الجمعة 21 مايو
بعد الظهر بقليل بدأنا الرحلة إلى مصيف رجال الجامعة، وأصفه بهذه الصفة لأنه مكان منقطع في غابة بعيدة، ليس فيه إلا كابينات للأساتذة، بدأنا الرحلة، والراحلون هم: الدكتور «و» وزوجته وطفلاهما، وشاب هندي يحضر للدكتوراه في الكيمياء الزراعية وأنا؛ والجهة المقصودة هي «بريست ليك» (أي بحيرة القسيس، وسميت كذلك لأن قسيسا معروفا عاش هناك معتزلا وذاع اسمه وصوته، فنسبت إليه البحيرة والنهر الذي يخترقها)، وبحيرة القسيس هذه تقع في الطرف الشمالي من ولاية أيداهو الملاصقة لولاية واشنطن، والبحيرة قريبة جدا من حدود كندا.
وصلنا البحيرة بعد خمس ساعات في السيارة أو يزيد، وهناك عند نقطة التقائنا بالبحيرة تركنا السيارة لنركب زورقا بخاريا يملكه أيضا الدكتور «و»، ونقلنا إلى الزورق معظم ما حملناه معنا من طعام، وقد حملنا مقدارا كبيرا يكفينا أربعة أيام في ذلك المكان النائي المنعزل، وأبحرنا في الزورق البخاري شمالا نحو ساعة كاملة، قطعناها في أجمل مكان شهدته عيني؛ فالبحيرة ضيقة طويلة، طولها ثلاثون ميلا، ولا يزيد عرضها فيما أظن عن ميل واحد، وتحفها من جميع جهاتها جبال مشجورة بكثيف الصنوبر الفارع، والقمم لم تزل معممة بثلوجها ... إني لأعجز عجزا تاما عن وصف هذا الجمال الطبيعي الذي لا يطوف بأحلام حالم ... ماذا أقول؟ يستحيل أن يوجد في الدنيا مكان يدنو من هذا المكان جمالا، وإني لأقارنه بمنطقة البحيرات في شمالي إنجلترا فأجده يفوقها؛ لأن الجبال هنا تغطيها أشجار الصنوبر الكثيفة، أما هناك فالجبال إما عارية أو تغطيها خضرة خفيفة ...
في هذه الجنة لبثنا أربعة أيام كنت فيها كالحالم ... وعدنا يوم الثلاثاء 25 مايو والمطر هاطل والبحيرة هائجة مائجة والسماء ملتفة بالضباب؛ إن الجبال عند رحيلنا قد اتخذت صورة أخرى غير الصورة التي استقبلتنا بها حين كان الجو رائقا صافيا؛ الجبال عند رحيلنا كانت كأنها من ظلال، لا أرى منها إلا سوادها، فلا خضرة الأشجار بادية، ولا أبيض الثلج عند القمم ظاهر.
الأربعاء 26 مايو
المطر نازل طيلة النهار ، ثم تحول إلى ثلج مدة ساعتين أو ثلاث من ساعات الظهر؛ عجيب أن ينزل الثلج في آخر مايو! جلست طول الصباح في نادي الأساتذة أقرأ مقالا ممتعا في مجلة نيويوركر الصادرة يوم 15 مايو، نبهتني إليه السيدة «ت» التي تحضر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية ... هو مقال يقارن فيه الكاتب الأصل العبري للإنجيل بترجماته إلى اللغات الأوروبية، قائلا: إن للغة العبرية خصائص يستحيل ترجمتها إلى الإنجليزية مثلا، مع أنها خصائص دالة وهامة في تلوين اللغة تلوينا معبرا. وراح يحلل هذه الخصائص، وإذا بي ألاحظ انطباقها على اللغة العربية، وهي لفتات من الكاتب قوية جدا عميقة جدا، ولا بد أن أقرأ المقال مرة أخرى قراءة أدق ... وأهم ما اهتممت له في المقال هو الفكرة التي عرضها الكاتب في علاقة اللغة وفكرة الناس عن الزمن؛ فليس في العبرية لحظة حاضرة، كل ما فيها ماض أو مستقبل؛ فلما قرأت ذلك أدركت من فوري أن ذلك أيضا في اللغة العربية، ليس هناك «فعل» يدل على اللحظة الحاضرة؛ لأنه حتى الفعل المضارع عندنا لا يشير إلى اللحظة الحاضرة بمقدار ما يشير إلى فعل لم يتم بعد؛ فالمتحدث بالعربية لا يضع نفسه في لحظته الحاضرة ثم ينسب الحوادث الماضية والمستقبلة بالنسبة إلى تلك اللحظة، كما نرى في اللغة الإنجليزية مثلا حين نستخدم «الفعل المضارع الكامل» أو «الفعل الماضي الكامل» ... على أن هذه ملاحظات سريعة لا تدل على شيء مفيد إلا إذا فكرت في الموضوع تفكيرا مفصلا شاملا، فأرجو أن أتمكن من دراسته يوما ما.
بعد أن فرغت من محاضرتي في الفلسفة الإسلامية اليوم، دعاني أعضاء الفرقة التي أحاضرها - بما فيها من طلبة ومستمعين - إلى حفلة صغيرة أعدوها توديعا بمناسبة انتهاء الفصل الدراسي؛ وهناك قام الدكتور «ه» أستاذ الأدب الإنجليزي - وقد حضر لي جميع محاضراتي بغير استثناء - فألقى كلمة تقدير اهتزت لها نفسي، ثم قدم لي هدية كتاب «محاورات ألفرد نورث وايتهد» الذي صدر هذا الأسبوع، وقد وقع الحاضرون على غلافه من الداخل، بعد أن كتب نيابة عنهم الدكتور «ه» عبارة على الغلاف سأعتز بها ما حييت ... إنني والله كلما تذكرت ما لقيته في هذه البلاد من تقدير يكاد الدمع يسح من عيني؛ فقد عشت في وطني ما عشت، وجاهدت فيه ما جاهدت، ولم أجد إلا بخسا واستصغارا واستخفافا، حتى لقد فقدت الثقة في نفسي، وقد جئت إلى أمريكا فأعاد الناس إلي ما فقدته في أرض الوطن.
الأحد 30 مايو
أراد لي الله أن أرى الجنة قبل أن أغادر مدينة بلمان، رأيتها مرة في «بريست ليك» ورأيتها اليوم مرة أخرى في صورة أخرى؛ إذ قضيت اليوم كله في مكان يسمونه سويسرة الولايات المتحدة؛ حيث تنهض جبال يطلقون عليها اسم «الألب الصغيرة»، وهو مكان يقع في ولاية أورجون التي تجاور ولاية واشنطن من جهة الجنوب، ويبعد عنها ما تبعد الإسكندرية عن القاهرة.
فقد مر علي الأستاذ منو جرينوفلد بسيارته الساعة الخامسة صباحا، فسرنا مارين أولا بمدينة «لوستن» التي كنت قد زرتها مرة وكتبت عنها، وأغرب ظواهرها أنك ترى نفسك فجأة قد أقبلت على حافة منخفض عميق واسع يهوي عن سطح المرتفع الذي أنت فيه ألفي قدم؛ وفي هذا المنخفض تقع مدينة «لوستن»، تنظر إليها من أعلى فكأنك تنظر إلى مدينة في قاع بعيد؛ وطريق السيارات الهابط إلى هذا القاع يلف على سفح الجبل في ثنيات تروح وتجيء في حضن الجبل.
अज्ञात पृष्ठ