كانت الدكتورة الفيلسوفة «س. ش» غاية في جرأة التفكير في كلمتها عن المسيحية؛ فبدأت بقولها إن المسيحية ديانة تعدد لا ديانة توحيد، وهي لا تعني فقط تثليث المسيحية، بل أضافت إلى ذلك كيف يتحدث المسيحيون عن قديسيهم؛ فهذا قديس خاص برعاية الزرع، وآخر بالملاحة وهكذا، ثم أخذت تشرح أساس الأخلاق المسيحية كما كانت في العصور الوسطى - وهي أنقى عصورها - وهو الزهد والتواضع وحب الإنسان لأخيه، وسألت قائلة: هل هذا هو ما يتخلق به المسيحيون فعلا؟ وهنا راحت تذكر نتائج المسيحية على الحضارة الإنسانية، فبدأت بقولها إنها كانت سببا في الحروب أكثر منها سببا في السلام، وأخذت تذكر الحروب والشناعات التي حدثت في أوروبا باسم الدين، ثم انتقلت إلى أثرها على العلوم فقالت إنها كانت نكبة على التقدم العلمي، وراحت تذكر أمثلة تفصيلية للاضطهاد في دائرة العلم والعلماء، ثم شرحت فكرة ذكرها فرويد في أحد مؤلفاته، وهي أن ثلاثة أرباع القوى العقلية عند الناس قد ضاعت بسبب الدين؛ ذلك أن الطفل يندفع إلى السؤال عن شيئين في طفولته، وهما: الله والجنس، فيصده الدين عن المضي في كليهما مضيا صريحا؛ فلا هو يبيح حرية السؤال عن الله بصراحة، ولا هو يبيح له حرية السؤال عن العلاقة الجنسية وأعضائها، وبهذا تنطمس الرغبة الطبيعية عند الطفل في السؤال والبحث، ويتعلم منذ طفولته - بسبب التضييق الديني - أن ينخرط مع الناس في خرافاتهم؛ واستطردت الدكتورة في ذكر رأي فرويد من أن الدين قد سبب للناس من الشقاء بقدر ما سبب لهم من السعادة ألف مرة؛ لأنه كان سببا في الكبت الجنسي وما يترتب عليه من آثار عميقة تحطم الشخصية وتلويها ... لكن الدكتورة المتحدثة عادت فذكرت للدين بعض فضائله، ومنها أن الكنيسة قد أتاحت للإنسان فرصة انضمامه إلى جماعة تتعاطف ولو إلى حين، فيكسبه ذلك شعورا بالطمأنينة، ثم كانت العقيدة الدينية حافزة أحيانا على البحث العلمي، بدليل ما ذكره نيوتن في كتابه «أصول الطبيعة» من أنه إنما أدى بحثه هذا ليكشف به عن خصائص الله، ثم كان للعقيدة الدينية أثر في الفنون تراه في كاتدرائيات العصور الوسطى وتصويرها ونحتها ... ثم عادت الدكتورة إلى هجومها مرة أخرى، قائلة وهي تختم كلمتها: إن المسيحية قد علمت الناس النفاق، بأن جعلتهم يعتقدون أنهم ذوو أخلاق معينة، مع أن حياتهم العملية هي أبعد ما تكون عن هذه المبادئ، ولو عاش المسيح اليوم في أمريكا لحكم عليه بالسجن متهما بعشرين تهمة؛ لأن أخلاقه ستكون متضادة مع القانون الأمريكي في كثير من نواحيه؛ والكنيسة المسيحية فوق هذا كله تمنع تطور الأخلاق؛ لأننا إذا اعتقدنا أن هناك مبادئ خلقية معينة لا تتغير، أنكرنا بالتالي ما يقتضيه تطور المجتمع من تطور خلقي، وكذلك الكنيسة عقبة في سبيل الديمقراطية الحقيقية، وضربت مثلا لما تعنيه ما يجري في الانتخابات الأمريكية من أن المرشح الفلاني لا أمل له في الدائرة الفلانية لأنه كاثوليكي وأهل الدائرة بروتستانت، أو لأنه بروتستانتي وأهل الدائرة من الكاثوليك وهكذا؛ وإذا فالمواطن الأمريكي متأثر في أداء واجبه الانتخابي بأشياء لا علاقة لها بكونه مواطنا أمريكيا، وذلك بسبب عقيدته الدينية.
كنت أتوقع بعد كلمة الدكتورة «س. ش» أن أسمع مناقشة حامية، لكن الذي أدهشني هو أن كل من تكلم بعد ذلك من الحاضرين، إنما تكلم ليضيف إلى مساوئ العقيدة الدينية سيئة جديدة، ومن أحسن من تكلموا شاب اتهم الديانات بأنها تجعل من الناس مرضى في نفوسهم؛ لأنها تصيبهم بالعلل العصبية بما تخلق فيهم من عقد نفسية بالخطيئة، فتراهم يمتنعون عن العيش عيشا سعيدا بما غرس فيهم الدين من تحريمات لا مبرر لها. •••
كانت الليلة موعد الحفلة الراقصة الكبرى التي أقامها طالبات السنة الثالثة من الجامعة بشتى أقسامها لانتخاب ملكة الجمال فيهن، وبالبداهة من ينتخب هم الطلاب الذكور، وقد تمت عملية الانتخاب أمس ، لتعلن النتيجة في هذه الحفلة التي تقام الليلة، إنها حفلة مشهورة بين حفلات العام كله بأنها لا تقتصر على الجامعة بل تشمل ألوفا جاءوا من أنحاء الولاية كلها، وأنا أستعمل «ألوفا» لأعنيها ؛ فقد قدروا أن من جاء إلى الحفلة الليلة عشرة آلاف راقص وراقصة.
كان لمن شاء أن يشتري تذكرة للفرجة دون الرقص، على أن يجلس في شرفة الصالة الفسيحة، فاشتريت تذكرة وجلست في الشرفة أنظر من أعلى إلى هذه الألوف المتزاحمة من فتيات وفتيان في أبهى حلة يرقصون ... منظر نادر الوجود في الدنيا بأسرها؛ الفتيات كلهن بغير استثناء قد لبسن فساتين السهرة أشكالا وألوانا، والكثرة العظمى من تلك الفساتين تكشف عن نصف الظهر بالكتفين وجزء كبير من الصدر، وفي ضوء المكان الخافت ظهرت هذه الأعالي العارية من ظهور وأعناق وصدور وأذرعة كأنها شهد وورد! بل لا أدري ماذا أقول، فما الشهد وما الورد حتى نقارن به هذه الأجساد البشرية الجميلة الشفافة التي تتدفق شبابا وحياة وفتنة وروعة؟! وكان معظم الطلاب قد ارتدوا حلل السهرة أيضا ... حين كانت تعزف الموسيقى أنغاما ناعمة خافتة، كنت أسمع حفيف الفساتين يضيف إلى الموسيقى نغما آخر هو في ذاته أجمل من الموسيقى، لكن الأدوار الموسيقية العالية كانت تغرق ذلك الحفيف، وتستبدل به فتنة أخرى، هي حركة الرقص السريعة التي تذكرك - إن كنت قد نسيت - أنك من هذه الشرفة إنما تطل على شباب في عز الشباب! ... كان «نيتشه» عليل البدن قصير النظر، وقد وقف ذات يوم إلى جانب الطريق حين مرت أمامه فرقة من الجيش الألماني تدق الأرض دقا بأقدامها القوية، فتحسر على نفسه وعلى بدنه العليل الهزيل، الذي لا يستطيع أن يمشي مثل هذه المشية الفتية العنيفة، وعندئذ تمنى للإنسان ألا يكون إلا هكذا قويا، ومن ثم نبتت في رأسه فكرة فلسفته كلها؛ وأعني بها فكرة «الإنسان الأعلى» ... وقد تذكرت ذلك وأنا أنظر من شرفتي إلى هذه المئات من الشباب الجميل يتلاصق حبا، وتنظر العيون إلى العيون غراما، تذكرت وتحسرت أنني لست واحدا من هؤلاء، ثم تمنيت للدنيا كلها ألا تكون إلا هكذا شباب وجمال وحب؛ قارن هذه المجموعة بأية مجموعة أخرى في أي وجه آخر من أوجه الحياة: عمال في مصنع مع عاملات، طلبة في جامعة مع طالبات، متفرجون في مسرح مع متفرجات، شارون في متجر كبير مع شاريات ... فلن تجد ما هو أروع في هذه الجماعات كلها من هذه المجموعة: مجموعة الراقصين والراقصات في هذه الثياب وفي هذا الشباب ... إن الذي قال إن الدنيا قد خلقت للعمل قد كذب، أو خلقت للدراسة قد كذب، إنما خلقت الدنيا للحب، الحب في إبانه، على شرط أن يكون المحبون من أصحاب الجمال وصاحباته.
وقفت الموسيقى، وصاح صائح مع ضربات طبلة دوت في المكان: «ملكة السنة الثالثة لهذا العام ...» أنصتت الآذان لتسمع من ذا يعلن عنها «ملكة» ... ثم أكمل الصائح صيحته ناطقا بالاسم، هي «مارثا» فدوى المكان بتصفيق حاد كادت ترتج له الجدران، طبل يدوي وزمارات تزمر في انفعال؛ الجو كله قد امتلأ بالفرح كأن نبيا جديدا قد أرسلته السماء ليهدي الناس فوق الأرض!
وعجبت أنا حينا كيف لم تنتخب «سوزان»؟ أنا لا أعرفها فليست من طالباتي، لكن رأيت إعلاناتها في الأسبوعين الأخيرين تسد الفضاء، تعترضك في الطريق وعلى الجدران وفي فصول الدراسة وعلى موائد المقصف والمطعم، وفي المذياع تسير به السيارات تشق به سكون مدينة بلمان الهادئة: «صاحب الوجدان ينتخب سوزان»، وغير ذلك من العبارات التي أجادت صياغتها لتجيء مجموعة منغومة، جاعلة من اسمها «سوزان» مرة و«سوزي» مرة أخرى و«سو» مرة ثالثة ... فمن ذا قد تحجر قلبه بعد هذا كله ولم ينتخب «سوزان»؟ إذا فلأرقب لأرى كيف تكون «مارثا» الظافرة بعرش الجمال ...
ها هم الراقصون والراقصات قد أفسحوا طريقا، وفجأة رأيت عربة العرش مارقة من وسط الزحام، لست أدري من أين جاءت؛ عربة زخرفوها بستائر من قماش مرصع باللوامع وزينوها بالزهور، وجلست «مارثا» على حافتها الخلفية عالية ظاهرة، وجلس أمامها أربع وصيفات ممن كن ينافسنها أمس في عرش الجمال، وكان يدفع العربة من الخلف شابان بثياب السهرة السوداء؛ البنات الخمسة كلهن بثياب السهرة البيضاء؛ الكل يصفق لمارثا وهي مارة في الطريق الذي أفسحوه لعربتها التي سارت بغير صوت كأنها صنعت من الهواء! دارت العربة حول القاعة حتى ذهبت إلى حيث فرقة الموسيقى، وهنا أخذ المذيع يذيع اسمها من جديد، ثم وضع على رأسها تاجا جميلا من الزهر الأبيض ثم ناولها أشياء مختلفات، الواحد تلو الآخر؛ هذه كأس وهذا ما لست أدري ماذا، ودقت الطبلة دقات اهتزت لها القلوب، وعلا صوت الموسيقى، وبدأت العربة في دورة جديدة حول القاعة، هذه المرة كانت الملكة قد تم تتويجها، «مارثا» في هذا الجمال النادر هي الليلة ربة الجمال؛ ضع هذا الجمال الإلهي في ثوب غاية في الرونق، ثم ضع على هذا كله تاجا جميلا من الزهر الأبيض، وأجلس أمامها أربع فتيات هن فتنة لكنهن دونها؛ لأنهن جلسن عند قدميها، وهن اللائي كن منذ يوم واحد يسابقنها وينافسنها في الجمال، رأيت هذه المرة «سوزان» بين الوصيفات، رأيتها بكل إعلاناتها وصخبها قد جلست الآن ساكنة عند قدمي «مارثا» خضوعا لجمالها وخشوعا.
وانتهت الدورة وعاد الرقص إلى مجراه، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل، فخرجت وتركت هذه الدنيا الزاخرة الحافلة بالشباب وبالجمال وبالفن الذي تبدى في الشباب وفي الرقص وفي الموسيقى والغناء، وستظل الحفلة قائمة إلى الثانية بعد منتصف الليل، خرجت وشاء الله أن يبدأ المغني أغنية وأنا في طريقي إلى الباب، بدأت بهذه العبارة: «أنى لي امرأة تقبلني، امرأة تضمني إليها ضما لصيقا، ثم تسرق قلبي وتمضي!»
الجمعة 7 مايو
كنت في نادي الأساتذة صباحا أجلس مع أستاذين كانا يتحدثان عن سقوط «ديان بيان فو» (في الهند الصينية)؛ وانتهى الحديث إلى ذكر «أخلاق الحرب» والاختلاف في فهمها بين الشرقيين والغربيين، فقال أحدهما - وهو شاب: إن أخلاق الحرب تختلف في نظر أهل الشرق الأقصى عنها في نظر الغربيين (ولعله صب حديثه على الشرق الأقصى لوجودي، وإلا لجعل حديثه عاما على الشرق أقصاه وأدناه معا)؛ فالشرقيون - في رأيه - لا يفهمون أبدا ما معنى أن يكون عليهم واجب نحو أسرى الحرب، قال: إنني عندما كنت هناك تحدثت إلى كثيرين منهم فوجدتهم جميعا يعتقدون بأن الحرب قتل، فلماذا يشغلون أنفسهم بعبء الأسرى طعاما وثيابا ورعاية، مع أنهم من الأعداء؟ فأجاب زميله قائلا: نعم، إن الشرقيين لا يفرقون بين الجندي باعتباره إنسانا والجندي باعتباره عضوا في جيش محارب، وإنه إذا ما كان في موقف يزيل عنه العضوية في الجيش المحارب ويجعله إنسانا صرفا وجب عندئذ تغيير النظرة إليه ... فعاد الأستاذ الشاب إلى الحديث فقال: إن أخلاق المدنية الغربية المسيحية هي أنه إذا قابلك قاطع طريق مسلح ورفعت له ذراعيك استسلاما امتنع عن قتلك، فإن كان هذا هكذا، فالحصن الذي يستسلم أو الطائرة التي ترسل إشارة إلى أرض العدو بأنها ستهبط عجزا واستسلاما، وجب الامتناع عن إيقاع الأذى بجنود الحصن أو ملاحي الطائرة؛ إنني لما كنت أتحدث في ذلك إلى أهل الشرق الأقصى، وجدتهم يجيبونني بالقنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون فوق هوريشيما، ويذكرون لي كيف فتكت تلك القنبلة بمئات الألوف دفعة واحدة، وهم يذكرون ذلك ليدلوا على أننا نحن الغربيين كذلك نقتل الناس غير المحاربين ما دمنا في قتال، وهم لا يدركون أنه بدل أن نرسل جنديا يحارب جنديا، فقد اكتفينا بإرسال جندي ليحارب مدينة بأسرها؛ وذلك لأنهم لا يزالون يتصورون أن الحرب هي نزال بين جندي وجندي ... وهنا توجه الأستاذ الشاب إلي يطلب رأيي في هذا كله - ولم يكن لي رغبة ساعتئذ في الحديث - فقلت له: إن مسألة «أخلاق الحرب» بأسرها مسألة اعتبارية، فلم ينزل وحي من السماء يقول إنه ينبغي أن تكون للحرب أخلاق هي كذا وكذا، وما دام الأمر كذلك فقولوا أنتم ما شئتم ولأهل الشرق الأقصى أن يقولوا ما يشاءون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنت تتحدث كأنما الأمر من ناحية الغربيين كله براءة وشهامة، واتخذت هوريشيما علامة على عدم فهم الشرقيين لروح القتال الحديث، وفي موقفك تناقض صريح؛ لأنه إن كان الغرب يساير روح القتال الحديث في أن يرسل جنديا واحدا كما تقول ليهلك مدينة بأسرها، فيها المحاربون وغير المحاربين، إذا فالغرب باتجاهه هذا قد ناقض «أخلاق الحرب» التي تزعم أنها من مبادئه، ولم يصبح فرق بينكم وبين أهل الشرق الأقصى في فهمهم للقتال بأنه قتل ... وانتهى الحديث فجأة لبدء موعد الدروس.
अज्ञात पृष्ठ