم أغلقاه عليهما، منفردين.
قلبت هي عينيها في المكان، وأمعن هو فيها النظر. ثم جذبها إلى صدره في عنف لم يكن بحاجة إليه فقد ألقت هي نفسها إلى صدره، ولفف شفتها فغاصت هي في أعماق قلبه تريد بها أن تنجو من عذاب زوجها وأيامها وجمالها وضميرها. وأحس هو الشفاه اللاهية، ولكنه أحس لهيب انتقام لا لهيب لذة، وأحست هي شفاهه الملتهبة، ولكنها لم تحس اللذة في هذا اللهيب وانفرجت الشفاه وتباعد الجسمان رويدا، ثم ألقت بنفسها إلى كرسي وهي تقول: أحس راحة.
فقال وهو يراوغ في الإجابة: بل ليس بعد. - بل إني أحس راحة ورضا. - إننا لم ننتقم من حياتنا بعد. - أما أنا فقد انتقمت. - لقد انتقمت بحديثي إليك، وقد كنت أحسب أنني واجدة جديدا إذا ما جئت إلى هنا، لا، لا جديد، لقد استرحت، وانتقمت.
ويقول الشاعر مستخزيا: وإني ولله مثلك، لقد ارتحت بحديثي إليك وانتقمت ، وما عدت أرجو بعد ذلك لذة.
أترى، لم تبق لنا لذة، لقد انتقمنا بالحديث، وبالحديث بلغنا أقصى غايات اللذة، فما بقاؤنا الآن؟ - نعم، ما بقاؤنا الآن؟
فهلم. - إلى أين؟
أنت إلى طريقك وأنا إلى طريقي. - بلا ... - بلا شيء على الإطلاق. - ولا وعد على اللقاء؟ - ولا وعد. - ولا وداع؟ - ولا وداع. - فما في الوداع؟ - فيه أنك ستقيم منه رؤى وخيالات، وفيه أننا سنغذي عاطفة لعلها الآن تهم بالظهور، فسلاما ولا وداع. - سلام، ولا وداع.
وعند الباب الخارجي فوجئ البواب بالشاعر يلقي إليه المفتاح إلقاء، ثم فوجئ به يميل يمينا بينما تميل صديقته شمالا، ويسيران بلا تحية ولا سلام ولا وداع.
فوق السعادة
(المنظر: حجرة معدة للجلوس اليومي، أثاث أنيق في غير بذخ، تجلس عليه الأختان ثريا وأمينة.)
ثريا :
أنت التي دائما تغلطينني.
أمينة :
والله يا أختي أنا أقول الحق، وطبعا أنا آسفة أن أراك دائما هكذا.
ثريا :
بل أنت دائما تقولين عني غلطانة؛ حتى لا يقال عنك إنك تحابين أختك.
أمينة :
يا ثريا إن المعاملة التي تعاملين بها زوجك لا ترضي أحدا.
ثريا :
أي معاملة؟!
أمينة :
وهل قليل أن يخرج زوجك كل يوم غاضبا، وأن يبيت كل ليلة حزينا، من يرضى بهذا؟!
ثريا :
إنه هو الذي يختلق المشاكل.
أمينة :
لنفترض ذلك، إنما واجبك أن تحلي أنت هذه المشاكل، ولو أن ما أراه أنك دائما أنت، وأنت وحدك التي تختلقين المشاكل.
ثريا :
إنه دائما غضبان لا أعرف كيف أرضيه.
أمينة :
إنه غضبان مما يرى يا ثريا، ماذا يفعل المسكين حين يجد نفسه، كلما يدخل إلى منزله، أمام وجه كشر!
ثريا :
وماذا أفعل إن كان يضايقني دائما؟!
أمينة :
وفيم يضايقك، أنت تعلمين قلة موارده، وأنت مع ذلك لم ترحميه من الطلبات، وأقول الحق، إنه يكلف نفسه فوق طاقتها، وأنت مع ذلك غير راضية.
ثريا :
وماذا أفعل في قلة موارده؟!
أمينة :
أجننت! فماذا يفعل إذا لم تفعلي أنت، يجب أن تفعلي كل شيء يعاونه في حياته، أو يجب عليك - على الأقل - أن تخففي من طلباتك.
ثريا :
وهل شكا لك هو من كثرة طلباتي؟
أمينة :
لم يشك. ولكن لي عيونا ترى.
ثريا :
ولكنه لا يكلمني في مثل هذا أبدا.
أمينة :
فهو رجل صاحب حياء.
ثريا :
ولكنه في هذه المرة ليس غاضبا من كثرة الطلبات.
أمينة :
وهل تنتهي أسباب إغضابك له؟
ثريا :
لقد غضب لأنني خرجت من غير إذنه.
أمينة (ساخرة) :
بسيطة!
ثريا :
طبعا بسيطة، نحن في القرن العشرين، ولا بد للرجل أن يثق في زوجته، وإلا فلا لزوم للحياة الزوجية نفسها.
أمينة :
وهل في استئذانك له ما يجرح من ثقته بك؟
ثريا :
فلماذا أستأذن؟
أمينة :
اسمعي يا ثريا، تأكدي أن زوجك يثق بك، ثقة عمياء، فهو بغير هذه الثقة لا يستطيع أن يعيش معك يوما واحدا، ولكنه حاول أن يمنع كلام الناس ولا أحد يلومه عليها.
ثريا :
وما شأننا بالناس؟!
أمينة :
كيف هذا؟ الناس هم كل شيء، الشرف سمعة، فأنت شريفة ما دام الناس يرونك كذلك. أما إذا قالوا غير ذلك، أصبحت كما يقولون.
ثريا :
ما هذا الكلام الفارغ؟! الشريفة شريفة في نفسها.
أمينة :
هذا هو الكلام الفارغ، ما فائدة الشرف إذا كنت - لا قدر الله - تجلسين في البارات وتخرجين مع غير زوجك، الشريفة يا ثريا هي التي تحافظ على سمعتها كما تحافظ على شرفها، وواجب الزوج أن يمنع كل كلام يثار حول زوجته.
ثريا :
وهل يستطيع أحد أن يقول عني كلمة، والله. (تدخل الخادمة.)
الخادمة :
جواب يا ستي.
ثريا :
أي جواب؟
الخادمة :
جواب أرسله سيدي.
ثريا :
هاتيه يا علية (تأخذ الجواب وتبدأ في قراءته، ولكن عينها تترقرق فيها الدموع فتعطيه لأمينة) .
أمينة :
خذي اقرئيه أنت.
ثريا : «أحببتك يوم طلبت يدك حبا أخذ على حياتي جميعا وأقسمت يومذاك، بيني وبين نفسي، أن أهيئ لك من أسباب السعادة ما لم يتهيأ لأحد في العالم، وكان ظني يومذاك أنك ستنعمين بهذه السعادة وتسكبين علي من فيضها ما أحيا به في أهنأ حياة، وكنت في هذه الأيام ذا آمال كبار، وكنت أنت شريكتي في آمالي، فما طمحت إلى شيء في نفسي إلا فكرت فيما سينالك أنت من خير إذا تحقق. ثم تزوجنا ومرت الأيام فإذا آمالي كلها تتحقق إلا شيئا واحدا وددت لو كان وحده هو الذي تحقق - نعم يا ثريا، لم أستطع أن أهيئ لك السعادة التي نشدتها لك في نفسي. ولست أدري من منا كان المخطئ فيما حدث لنا ولكني أدري تماما أني لم أستطع أن أهيئ لك السعادة التي نشدتها، وإنني اليوم تاركك، راجيا لك أن تنالي يوما ما فوته عليك من السعادة.» «ملحوظة سأحضر الساعة 6 لأخذ مذكراتي التي لا أحب أن يلمسها أحد غيري، وكل رجائي أن تتركي المنزل مدة ربع ساعة.»
سامي
ثريا (باكية ومحاولة التجلد) :
حسنا ما دام هو الذي فعل هذا، أنا لا يهمني شيء.
أمينة (وقد ظهر عليها كأنما تذكرت شيئا) :
ثريا، كم الساعة الآن؟
ثريا :
أهذا وقته يا أمينة، لا أعرف.
أمينة :
كيف لا تعرفين أنه سيحضر في الساعة السادسة؟!
ثريا :
آه حقا، الساعة الآن. (تنظر في الساعة ثم تذهل حائرة.)
أمينة :
نعم أعرف أنها السادسة لقد تأخر الساعي في إحضار الجواب، لا بأس، سأحضر لك حقيبتك من الغرفة، لتخرجي حالا. (تذهب أمينة، ولكن ما تكاد تخرج حتى تدخل الخادمة مسرعة.)
الخادمة :
سيدي يا ستي، دخل العمارة الآن.
ثريا :
أجاء؟ (في اضطراب)
سأدخل في الصالون فإن سأل قولي له خرجت.
الخادمة :
حاضر. (يدخل سامي متجهما.)
سامي :
أين سيدتك يا علية؟
الخادمة :
خرجت يا سيدي.
سامي :
طيب (ويهم بالدخول إلى غرفته فتخرج أمينة) .
أمينة (مضطربة) :
أهلا سامي.
سامي :
أهلا أمينة، عن إذنك.
أمينة :
تفضل. (يدخل سامي.)
أمينة :
أين ستك؟
الخادمة (في صوت خفيض) :
في الصالون وطلبت إلي أن أخبر سيدي بأنها خرجت، يتهيأ لي يا ستي أمينة أن في الأمر شيئا.
أمينة :
لا شأن لك يا علية. اذهبي أنت إلى المطبخ.
الخادمة :
أمرك يا ستي. (تخرج، يدخل سامي وفي يده المذكرات.)
سامي :
عن إذنك يا أمينة فأنا على ميعاد مهم.
أمينة :
اقعد يا سامي، ما زال أمامك وقت.
سامي :
لا ، أرجوك.
أمينة :
لا تخف، أنا أعرف أنك غضبان من ثريا، كالعادة طبعا، ولكنني لا أعرف شيئا عن الخلاف، فقد جئت لزيارتها فلم أجدها.
سامي :
فلماذا أقعد؟
أمينة :
أكلمك يا أخي، ليس هذا من حقي؟!
سامي :
يظهر أنك لا تعرفين شيئا عن الموضوع.
أمينة :
أي موضوع؟
سامي :
الذي حصل بيني وبين ثريا (يفتح باب الصالون)
ولا يحس بهذا سامي، بينما تراه أمينة فتتظاهر بأنها لم تره.
أمينة :
لا شأن لي بها.
سامي :
لا شأن لك بها، أليست أختك!
أمينة :
إن قلبي فوق أختي وفوق كل قوة في الوجود. (يحاول سامي أن يجيب فتندفع أمينة في سرعة)
أحبك وأنت تحبني، إلام نظل نخفي هذا الحب؟ لماذا لا نتخلص من ثريا؟ لماذا لا نعيش نحن في ظل حبنا، لماذا نحرم من الحق الذي يهيئه لنا حبنا؟
ثريا (مندفعة من الحجرة) :
الله، الله، أهذه هي الحقيقة إذن (أمينة تغالب الضحك)
لا، لا تحاولي يا أختي العزيزة أن تجعليه مزاحا فأنت تظنين أنني خرجت، ألهذا إذن ترينه دائما على صواب وأنا دائما المخطئة، وأنت أيها الزوج المخلص، أهو حب آخر إذن ما جعلك تقلب حياتي إلى هذا البؤس وأنت مع هذا لا تخجل أن تكتب لي هذا الخطاب وكأنك المظلوم المسكين!
سامي (مذهولا) :
أقسم لك يا ثريا؟ إن هذه أول مرة تكلمني فيها أمينة بهذا الشكل، أقسم لك، أقسم لك بالله العظيم، أقسم لك أني بريء، أنا لا أعرف شيئا.
أمينة (منفجرة في الضحك) :
أيها المغفلان.
ثريا :
وتضحكين!
أمينة :
لقد قالت لي «علية» إنك في الصالون، وهذا طبيعي، فلو كنت خرجت لقابلك سامي، أيها المغفلان، إن كلا منكما يحب الآخر، وتلك هي السعادة، إن السعادة تصنعانها بأيديكما، ولكن الحب يصنعه الله، عيشا معا، وليظهر كل منكما حبه للآخر فتلك هي السعادة، إن الحب لا يوجد إلا مرة واحدة، ولكن السعادة تجيء وتذهب، إن لحظة سعيدة بين حبيبين هي الحياة، هي الدنيا، هي كل شيء، الحب (يقترب كل من الزوجين إلى الآخر) .
الحب سيخلق لكما السعادة التي تنشدانها (ويتعانق الزوجان)
عيشا، عيشا، عيشا، فإنه الحب. (ستار)
الطابق الأعلى
دس عبد الله أفندي يده في جيب صديريه وأخرج الساعة المعدنية «اللونجين» التي لا تخل دقيقة واحدة، فوجد عقاربها تشير إلى الثانية من بعد الظهر فرفع الطربوش عن رأسه في احتراس شديد، وأخذ ينفخ فيه بكل قوته، ومسح أركانه بكمه ثم أعاد الطربوش إلى رأسه، وثبته في مكانه معتدلا قائما لا يميل يمنة ولا يسرة، ثم أمسك عبد الله أفندي بتلابيب نفسه، وأخذ ينفض «جاكتته» في قوة عنيفة، ثم نظف كميه كلا منهما بالآخر، ونظر إلى «الدوسيهات» القائمة أمامه فأخذ يرتبها في عناية شديدة، وجمع الأوراق التي كانت أمامه ووضعها في الدرج الأعلى من يمين المكتب؛ فإنها الأوراق التي سيعمل فيها في صباح الغد، ثم جمع أوراقا أخرى ووضعها في الدرج الأعلى من يسار المكتب؛ فإنها الأوراق التي تم إنجازها وستأخذ سبيلها في الغد إلى رئيس القلم. وقام عبد الله أفندي بعد ذلك، وزرر جاكتته، وأمسك بأطرافها فجذبها إلى أسفل وأخذ طريقه إلى باب الغرفة في مشية متزنة لا هي بالبطيئة، ولا هي بالسريعة، وإنما هي مشية ذات خطوات مرسومة محسوبة لا تخطئ ولا تخل، فإن عبد الله أفندي رجل دقيق لا يخطئ ولا يخل.
وخرج عبد الله أفندي من الوزارة وجهته محطة الترام، وكان مشغول الفكر إذ ذاك بهذه الدروس التي عليه أن يؤديها في يومه هذا، وكان ضيق النفس غاية الضيق بهذه الدروس التي يعطيها لصغار التلاميذ. وكان في ذلك اليوم أشد ضيقا من كل الأيام السابقة فإنه يفكر في عمره الذي سرقته معه هذه الدروس والذي انتهبته منه هذه الذرية التي توالت عليه منذ تزوج حتى عامه الفائت، ستة عشر عاما هي شبابه، ضاعت كلها في إعطاء الدروس، ثم في إنفاق أجور هذه الدروس على الدروس التي يتلقاها أولاده هو، وهكذا أصبحت حياته كلها دروسا في دروس، دروس تهب المال ودروس تتخطف المال، وهو بين الأخذ والإعطاء آلة حاسبة دقيقة كل الدقة، ولكنها أيضا آلة ذات آمال وشباب، فهي آلة حزينة كل الحزن!
وهكذا أصبح عبد الله أفندي صارما في حياته لا يطيق فيها لهوا ولا لعبا، وهكذا أخذ نفسه بالدقة البالغة، لا يبتسم إلا بمقدار، ولا يضحك إلا عند الضرورة الملحة، ولا تكون هذه الضرورة إلا عندما يلقي رئيسه في الديوان نكتة على مرأى منه أو مسمع!
ودقته هذه تلازمه في كل شيء، في ملبسه، في مشيته، في عمله، في منزله في سريره، في بيته، وتزداد دقته في مسائل الدين، من صلاة إلى صوم إلى كل ما أمر به الدين ما عدا الزكاة.
وتقضي عليه الدقة ألا يسكن من العمارات إلا الطابق الأعلى، وتسأله عن السبب فيجيب: «حتى لا يمر صاعد أو هابط على العيال.» و«العيال» هنا هي زوجته بطبيعة الحال. وتقضى عليه الدقة أن يصدر إلى العيال، إلى زوجته، الأوامر بألا ينفتح الباب بحال من الأحوال وهو غائب، فإن طرق الباب طارق فليطرقه ولا تجيب هي، وزوجته - رعاها الله - سيدة وقور نزحت معه من الريف، وقد نزحت معها أخلاق الريف العفيفة. فأوامر زوجها تطاع في دقة، دقة حازمة، تلك الدقة التي يحبها زوجها ولا يحيد عنها أبدا.
وقد امتدت هذه الأوامر إلى أولاده، وامتدت طاعة الأم إلى أولادها؛ فالأب يأمرهم فينفذون، لا يدرون للأمر معنى ولا سببا إلا أنه واجب التنفيذ.
ولكن أمرا واحدا لم يستطع الأولاد أن ينفذوه، كان ذلك الأمر هو أن يكونوا أذكياء، وكيف لهم أن ينفذوه وهم لا يفهمونه! لقد أمرهم أبوهم: «كونوا أذكياء.» فقالوا: «حاضر.» ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفذوا «حاضر» هذه أبدا.
وكان عبد الله أفندي يأخذ أولاده بالشدة؛ فقد كان يرى فيهم لصوصا لعمره الذي أضاعه في إطعامهم، وإلباسهم، وتعليمهم ولكنه لم يعترف لنفسه أن شدته على أولاده مبعثها أنهم أضاعوا شبابه، بل كان يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه لا بد للأولاد أن يؤخذوا بالشدة حتى ينفعوا في حياتهم، وكذلك كان عبد الله أفندي في دينه؛ فهو متعبد لأن العبادة لا تكلف صاحبها شيئا ولكنه يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه متعبد حبا في الدين.
وكان أكبر أولاد عبد الله أفندي في الخامسة عشرة من عمره، وكان أمام أبيه مثالا للطاعة العمياء، والأدب الجم، والحياء المفرط، فهو كسير العين، منطبق الفم إلا إذا أكل، ساكن الحركة إلا إذا أمره أبوه بإحضار شيء! حتى إذا خلا بنفسه وبأصدقائه أصبح عربيدا لا يبارى في عربدته؛ فهو أضحوكة الإخوان ومسلاتهم، وهو من يتصدى عنهم لكل عبث يمنعهم عنه الحياء!
لم يطل انتظار عبد الله أفندي للترام في يومه هذا؛ فقد أخطأ السائق وجاء في موعده وركب عبد الله أفندي محاولا الوقار، ولكنه لم يستطعه، فقد وجد نفسه في وسط كومه من الآدميين تصعد فصعد معها، وكان الوقار يقتضي أن يجد عبد الله أفندي مكانا ليجلس فيه، ولكنه لم يجد فوقف مكرها وجاء «الكمساري» فأخرج عبد الله أفندي من جيبه ثمن التذكرة لا ينقص ولا يزيد مليما، فهو يعد لكل شيء عدته، ألم أقل لك إنه دقيق؟
ووصل عبد الله أفندي إلى البيت وصعد درجات السلم، أربعا وثمانين درجة، لقد أحصاها ويحصيها كل يوم. كأنما يخشى أن تنقص درجة، وفتح باب منزله ونادى: يا أم سعيد. - نعم يا عبد الله أفندي.
وكان الجواب آتيا من المطبخ، وكانت زوجته هي المجيبة، فهي لم تكن تدعوه بغير «عبد الله أفندي»، وارتفع صوته ثانية: أين الغداء؟ - جاهز. - أسرعي؛ فالساعة الثانية والنصف ودقيقتان. - جاهز يا عبد الله أفندي، جاهز.
وخرجت زوجته من المطبخ تحمل الأكل الذي أعدته، وجلسا إلى المائدة، وقبل أن يمد يده إلى الطعام قال: اليوم يوم الاثنين. - نعم. - فأين سعيد؟ - لم يجئ بعد. - لم يجئ؟ كيف؟ - الله يعلم. - كيف هذا؟ لقد طالما نبهت عليه ألا يتأخر في الطريق. - لعل لديه عملا بالمدرسة. - لا يمكن. - على كل حال كل أنت ولن يلبث سعيد أن يجيء.
وقبل أن ينفذ عبد الله أفندي نصيحة زوجته، طرق الباب فقام عبد الله أفندي ليرى من الطارق، وفتح الباب فطالعه شرطي طويل عريض سأله في غير مبالاة: أنت عبد الله أفندي عبد السميع؟ - نعم أنا. - تعال معي إلى القسم. - القسم؟ لماذا؟ - ابنك محبوس. - ابني؟ ابني أنا؟ ابني من؟ - ابنك سعيد عبد الله عبد السميع. - محبوس؟ لماذا؟ - ضبط وهو يعاكس إحدى الفتيات في الطريق العام. - ابني يعاكس إحدى الفتيات؟! لا بد أنك مخطئ! هل أنت متأكد؟ - والله أن كان في هذه العمارة شخص آخر اسمه عبد الله عبد السميع، وله ابن اسمه سعيد عبد الله عبد السميع أكون غير متأكد. - طيب اذهب أنت.
وينصرف الشرطي، ويتلفت عبد الله أفندي إلى زوجته: أسمعت؟ أرأيت ابنك؟ هذا آخر تعبي وشقائي! ابنك يعاكس النساء في الطريق، أرأيت؟ - يا أخي ألا يجوز أن يكون مظلوما؟ اذهب إليه أولا وانظر ماذا فعل. - أنا أذهب إلى القسم؟ ماذا أقول لهم، أنا الرجل المحترم الذي لم أخالف الدين يوما، ولن أخالف القانون أبدا، أنا عبد الله عبد السميع الموظف بالدرجة السادسة أذهب إلى القسم من أجل ولد ضائع يعاكس النساء؟ والله لن يكون هذا أبدا! - وابنك؟ تتركه محبوسا؟ ابنك يا عبد الله أفندي؟ - لا تتعبي نفسك، لن أذهب يعني لن أذهب!
ويتركها عبد الله أفندي باكية ساخطة حائرة، ويذهب إلى المنضدة التي أمر بها أن تكون مكتبا فكانت، ويأخذ من عليها حقيبة الدروس، ويخرج تاركا زوجته ملهوفة لا تعرف ماذا تفعل!
وخرج عبد الله أفندي إلى الشارع قاصدا إلى الدرس الأول، وكان مكان التلميذ في أقصى الجيزة، فركب عبد الله أفندي، وركب حتى وصل إلى بيت التلميذ «ماجد فتحي» النجل الأصغر للوجيه الثري الأستاذ فتحي الدرملي، وكان عبد الله أفندي يرجو ألا يجد والد ماجد في المنزل؛ فهو لا يطيق مزاحه في يومه هذا.
وصل عبد الله أفندي متقدما عن ميعاد الدرس خمس دقائق فرأى أن يقطعها بالمشي أمام الدار. ولعله لم ير في حياته أشقى من ذلك الوقت الذي قضاه في هذه الدقائق الخمس! فهو جزع متألم ساخط، غاضب من هذه البلوى التي انساقت إليه من جراء ابنه العربيد الذي يعاكس النساء في الشوارع، ولم يكن عبد الله أفندي متشوقا إلى شيء قدر تشوقه إلى هذا الدرس؛ فهو يريد أي شيء حتى وإن كان درسا لينتزعه من التفكير في هذه المصيبة التي حلت على دماغه في يومه هذا.
ومرت أربع دقائق ونصف دقيقة فاتجه عبد الله أفندي إلى باب المنزل، وضغط الجرس، وخرج له الخادم، ولما أراد الدخول قال له الخادم إن ماجد لن يأخذ الدرس لأنه مريض، وإنما كانت هذه مصيبة أكبر من وجود ابنه في السجن! ولم يجد زوجته ليفرغ فيها غضبه فانصرف عن الخادم دون أن يلقي إليه التحية التقليدية التي عودته دقته أن يلقيها، وقبل أن يخرج عبد الله أفندي إلى الشارع وقفت سيارة أما الباب، ونزل منها السيد فتحي، وتقدم عبد الله أفندي من السيد وسلم عليه في أدب، وسأله: خيرا؟ ماذا أصاب ماجد؟ - لا شيء مجرد برد بسيط ولكن أمه تدلله. - شفاه الله، طيب استأذن أنا. - بل تعال. فإنك لم تأخذ مرتب الشهر. - في فرصة أخرى. - بل تعال، ولماذا فرصة أخرى؟ تعال.
وكان السيد فتحي قد تعود أن يمزح كثيرا مع عبد الله أفندي وكان مبعث ضحكه الأكبر، ذلك الوقار الذي يأخذ عبد الله أفندي به نفسه، وقد رآه في ذلك اليوم أشد وقارا من أي يوم سابق، فأراد أن ينتهز الفرصة ليضحك منه.
ويدخل الاثنان إلى المنزل، وما يكادان حتى يدق جرس التليفون فيرفع السيد فتحي السماعة، ويقول لفظة واحدة في صوت مرتفع هي «آلو»، ثم ينخفض صوته إلى الهمس الخافت فما يسمع عبد الله أفندي إلا بعض كلمات، «عندي شخصية مدهشة». «سأحضره»، وينظر عبد الله أفندي حوله فلا يرى أحدا. فيكاد يظن أنه هو هذه الشخصية المدهشة! وما يلبث السيد فتحي أن يضع الساعة، ثم ينظر إلى عبد الله أفندي قائلا: أنت حظك هائل يا عبد الله أفندي! - حظي أنا؟! - طبعا أنت، سأصحبك معي في جلسة رائعة. - جلسة؟ أنا يا سيدى لا أنفع في جلساتك أبدا! - لا شأن لك، تعال.
واختل نظام عبد الله أفندي جميعه، فهو لا يطيق أن يرفض أمرا لوالد تلميذ له، ولكنه يبذل محاولة أخيرة: يا سيدي أنا عندي دروس أخرى. - سأعوضك عنها جميعا، وسأرفع مرتبك الشهري، ما رأيك؟ - أمرك.
ويجد عبد الله أفندي نفسه خارجا مع السيد فتحي، ثم يجد نفسه في سيارة، ثم في منزل! ثم يجد عبد الله أفندي نفسه آخر الأمر مع سيدة غاية في الجمال! جمال كان يسمع عنه، ولكنه لم يره في حياته! فهي شقراء، بيضاء ذات عينين خضراوين، وقوام مليئ لا هو بالنحيف ولا هو بالسمين، تماما كما يجب أن تكون.
وينسى عبد الله أفندي ابنه الذي يرسف في السجن، وينسى تلاميذه الذين ينتظرونه وينسى السيد فتحي الذي يقهقه قهقهة عالية صاخبة، ينسى كل شيء ولا يذكر إلا أنه أمام جمال صاعق لا يمكن للعين أن تظل ناظرة إليه، ولا يمكن للعين أن تنصرف عنه، ويضحك هذا الجمال من منظر عبد الله أفندي، وقد زادته الدهشة استدعاء الضحك ويتكلم هذا الجمال: ما لك؟ اقعد، ما لك لا تتكلم؟
فيجيب عبد الله في ارتباك شديد: نعم، نعم أقعد.
وتبدأ الجلسة، وتأتي السيدة الشقراء بالخمر، وحينئذ يفيق عبد الله أفندي إلى نفسه قائلا: ماذا؟ خمر؟ - لا، «ويسكي». - أنا لا أشرب الخمر يا سيدتي. - لأجل خاطري. - لا يا سيدتي. - خاطري أنا. - أشرب.
ويشرب، وتنفك عقدة لسانه فيتكلم عن دقته في الوزارة وعن أعماله كلها، عن جهاده وعن ذكائه، وعن لباقته، وكلما تكلم ضحك السامعان، وكلما ضحكا ظن أنهما معجبان به.
وفجأة سألته الغانية: قل لي يا عبد الله أفندي، هل أنت متزوج؟ - نعم. - وهل عندك أولاد؟
وما إن يسمع عبد الله أفندي هذا السؤال حتى ينخرط في بكاء شديد!
ويذهل الجالسان! ولكنه لا يبالي دهشتهما، ويقوم المخبول مهرولا إلى باب الشقة وينزل في سرعة مجنونة إلى الشارع لا يجيب الأسئلة التي تلاحقه، وما إن يلمح أول تاكسي حتى يناديه وهو ما يزال يبكي.
وقبيل المغرب كان عبد الله أفندي يسير معتمدا على ولده سعيد ناسيا كل شيء عن دقته، فخطواته مضطربة تسرع حينا وتتمهل حينا، ووجهه مضطرب يبتسم حينا ويعبس حينا، وحديثه إلى ابنه مضطرب، ولكنه لا يعنف في هذا الحديث أبدا، ولا يلقي فيه بأوامره وإنما هو حديث سلمي، ميسور، ولكنه مضطرب.
وصعدا معا إلى الطابق الأعلى دون أن يعد السلالم، ودون أن يراعي أي رقم في صعوده.
ومنذ ذلك اليوم لم يذهب عبد الله أفندي إلى منزل السيد فتحي أبدا، ومنذ ذلك اليوم تعلم عبد الله أفندي ألا يلقي لأبنائه بالأوامر الصارمة، وإنما هو يناقش ويبحث ويفهمهم ما يريد في غير صرامة، وفي غير عنف، وفي غير دقة.
حنان وهوى
كان الليل قد مد ظلاله على الصحراء، وكانت الخيل قد أضناها طول السفر، وكان الرجال قد هد المسير أجسامهم؛ فهم أشباح تسير تعلقت أبصارهم بالأفق، والأفق عنهم مستتر قد أسدل دونه المساء غلالة سوداء داكنة فهم لا يبصرون موضع الخطو من خيولهم ولكنهم مع ذلك يلقون إلى الأفق أبصارهم. وكان زعيم الركب «إياس» صامتا لا ينطق، تحيط به المهابة ويلتف به الإجلال، يغضي عنه أصحابه فتصمت ألسنتهم لأتبين عما مسهم من نصب. كان إياس في صمته هذا وغموضه أشبه ما يكون بقطعة من الليل الذي أدركهم، كان قوي الاحتمال صلب العود، رمحه في يده يشرعه إلى السماء ممسكا به في تحد فكأنما هما معا تمثال من الصخر قده فنان من الإغريق.
وطال الصمت واشتد الظلام وازدادت الجماعة وفرسانها نصبا، ولكن الطبيعة تأبى هذا الصمت! ولا تحفل بقوة إياس أو صلابته أو جلاله، فما يلبث القمر أن يرتفع رويدا من أقصى الأفق فيرى إياس رفاقه وقد مالت أعناقهم، وانحنت ظهورهم، وما يلبث أن يرى الخيل وقد تعثرت خطاها واضطرب مسيرها! فيدرك حينئذ أنه قد آن له أن يتعب وأن يروح إلى رفاقه ويشعل النار ليصطلوا بها، ويأذن لهم فيسمروا معه؛ فقد كان دأبهم معه ألا يبدءوا حديثا لم يبدأه هو، فإذا طاب له أن يسمر فهو فرد منهم يبيح لهم أن يظهروه على خافية أنفسهم، وأن يسألوه فيجيب عن خاصة شأنه.
وأشار إياس إلى الصحاب وما هو إلا بعض الحين حتى كانت النيران تشق الليل عن ضياء. وألقى القوم أجسادهم على رمال الصحراء فأتاحت لهم مهادا لينا صلبا يريح الجسم ولا يلقي فيه الكسل، وقال إياس: تعبتم اليوم يا رفاق؟!
فقال أحدهم: أجل وربك قد مسنا التعب! - فماذا تشاءون، نوما وسمرا؟ - بل سمرا؛ فما نظن النوم ليسعى إلى أجفاننا ونحن على هذا الإجهاد. - ففيم تريدون أن تسمروا؟ - أتريد أن تسألنا عن شئوننا أم نسألك نحن؟ - بل أسألكم أنا. - ولماذا لا تتيح لنا أن نسألك؛ فأنت تخفي عنا ما لا يجوز إخفاؤه عن قوم هم أقرب الناس إليك؟ - فاسألوا إذن. - نراك لا تحب النساء ولا تميل إليهن! فإن عرضت لك إحداهن صرفتها عنك وانفلت إلى سائر مشاغلك، وأنت الرجل في زهوة الفتوة، وريعان الشباب، وبريق العمر! فمتى يتصل أمرك بامرأة إن لم يتصل اليوم؟
وأطلق إياس تنهيدة لاهية، وتراقصت في عينيه دموع سترها الليل أن تبين وقال: من أحب الناس إليك يا قاسم؟ - لا أفهم سؤالك، أيهن تقصد؟ - أقصد النساء جميعا. - هن جميعا؟ - هن جميعا. - وتدخل فيهن أمك؟ - نعم؛ فأمي أحب النساء إلي. - فتلك هي المصيبة عندي يا قاسم، لكل رجل أم بدأ بها حبه للنساء، أما أنا يا قاسم! أما أنا فلا أم لي. - لا أم لك؟! - مات أبي وأنا طفل لا أعي وتزوجت أمي رجلا قاسيا لا يرحم! فكانت تعينه في قسوته علي، ورأيت على وجه الأم أقسى صور الحياة! يهون الخطب يا صديقي إن نزل بك من عدوك، وقد تحتمله إن أتاك ممن لا تعرف، وإنه يوجع إن وجهه إليك صديق، ولكنه لا يهون، لا يهون أبدا يا أخي إن أنزله بك من تلتمس من عنده الرحمة والحنان! وهو قاتل يا أخي إن كان من أمك! عرفت النساء أول ما عرفتهن على يد أمي القاسية هذه. فكرهت أمي وكرهت فيها النساء جميعا. هكذا يا أخي عرفت النساء وهكذا صرت معكم، أقطع الطريق الآمن على سالكيه، لا رحمة تأخذني، ولا ضمير يردعني، ولا وازع من خير يقعد بي، ومن أين لي بهذه المعاني وقد سمعتها سماعا ولم أرها؟! - بل أنت والله رقيق تسبق رحمتك شرك، ويدرك عفوك بطشك. - أتراني هكذا؟ لعل القسوة التي رأيتها في أول العمر مست قلبي بشيء من الرقة، حدثتك عن نفسي يا صاحبي فأطلت، وأمامنا الصباح مليء بالعمل فهلم لعل هجعة من النوم تعيد إلينا بعض النشاط.
ونام القوم والقمر يأخذ سبيله إلى المغيب، وصحوا والشمس لم يبد فيها إلا شعاعات ضئيلة كحمرة في عين أصابها من السهر كلال.
وركب إياس وركب صحبه، وما كادت الخيل تسير حتى لاحت لهم قافلة ضخمة وما أسرع ما أمر إياس صحبه أن يتواروا خلف أكمة على الطريق! فما إن بلغت إليهم القافلة حتى خرج إياس وصحبه وأحاطوا بالقافلة، فما أبدت مقاومة بل سلم رجالها النساء والمال. وكان بالقافلة هودج ضخم أناخ به الجمل وخرجت منه امرأة رائعة الجمال بيضاء يشوب لونها حمرة، خرجت عاتكة وهي حائرة تحمل على صدرها الذهب واليواقيت، وليس فيها من جارحة إلا يكسوها من الذهب وكريم الأحجار ما لا يقدر بثمن. ورأت رجلا أمام هودجها فسألته: بربك من رئيس هؤلاء القوم؟
وأجاب إياس وقد أخذ بجمالها: أنا، رئيسهم. - أحقا ما تقول؟! - إنه الحق. - فإني لاجئة إليك لائذة برجولتك، وإني بنت الأكرمين، خذ الأموال فلا تبق منها شيئا، خذ ما أحمله منها وما اقتنيته ولكن حريتي يا سيدي، لا تسلبني حريتي يا سيدي فما عرفت الأسر وما أظنني أطيقه، أتراك ترد مستجيرة بك لائذة بكرمك عائذة برجولتك؟
وأخذ إياس بهذه المرأة التي تلجأ إليه، وسره أن تتوسم فيه خيرا وهو يقود عصابة، وأحب أن يشكرها على هذا الخير الذي توقعته منه، وأوشك أن يذكر أمه وما قاسى منها، ولكن أين هذه من أمه؟ أين عينا أمه القاسية من هاتين العينين المسترحمتين؟ أين شفتا أمه المذمومتان لا تنفرجان إلا عن الإساءة من هاتين الشفتين المنفرجتين هونا ترتعشان وتهتفان في طلب الرحمة، لا؛ إنه لا صلة بين أمه وهذه. - من أنت، وما اسمك؟ - أنا عاتكة بنت حويطب، أبي يكرم الجار، ويجير اللائذ، ويعين على الزمان، ما رد قاصدا إليه، ولا قصر في معروف. - اذهبي يا بنت الكرام، طليقة أنت وطليق مالك.
ثم التفت إلى إخوانه فقال لهم: هبوا لي هذه القافلة.
ووهب الرفاق القافلة لإياس، وسألت عاتكة عن إياس فعرفته ومضت دون أن تشكره بغير نظرة لقيها إياس بقلبه فنفذت إلى الأعماق واستقرت.
وكان الأمير ما يزال يبحث عن إياس وعصابته، وكان جنده في إثر إياس يريدون أن يأخذوه لأميرهم ليحكم فيه حكمه ويرى رأيه، وكأنما أراد هذا اليوم الذي أطلق فيه إياس أسيرته أن يثبت في حياة إياس فلا يزول أثره.
ما كادت القافلة المطلقة تغيب، وما كاد إياس وجماعته ينفردون بالصحراء حتى أطبق عليهم جند الأمير من كل صوب، حاربوا، ولكن أين الجماعة من جند الأمير.
ومثل إياس أمام الأمير، قطعة من العجز والاستخذاء، آسفا! كسيف الوجه، حطيم السيف لم يبق فيه من إياس الأمس بقية، إلا من قوة الشخصية لمحة وإنما هو راكع يستجدي العطف وقد كان يمنحه، ويسأل الشفقة وقد كان يمقتها، ويلتمس الغفران وما كان يعرفه، بقية رجل! بقية باقية من إياس الأمس الذي كان يملأ الصحراء عنفا وقهرا وجبروتا! بقية هي الجسم بلا كرامة، وهي الدماء بلا عزة، وهي المشاعر بلا حياة.
وفي زاوية من زوايا الحجرة ألقى به الحراس كقطعة من الهمل وشاء الملك أن يزيده ذلا فما التفت إليه، بل هو ينظر في أمور دولته يقيم من أمورها ما شاء ويصرف من شئونها ما يبغي حتى إذا فرغ ولم يبق له من عمل يعمله، التفت إلى إياس في ازدراء مهين ثم رفع نظره وقال للحراس: لماذا جئتم به إلى هنا، ألم آمر أن تلقوا به إلى السياف.
وامتقع وجه إياس، وراح الحراس يتهامسون يلقي كل منهم التبعة على صاحبه، وتحسس إياس صوته بكلمات تحركت بها شفتاه بعض الحين حتى استطاع آخر الأمر أن يكتمل الصوت هونا ويخرج إلى الفضاء ليبلغ مسامع الأمير. - ألتمس عفوك يا مولاي. - أي عفو تريد وقد كنت تملأ الصحراء رعبا؟ - يعلم الله وحده ما عدوت على وحيد، ولا قسوت على فقير. - ومال الأغنياء، أظننت نفسك إلها تقسم الأرزاق؟ - رضعت يا مولاي الحقد وأنا طفل صغير؛ كرهت أمي فكرهت الناس جميعهم. - وماذا جنى الناس حتى تصيبهم ببلائك؟ - سعد الناس وما سعدت، ورأوا العطف وذقت الهون. - فشارك الناس سعادتهم وانس حقدك. اعمل في شريف الأعمال تنل السعادة التي تبغيها، أما أن تسرق وتنهب وتقطع الطريق الآمن على سالكيه فهذا اغتصاب للسعادة. والسعادة لا تغتصب، أكنت حين تنام وتخلو إلى وسادتك ونفسك تحس أنك أبلغت نفسك مناها، ونلت من السعادة ما فقدت؟! - شهد الله يا مولاي، لا. - فأي سعادة تلك التي تراءى وتهرف عن فقدانك لها، أنت لص، خرج عن أوامر الدين ولا بد من عقابك. - مولاي، إن الله يقبل التوبة فوالله الذي خالفت أوامره والذي ما أشركت به يوما لو لم يمسك بي جنودك لكنت الآن في موقفي هذا منك أطلب العفو تائبا راجعا إلى الله. - وأي جديد قد ألم بك حتى تسلم نفسك بلا جنود؟ - عرفت طريقي إلى السعادة الحقة يا مولاي وقد كنت موشكا أن أسير فيه. - وما الذي منعك؟ - جنودك يا مولاي، توبتي أمامك الآن تخالها منبعثة من الخوف، والله لا يبعثها إلا خوفي من أن ألقى الله بلا توبة في الحياة. - إيه إياس، لا تخش هذا فإن الله يعلم ما في القلوب، وأما نحن فما نعرف غير الأعمال الظاهرة فإن قتلت الآن فالله سبحانه وتعالى سيقبل توبتك في الآخرة. - إنه سبحانه يقول إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، وإني يا مولاي أتوب الآن، وما كفرت بالله حتى أعود إلى الإيمان، وأما العمل الصالح فكل رجائي يا مولاي أن تتيح لي الفرصة أن أعمله. - ما أرى إلى ذلك سبيلا. - هيئ لي الحياة يا مولاي أعمل صالحا قبل لقاء ربي. - ألم تعمل في حياتك عملا صالحا؟ - لعلي يا مولاي عملت، ولكني أتبعت الحسنة بالسيئة والسيئات يا مولاي يذهبن الحسنات، مولاي هب لي الحياة، تهب للحياة إنسانا نادما على شر أو غل فيه، مقبلا على خير يهفو إليه. - وحياة الآمنين الذين روعت، وأموال المسافرين التي نهبت. - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا. - وماذا أقول أنا لربي إن لقيني عافيا عن مجرم، صافحا عن لص؟ - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا.
والتفت الأمير إلى حراسه يقول لهم: ألقوا به في السجن.
وألقي إياس إلى السجن ينتظر الحكم عليه، هكذا المصير! لم يجفل من السجن ولم يخف فقد كان يرى فيه إحدى نهايتين لطريقه الذي اختاره لنفسه من الحياة، كان يعلم أنه طريق لا بد أن ينتهي به إلى السجن أو إلى الموت. وقد كان السجن أقرب النهايتين وهو ذا فيه. ومن يدري لعله يؤدي به إلى الطريق الآخر، فيجمع النهايتين في واحدة والأمر لله من قبل ومن بعد.
هكذا كان يفكر إياس حين دخل السجان يحمل كيسا مليئا بالمال وسأله إياس: ماذا تريد؟ - امرأة تريد أن تلقاك. - تلقاني أنا؟ - نعم، لقد رفضت أن أدخلها إليك، ولكنها أعطتني هذا الكيس وبه مائة دينار، ولم أر في حياتي حجة مقنعة مثل هذا المال الذي أحمله الآن، مائة دينار يا سيدي، إنها ستلقاك، ستلقاك حتى وإن رفضت أنت أن تلقاها. - ومن هي؟ ما شأنها؟ ماذا تريد؟
ولم يلتفت إليه السجان بل قال للمرأة: ادخلي يا سيدتي، هذا هو طلبتك.
ودخلت المرأة محجبة لا يبين منها شيء، وما انحسر النقاب عن وجهها حتى عرفها إياس. - عاتكة! ماذا جاء بك إلى هنا؟ إني في السجن والعيون رواصد لو رآك أحد فأبلغ الأمير أو أبلغ أباك فماذا أنت قائلة؟ - وماذا يمكن أن أقول، أأسمع أنك سجين ولا أسارع إليك؟ فلست إذن بنت الكرام. - شكرا لله يا عاتكة. - قد جئتك بثياب وطعام، وجئتك بمال حتى لا تقف بك قلة المال أن تعطي السجان أو من تشاء.
ورأى إياس في عاتكة الرحمة التي لم ينلها من أمه، وهاجت إليها في نفسه نوازع لا يدري كنهها، أهي حب؟ ومن أين له أن يدري الحب ولذته؟ أهي إذن عواطفه نحو أمه لم تجد أما فجاشت إلى هذه الفتاة في ربيع العمر؟ ومن أين له أن يدري عواطف البنوة إلى الأمومة؟ فما هذه الصبوة التي ترقى في مشاعره وما هذا الخفق الذي يأخذ بقلبه، وما هذا العجز الذي يمسك بلسانه، أهكذا الحب؟ - لا تخف من أمرك شيئا يا إياس. - أنا لا أخفي شيئا. - هيه إياس، لعلك تريد أن تبوح لي بشيء. - هيهات، وكيف لي أن أبوح، وأنا بين يدي الغيب لا أدري ما يحمله لي في غده أموتا، أم عيشا الموت خير منه؟! هنا من وراء الحياة مع الحديد والقضبان، بماذا أبوح يا عاتكة؟! - قل ما بنفسك ودع الغد يأتي بما يشاء. - بربك يا عاتكة لا أطيق، إن قلت ما أريد فأنا بين اثنتين، إما أن تحبيني فلا والله لا أطيق العيش بعدها والقيد في قدمي لأطير إليك، وإما أن تمنعيني فترداد نفسي كرها لنفسي، ولا والله لا ألومك إن أنت أقصيتني عنك، وإني قاطع طريق، لص أضعت حياتي في رمال الصحراء. - بروحي أنت يا إياس، لا تقل شيئا، وعهد الله بيني وبينك لا أسمع منك شيئا إلا وأنت طليق.
وأخذت عاتكة سمتها إلى الأمير وكان وجهها مقربا إليه فما وقفت بالباب حتى أذن لها الأمير وبين يديه وقفت. - أيها الأمير، أحمل إليك توبة، وأنت ظل الله في الأرض فاقبل التوبة ترض الله. - توبة من؟ - توبة إياس. - وما شأنك به؟
وقصت عاتكة على الأمير ما كان من إياس حين هو في الصحراء وحين هو في السجن، كانت تروي قصتها وجسمها ينتفض من الألم، ولسانها يهدر وكأنها تروي لنفسها فما إن انتبهت إلى نفسها واقفة في رحاب الأمير وقد بلل الدمع لحيته. إلا وقد انتهت من قصتها، وأشرقت دموع الأمير في عين عاتكة فما تمالكت نفسها أن تصيح. - عفا والله الأمير.
وطلع القمر على زوجين يسيران إلى الكعبة المقدسة ، هناك حيث يخلص إياس من ماضيه ليستقبل حياة جديدة هو فيها وليد جديد، حياة فيها رحمة وفيها حنان، وفيها هوى.
على الطريق
منذ سنوات بعيدة في مشرق يوم يمر بالناس سريعا، كان يوم نفضت البيوت أبناءها إلى الشارع صغارا فهم أطفال تتردد الحروف في أفواههم قبل أن تصبح كلاما، أو صبيانا تعاني منهم الأمهات ما تعاني حتى يتعلموا لبس ثيابهم ويخرجوا إلى مدارسهم، أو شبابا يقفون أمام المرآة حتى لتكاد صورهم أن تنطبع على هذه المرآة، أو فتيات، منهن الجادات الحاسمات يرتدين ما يقرب من ملابس الرجال، ومنهن المعجبات بأنفسهن الجميلات يمشطن شعورهن لأمام تارة ثم لخلف تارة أو يعقصنه إلى يمين أو يلقين به إلى يسار، أو هن يجعلن منه ذيل حصان أو حمار، ثم ينتهي الأمر بالجميع من بنين وبنات، من شباب وفتيات، أن يلقفهم الطريق ليفضي بهم إلى حيث يجب أن يذهب كل منهم.
وقد كان اليوم هو افتتاح المدارس؛ فالطلبة عائدون إلى معاهدهم وقد غمرت نفوس الأكثرية فيهم سعادة غامرة، فهم عائدون إلى أصدقائهم وهم قد انتهوا من هذه البطالة التي استقبلوها أول الأمر فرحين مهللين والتي يودعونها اليوم فرحين مهللين فبين الطرفين من أشهر ثلاثة فراغ طويل، وضيق ثقيل، فهم حائرون مع الوقت لا يعرفون كيف يقطعونه فهو يقطعهم بالملل والضجر والحنين ولو إلى الدراسة فإن وسائل التسلية مهما كثرت لا تملأ فراغ الشباب، وهم ضجرون بهذا اليوم الذي قدر لهم فيه أن يلتقوا ثانية بمعادهم وتلك الوجوه التي لازمتهم سنين ثم هي بسبيلها إلى أن تلازمهم سنين أخر.
هكذا كان أبناء الجيل يجمعهم الأمل في المستقبل وتتفرق بهم مناحي التفكير إلى شتيت المشاعر!
ولكن فئة بعينها كانت مقبلة والفرح يغمر نفسها لا تجد بينها الحزين أو الآسف، الأمل يشتعل في عينها اشتعالا ولو انكشفت نفوسهم لأخذ عينيك منها شعاع حافل بالنور يرمي إلى المستقبل أضواءه، يود لو أن السنين تقاصرت أو انمحت فيقرب البعيد ويدنو القصي، كانت هذه الفئة هي الناجحة في شهادة البكالوريا والمقبلة على الجامعة أول إقبالها على الجامعة ذلك البناء الذي طالما مروا به فكان حافزهم إلى النجاح، وباعثهم إلى روح المذاكرة وأملهم الواضح القائم أمامهم لا يحجبه غيب ولا تستريبه الظنون.
أقبلت تلك الفئة لم يتأخر من أفرادها فرد وتجمعت زرافاتهم، كل أمام الكلية التي علق بها آماله وآمال أبويه معه.
وكانت كلية الحقوق مشجبا لأكثر الآمال؛ فالواقفون أمامها من حاملي شهادة الدراسة الثانوية كثيرون يخطئهم الإحصاء وتختلف في تعدادهم الآراء، حتى يخرج مسجل الكلية بالرأي الفصل والعدد الذي لا يقبل جدالا، وإن كان يقبل الزيادة على مر الأيام. ويذهب الطلبة إلى مدرجهم وتنتظم الدراسة وتنتهي الحصة، آسف، أقصد المحاضرة الأولى، ويسود الهرج والمرج ويتقرب الطلبة إلى الطالبات، وتعرض الطالبات عن الطلبة، وتأتي المحاضرة الثانية، وتتابع المحاضرات، ويمر اليوم الدراسي ويكاد اليوم الأول من الكلية يفوت دون أن يحدث فيه جديد، ونكاد لا نخرج بهذه القصة التي تعانيها الآن لولا أن شاء الله فيلتقي خارج المدرج طالب وطالبة ثم يشاء سبحانه أن تكون القصة.
ووقفا على محطة الترام فرحين أنهما زملاء، ولم يكونا من قبل زملاء ولم تجمعهما في يوم مدرسة واليوم جمعتهما غرفة مهما تكن كبيرة متسعة إلا أنها على أية حال غرفة، طال انتظارهما للترام، فحدثها فأجابت، فسخر من الأساتذة فضحكت، فانتقد إلقاءهم فأعجبت! فمدح بعضهم فوافقت، فسألها اسمها فقالت، فسألته اسمه وقال، فأصبح حمدي وهند صديقين منذ اليوم، وكان المنزلان متجاورين فالترام يحملهما في الصباح ويعود بهما في منتصف النهار أو أول الليل بعد الدراسة المسائية فهما على أية حال، متلازمان في الذهاب والعودة.
كانت صداقة، حتى كان يوم اعترض حمدي بعض الطلبة وسألوه أن ينتخب فلانا من الناس ليمثل السنة الأولى في مجلس الجامعة فقال: ولكني لا أعرفه. - ولماذا تعرفه؟ - لأنتخبه! - وهل لا بد أن تعرفه حتى تنتخبه؟ - إنني لا أفصل حلتي عند ترزي إلا بعد أن أعرف مهارته فكيف أضع ثقتي في شخص لا أعرفه؟! - يا أخي ما شأنك، سنحضر لك من حزبه جنيها، موافق ؟ - لولا أنكم زملاء لعرفت كيف أجيب، أما الآن فيكفي أن تعرفوا أنني لن أكلمكم بعد اليوم. - يا أخي اسمع الكلام، ماذا تظن أنك ستفعل بصوتك الذي ستعطيه. - أنا أعلم أنه لن يفعل شيئا للمرشح ولكنني أعرف أنني يجب أن أحترمه، وعلى كل حال لا تحدثوني في هذا الشأن مرة أخرى، بل ولا تحدثوني في أي شأن.
كان هذا النقاش على محطة الترام وكان حمدي ينتظر هندا، وكانت قد جاءت ولكنها لم تشأ أن تشعره بوجودها، حتى ينتهي من حديثه مع هؤلاء، ثم مرت الأيام فأكملت سنتين وحمدي كما هو يحترم نفسه، يعلو عن الصغار، يقتنع بالرأي فيدافع عنه أقوى ما يكون الدفاع، ويعارض رأيا فيحاربه أقسى ما تكون الحرب!
لم يكن حمدي جميلا، بل لعله كان أقرب إلى الدمامة، ولم يكن غنيا، بل هو إلى الفقر أقرب، فكانت هند لا تفكر فيه إلا قدر ما يفكر صديق في صديق آخر يعجب به ويشتد إعجابه على مر الأيام.
وفي يوم وجدت هند حمدي في حال من الاضطراب الشديد، فسألته، فلم يملك نفسه أن يجيب في حدة: آسف يا هند، لن أذهب معك اليوم إلى المنزل. - خير إن شاء الله يا حمدي؟! - كنت أود أن يكون خيرا، ولكن للأسف إنه الشر الذي ليس بعده شر. - الله، ماذا جرى يا حمدي، قل بالله ولا تخف. - لقد سرق فراش امتحانا من الامتحانات وباعه إلي. - وما يغضبك في هذا؟ - ما يغضبني في هذا يا هند؟! أنت التي تسألين؟! فراش يسرق سرا هو أقدس أسرار الكلية ويبيعه إلى التلاميذ بالثمن الفادح فينجح الغني ويسقط الفقير. - فلماذا اشتريته يا أخي؟ - حتى يكون في يدي الدليل. - أي دليل؟ - الدليل الذي أقدمه للأستاذ حتى يعرف أن الامتحان الذي وضعه قد سرق. - أتنوي أن تخبر الأستاذ؟ - الآن الساعة، في هذه اللحظة. - هل أنت مجنون؟ طريق النجاح أمامك وتقفله! - النجاح، أهذا نجاح؟ ذلك هو الفشل، النجاح أن نسعى ثم نصل، إن النجاح في العلم أن نحصله ونفهمه ونعبر عنه، أما أن نشتري الشهادة بالمال والمستقبل بالخديعة والغش، فذلك هو الفشل وذلك هو الزور الذي يلازمنا طول الحياة، إننا في الجامعة، والعلم الذي نحصله اليوم هو أداتنا في الغد فما نقول للمستحيل إذا وقفنا أمامه جهلاء، ومعنا الشهادة أغبياء ونحمل ألقابا؟ لا يا هند، أنا لا أنتظر منك هذا السؤال!
لم تستطع دمامة حمدي ولا فقره أن يقفا هذه المرة دون حبها لحمدي فأحبته، أحبت فيه مثلا من الرجولة لم تشهده قبل اليوم، وكان حبا! ومرت الأيام وتخرج حمدي، وتخرجت هند، وعند باب الجامعة التفتت هند إلى حمدي وقالت: إلى أين؟ - إلى أين أنت؟ - إلى الحياة. - وحيدة؟! - وحيدة. - الطريق طويل. - لا بد أن أقطعه. - قدماك لا تقويان. - ليس لي غيرهما. - وذراعك لا يطيل. - لا بد أن يعمل. - ألا تريدين ساعدا؟ - لا بد أن أعرفه. - ألا تعرفينني؟ - أعرفك. - أترضين بي عونا على الحياة، وصديقا إلى الأبد؟ - إنك صديقي. - أترضينني زوجا؟ - أرضاك ولكن ... - ولكن؟! - والداي. - اسألهما. - سيوافقان. - الحمد لله. - وتزوجا.
ومرت الأيام وضربت الأيدي الفتية في لجج الحياة وتغلبت عليها حينا وغلبت أحيانا، ثم أصبح للزوجين بنون، فانقطعت الأم عن المكتب ومكثت في البيت وواصل الأب جهاده، ولكن الزبائن قلة والأطفال لا يرحمون، والأصدقاء يشيرون على حمدي أن يستعين بسمسار ولكنه يأبى في ترفع ويشمخ في عنف، وهند ترى هذا فتزداد به إعجابا يمازجه الغيظ المكتوم، حتى إذا مرض طفل لهما ولم يجدا ثمنا للدواء لجأ حمدي إلى سمسار القضايا، يشاطره - وهو الجاهل - جهده وبحثه، وأحست هند بعض الراحة تمازجها غضبة من ذلك الرجل الذي تنازل لأول مرة في حياته عن عقيدة تمسك بها ورأي اقتنع به، ولكن الأمومة الملهوفة ما تلبث أن تغتفر، ويأتي المال، ويعرف سبيله إلى حمدي، وتأتي القضايا ويعرضها حمدي على هند فتراها خاسرة، ولكنها ترى حمدي يقبلها ليضمن مقدم الأتعاب ويزداد المال ولا تفكر العائلة في ثمن الدواء إذا مرض الطفل، بل وتأمن العائلة كل ما تأتي به السنون من أحداث، ولكن حمدي ما زال يعمل مع السمسار وما زال يقبل القضايا الخاسرة، ويلفق لها من وراء ضميره، بل إنه أصبح لا يطلع هندا على قضاياه ولكنها تقرؤها وترى أية هوة يتردى فيها حمدي.
ويل للأمهات! وويل للمال لقد أخذ منها زوجها، وهل كان زوجها إلا ضميرا ورجولة وشرفا، لم يكن زوجها وجها جميلا فهو دميم، ولم يكن مالا كثيرا؛ فقد كان فقيرا، لم يكن إلا هذه الأخلاق، ومن بين هذه القضايا رأت هند قضية ترفعها شركة كبرى، وسألت حمدي: لماذا أعطتك الشركة هذه القضية أليس لديها محام؟ - أرأيت شركة بغير محام؟ - إذن فلماذا تدافع عنها أنت؟ -لأني أصبحت محاميها. - ولماذا لم تخبرني؟ - لأني سأصبح محاميها إذا كسبت هذه القضية. - وأنت تعرف هذه القضية؟ - أجل أعرفها. - لا بد أن محامي الشركة رفض المرافعة فيها وقبلت أنت؟ - نعم. - وشرفك، وشرف المهنة؟ - شرف المهنة، لا شيء مقابل شرفي أنا. - وأين الشرف فيما تفعل؟! - إن هذا خير من أن أستجدي أموال الناس لأشتري الدواء لابني. - أتغالطني أنا يا حمدي؟! أنا أعرف رصيدك في البنك. - أنا لا أطيق هذا النقاش كل يوم. - أما أنا فلا أطيق هذا الانحدار كل يوم، لقد تزوجت فيك المثل الرفيعة، الشرف، الأمانة. - كل هذا تنازلت عنه، ولن أبقى بالمنزل لأسمع هذه الخطب الجوفاء.
يخرج ويغلق الباب خلفه، وتجلس هند وحدها، ماذا بقي لها من زوجها؟ ولماذا تبقى معه بعد اليوم، ماذا يربطها؟! ماذا تزوجت فيه؟ إنها يوم تزوجته، تزوجت أخلاقه ومثله، أما اليوم - وقد فقدها - فهي لا تجد فيه شيئا، اللهم إلا، نعم اللهم إلا أنه أبو أولادها، نعم هذه المخلوقات الصغيرة هي التي تربطها إلى زوجها، لا شيء إلا هذه المخلوقات، ولكن أتظل حياتها مع شخص تكرهه وتحتقره لأن أولادها يربطونها إليه، لا، لن تمكث، ولكنها إن تركته تكون قد جرت على أولادها هؤلاء جريمة تتضاءل أمامها جرائم حمدي جميعها، ليت هؤلاء الأولاد يموتون إذن حتى تتخلص من هذا الزواج الذي أصبح هباء، نعم ليتهم يموتون.
ثم تصحو هند من هذا التفكير العميق جازعة هالعة، لقد صرخ واحد من أولادها فهي تجري إليه في سرعة مجنونة. - ابني الحبيب، ماذا بك؟ لماذا تصرخ؟
حديث ولقاء
دق جرس التليفون في مكتب الأستاذ أحمد اسماعيل بالجريدة، وانبعث إلى أذنه صوت ناعم حلو. - الأستاذ أحمد؟ - نعم يا أفندم. - معجبة. - قديمة؟ - بل جديدة. - معجبة بماذا يا حسرة؟ - بجمالك. - وأين رأيتني؟ - ماذا أيها الفنان، هل لا بد أن أراك حتى أعجب بجمالك؟ - لا، فاتتني هذه، من الممكن أن تعجبي بجمالي على السمعة نسيت أن جمالي بعيد الصيت واسع الانتشار. - ويقولون فنان. - من هؤلاء الذين يقولون، أنا قلت؟ - كلهم يقولون إنك فنان. - لا عليك فاللغويون يقولون إن الفنان هو الحمار الوحشي، لعلهم يقصدون أنني فنان بهذا المعنى. - لا يا سيدى، لم يقدرك أحد إلى هذا الحد إنما هم يقصدون أنك فنان موهوب، لأغانيك الحلوة، أنا أعبد أغانيك. - وما لهذا ولجمالي؟ - إن هذا هو جمالك، لم تدرك هذا من أول لحظة أيها الفنان. - آه! يبدو لي أنك فنانة أنت أيضا. - وما له! يا ليتني كنت، إذن لالتقيت بك مباشرة وأبديت لك إعجابي وجها لوجه بدلا من هذا التليفون الذي يفصل بيننا. - أراه يصل بيننا. - أتكتفي أنت بهذا الوصل؟ - اسمعي، أنا لي أصدقاء كثيرون، كل همهم أن يوقعوا بي في ورطة مضحكة، وأنا يا بنت الناس كبرت على مسألة التليفون هذه، فإن كان أحدهم أغراك فقولي له استح. - آه، هذا ظنك، لماذا كل هذا الشك؟ أعجيب أن تعجب بك فتاة جميلة؟! - لا، ليس عجيبا أن تعجب بي فتاة، ولكن العجيب أن تكلمني في التليفون والأعجب أن تكون جميلة. - أنا لست جميلة. - لا يمكن أن تكوني جميلة. - لماذا؟ - لو كنت جميلة لما خفت من لقائي، ولما استترت مني بالتليفون. - ومن قال لك إني خائفة؟ - حديثك هذا، ولماذا لم تتيحي أن أراك بدلا من هذا الحديث؟ - أولا، أنا أجد في هذا الحديث لذة تفوق لذة اللقاء؛ فأنت حين تحدثني تتخيلني في صورة حلوة رقيقة، وأتخيلك أنا أيضا في صورة فنان رقيق أنيق متسق القسمات حلو الملامح، وتظل هذه الصورة في ذهن كل منا حتى نلتقي! فتتمدد الصورة التي في ذهنك حلاوة ورقة وعذوبة بخطوط جسمي، وينعدم الخيال، وأراك أنا فأرى شعر لحيتك وشاربك، ورباط رقبتك ولعله يكون قبيحا يوم نلتقي، ووجهك ولعلك تكون متعبا حين أراك. الحديث يطلق الخيال واللقاء يمدده، أنا أحب الحديث. - وأنا أحب اللقاء، لا شأن لك بالخيال. سأجد التغير الذي أتخيله عنك بعد اللقاء. - يبدو أنني أنا الفنانة وأنك أنت المعجب، كلامك واقعي، لا خيال فيه. - اسمعي يا ستي، الواقع أنني معجب بكلامك! وبخيالك! وكفى أقسم لك أنني أستطع أن أقرأ كلاما خيرا من هذا إن اقتصر الأمر بيننا على الكلام، الكلام يأخذ كامل بهائه حين نرى المتحدث، وما دمت لا أراك فأرجو ألا نسترسل في الحديث، هذا إلى جانب أنني هنا في مكتب العمل وأريد أن أفرغ للمواد المتراكمة أمامي. - أتريد أن تقطع الحديث؟ - ما دمت لا تريدين لقائي. - ومن قال لك أنني لا أريد؟ - أنت. - أبدا! أنا لم أقل، كل ما في الأمر أنني أحببت أن نتمتع بالحديث ما أمكننا ذلك ثم نلتقي. - ولكني أريد أن نتمتع باللقاء ما أمكن ذلك ثم نتحدث. - مستعجل أنت؟ - نعم. - فأين تريد أن تلقاني؟ - أنا أقعد عادة في لاباس منذ الرابعة من بعد الظهر. - وكيف ستعرفني؟ - إنك أنت التي ستعرفينني. في مجلة الإذاعة اليوم أحدث صورة لي، إنها أنا، إذا أعجبتك، فأنا ... البسي. - إنها ستعجبني لا شك. - بل في ذلك شك، إلى اللقاء. - إلى اللقاء.
وكان أحمد جالسا في مقعده المختار بمحل لاباس حين دلفت إلى المكان سيدة رائعة الجمال لم تتردد كثيرا قبل أن تقصد إليه وتجلس إلى النضد الذي اتخذه. - ماذا أقول صباح الخير أم مساء الخير؟
ولم يجد أحمد في التحية شيئا جميلا ولا لباقة، فقال لها في بعض دهشة: قولي ما شئت فإن جمالك غني عن أي تحية. - لا أفهم. - بل تفهمين وتريدين أن أزيد، ومن أجلك سأزيد، جمالك تحية من الله لكل من يلتقي بك، أنت وحدك تحية فلا حاجة بك إلى أن تقولي صباح الخير أو مساء الخير.
وضحكت الفتاة ضحكة جذابة وقالت: لا والله أنا قصدت أن أعرف منك الجواب على سؤالي، فنحن في وقت لا ندري أهو صباح أم مساء؟ - أما ترين أن الحديث عن الصباح والمساء قد طال بيننا وهو موضوع بدائي؟ - نعم أرى ذلك ولكن فيم تريد حديثنا؟! - لا أدري؟ فأنت التي طلبتني وأنت الحكم بما تريدين الحديث فيه. - قليلة هي المواضيع التي أستطيع الحديث فيها. - عجيبة! - وأين العجب؟ - أنت في التليفون كنت تخلقين الحديث خلقا وتسيرين به إلى الوجهة التي تريدين بلا تكلف ولا مشقة ولا عنت فأي جديد جد عليك فجعلك تعجزين حتى عن بدء موضوع الحديث؟!
وكانت ابتسامة تجاهد في الاستخفاء تلوح وتختفي على شفتي الفتاة، ورأى أحمد هذا الوميض من الابتسام فعجب له بعض الشيء، وهم أن يسألها عما أطلق هذه الابتسامة على شفتيها ولكنها عاجلته قائلة: التليفون شيء آخر. - يظهر أنك أنت شيء آخر.
وجزعت الفتاة جزعا أوشك أن تتضح معالمه على وجهها لولا حرصها الشديد وسألت: ماذا تقصد؟ - لا شيء. - حسنا، سأحدثك إذن ما دام لا بد من الحديث. لقد رأيت فيلم السماء الزرقاء وأعجبني جدا، هل أعجبك؟ - ما الذي أعجبك فيه؟ - الممثل؛ حلو، جميل جدا، عيناه، عيناه، عيناه، عجيبة من عجائب الزمن! - أكل ما أعجبك في الفيلم عينا الممثل، ألم تفكري في المؤلف الذي بذل أقصى جهده أياما وشهورا لتتمتعي أنت بساعة تشاهدين فيها الفيلم؟ ألم يعجبك المخرج الذي أراق جهده وأعصابه، ألم تفكري في هذا الممثل ذي، أكل ما في الفيلم عينا الممثل؟ - يا أخي لقد حيرتني! - اسمعي يا ستي، لا تحيريني ولا أحيرك، أنا سأنصرف وحدثيني في التليفون.
وقام أحمد عن المنضدة دون أن يلاحظ هذا الغيظ الذي على وجه الفتاة والذي لم تجاهد في إخفائه.
وقبل أن يستقر أحمد على كرسي مكتبه من بعد الظهر في اليوم ذاته دق جرس التليفون: - من؟ - أنا. - أهلا، أهلا. - أسمع في أهلا شوقا. - ولم لا؟ - عجيبة! كأنك لم تكن معي في الصباح. - أنا لم أكن معك في الصباح. - ألم نلتق في لاباس؟ - لم نلتق. لم تكوني أنت.
وارتبكت الفتاة هونا ثم قالت: كيف؟ - لا، لقد رأيت في لاباس فتاة جميلة كعرائس المولد، تحسن التخطيط والتزجيج وتضع الأحمر حيث يجب أن يوضع، وتضع الأسود حيث لا بد له أن يرتسم لكنها عاجزة لا تحسن شيئا آخر، عاجزة، لسانها ألكن وعقلها تافه، وأنت لست كذلك. - أتشتمني؟! أشكرك. - أنا أشتمك! ولكني أنفي عنك هذه التفاهة التي رأيتها، أتدرين لماذا رضيت أن ألقاك؟ - وبعد أن لاقيتني. - أتقسمين لي أنك أنت التي كنت في لاباس اليوم. - ... - أتقسمين؟ - لا، لا أقسم. - فلماذا أرسلت غيرك؟ - لأني ... - قولي، لماذا؟ - لأني أرى نفسي غير جميلة. - ومن أدراك؟! إن من لها عقلك هذا لا يمكن إلا أن تكون جميلة. - أتعلق الآن بخيط من الأمل واه ضعيف، وأخشى إن أنا لقيتك أن ينقطع أملي الأخير، أنا أريدك أن تحبني، وأخشى إن رأيتني أن تكرهني. - وماذا كنت تريدين أن تفعلي؟ - كنت سأجعل من صديقتي وجهي الذي ألقاك به، وأكتفي أن تلتقي عقولنا في التليفون. - بل لا بد أن ألقاهم جميعا، ألقى وجهك الذي يخفي جوهرة عقلك. لا تخافي شيئا؛ فالجمال المختفي وراء الوجوه أبقى على الزمان وأخلد نضارة من جمال الوجوه، لقد أحببت حديثك، وحديثك هو معالم عقلك؛ فلا تخشي ألا أعجب بوجهك، تعالي. - سأجيئ.
وفي اليوم التالي التقت الفتاة بأحمد، لم تكن جميلة، وكان الخوف الذي ظل وجهها قد جعلها إلى القبح أقرب، ولم يحادثها أحمد عن الجمال ولم تحادثه عنه بل سرعان ما جرى الحديث بينهما مرتقيا في سموات من الفكر والأدب والفن والفتاة تلاحقه حينا وتسبقه أحيانا، وبعد لحظات أخذت ظلال الخوف تنقشع عن وجهها رويدا رويدا لتجلو لأحمد وجها فيه بساطة وفيه رقة وفيه براءة وليس فيه جمال - وإن كان أحمد قد رأى فيه الجمال كل الجمال!
ولم يقم أحمد وحده ولا قامت وحدها، إنما تشابك ذراعاهما وسارا في الطريق فترة لاقت فترة، وروحا لاقت روحا، وقلبا لاقى قلبا.
ولم يعد التليفون يدق في مكتب أحمد كثيرا، اللهم إلا إذا أرادت زوجته أن يشتري لها شيئا قبل أن يعود إلى البيت، ماذا؟! ألم تفهم؟! لقد تزوجا.
وظيفة دائمة
(المنظر: غرفة الأستاذ مجدي السيد المحامي وهو يجلس فيها ومعه أحد الموكلين.)
الموكل :
أشكرك يا أستاذ على مجهودك.
مجدي :
لا شكر على واجب يا عم حسين.
الموكل :
مسألة الأتعاب يا أستاذ.
مجدي :
ألم تكلم فيها عبد الباري أفندي؟
الموكل :
كلمته فيها. يطلب كثيرا، قلت أكلم الأستاذ عسى الله أن يخفضها قرشين.
مجدي (وهو يدق الجرس) :
إن كانت الحكاية حكاية قرشين يا عم حسين فالمسألة بسيطة.
الموكل :
البركة فيك يا أستاذ. (يدخل عبد الباري وهو شاب نحيف ذو وجه قريب من المومياوات وفى أعلى رأسه بضع شعيرات يصر عبد الباري أن يلصقها بالصابون.)
عبد الباري :
طلبتني يا أستاذ.
مجدي :
خذ عم حسين معك وأرحه في الأتعاب.
عبد الباري :
إنه يا أستاذ يريد أن ...
مجدي :
عبد الباري، لا تطل، أنا لا أناقش الأتعاب، خذه معك وتفاهما.
عبد الباري :
ولكن يا أستاذ ...
مجدي :
من غير لكن.
عبد الباري :
أمرك يا أستاذ.
الموكل :
أطال الله عمرك يا أستاذ، ترفق بنا يا عم عبد الباري الدنيا غلاء.
عبد الباري (وهو يأخذ عم حسين إلى الخارج) :
يا عم حسين أنا عبد المأمور، تعال، تعال. (يخرجان. يلتفت مجدي إلى التليفون ويهم بإدارة القرص ولكن ما يكاد حتى يدخل عبد الباري مهرولا في فرح واضح.)
عبد الباري :
البك وكيل النيابة يا أستاذ!
مجدي :
أي وكيل نيابة؟
عبد الباري :
البك وكيل النيابة زميل سعادتك.
مجدي :
أيهم؟ لي زملاء كثيرون في النيابة.
عبد الباري :
أنا لا أعرف اسمه يا أستاذ، وإنما رأيته بالأمس في الجنايات وأنا أشاهد جلسة ال...
مجدي :
طيب، طيب انتهينا، سله عن اسمه وانتظر حتى أناديك.
عبد الباري :
والبك وكيل النياب...
مجدي :
ألم تسمع ما قلت؟!
عبد الباري :
سمعت يا أستاذ. (يخرج ويدير مجدي قرص التليفون.)
مجدي :
إلهام، ألم تخرجي بعد، ماذا قال الدكتور؟
مجدي :
طيب، وسمير نام؟
مجدي :
والحرارة انخفضت؟ طيب، أنا منتظرك بعد ساعة، لا تتأخري وحياتك. (يضع السماعة ويدق الجرس وبعد برهة يظهر عبد الباري.)
مجدي :
أعرفت اسم الزائر؟
عبد الباري :
والله، لم أجرؤ على السؤال.
مجدي :
كيف هذا؟
عبد الباري :
اسأل وكيل النيابة؟!
مجدي :
طيب قل له يتفضل.
عبد الباري (صائحا) :
يا حسن قل للبك يتفضل. (يلتفت للأستاذ)
عندنا قضية سينظرها هو.
مجدي :
اخرج.
عبد الباري :
حاضر. (يخرج عبد الباري وحين يرى وكيل النيابة داخلا ينحني وهو يزيد في فتح الباب.)
مجدي :
من! أهو أنت، شكري كيف حالك؟ وحشتني والله. أين كنت طول هذه المدة؟ آه! حقا لقد كنت في الصعيد. كلانا معذور إذن.
شكري :
كيف حالك يا أستاذ مجدي؟
مجدي (مندهشا) :
ماذا، يا أستاذ ماذا؟!
شكري :
أسأل عن حالك.
مجدي :
طيب، طيب، عرفت أنك وكيل نيابة فلا لزوم لهذه الكلفة.
شكري :
آه، لا يا صديقي أنا لا أستطيع أن أفعل كما كنت فإن زمن التهريج قد انقضى.
مجدي (وكأنما لا يكلم شكري) :
عجيبة!
شكري :
عجيبة؟!
مجدي :
إننا نعرف الوقار الذي يصاب به الموظفون بعد التعيين، وهو من النوع الذي لا يدوم طويلا ولكن يظهر أن إصابتك كانت شديدة، بعض الشيء.
شكري :
لا يا أستاذ مجدي إنما يجب أن يضع الإنسان نفسه في موضعه الصحيح.
مجدي :
وما موضعك الصحيح؟
شكري :
أنا وكيل نيابة.
مجدي :
تهنئاتي الحارة.
شكري :
أما زلت تمزح! أهذا جزائي لأنني جئت إليك؟
مجدي :
وكيف جئت؟
شكري :
قرأت اللافتة بالأمس فعزمت على زيارتك، وقد أخبرتهم الآن في المحكمة إنني سأكون عندك وجئت أزورك.
مجدي :
شرف عظيم.
شكري :
أتهزل؟!
مجدي :
لقد حرت معك يا شكري، إن كلمتك كما كنت أكلمك في عهدنا الأول قلت لي يا أستاذ مجدي، وإن بجلتك واحترمتك قلت إنني أهزل!
شكري :
يظهر أنك لا تفهم الأمر، افرض أنك جئت غدا مع متهم في قضية أحققها.
مجدي :
فرضنا، وما البأس؟!
شكري :
ما موقفي أنا؟
مجدي :
أأنت هنا الآن في قضية تحققها؟!
شكري :
لا ولكن.
مجدي :
هل في المكتب متهم ؟!
شكري :
انتظر علي.
مجدي :
ماذا أنتظر؟ هل هنا النيابة؟
شكري :
يجب أن أحترم نفسي في كل مكان.
مجدي :
أي احترام ذاك! أأنت في بيتك هكذا، أيناديك أخوك بيا أستاذ شكري! عفوا أقصد بيا شكري بك؟!
شكري :
الأمر مختلف.
مجدي :
افرض أن أخاك محام، ماذا تفعل؟
شكري :
حينئذ أمتنع عن نظر القضية التي يوكل فيها.
مجدي :
طيب هذا لأنه أخوك، ولكن أصدقاءك وزملاءك لو امتنعت عن كل قضية يوكلون فيها فإنك لن تحقق في قضايا أبدا!
شكري :
ولكن يجب أن أحافظ على كرامتي.
مجدي :
وهل أهان أحد كرامتك؟! إذا ناديتك باسمك أهنت كرامتك، اسمع يا شكري إن بيننا صلة هي الشهادة التي أحملها أنا وتحملها أنت، أما كرامتك فالمحافظة عليها تكون بالبعد عن مواطن الريبة والارتفاع بمستوى أخلاقك تلك هي الكرامة يا صديقي.
شكري :
وممن؟! (يدق جرس التليفون ويرفع مجدي السماعة.)
مجدي :
نعم، مكتب الأستاذ مجدي، شكري بك! لحظة (يلتفت إلى الأستاذ شكري)
التليفون يطلبك.
شكري :
آلو، أنا شكري، ماذا؟! الوزارة سقطت ومن أدراك؟ ...
شكري :
ومن الذي سيؤلف الوزارة؟ الحزب الآخر؟ (يضع السماعة في يأس.)
مجدي :
ماذا، أكنت مرشحا للوزارة؟!
شكري :
أرجوك يا مجدي.
مجدي :
ما أهمية سقوط الوزارة بالنسبة إليك، ما الذي يجعلهم يطلبونك في غير مكتبك ليبلغوك الخبر؟
شكري :
الوزير، الوزير الذي بها.
مجدي :
أي وزير؟
شكري :
الوزير الذي كان سيشفع لي.
مجدي :
أي وزير وأية شفاعة؟
شكري :
لقد طلب إلي النائب العام أن أستقيل لأن هناك إشاعات تتناولني عنده بسوء، ولي وزير في الوزارة، أقصد كان لي قريب وزيرا في الوزارة رجوته فوعدني خيرا.
مجدي :
وبعد.
شكري :
وهل فيها بعد؟! استقالت الوزارة، استقالت يا أستاذ، يا مجدي ليس هناك أمل.
مجدي :
هون عليك يا شكري، هونها تهن، هذه الإشاعات كانت خطيرة؟!
شكري :
بعض العلاقات والإشاعات كانت في حدود ضيقة يكتفي فيها بالنقل، لكن ...
مجدي :
لا تدافع أمامي، ما دامت الإشاعات كانت في حدود ضيقة فسمعتك ما زالت شريفة.
شكري :
مجدي، أتقبلني عندك في المكتب؟
مجدي :
ماذا تقول يا شكري؟
شكري :
هل في هذا غرابة؟! أعمل معك بالأجر؟
مجدي :
لا يا شكري أما هذا فلا أقبله.
شكري :
أترفض طلبي وأنا في هذه الحال؟
مجدي :
طبعا أرفض يا أخي، إنك زميلي ولن تكون إلا زميلي دائما، سوف تكون شريكي في جميع أرباح المكتب سواء في القضايا التي تتولاها أو في غيرها.
شكري :
ليس عندي الآن ما يكفي لمشاركتك مصاريف المكتب.
مجدي :
وأنا على استعداد لقبولها عندما تتوافر لديك.
شكري :
سبحان الله!
مجدي :
ماذا يا شكري؟
شكري :
كنت أظن أن الوظيفة التي شغلتها هي كل شيء! ظننتها الوظيفة الدائمة الباقية وإذا الله يكشف لي في لحظة أن هناك وظيفة أدوم وأبقى.
مجدي :
أي وظيفة تلك؟
شكري :
الصداقة، من استطاع أن يحافظ عليها فقد استطاع أن يحافظ على الشيء الدائم في الحياة، أسأت إليك فأحسنت وتكبرت فكنت أخي الأكبر. (يدق جرس التليفون فيرفع مجدي السماعة.)
مجدي :
نعم، شكري بك سيكلمك.
شكري :
آلو، ماذا، لم تستقل، حسنا، اسمع اكتب خطاب استقالة بالصيغة المعتادة على ورق رسمي وأحضرها إلي هنا، أتعرف العنوان؟ أسرع، لا شأن لك، فقط أسرع.
مجدي :
انتظر.
شكري (يضع السماعة) :
ماذا أنتظر رجعت في كلامك؟
مجدي :
لا، ولكن ...
شكري :
إن شعوري بأخوتك وتجربتي في هذه اللحظة البسيطة تساوي وظائف العالم أجمع، لا يا عم لن أرجع إليها، لن أرجع إليها أبدا. (يعانقه ويدخل عبد الباري فيجدهما متعانقين فيظهر السرور على وجهه.)
عبد الباري :
الست حرم سعاتك.
مجدي :
دعها تتفضل، واسمع يا عبد الباري، اجعل الخطاط يكتب لافتة باسم الأستاذ محمد شكري المحامي وعلقها على الباب.
عبد الباري (في حزن شديد) :
ماذا؟ من؟ البك وكيل النيابة؟
مجدي :
افعل ما قلت لك.
عبد الباري :
أمرك، ولكن، القضية!
مجدي :
اخرج.
عبد الباري :
حاضر.
شكري :
أية قضية؟!
مجدي :
سأقصها عليك فيما بعد. (تدخل زوجة مجدي.)
شكري (مسلما) :
محمد شكري وكيل النيابة، أقصد المحامي.
مجدي (ضاحكا) :
أهلا إلهام، هذا زميلي الأستاذ شكري.
إلهام :
أهلا بالأستاذ.
مجدي :
لقد قبل الأستاذ شكري بعد إلحاح أن يترك وظيفته كوكيل للنائب العام ويشاركني في المكتب فتخيري مكانا، نتعشى فيه الليلة احتفالا بهذه المناسبة.
إلهام :
وهل هناك أحسن من البيت؟!
مجدي :
وهو كذلك، إلى البيت إذن، إلى البيت يا زميلي العزيز. (تسبقهم إلهام في الخروج.)
شكري (في عينيه نظرة شكر عميقة) :
ألف شكر.
مجدي (رافعا سبابته إلى فمه) :
اسكت.
وأنا ... ما ذنبي
لا، لست فقيرا، فلو كنت فقيرا فلعلي كنت أسكت أو أرضى بما كتب لي. ولست جاهلا، فلو كنت جاهلا لما أحسست بهذا البلاء الذي قدر لي، ولا أنا أبله أو مجنون ولا ضعيف أو قبيح الوجه، لا لست واحدا من هؤلاء جميعا، إنه عيب واحد الذي أعرفه في نفسي، لم أصنعه، ولا يد لي فيه ولو كنت أعرف طريقة للتغلب عليه لبادرت إلى اتباعها، ولكن ليست هناك طريقة، عيب واحد أعرفه في نفسي، هو أمي، نعم أمي، ماذا أصنع؟! هل أنا الذي اخترتها، أو أنا صنعت بها ما هي عليه، لا، لقد تم صنعها منذ زمن بعيد، صنعها أبوها، أو صنعتها أمها، أو صنعت هي نفسها، لا أدري ولكني أدري أنني لم أصنعها! وأدري أيضا أنني لم أخترها لتكون أمي، بل إن أبي هو الذي اختارها من بين نساء العالمين لتكون أما لأبنائه، ثم وجدت نفسي واحدا من هؤلاء الأبناء.
لن أنالها بشر ولن أذكر عنها أي سوء فهي تحبني، ولا شر بها أو سوء إلا أنها تحبني غاية الحب، وحبها من نوع عجيب أوقع بي إلى ما أنا فيه اليوم!
إنها تحبني حبا عارما مجنونا، لا تطيق عني بعدا، وهي منذ أول ما وعيت لا تطيق أن أصنع بيدي شيئا، وإن أعجب ما أعجب له أنني نجحت ونلت الشهادة العالية برغم هذا التدليل الذي كانت تسكبه هي سكبا فياضا بلا تفكير، ومنذ ذلك الوعي الأول - رأيت لها صديقة لا تفارقها في نهار ولا ليل حتى تقتضي الضرورة الملحة، أو تفترقا لترى كل منهما شأن بيتها ثم تعودان لا تفترقان. ومنذ ذلك الوعي الأول رأيت لهذه الصديقة ابنة أكبرها بسنوات قلائل، وقد كانت الابنة ترافق أمها في زياراتها، محمولة على الأكتاف في أول أمرها، ثم ساعية بخطوات متعثرة، أذكر أنني كنت أضحك منها، ثم استقامت خطواتها وأصبحت عربيدة لا يقر لها قرار.
وكنت في ذلك أشكر نفسي أن ألهو مع الطفلة، ولا أرضى لنفسي أن تشاركني في لهوي ولكني كنت أراها دائما فلا أجد لرؤيتها صدى في نفسي غير أنها كانت تتعثر في خطاها وكنت أضحك من تعثرها.
ودار الزمان دورته وأصبحت الابنة المتعثرة الخطوات فتاة ريانة الصورة! فيها جمال لا يبهرك في النظرة الأولى ولكنك تدركه مع طول التأمل، ومع بعض التفكير، وهي مؤدبة حسنة الحديث إذا تحدثت، لا يروعك منها خيال جامح، أو فكر متوثب، وإنما هي عقلية أكثرت من القراءة وأحسنت فهم ما قرأته، كانت هكذا سامية.
وحتى أصبحت هكذا كنت أنا قد انتهيت من دراستي وخلفت ورائي الجامع لأستقبل الحياة. ولكن الحياة لم تشأ أن تستقبلني وحدي، أو أن أمي لم تفك قيودي وتطلقني لأستقبل الحياة وحدي بلا رباط يربطني بها. ففوجئت بها يوما وأنا أهم بالخروج. - انتظر يا سميح فإني أريد أن أكلمك في أمر مهم.
وقعدت بجوارها. - نعم. - أنت - الحمد لله - كبرت وأريد أن أفرح بك. - تقصدين الزواج؟! - نعم. - يا أمي ولماذا العجلة، إني لم أكد أنتهي من الكلية وأريد أن أستريح قليلا.
وابتسمت أمي وهي تقول: وهل الزواج تعب؟! - أريد أن أجد وظيفة أولا وتستقر أموري ثم أتزوج. - لا شأن لك بأمورك سأعطيك كل ما تحتاج إليه. - نعم يا أمي ولكنك لا تعرفين لذة المال الذي يكسبه الإنسان بعمله. - ما هذا الكلام الفارغ؟! - أهذا الكلام فارغ؟! - طبعا، ابحث لك عن حاجة أخرى. - أمرك يا أمي، إذا وجدت فتاة تعجبني قلت لك لتخطبيها لي. - ولكنك خطبت فعلا. - أنا؟ - نعم أنت. - وذعرت أن يكون كلامها جادا لا مزاح فيه، ولو أني استبعدت أن يكون كذلك فاغتصبت ضحكة منعها من الانطلاق بقية خوف ما زالت تتردد في نفسي. - متى كان ذلك يا أمي؟! أنا خطبت !
أنا يا أمي؟! - نعم أنت. - أجادة أنت؟ - كل الجد. - كيف يا أمي؟! - خطبت لك. - كيف خطبت لي؟! - وما لي لا أفعل، لقد كنت أعمل كل شيء لك، ألا تسمح لي أن أخطب لك! - شريكة حياتي؟! المرأة التي سأقضي معها العمر كله! ألا اختارها؟! لقد صنعت لي كل شيء ولكنك تسمحين لي أن أختار رباط رقبتي وقميصي وحلتي، ألا تسمحين لي أن أختار زوجتي؟! - لقد اخترتها وانتهى الأمر. - تقولين إنك خطبت لي وأنا في الخامسة من عمري ولا بد أن أهل خطيبتي اعتبروا كلامك هزلا ونسوا ما كان. - أنت واهم فقد ظللت أجود خطبتك كل يوم منذ أنت في الخامسة من عمرك حتى اليوم، خمسة عشر عاما وأنا أذكر الخطبة بخطبة جديدة، وتريد أنت أن تهدم هذا جميعه؟! - أهدم ماذا؟ ما شأني أنا؟!
إنها ليست خطيبتي، أنا لم أخترها، لقد اخترتها أنت فتزوجيها أنت. - أنصت، إنها فتاة من أجمل الفتيات وأبوها غني واسع الغنى، وأمها غنية هي الأخرى وليس لها إلا هي، فأنت بذلك ستأمن على مستقبلك ومستقبل أولادك. - إذا كان المستقبل هو غنى أبيها وغنى أمها فهو مضمون لا شك، وما المستقبل إن لم يكن المال؟! - المستقبل هو الحياة جميعها، المال جزء فيها ولكنه جزء لا يزيد، من هي هل أحبها أم لا؟ هل تتوافق روحانا، هل؟ - لا تخرف، إنها سامية بنت عديلة وأنت تعرفها وستتزوجها. - لا لن أفعل. - بل ستتزوجها، وعليك أن تختار بين الزواج بها أو الافتراق عني إلى الأبد. - عنك أنت؟! - عني أنا، فلو أن أصبعي هذا عصى أمري قطعته. - نعم، أعرفك إنك تفعلين هذا. - ستتزوجها إذن. - أتزوجها.
وتزوجتها، مسكينة، لو أنني أنا الذي اخترتها، لو أنني الذي خطبتها لعشنا معا في أهنأ حياة، ولكني لم أخطبها ولم أخترها وإنما تزوجتها. كنت أرى فيها أمر أمي وتهديدها وعسفها بي وظلمها لي، كنت أرى فيها حرماني من أن أختار أنا شريكة حياتي، كنت أرى فيها جانبا مظلما من جوانب شبابي، جانب اختياري أنا لزوجتي، فقدت هذه المتعة ففقدت إشراقة من إشراقات الشباب الكبرى، ثم أصبحت زوجا دون أن تصحب زواجي ذكريات من نظرة التقت بأخرى، أو ابتسامة أو تفكير. وويل للشباب يمضي دون أن يصحب معه ذكريات! ذكريات الحب والاستخفاء والتفكير فيمن يحب، وفي هذا تحبني هي أيضا، لا ذكريات لي، أنا زوج بلا ذكريات، إن زواجي حتما لا يحمل معه تلك الذكريات المادية المعروفة، لم أقصد إلى أمي لأقول لها في خجل فرحان «أريد أن أخطب فلانة» لم تقصد هي إلى العروس، لأنتظرها بما تحمل من أخبار، لم أر أبي يفكر بعض الشيء ويتردد بعض الحين ثم يقول: ألا ترى أنك متعجل بعض الشيء؟! على كل حال مبروك، لا، لم يتردد أبي؛ فقد كان أبي لا يتردد في أمر تصدره أمي، لا ذكريات لي من الزواج إلا أمران: تزوجت إلا أنني وجدت نفسي زوجا، زوجا لفتاة لا عيب فيها إلا أنها تمثل أمرا مفروضا علي أن أنفذه لا ذنب لها وأعرف ذلك، ولكني أنا أيضا ما ذنبي، أصبح البيت جحيما لي وأنا الشاب في ريعان العمر وهي الفتاة في إشراقة الشباب، أنا هنا في الحان مع صديقتي التي اخترتها أنا، والتي استخفى بها والتي أحقق بها ما حرمتني أمي من تحقيقه.
أنا هنا في الحان ألجأ إليه بعد عمل، لا أرى زوجتي ولا تراني إلا مخمورا في آخر الليل، إن كانت في آخر الليل صاحية، أو مصدوعا في أول النهار، إن كانت في أول النهار خالية.
مسكينة سامية، لقد كانت جديرة بزوج رائع، بل لقد كانت جديرة بأن أحبها أنا لو أنني أنا الذي اخترتها، ولكن أمها وأمي دبرتا المؤامرة فقضت علينا أن نحيا حياة؛ الموت خير منها.
لقد فكرت أمها وأمي في أن يتروج الابن من الابنة ولم تفكر منهما في الابن أو الابنة، إنها رغبة اشتعلت في نفس كل منهما فكنا نحن وقودها وكانت حياتنا الحريق.
أنا هنا في الحان أشرب مع صديقتي، وزوجتي بالبيت لا أدري ماذا تفعل؟! أعلم أنها مسكينة لا ذنب لها ، ولكن أنا، ما ذنبي؟!
هو الله
كانت معربدة مجنونة في رأس عالم يجب أن تكتب له الشهرة، ويصعد إلى قمة المجد ولم يسكت العالم عن التفكير وإنما أخذ يذيع بين إخوانه العلماء هذه الفكرة التي سيطرت عليه، وأراد العلماء الناشئون أن تكتب أسماؤهم كمساعدين لذلك العالم الكبير فيقفزون بذلك سلالم كثيرة إلى سماء المجد الذي يحلمون به.
كانت الفكرة عجيبة! فهو يريد أن يصنع الآدميين خارج الأرحام ولكن، ما الروح؟ هو يعلم أن الجسم متكون من خلايا، وهو يعلم عمل كل خلية في كل جزء من أجزاء هذا الجسم، بل إنه يعلم ما تكون هذه الخلية، ولكن كيف تسير، وكيف تؤدي المهمة التي ألقتها عليها الحياة؟ لم يكن يعرف، ما هي الروح وكيف يستطيع الإنسان أن يحيا، ويسعى، ويشعر ويحس ويتكلم، ويفهم، ويفرح، ويحزن، كيف؟ لم يكن يعرف! وهل إذا وضع العناصر التي يتكون منها الجسم بعضها إلى بعض تنتج تلك المعجزة الضخمة التي حيرت العقول؟! كان يعلم أن وضع هذه العناصر وخلطها لن يؤدي به إلا الفشل الحاسم السريع.
وعجب العالم من هؤلاء الذين ينكرون الله! كيف ينكرونه وينكرون معجزاته وهم في أنفسهم معجزات لم يصل أحد إلى إدراك كنهها بعد؟! وهداه عجبه هذا أن يحاول بعض الناس أن يثنيه عن فكرته جميعا؛ فالنسل في ازدياد والمشكلة تحل بالإقلال منه لا بالزيادة، ولكن العالم ركب رأسه وأراد أن يثبت عبقريته.
وأصبح تفكيره منحصرا في أن يهيئ في قوارير زجاجية جوا مماثلا لجو الأرحام يضع فيه الحيوانات الإنسانية تسعة أشهر ثم تكون الولادة.
واستمر في تجربته تلك السنين، ومساعدوه من حوله ينتظرون وفي كل مرة يرى سببا لفشل التجربة، فيزيله، وتمر الأعوام والأرحام الزجاجية عاقر ما تزال، لا تهب البنين ولا البنات.
ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يسخر من هذه الحشرة المتعالمة فأمر وقال للقارورة كوني فكانت.
وكانت التجربة تجرى على قارورتين فأخرجت إحداهما ولدا ذكرا وأخرجت الأخرى الأنثى.
وفرح صاحب الفكرة وأذاع في العالم نجاح تجربته وارتقى إلى سماء المجد في لحظة واحدة، لحظة أن بكى الطفل وبكت الطفلة.
وتسلق العلماء الصغار حبال المجد التي علقها كبيرهم، واطمأنوا نفسا وقروا عينا، لقد نجحوا في أكبر تجربة عرفها التاريخ وأرادوا أن ينسوا لحظهم أنهم لم ينشئوا إنشاء وإنما هيئوا جوا، وتركهم ربك في غيهم يمرحون.
ولكن شيئا واحدا كان يعكر على العالم الظافر فرحته المجنونة، ذلك أنه كان حين يضع سماعته على موضع القلب من الطفل أو الطفلة لا يسمع تلك الدقات المنتظمة التي يجب أن يسمعها، وإنما كان يسمع هديرا كهدير البحر الصاخب، ويحاول أن يجد لذلك من العلم تعليلا ولكن هيهات! فسكت عن الأمر وحبسه حتى عن مساعديه لينال المجد كاملا، والتهنئات خالصة، حتى إذا خفت صوت المجد وهدأ صخب الناس، وفرغ إلى معمله مرة أخرى بعد ضجيج الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما همس إلى مساعده الأول بتلك الظاهرة التي تطالعه من هذين المخلوقين، وحمل المساعد هذا السر في إحساس بالخطورة وشعور بالرهبة واقترح على أستاذه أن يضعا الطفلين تحت الأشعة.
وفي تكتم شديد أعدت أجهزة الأشعة ووضع قلبا الطفلين موضع البحث، ولكن ما هذا؟ نظر العالمان كل إلى الآخر نظرة ملؤها الدهشة والذهول ثم نظرا مرة أخرى إلى تلك الصورة التي ظهرت لهما في الأشعة، لكم سخر الإله منهما، إن الطفلين بغير قلب، لقد شاء الله أن تقوم الشرايين مباشرة بدون القلب، ومحا القلب من أولاد القوارير، إن حب الأمومة والرحمة التي يفيض بهما قلب الأم هي التي تضع القلب في الطفل في رحم الأم، أما الزجاج البارد الأخرس فهيهات أن يهب القلب! لقد استطاع العالم أن يجعل جوه مثل جو الرحم، ولكنه لم يستطع أن يجعل فيه رحمة الأمومة.
كتم العالمان الخبر عن الناس فقاما على الطفلين يهيئان لهما الغذاء الأمثل حتى درج الطفلان وتعلما الكلام وفهماه، ثم ذهبا إلى المدرسة وهناك سمعا إخوانهما يتكلمون عن أمهاتهم فتعجبوا! ما معنى هذه الكلمة؟ ما الذي تهدف إليه؟ سألا العالمين في المنزل فشرحا لهما الأمر فتعلماه، درساه كدروس المدرسة في الجغرافيا والتاريخ ولكنهما لم يحسا به.
وحين علم إخوانهما أن لا أم لهما، أخذهم العجب، بل إن الأساتذة أنفسهم قد عجبوا من أمرهما، فهم قد سمعوا أن شخصا يولد فلا يعرف أباه، وأمه! وسمع الطفلان فيما سمعا أن شيئا في الحياة اسمه الرحمة، وبآخر اسمه الحب، وآخر اسمه الحنان، وآخر اسمه الفرح، وآخر اسمه الحزن، وآخر اسمه السعادة، وآخر اسمه الشقاء، سمعا هذا جميعه وألحت هذه الألفاظ على أسماعهما، فإذا سألا قائلها عن معناها حار كيف يصفها، ثم لا يجد مخرجا من حيرته إلا أن يقول هذه الأشياء لا يعرفها الناس في الألفاظ وإنما هي إحساسات تضطرب بها النفس، إحساسات؟! ما معنى هذه الكلمة أيضا؟! وهكذا لا يجد الطفلان أحدا يسألانه إلا العالمين بالمنزل؛ فيحاول العالمان أن يترجما لهما ويحاولان أن يضعا التعاريف مثل تلك التي يعرفون بها النظريات العلمية ولكن هيهات أن يفهم الطفلان، ولا يستطيع العالمان الكبيران أن يفهماهما، ولا يجدان أخيرا شيئا يقولانه إلا أنه إحساسات وتزداد حيرة الطفلين ولكن قليلا ما تمكث هذه الحيرة.
إلا أن اسما معينا كان يسمعانه كثيرا فلا يفهمانه مثل كل ما لا يفهمانه، الله! إنهما يسألان العالمين عنه فيقولان الله الذي خلق كل شيء، وخلقنا. - وخلقكما. - فلماذا يحمده من تصيبه سيارة في الطريق ولماذا يحمده من ينال مالا كثيرا.
هو نفسه الله يحمدونه عندما يقع لهم ما يسمونه حزنا، ويحمدونه عندما يتم لهم ما يسمونه فرحا. - لأن الناس يؤمنون به. - يؤمنون! كيف يؤمنون؟! - يؤمنون به أن يهبهم الصبر عند المصيبة، ثم هم يشكرونه عند الفرح.
ويسمع ولدا القوارير هذا الكلام فيضعانه من عقليهما حيث يضعان كل ما لم يفهماه من قبل، إلا أن ذلك ترك فيهما غصة، ولكن العالمين يضطران آخر الأمر أن يشرحا لهما إنهما مختلفان عن الناس جميعا، ويرويان لهما كيف جاءا إلى هذه الدنيا فلا يصيب هذا من نفسيهما شيئا ولا يفسر لهما شيئا.
وتمر الأعوام ويبلغ الطفلان مطالع الشباب الأولى فتتحكم النزوة فيهما، نزوة لا تتحكم فيها عاطفة ولا شعور ويخشى العالمان على مصيرهما فيزوجان الفتاة من الفتى، ويقيمان المراسيم الدينية ولكن الفتاة والفتى لا يفهمان من هذه المراسيم شيئا وإنما يفهمان أنهما سيتزوجان، ويفهمان هذا المعنى مجردا عن كل روحية فيه، لقد سمعا أن الناس فيما بينهم يتحابون ثم يتزوجون ولكن ما هو الحب؟ لم يعرف واحد منهما إنما قد عرف الرغبة، فكان الزواج، ثم كان لهما أطفال وكان الأطفال يموتون الواحد تلو الآخر فلا يحسان لذلك ألما ولا حزنا إنما هو شيء جاء فما فرحوا به ثم ذهب فما حزنوا عليه، ويريان الناس من حولهما يحزنون ويريانهم يدمعون ويبكون لمصابهما فيعجبان من الناس.
وتمر الصور أمامهما كثيرة متلاحقة فهما يريان الناس تفرح وتحزن وتغضب وتنبسط وتتألم وتصح وتشقى وتسعد ويريان الحياة أمامهما تضطرب وتموج بهذه الإحساسات والمشاعر، وهما عنها بمنأى، بعيدان عن كل ما تزخر به فيثب خاطر واحد إلى رأس كليها فما يلبثان أن يذهبا للعالمين فيقول الفتى: قلتما لنا أنتما اللذان سعيتما لمجيئنا في هذا العالم. - نعم. - فنحن نريد أن تخرجانا منه كما أدخلتمانا فيه. - ولماذا؟! - لأننا نعيش فيه ولا نحبه لأننا نأكل كما يأكل الناس، ونشرب كما يشربون ونتعاشر كما يتعاشرون ولكننا لا نحس كما يحسون، إننا مشتاقان إلى الإيمان، إلى السعادة، إلى الشقاء، إلى الألم، إلى الفرح، إلى الحزن، إلى كل هذا الذي نراه يضطرب في إحساس الناس ولا يضطرب في أجسامنا، لأننا لا إحساس لنا. نريد أن نموت، ليس هذا العالم لنا، إننا هنا غلطة، إننا هنا سخرية، لقد أراد الله أن يسخر منكما فكنا نحن، ألم تقولا إنكما حاولتما أن تصنعا مثلنا فما أفلحتما؟ نحن سخرية العالم منكما، ألم تقولا إن من يموت يختاره الله إلى جواره؟ نريد أن نذهب إلى هذا الجوار فهناك سيعطينا الله ما حرمنا منه هنا.
ويقول أكبر العالمين: ولكننا لا نستطيع، إن موتكما ليس من عملنا. - ولماذا؟! إن الذين تقولون عنهم إنهم مجرمون يقتلون في كل يوم فاقتلانا مثلما يفعلون. - إننا لسنا مجرمين. - بل أنتما أشد إجراما منهم، ألم تفكرا حين قمتما بتجربتكما، أي شيء هذا الذي تفعلان وتزعمان أن لكما قلوبا، وتزعمان أن لكما إحساسا، إننا نحن - ونحن بلا قلب ولا إحساس - نفكر في العواقب، أما أنت أيها العالم العبقري فلم تفكر في مصير إنسان ليس بإنسان؟ لقد أراد الله أن يسخر منك فكنا نحن، فاقتلانا. - لا نستطيع. - إذن نقتلكما نحن.
وأخرج الفتى من جيبه سكينا وأراد أن يطعن به العالم الكبير ولكن كان يعرف ما ينتويان، فسرعان ما يخرج غدارته وسرعان ما يسقط ولدا القوارير صريعين مضرجين بدماء هي في أصلها تنتسب للإنسان وإن كانت قد ربيت في بيت من زجاج ليس فيه من الإنسانية عرق، وتمت كلمة ربك واختار الفتى والفتاة إلى جواره وتكسرت القوارير، فالرحم وحده هو الذي اختاره الله ليخرج منه الحياة، والروح - قبل - من عنده سبحانه، هو الله.
سماء ولا أرض
تأهبت الجيوش لحرب، ولم يطمئن الملك إلى قواده؛ فهو يشرف على كل شأن. ولا حديث له إلا الجيش وما اكتمل من عدده، وعتاده، والمدينة قائمة لا تعرف قرارا، والناس مضطربون، فمن لا يذهب منهم سيقدم ابنه أو أخاه أو أباه، يدفعون ضريبة الدم للوطن والدين، والألسنة كلها تدور في أفواه أصحابها لا حديث لها إلا هذه الحرب، والأعين كلها هالعة، خائفة، فهي تتجه إلى السماء داعية في خضوع، راجية في إلحاح، ثم ترتد إلى الأرض وقد هدأ هالعها واستقر مضطربها، ولكن إلى حين قريب، ثم ما تلبث أن تتجه مرة أخرى إلى السماء، وهكذا تظل مترددة بين لطف السماء، ورهبة الأرض، والجيش لاه عن هؤلاء جميعا، إلى الإعداد، والتفكير فيما يحتاجه في تلك الرحلة التي قد تطول حتى نهاية هذه الدنيا، وقد تقصر فهي إذن سنة أو بعض السنة، يلاقون فيها الموت ويخادعونه عن أنفسهم، ويقودونه إلى أعدائهم، والنساء باكيات، والقليلات منهن القليلات يقفن إلى جانب أزواجهن يلهمنهم العزيمة، ويوحين إليهم بالمصابرة، مصابرة النفس، ومصابرة العدو، ومصابرة الزمن.
ويصل الوحي إلى نفوس البعض، أو هو يرتد عن النفوس الخائرة التي تذهب إلى الحرب لأنها لا تملك إلا ذهابا، ولعل ذلك الوحي يصل إلى نفوس بعض الجند فيجد ألا عمل له في هذه النفوس فهي مليئة بالإيمان، مفعمة بالثقة، وهبت نفسها لله وفي سبيله تحارب.
وكان في المدينة شاعر، أراد أن يذهب إلى تلك الحرب؛ فقد كانت العقيدة تملأ جوانب نفسه، وقد شب لا أمل له إلا أن يحارب أعداء الله في سبيل الله، وقد كان الشاعر يعرف طريقه إلى قصر الملك، بل كان يعرف طريقه إلى جلسة الملك ذاتها، فهو يذهب إلى هناك ويجلس، وما هي إلا لحظات حتى ينتهي الملك من أوامره التي كان يصدرها متلاحقة قاطعة؛ فقد كان الجيش في سبيله إلى الرحلة إذا ما أقبل الصباح.
ويقف الشاعر فيلقي قصيدة رائعة، ثم هو يسأل الملك أن يسمح له بالذهاب مع الجيش فيقول له الملك: ولكنك الشاعر الفرد، لو فقدناك وجدنا لك عوضا. - أبقاك الله يا مولاي، أيمنعني هذا حقي؟! - وأنا أخشى عليك. - أتخشى علي الموت يا مولاي ولا تخشى قولهم، قد جبن حين نفر الناس إلى الجهاد، وخاف حين هم القوم إلى النضال. - إنك يا أخي لتقول الشعر فتهب النفس الخائرة قوة، وتلهم الروح الناكصة إقداما. - شكر الله لك يا مولاي، فأين يكون مكاني إذن إن لم يكن بين قوم يناضلون، قد يتعرض لهم الموت فيصيب من عزيمتهم، ألا أكون أنا أجدر الناس بالذهاب إلى الحرب فأرد خوفهم شجاعة، وتراجعهم إقداما. - لكم أتمنى أن تبقى، ولكنى لا أملك أن أبقيك فإليها أيها الشاعر، إلى حيث تريد لنفسك، وإلى حيث تريد لك نفسك من شوق، أما اليوم فإننا سنريح أنفسنا، من عناء ما كنا فيه، ونهيئ أرواحنا لما ستقدم عليه بليلة بيضاء، ينيرها الأمل في المستقبل والإيمان بالله، وما لا يغضبه سبحانه.
كان هذا النقاش يدور وقد جلست الجاريات ينتظرن انتهاءه حتى يقمن بالغناء، وكان من الجاريات بثينة، وكان شاعرنا يحب هذه الجارية حبا بعيدا عن الأمل؛ فهو يعلم أن فقره يقصيه عن بثينة، وهو يعلم أن لها في القصر مكانا، وأن لها في قلب الأمير مكانا.
ولكن هذه الهوة البعيدة لم تمنع أحلامه أن تجمع بين أسوار عقله، وأن للأحلام جموحا إلى المحال، ولا بأس عليها، فما هي إلا سرحه ثم تصبح تلك الأحلام هباء لم يعرف بجموحها إلا صاحبها، وإنه لكاتم سرها لم يسمح لها يوما أن تذيع، وهكذا كانت تثور أحلام شاعرنا شهاب به فتفكر في تلك السعادة التي قد تتهيأ له لو أن حبا مثل حبه وقع في قلب بثينة.
كانت بثينة إذن بين الجاريات، وسمعت ذلك النقاش بين الأمير والشاعر فاشتد إعجابها بالشاعر؛ فهي تعرفه شاعرا ينشئ القصائد الرائعات، وهي تعرفه ينسج المعاني الخالدات، ولكن لم تعرفه رجلا يبتكر الكريمات من الأخلاق، ويبتدع العظام من التضحية.
وكانت ليلة ثم كانت الحرب، فذهب إليها شهاب وأحلامه ما تزال تجمح به فيرد جماحها، وبقيت بثينة وإعجابها بالشاعر قد يصبح بجانبه إعجاب برجولته.
ويند في الجيش إلى الحرب، ويحمى الوطيس، وتهم الهزيمة أن تحيق بجيش شهاب فما يمنعها عنهم إلا الليل، الذي يرغم الأعداء أن يرتدوا إلى خيامهم قبل أن يتم النصر لهم، وإن كانوا قد وثقوا منه يكادون يحسون به بين أيديهم.
ويعود جيش الملك إلى جراحه يداويها، وقد انكسرت العزيمة وخارت النفوس، وأصبحوا ولا أمنية لهم إلا أن يرجعوا إلى ديارهم بتلك الفلول التي أبقى عليها الليل، ويرى الشاعر ما ألم بجيشه فيعرف أنه قد آن للسانه أن ينطلق ليرد النفوس الخائرات إلى شجاعتها، ويعيد الأفئدة الهالعة قوة واندفاعا، ويذكر بقية الجيش الهزيم أن الجنة تنتظر القادمين، وينطلق شهاب يخطب ولم يكن حوله حين بدأ إلا شرذمة ضئيلة استطاعت أن تخلص من أحزانها وخوفها لتقف قليلا إلى ذلك الفتى الذي استطاع أن يملك زمام نفسه؛ فهو يدير الحديث في براعة وهو يبتكر المعاني النافذة آخذة سبيلها في قوة إلى قلوبهم، ولم تلبث هذه الشرذمة أن اتسعت حتى أصبحت تضم الجيش كله، وإذا الجيش لا يطيق أن يبيت ليلته على الهزيمة فهو يندفع في قوة عبقرية إلى الأعداء وكأنما هو جيش جديد غير ذلك الذي كان منذ صدر الصباح إلى غسق الليل، فهو إذن لم ينهزم، وهو إذن لا يعرف إلا أن الأعداء على مرمى القوس منه، وإنه ليس بينه وبين الجنة إلا أن يهزم هؤلاء الأعداء أو يموت.
ويندفع الجيش وصيحات شهاب ما زالت تدوي في جميع قلبه، وكانت جيوش الأعداء تحتفل بالنصر الذي أصبحوا منه أقرب من هذه الأرض التي يجلسون إليها. وكان احتفالهم بالنصر خمرا معتقة تدير الرءوس التقت بها نشوة معربدة في نفوسهم من فرحة النصر.
وهكذا التقى جيش المسلمين يدفعه الحرص على الجنة، وجيوش الأعداء يقعد بهم الحرص على الأرض، التقت السماء والأرض، والحق مدعما قويا، بالقوة سكرانة لاهية، التقى الجمعان فكان نصر المسلمين حلما كاملا، وما إن انبلج الصبح حتى كانت جيوش الأعداء تولي الفرار، وكانت جيوش المسلمين تتأهب للعودة إلى بلادها، النصر فيها، والفرح يحيط بها من كل جانب.
وجلس الملك إلى قواده وعرف منهم ما كان من أمر شهاب وخطبته، فهو يرسل في طلبه فما يلبث أن يجيء فيقول له الملك: هيه يا شهاب لقد كان والله لسانك أقوى من الجيش. - بل كان إيماني يا مولاي أقوى من العالم. - أريد يا شهاب أن أكافئك. - إنما لا يكافأ المرء لمثل هذا يا مولاي، لقد كانت مكافأتي في العمل الذي أقوم به؛ فقد كنت أحس وأنا أخطب قومي وأرى استجابتهم أنني أسعد الناس جميعا، ولن تستطيع يا مولاي أن تهب لي مثل هذه السعادة، أجل يا مولاي كان عملي نفسه هو المكافأة التي أتمنى أن أنالها. - هو ما قلت يا شهاب وإنما أريد أن أعبر لك عن إكباري، ولن يكون هذا التعبير إلا هدية. - وإن رجوتك أن تعفيني من قبولي الهدية. - أمرتك أن تقبلها. - وما لي إلى رد أمرك من سبيل يا مولاي. - قد جعلت لك قطعة من الأرض، تلك التي تجاور بيتك، وجعلت لك بثينة جاريتنا، هي لك هدية. - من يا مولاي؟! - بثينة . - تقصد ذلك القوام الأهيف، هاتين العينين الصافيتين، هذا الفم الملائكي، هذا الشعر الأليل، هذه ... - أجل إنها هي ومنذ الليلة هي ملكك.
ويخرج الشاعر من ديوان الملك، وقد ملك الغنى فما فرح به وملك بثينة، فهو لا يدري كيف يشكر الله على ما أنعم، ثم هو ما يلبث أن يحسب كل ما كان من أمر الملك وأمره حلما من تلك الأحلام الجامحة التي تثور به؛ فهو ينظر إلى الأوراق بيده فيرى فيها أن بثينة قد أصبحت على خالص ملكه، يراه حقيقة في يده لا تحتمل تكذيبا فيضع الورقة في جيبه، ولكن هيهات لها أن تستقر فهي خارجة بعد برهة إلى يده وعينيه، وهكذا تظل الورقة بين طي المصدق ونشر المكذب حتى يصل شهاب إلى منزله فيهيئ أجمل ما يهيأ منزل، هذا الحلم الجامح الذي أصبح حقيقة يراه بعينيه ويلمسها بيده بل يكاد يلمسها بفؤاده، ويبحث عن حديث ويطول البحث والجارية صامتة تنتظر ما تنفرج عنه هاتان الشفتان اللتان أصبحتا تتحكمان في كل خطوة كتب عليها أن تمشيها، وأخيرا تنفرج الشفتان، شفتا شهاب فهو يقول: أتراك تعذرين فقري وتنظرين إلى غدي، أعلم أن الفارق بين ما كنت فيه وبين ما أنت فيه كبير، هل تعذرين؟ - يا لخيبة الأمل! حتى الشعراء ينظرون إلى الأرض، ليس الفرق في المكان يا سيدي. - يعلم الله أن مكانا أنت فيه هو الجنة، ولكني أردت أن أنظر من عينيك. - أو هكذا تبصر عيناي؟! - هكذا تبصر عيون النساء. - بل قل هكذا تبصر عيون الإماء. - أنا لم أقل ... - تريد أن تقول ... - أحسابا على خافية الصدور؟! - وهل الشاعر إلا صدره وما يخفي؟! - أو شاعرة أنت؟! - بغير شعر. - وكيف؟ - ليخيل إلي أنك لست الشاعر، هل الشعر عندك هو تلك الألفاظ المرصوفة على وزن، منتهية بحرف متحد، ما أشبه الشعر إذن بطريق مرصوف تحده الحدود المستوية. - بل الشاعر هو تلك الروح العالية، ترفع عن الناس عبء التعبير عن آلامهم وأفراحهم فتطلقها لهم في النغمة المتسقة واللفظ الكريم، الشاعر روح. - فأين هي فيك؟! - أفقدتها ؟ - فإنني والله لأجدها في شعرك فألتذها، وأفتقدها من شخصك فأفقدها. - أفقدت الروح! - بل فقدها كلامك. - كأنك لا تعرفين المحب إن لاقى الحبيب! - فأين المحب وأين الحبيب! - فإنني أحبك. - أو رأيتني؟ - مرات. - بين الجواري؟ - وما في ذلك؟ - فأنت تحب مني تناسق الوجه وانسجام القوام. - وما في ذلك أيضا؟! - أو هكذا يحب الشاعر؟! - فكيف يحب الشاعر؟ - يحب الروح السامية لا الجسم الممشوق، يحب التفكير الرفيع فيمن يحب. - أو تفقدين الروح السامية، والتفكير الرفيع! - لئن كنت أفقدهما فأنا لا أعترف. - فإنني أراهما. - كيف وأنت لا تكلمني إلا اليوم. - أو يحتاج الحب إلى أيام؟ - بل إلى سنين. - أي حب ذاك؟ - الحب الأصيل! - أو عرفته. - عرفته. - لغيري؟ - لغيرك. - وتريدين أن أتركك له. - لم أقل. - ألا تطلبين كثيرا. - إذا كنت إنسانا ككل الناس فالطلب فادح، ولكنك الشاعر. - ولكني أحبك. - خيال، لو لم يهبني الملك لك ما أحببتني. - أنت الوهم الذي أجسمه كلما تخيلت الحبيب. - فأنت مخطئ، ما هكذا يكون الحب، ما هكذا يحب الشاعر! - أليس الشاعر إنسانا! - بل هو الإنسانية في أرقى مدارجها، وما هكذا يحب، إن كان حبك لي ابن نظرة فما أشبهك بالحيوان يختار زوجة عندما ينظر إليها، ولكن الإنسان يختار حبيبه باتفاق الروح وانسجام الود، واتحاد المثل الرفيع. - وحبي لك. - وهم. - أحبك، ولكن من ذلك السابق؟ - فتى ككل الفتيان، ولكني أحبه، عاهدته وعاهدني فما حنث وما حنثت. - أتحبينه وأنت لا تملكين نفسك. - لقد كنت عند مالكي سلعة يشتريها ويهدي بها، أو يبيعها وله علي حق الطاعة، ولكن قلبي لم يخطفه الخاطف بعد، وما اشتراه مني أو من خاطفي أحد. - ولكن الفتى خطفه منك. - بل أهديته إليه حبا بحب. - فان تبين لك أنه كاذب. - أعرض عنه، وأحبه. - والجرح. - أضم نفسي عليه، وأمنعه أن يلتئم فهو بقية حب كريم. - أتأذنين لي في الخروج. - إلى أين؟ - إلى حبيبك. - أو تعرفه؟ - نعم. - (ضاحكة) فما اسمه؟ - المحب المخلص. - وما أدراك أنه مخلص! - ليس في العالم إنسان يحبه كل هذا الجمال بكل هذا الإخلاص ولا يخلص، ولا يوجد غير مخلص واحد هو من تحبين. - فأنت تبارك هذا الحب! - إنما الإنسانية هي التي تباركه. - فأنت تعتقني؟! - وهذه أوراقك. - فأنا حرة؟! - ليس لمثلك الرق. - فضل لا أنساه. - أنت صاحبته، لقد عرفت منك - وأنا الشاعر - الحب كيف يكون؟!
ولا تنتهي الليلة حتى يكون فتى بثينة قد جاء إلى بيت شهاب ويتم زواجه بها ويخرجان، نعم لم يكن الأمر غير حلم جامح من تلك الأحلام الجامحة التي تعربد في ذهن شهاب، وإن يكن في هذه المرة قد خرج إلى عالم محسوس حقق به سعادة اثنين ثم عاد حلما، كما كان يربط إليه ذكريات فيها السعادة، سعادة النفس الكريمة تقدم الخير، وفيها الشقاء، شقاء الروح الشاعرة تحرم ممن تحب، ولكنه على الحالين حلم فرحان بالسعادة والشقاء جميعا، اطمأن إلى صاحبه فضمه بين أحناء كريمة تزف إلى السماء فما تعرف الأرض.
الرحمة القاسية
دخل الساعي إلى لطفي أفندي يحمل إليه ظرفا من النوع الرخيص الذي يلاقيك به أطفال الطريق، وقد كتب عليه الاسم «لطفي عبد الكريم» في حروف واضحة وأن كانت شوهاء.
وتناول لطفي الخطاب دون أن يلقي إليه اهتماما، وألقاه إلى جواره ريثما ينتهي من الأعمال التي لا بد له أن يقوم بها واستقر الخطاب في موضعه ينتظر لطفي أن يفرغ.
وفرغ لطفي من أعماله، وكاد ينسى الخطاب، لولا أن مرت بأذنه كلمة «البوسطة» ألقاها أحد زملائه إلى آخر فتذكر تلك المهمة التي أدتها له البوسطة في صباحه هذا وتذكر ذلك الخطاب الملقى إلى جانبه، فأخذ يبحث عنه حتى وجده، وراح يفتحه في كسل وهو لا يفكر فيما قد يحمله إليه الخطاب، ولا يحاول حتى أن يخمن فيمن يكون مرسله!
وانفتح الخطاب أخيرا وبدأ لطفي يقرأ، ثم ما لبث ريقه أن جف وراح قلبه يخفق في وجيب متدافع صاخب، وتولت يديه رعشة ثائرة، وعلا وجهه شحوب قانط أصفر، وانبعثت على جبهته قطرات من الماء، فما يدري أألقتها على جبهته يد صديق، أم ثورة الدماء في عروقه؟ أصبح لطفي في ومضة عين إنسانا منفصلا عن العالم الذي يحيا فيه فهو لا يحس من حوله شيئا وإنما هو بجميعه يحيا في هذا الخطاب الرخيص الذي لقيه هذا اللقاء الفاتر.
لقد كان هذا الخطاب الحقير يحمل أمرا كبيرا.
وضع لطفي الخطاب أمامه وطلب إلى الساعي أن يحضر له كوب ماء، وانتظر حتى شربه وأغمض عينيه قليلا ثم عاد إلى الخطاب ثانية يقرأ، لا، لم يفد كوب الماء، ولم تجد هذه الإغماضة التي أصابها. فالخطاب ما زال يحمل نفس الكلمات، أو ما زالت هذه الكلمات تؤدي نفس المعاني، وإنها لمصيبة! زوجته خائنة! سميرة التي بذل لها أجمل أيام الحياة والتي ضمتها وإياه أحلى الأوقات، عرفها وهو لم ينته بعد من دراسته فكانت له في هذه الأيام إشاراته تضيء له الطريق إلى المستقبل، وعرفته هي حين كانت آمالها في المستقبل حائرة مضطربة فوجدت فيه مرتعا لآمالها وتجسيما لأحلامها، والتقت الآمال منهما والقبول من أسرتيهما، فكان الزوج.
ومشت بهما الأيام، لا يفكر يوما أنه أساء إليها، ولا يذكر أنه مس كرامتها في شيء. نعم إنه يسمع عن هؤلاء الأزواج الذين يقبلون زوجاتهم كلما أصبحوا أو أمسوا، ويسمع عن هؤلاء الأزواج الذين لا يخرجون من بيوتهم إلا إذا وقعوا بشفاههم على وجوه زوجاتهم ولا يرجعون إلى بيوتهم إلا وقعوا مرة أخرى، ولكنه لم يأت مثل هذه السخافات وكيف يقبل أن يجعل من وجه زوجته دفتر حضور وغياب! مثل ذلك الذي تلزمه وظيفته أن يوقع عليه داخلا وخارجا. وهو يسمع عن الأزواج الذين يدللون زوجاتهم فيمتدحون ثيابهن مهما تكن ثيابهن تلك، ويمتدحون عقصة شعورهن على أية ناحية عقصن ذلك الشعر، ولكنه هو لم يفعل مثل ذلك مع زوجته.
لا، إنه لم يكن يدلل زوجته ولم يكن يقبلها مصبحا وممسيا ولم يكن يمتدح ثيابها وعقصة شعرها، لقد كان يحترمها، وهو يعتقد أنها ترضى منه بذلك الاحترام فهو يعرف عنها الذكاء الذي لا يقبل الملق، والحصافة التي تأبى السخافات. نعم إنه يلحظ أنها كثيرا ما كانت تغير الطريقة التي تصفف بها شعرها؛ فكانت تجعله كذيل الحصان حينا، أو كانت تلمه في دائرة مكتملة وراء رأسها ولكنه لم يكن يلقي إلى هذه التصفيفات بالا، ولم يهتم إذ ذاك أن يمتدحها لها، أو يذكر عنها شيئا بخير أو شر؛ فقد كان يحب سميرة، سميرة التي عرفها يافعا يدرج إلى الشباب وشابا يصعد إلى المستقبل. وسميرة عنده أكبر من عقصة الشعر، ومن تغيير الثوب، ومن كل مظهر تتخذه، إنه يحب كيانها الذي أحبه يوما وما زال.
أحب سميرة التي فضلته على جميع من سعوا إليها خطابا، والتي اختارته بقلبها وعقلها من بين الكثيرين الذين تقدموا لخطبتها حين كان هو يكمل دروسه بالجامعة! سميرة التي رفضت هؤلاء لتنتظره. حتى لقد رفضت ابن عمها نفسه وهو الشاب الواسع الثراء، الجميل، الأنيق، نعم لقد رفضت محيي الأدهم بكل ثرائه وجماله وأناقته لتختاره وهو، محيي الأدهم، ألا يكون محيي هو من أرسل ذلك الخطاب، وما له لا يكون، وما الذي يمنعه؟ إنه شاب حقير وإن يكن ثريا، ألم يجمع ثراءه من التجارب القذرة التي تستخفي من القانون والتي يعظم فيها الربح لعظم المخاطرة التي تحيط بها.
نعم إنه محيي الذي أرسل الخطاب. ومن يكتب هذا الكلام الحقير إلا حاقد حقير جاهل، ويعود لطفي إلى الخطاب مرة ثانية: «زوجتك تخونك، رجل يأتي إلى منزلك كل يوم، بعد خروجك. اسأل زوجتك عن هذا الرجل، مخلص.» ومن يكون المخلص إن لم يكن محيي، إنه مخلص للشر الذي يغتلي بنفسه، والحقد الذي يشتعل بقلبه منذ رفضته ابنة عمه حين تقدم لها وهو يعتقد أن ثراءه لا يجعل لفتاة فرصة لتتردد في قبول الزواج به. إنه محيي، من أرسل الخطاب وإنه لكاذب. وحينئذ أحس لطفي بعض الراحة تعاوده.
وأخيرا يعود رويدا رويدا إلى تلك الحياة التي انفصل عنها منذ قرأ الخطاب. ثم أخذ يلوم نفسه على ذلك الشك الذي ساوره في زوجته الحبيبة المخلصة، وأحس أنه بلومه هذا لنفسه يعيد إلى قلبه الطمأنينة التي طارت منه، ويقر في نفسه الهدوء الذي زايلها، ثم جاوز تأنيب نفسه إلى السخرية منها، كيف يمكن أن يشك في سميرة ألا ما أضعف ثقته؟ أيكفى خطاب أحمق رخيص من ذلك النوع الذي يلاقيك به أطفال الطريق حتى تتزعزع ثقته في زوجته الوديعة، الأمينة! وأي رجل ذلك الذي تقبل سميرة أن تخون زوجها معه، إنه لا يرى فيمن حوله رجلا يستحق العناية من سميرة، أتراه مثلا ذلك الرجل الذي اتخذ المسكن المقابل لمسكنه؟! ذلك الرجل ذو الزوجة الدميمة الغنية، ولكن أي شيء فيه يعجب سميرة! ألأنه يمتدح ثوبها وتصفيف شعرها وحسن اختيارها لحذائها وانسجام الحذاء والحقيبة؟ ألأنه يلقي هذه الكلمات التافهة ينال الرضى من سميرة فتخون زوجها الذي تحققت فيه آمالها واستقر مستقبلها. لا، لا يمكن أن يكون الرجل هو ذلك الساكن ذو الزوجة الدميمة، إنه ليس الرجل وليس أي رجل آخر وإن سميرة لعفيفة.
وما إن بلغ لطفي بتفكيره إلى هذا القرار حتى دعاه التليفون، من؟ حمدي أفندي أبو سميرة مات، مات؟ كيف؟ كيف مات؟ وهل يحتاج الموت إلى إنذار؟ مات، فمن لسميرة بعده، لا أحد، لم يبق لها في هذه الدنيا العريضة غير زوجها، كيف يبلغها الخبر؟ لقد كانت تحب أباها إلى أقصى غايات الحب، كانت ترى فيه حياتها جميعها، فقد حرمت أمها وهي طفلة ما تزال، فكان الأب منها أبا وأما. ولكم ألحت عليه أن يقيم معها حين تزوجت وكم ألح هو عليه ولكنه أبى ذلك، وصمم على أن يعيش وحده لا يعينه إلا معاشه الصغير، مسكينة سميرة، كيف يبلغها الخبر؟!
ذهب إلى منزله وفتح الباب ودخل، ما هذا المعطف؟ إنه يعرف هذا المعطف، إنه معطف الجار الجديد. إذن فقد كان الخطاب صادقا، إذن فسميرة خائنة، يقصد لطفي إلى غرفة النوم ويهم أن يدخل ولكن ما تلبث يده أن تتجمد مكانها، ماذا ينتظر أن يرى؟ وماذا تراه فاعلا إن رأى ما يتوقعه. ومرت بذهنه أمثال تلك المشاهد التي قرأ عنها في الروايات والتي شاهدها في السينما، والتي تصور الزوج المخدوع. إذن فهو الزوج المخدوع! لماذا؟ لماذا تخدعه زوجته؟ وثاب لطفي إلى موقفه عل باب المخدع وقد تجمدت يده في منتصف طريقها إلى مقبض الباب، ثم ما لبث أن ترك مكانه وخرج هاربا من البيت إلى حيث لا يدري وإنما هي خطوات تسوقه إلى مجهول من أمره وطريق يسير به ولا يعني منه شيئا. لقد عاش طول عمره متكبرا عن الصغار، عفيفا عن مزالق الشباب، تأبى عليه كرامته أن يستخفى كما يستخفى إخوان شبابه، وما كان يمنعه عن ذلك إلا كبره واعتداده بكرامته، ثم ها هو ذا وقد أصبح على يد زوجته سميرة بلا كرامة على الإطلاق، ماذا يفعل؟ أيطلقها؟ فيعرف الناس جميعا بزوال كرامته؟ أيقيم معها في منزل واحد فيظل أمام نفسه بلا كرامة؟ أي الأمرين أكثر أهمية؟ أن يكون أمام الناس بلا كرامة أم أن يكون أمام نفسه بلا كرامة؟ وما الكرامة؟ أليست هي أقوال الناس ورأيهم؟ إذن فليبق حينا ثم يصطنع غضبة ويطلقها، ولكنه لا يطيق أن يرى تلك الزوجة الخادعة فكيف يحيا معها يضمها بيت، بل وحجرة وفراش؟ أما الفراش فلا. فسينفصل عنها، والحجرة أيضا، إنه سينام منذ اليوم في الحجرة التي كانت مخصصة لأبيها حين كان ينام بها في زيارة. وعلى ذكر أبيها، إنها لم تعرف بعد ما أصابها في أبيها وكيف كان يمكن أن ينبئها؟! وعلى ذكر أبيها أين تذهب سميرة إن هو طلقها اليوم؟ إلى الشارع فتعيش في البؤرة التي صنعتها هي لنفسها؟ لكن لماذا خانت؟ أيرضى أن يترك امرأة وحيدة بلا أب وبلا عائل في الطريق وحدها بلا معين؟ نعم يرضى، ولكن أليست هذه أنانية منه. إذن يظل معها طول عمره؟! طول عمره مع خائنة، خائنة دون أن يعرف سببا لهذه الخيانة ومع من، مع رجل لا يحسن من أمور الدنيا شيئا إلا أن يمتدح عقصة الشعر وقماش الفستان ولون الحذاء، وطراز الحقيبة، إذن فماذا يفعل؟ أيلقي بعمره جميعه لامرأة تافهة تصدق التعلق الكاذب مع عابر سبيل؟ نعم سيفعل. لقد طالما تغنى بالمثل العليا فليكن هو مثلا أعلى في، في ماذا؟ نعم إن الناس سينظرون إليه في مثله الأعلى على أنه مغفل خانع غبي، ولكنه هو سينظر إلى نفسه على أنه رجل ضحى بكرامته ليستر زوجته ويحميها من طريق موحش تسير فيه وحدها تفترسها ذئاب الطريق وضواريه، فتقع يوما في يد ذلك الجار وربما في يد ابن عمها محيي الذي أرسل إليه هذا الخطاب، ويل له من ذلك الخطاب! لم يكن الخطاب هو السبب في ذهابه إلى المنزل وإنما موت حميه. نعم، لقد مات حموه فلم يبق لزوجته إلا هو وسيظل لها وسيضرب عليها نطاقا من الرقابة فلا تتنفس إلا وهو على علم بأنفاسها.
اتخذ لطفي قراره هذا وهو يحس بهول هذا القرار، فعاد أدراجه إلى بيته يحاول أن يخفي النار الهائجة في صدره ولكنها تتوقد وتشتعل فعيناه حمراوان، ووجهه مضرج باللهب وأنفاسه شعل. ويلتقي بزوجته فيكاد يصرخ في وجهها بما كشفه من خيانتها، ولكنه يجد خبر موت أبيها قد غلب عليه فيقذف به في وجهها قذفا وتنهار سميرة فلا يدركها وإنما يصدر أوامره صارمة قاسية، وكأنما يشفى بما يعتريها من ذهول حزين جازع، وتذهل سميرة من موقف زوجها ذهولها من موت أبيها، ولكنه لا يحفل بذهولها هذا وإنما يدخل إلى غرفة النوم فيأخذ حاجياته منها ويخرج بها إلى الغرفة الثانية؛ فيزداد ذهول سميرة ولا تجد الوقت مناسبا لتسأله عن تصرفه الغريب هذا! ولكنها في غمرة حزنها لا يفوتها أن تدرك أن شيئا خطيرا طرأ على زوجها.
ويمضي ذلك اليوم وتتبعه أيام وتجد سميرة نفسها في موجة عاتية من أوامر زوجها الحازمة الصارمة التي لا تحتمل تعليلا في ظاهرها، وإن كانت في باطنها تحمل الشك الذي يكاد يصل إلى المصارحة. ففي اليوم التالي لانتهاء المأتم أخبرها أنه استأجر شقه في حي آخر، ألقى إليها النبأ دون أن يبدي سببا ودون أن يجعل لها مجالا للسؤال عن السبب. وأحست يومذاك أنه قد يكون متشككا في أمرها. وانتقلت إلى البيت الجديد، كان يخرج إلى عمله ثم يفاجئها في ساعات مختلفة من اليوم ليرى ماذا تصنع؟ فأحست أن الأمر عنده بلغ مرتبة أعلى من الشك. وأصدر إليها الأوامر ألا تجيب طارقا على باب، فأحست أنه يكاد يكون على يقين من أمرها، وكانت عندهما خادمة واحدة فإذا هي تجد البيت مليئا بالخادمات فأصبحن ثلاث في خدمتها وهي تعلم أنه بخيل لا يحب أن يبذل هذا المال الكثير، فعرفت أنه على يقين من أمرها. وانتظرت أن يفاتحها ولكن الشهور مرت وهو صامت لا يتكلم ويقيم في حجرة غير حجرتها. بل بالبيت ساعات مختلفة من النهار فلم يعد له موعد معين أبدا! هو يعلم إذن أنها خائنة، فلماذا يبقي عليها، إن كبره وغطرسته يأبيان عليه أن يعلن إلى الناس أن زوجته تخونه ولكن، لا، إنها تعرفه، لقد كان خليقا أن يطلقها فور علمه بخيانتها ولكنه لم يفعل، فلماذا؟ لعله يشفق عليها، نعم؛ إن هذا أقرب إلى تفكيره وهو أقرب لما تذكره من تغيره هذا المفاجئ والذي بدأ يوم مات أبوها، نعم إنها تذكرت ذلك اليوم، تتذكره جميعه.
إنه يوهم نفسه الآن أنه يضحي بنفسه ليضمن لها العيش، ولكن أي عيش هذا الذي تحياه في بيت هو السجن، زوجها فيه رقيب وليس زوجا، يرقب أنفاسها التي تتردد في صدرها، يفتح باب غرفتها في المساء ثم يقفله ليرى إن كانت وحدها أم لا، يترك عمله مرات في خلال الأسبوع ليفاجئها من حيث لا تنتظر، يحيطها بالعيون الرواصد من الجواسيس ويطلق عليهم اسم الخادمات. لا، لا يمكن أن تظل على هذه الحياة، ولكن إلى أين؟
واضطرب لطفي في عمله، وأصبحت الحياة حوله شكا، فحيثما أدار عينيه وجد القلق والحيرة والهلع. يخيل إليه أن جميع من يلقاهم يعرفون أنه زوج مخدوع، يفر من الطريق، يخشى أن يلقى فيه جاره القديم، أو ابن عم زوجته محيي، ويخشى أن يلقى أي جار لمنزله الأول الذي تمت فيه الخيانة، لا يستطيع أن يخلو بذهنه ليفكر في شيء غير الخيانة، لا يستطيع أن يخلو بإحساسه إلى شيء غير الشك، يعزم على السفر ويقطع التذكرة ويركب القطار ولكن قبل أن يتحرك القطار يكون هو قد قفز منه وسارع إلى بيته، يذهب إلى السينما ويهم بالدخول فيقطع التذكرة ولكنه يسارع بها إلى البيت.
وسميرة لا تخرج من البيت أبدا! بل باقية لا تبرحه، ولكن ماذا تفعل في ذلك البيت؟! إنها تنظفه مرات ومرات ولكنه لا يستغرق مهما تنظفه إلا بعض الوقت ثم تفرغ إلى هذا الشقاء الذي يحيط بها في عودة زوجها المفاجئة، وفي تلك العيون المبثوثة حواليها من خادماتها، وذات يوم تتذكر سميرة أنها لم ترتب أوراق زوجها من زمن بعيد فتدخل إلى حجرته وتفتح أحد الأدراج فيروعها هذا العدد الهائل من تذاكر القطارات وتذاكر السينما وكلها جديدة لم تستعمل، وكأنما تمثلت هذه التذاكر أمام عينيها شقاء زوجها بها ولها. وكأنما رأت في هذه التذاكر السليمة جريمتها وعفو زوجها والعقاب الذي يقع عليها من جراء هذا العفو في لحظة. فلا تكمل بحث الأوراق الأخرى وإنما هي تمسك قلما وتأتي بورقة وتكتب إلى زوجها خطابا.
ويدخل الساعي إلى لطفي بالخطاب يخبره أن خادمته قد جاءت به، ويفتح لطفي الخطاب في لهفة ويقرأ:
أعلم أنك تبقي علي لأنني لا ملجأ لي إذا تركتك، وأعلم أنك تقوم بتضحيتك هذه لترضى بها مثلا أعلى أقمته لنفسك ولكنك نسيت شيئا مهما في تضحيتك هذه، أنا هو ذلك الشيء لقد قسوت أنت على نفسك - ما في ذلك شك - ولكن قسوتك علي أشد وأعظم، أنت قاس علي برحمتك، قاس علي بعطفك، قاس علي بسترك على ما تعلمه عني، أن تكن أنت قد قبلت لنفسك هذه التضحية فأنا لا أقبلها، وإن تكن ظننت الرحمة في نفسك حين تأويني في بيتك، فإني أرى الرحمة بي في أن أترك هذا البيت، إن تكن الرحمة عندك أن تضمنا جدران بيت على كره، فإنني أرى الرحمة بي تتمثل في الفراق بيننا؛ فإني أعلم منذ زمن بعيد أن لا حياة بين زوجين أحدهما خائن، ولا حياة بين زوجين تقوم على العطف دون الحب. اعطف على اليتيم والمقطوع وابن السبيل أما زوجتك فأحببها أو طلقها.
لن تجدني في البيت حين تعود، وأرجوك أن تعود بعد أن تنتهي من عملك فلم يعد هناك ما يدعوك إلى قطع عملك للعودة المفاجئة فأنا لست بالمنزل. وأرجوك قبل أن تعود أن تمر بالمأذون وتطلقني. أما أنا فسأعمل خادمة، فإن لم أجد عملا سأتسول على أبواب الأضرحة، وثق أنني بهذا أكون قد أنقذت نفسي من رحمتك القاسية.
وقرأ لطفي الخطاب وأعاد قراءته واغرورقت عيناه بالدموع. لقد حاول أن يضحي بشيء لا يمكن التضحية به - كرامته - لم يستطع أن يجعل من نفسه مثلا أعلى، ولكنه سعيد بفشله هذا، سعيد بأنه غير ملزم الآن أن يترك عمله أو يقفز من القطار قبل أن يتحرك، أو يدخل البيت بتذكرة السينما كاملة بنصفيها، إنه منذ اليوم سيمشي في الشوارع مرحا لا يبالي أي إنسان سيلقاه في الطريق، لقد تخلص من العار الذي حاول أن يقيم حوله تضحية ومثلا أعلى.
وتخلص من تضحيته التي كلفته قطعة من حياته، وكانت الأيام فيها باهته حائلة اللون فمنذ اليوم، أهلا بالحياة ووداعا أيتها التضحية.
عودة السيد سكر
نعم فإن اسمه السيد سكر، والسيد اسم، أطلقه عليه أبوه قبل أن تلغى الألقاب لتحل كلمة السيد محلها، وأما السكر فهو اسم صنعته له القرية، ولم يكن ذلك عن بله من أهلها ولا غفلة، وإنما كان ذلك في الحرب الأخيرة، حين أصبح السكر من المواد التي تشرف الحكومة على التصرف فيها، فلا يعطى إلا بإذن، وتصدى السيد للتجارة ولم يكن له بها شأن، وإنما رأى تجارة التموين رابحة، ففتح دكانا خاصا لتجارة السكر، واستصدر رخصة للتجارة، وهيمن على كل شيء حلو في البلدة؛ فأصبح لا يستطيع أي إنسان في القرية أن يشرب قهوة أو شايا بسكر إلا إذا أذن له السيد، وأصبح لا يستطيع أي إنسان في البلدة أن يصنع فطيرة حلوة أو أرزا بلبن إلا إذا كان صديقا صدوقا للسيد.
وفي القرية كثير ممن حاولوا مصادقة السيد، فأباها عليهم، فلم يجدوا شيئا ينفسون به عن غضبهم إلا أن يطلقوا عليه «السيد سكر» فصحبه الاسم منذ ذلك الحين، وهو فرح به، راض عنه، يكاد يوقع به ما يضطره الأمر إلى توقيعه، وقد نشأ جيل ما بعد الحرب لا يعرف أن للسيد سكر اسما آخر كان له قبل أن يلتصق به السكر ويصبح جزءا منه لا يتجزأ.
لم تقف تجارة السيد سكر عند السكر وحده، بل تجاوزته إلى مختلف أنواع البقالة، وأصبح كثير الذهاب إلى البندر ليشتري حاجيات دكانه، وكان يذهب في كثير من الأحيان إلى المعلم حسونة وهو من كبار التجار هناك، وكان يشتري منه ما يحتاجه دكانه الصغير من بضاعة.
توطدت الصداقة بين السيد والمعلم حسونة؛ حتى لقد دعاه المعلم إلى زيارة بيته هو في القرية.
ولكنه كان منذ صباه يحب أن يظهر بالغنى والكرم، وقد اقتضاه هذا الكثير من المال، ولم تصده قلة المال عن التظاهر بالكرم والغنى.
وهكذا وجد نفسه آخر الأمر وبعد دعوات كثيرة أجابها للمعلم حسونة، وجد نفسه مضطرا إلى أن يقتطع بعضا من رأس ماله يجدد به منزله ويشتري أدوات مائدة، استعدادا لدعوة المعلم حسونة.
حتى إذا أتم أهبته، تجرأ وتقدم للمعلم حسونة، ودعاه أن يشرف بيته في القرية، هو والعائلة.
وشرف المعلم حسونة مصطحبا معه ابنته وابنه، وكانت الابنة غاية في الجمال، ولم يكن السيد قد رآها قبل يوم دعوته هذه، فما إن رآها حتى بهره جمالها.
وقضى الضيوف يومهم يمرحون، ولكن المضيف قضى يومه خائرا ملتهب الخاطر مشتت الفؤاد مصعوقا بجمال الابنة، سكينة.
وكثرت زيارات السيد للمعلم حسونة، وازدادت الصلة وقويت، والسيد يهم في كل يوم أن يخطب سكينة من أبيها، ثم يمسك بلسانه خجل لا يبارحه.
نعم لم يكن السيد يعرف عن سكينة إلا أنها جميلة، ولكنه أيضا لم يكن يعرف أن هناك شروطا أخرى إلى جانب الجمال، لا بد من توافرها في زوجته، لا، لم يكن يعرف ولم يهمه أن يعرف عن سكينة إلا أنها جميلة، وإلا أنها بنت المعلم حسونة.
وأخيرا لم يطق صبرا فتكلم، ولكنه لم يكلم المعلم حسونة، وإنما قصد إلى خاله هو: خال. - خير يا ابني. - أريد يا خال أن تخطب لي. - وما له يا ابني ما أحب إلي أن أفعل، أتريد أن أختار لك أم أنك اخترت؟ - والله يا خال أنا اخترت. - من العروس؟ أظنها فاطمة ابنة عمتك، فأنت تميل لها منذ كنتما طفلين. - والله يا خال الزواج قسمة ونصيب، وأنا اخترت من البندر.
وقال الخال ملهوفا: من البندر؟! - نعم يا خال. - يا ابني وما لنا نحن وما للبندر، ألم يعجبك أحد من أقاربك أو من البلد كلها حتى تختار من البندر؟ - والله يا خال القسمة. - وأي قسمة؟ إننا ما زلنا على البر، إن شئت خطبت لك فاطمة. - لا يا خال. - يا ابني بنت البندر لا ترضى عن عيشتنا. - لا عليك يا خال فأظن أنها سترضى؛ فقد جاءت هنا مع أبيها وأعجبتها البلدة. - أمرك يا ابني أخطب لك من تشاء.
وهكذا ذهب السيد سكر إلى المعلم حسونة وقد اصطحب خاله ليكون لسانه - بدلا من لسانه هذا الذي أعيته الحيلة - ويخطب له سكينة.
وتكلم الخال وخطب سكينة في لباقة أدهشت السيد، وتم الأمر في يسر، وما هي إلا بضعة شهور حتى شهدت القرية فرحا رائعا للسيد وهو يزف إلى عروسة من البندر.
واستقرت الحياة بالسيد، وأخذت تجارته تتسع بعد أن أصبح حموه يعينه بالمال والبضاعة، واشترى السيد راديو وأصبح دكانه مجلس الصفوة المختارة من أهل القرية، وكثر عند السيد الإوز والبط والفراخ، وهيأت له سكينة عيشا رضيا، واستطاعت أن تحببه فيها، إلا أن بقاءها في القرية لم يكن يرضيها أبدا! ولكنها لم تشأ أن تفاتح زوجها في ذلك؛ لأنها تعرف مدى تعلقه بالقرية.
وكانت سكينة خليقة أن تظل على صمتها مدة أطول من الزمان، لو لم تظل أمها تستحثها أن تذهب إلى البندر لتكون بجانبها، حتى لم تجد سكينة بدا من أن تكلم زوجها. - سيد. - نعم يا سكينة. - ماذا تنوي أن تفعل؟ - فيم يا سكينة؟ - في حياتك. - وأي شيء يمكن أن أفعل فيها ؟ ألست مبسوطة؟ - مبسوطة والحمد لله، ولكن ... - ولكن ماذا يا سكينة؟ - ولكن ألا تفكر أنك قد تصبح أبا، ويحتاج ابنك إلى المدرسة. - أحقا ما تقولين يا سكينة؟ - والله لست متأكدة. - على الله يا سكينة. - ليس هذا ما أسألك عنه. - ففيم سؤالك؟ - سؤالي عن مستقبلك، لقد أصبحت تاجرا كبيرا في البلدة. - الحمد لله. - ألا تريد أن تصبح أكبر من ذلك؟ - ومن هذا الذي لا يريد أن يكبر يا سكينة؟ - أنت. - أنا؟ ولماذا؟ - وماذا تنتظر في هذه القرية؟ إنك تاجر كبير مارست السوق وعرفت أسراره وخبرت كل خفية فيه، لعلك تصبح أكبر من أبي نفسه. - أصحيح يا سكينة؟ - طبعا وسأكلم أبي ليبحث لك عن دكان بجواره وتصبح من تجار البندر.
وكان الدكان موجودا؛ فقد أعدته أم سكينة منذ زمن بعيد، وما هي إلا أيام حتى شهدت القرية عربة نقل تحمل بضاعة السيد، وعربة أخرى تحمل أثاث السيد وحقائبه والإوز والفراخ والبط، شهدت القرية أيضا السيد يحمل الراديو معه خشية أن تصيبه العربة بالعطب، كما شهدت القرية أيضا دكان السيد يقفل أبوابه على فراغ فيه، ثم شهدت القرية هذا الموكب ينزح عنها ورأس السيد يتلفت خلفه في حنين، وينظر إلى الأمام في حيرة، وأحس الناس أن السيد يترك الاستقرار إلى حيث الحيرة والدوامة التي لا يعرف لها قرارا.
ونزل السيد في بيته الجديد بالبندر بجوار بيت المعلم حسونة وزار دكانه أيضا فرضي عنه، وبدأ يضع بضائعه.
وواجهت سكينة مشكلة الغذاء، وخافت أن تطلب من السيد نقودا لتشتري لحما وخضرا وخبزا، كما يفعل أهل البندر فقد كانت في القرية تذبح من الفراخ والحمام إذا أرادت أن تأكل لحما، وكانت حديقة المنزل الصغيرة تمدها بالخضر، وكان الفرن يمدها بالخبز.
ولكنها لم تفكر كثيرا، فسرعان ما سحبت السكين، وقصدت إلى حيث انزوت الفراخ والإوز والبط ولكن هالها أن وجدت الفراخ كلها ميتة، ووجدت الإوز والبط يترنح، فأعملت السكين فيها جميعا.
وظل السيد أياما عديدة كلما عاد إلى المنزل وجد زوجته تقدم له الإوز والبط، وعجب من حالها هذا، ولكنه كان في غمرة من الكساد التي استقبلته به المدينة، فنسي أن يسأل عن هذا الإسراف، نسي هو وظلت الزوجة على عادتها، ولكن التسمم لم ينس أن يسري في الإوز، وكانت ليلة! فقد سعى التسمم أيضا إلى السيد وسكينة، فما استطاعا أن يبلغا بيت المعلم حسونة إلا بشق الأنفس، وسارع المعلم بهما إلى المستشفى، وبقيا بها أياما يدفعان ثمن الأكل الدسم المحلى بالسم.
وعاد الزوجان إلى البيت بعد شفائهما، فوجداه قاعا صفصفا، حتى الراديو لم يبق عليه اللصوص، كل شيء أخذوه حتى بقايا الإوز والبط، كل شيء، لم يبق في البيت شيء.
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي شاهدت القرية عربة واحدة تحمل بضائع السيد وحدها بلا حقائب ولا أثاث ولا أوز ولا بط ولا فراخ، وشاهدت القرية السيد يمشي وراء البقية الباقية من بضائعه وزوجته أمامه، ويده فارغة، لا تحمل الراديو.
وبلغ الزوجان البيت، وجلست سكينة على الحصيرة، والتفت إلى السيد. - سيد. - ماذا تريدين؟ - ستصبح أبا يا سيد. - وما له. - أين سألد؟ - هنا، هنا سيولد ابني، وهنا سيتعلم ابني، وهنا سيعمل ابني في الغيط أو في الدكان، أو في أي شيء، ولكن هنا ستكون حياته، وهنا سيكون مماته، هنا على هذه الأرض في هذه القرية.
अज्ञात पृष्ठ