وكان ما سطرته في الكتاب فاقرأه هناك. وإن غرائز الإنسان وطبائعه قابلة للارتقاء وما منعها إلا فساد التربية والتعليم، والزيغ عن الجادة، والميل عن الصراط المستقيم.
تمثيل آراء الإنسان بالبحر الملح وبالنبات
ولقد تبين لي أن معارف الإنسان وعلومهم كالنبات على سطح الأرض، وكالذي حواه البحر الملح.
إن النفس أخت المادة وشقيقتها كأنهما مشتقتان من أصل واحد، وربما نشأت إحداهما عن الأخرى، فلذلك تشابهت نتائجهما، ألا ترى أن الأرض تحمل الشجر المثمر والنبات النافع، فيها النخيل وثمره والعنب وزبيبه، والقمح المغذي، والصبر المداوي، والتين فاكهة، والكلأ مرعى، والقطن والتيل والكتان ملبسا، وفيها الحنظل المر، والسعدان ذو الشوك، والحشائش السامة، والنباتات المخدرة.
وإن النفوس البشرية، زرعت فيها بذور الفضائل والرذائل، فالعلوم المشيرة للصناعات كنبات القمح في الأرض، والخلقية للتداوي كالصبر، وذلك كعلم الأخلاق، وترى الأشعار الكلامية كالفاكهة، والنكات المضحكة كالمراعي؛ فإنها تسر القوة البهيمية، وعلوم الدفاع كالملابس. ومن الناس من يسخر غيره على خدمته لمصلحته، ومنهم من يرى الفضل في كف الأذى.
ومن وجه آخر، أرى الناس يقرءون قضايا الاجتماع معكوسة متناقضة، فتراهم يقولون: نعطف على الإنسان، وهم هم، الذين يجهرون بامتداح القواد القاتلين كنابليون، ويشرفون الكذوب من رجال السياسة، فحار فكري في هذا الإنسان، ورأيت أن مثله في مسائله العلمية كمثل رجال قصدوا البحر الملح، فأما أحدهم فإنه اغترف من الماء غرفة فشربها، وأما الآخر فخلصها بالتقطير كما يفعل السحاب، وأما الآخر فاصطاد الأسماك، وغيرهم استخرج الجواهر بأصدافها والمرجان من منابته، والبحر واحد، وكل منهم يؤيد عمله بحجة وبرهان.
ثم رأيت أن كل طائفة مغترة بما لديها قانعة بما وصلت له، وترى أمم الصين والهند التي قضت تعاليمهم بالانكماش، زلزلوا في أماكنهم، وغزتهم أمم أخرى، فاستفزتهم، والسبب تنافي التعليمين، وتناقض المذهبين، وتباعد الرأيين بعد المشرقين. فقلت: أوليس بين هذه المذاهب حق واضح! فتبينت أن أكثر الآراء تجمع ما بين الجيد والخبيث، والرديء والطيب، والكمال والنقص، وإن الحق مخبوء فيها كامن في النفوس، فرأيت أن أبحث عنه في الأنفس والآفاق، وأن أبينه للناس على سطح الكرة، ولم يكن لي أن أخاطب دولة واحدة أو أمة واحدة كما فعل بيدبا الفيلسوف الهندي أيام الملك دبشليم ببلاد بنجاب بالهند قبل ثلاثة وعشرين قرنا، فذلك زمان كانت الأمم فيه منفصمة العرى، بعيدة المواصلة، ووعرة المسالك، طويلة الشقة، فأما الآن فقد استدار الزمان، وتغيرت الأحوال، واتصلت الأمم، وتداخلت الأخلاق، واجتمعت الجماعات، ومدت الأسلاك، وأصبح الناس كأسرة واحدة، وأصبح الخبر يطوي البيد طيا في ثانية من الزمان، ولو أن أمة من الأمم عكفت على الفضيلة، وكان غيرها متشبثا بالرذيلة، متعلقا بأذيال النقيصة فما جزاؤها إلا الوبال إذ تتحد جاراتها على اهتضامها واقتسامها، فلا محيص لها من مقابلة الشر بالشر، كما يكافأ الإحسان بالإحسان.
فلم يكن لي بد من التصريح برأيي والجهر بعقيدتي للناس قاطبة. فقديما كان الناس لا يعلمون شجرة القطن إلا قليلا. ولم يعم الكرة الأرضية إلا في قرون متأخرة، وكان الإنسان عاكفا على صوف الحيوان وجلد الدواب، فزرع كثيرا من الأرض بهذه الشجرة المباركة الطيبة «القطن»، فألبسته ووقته وهج الحر وقارص البرد وزينته. هكذا الآراء منها ما ظل قرونا في زوايا النسيان، ثم يفطن له أناس فيبذر في بسائط النفوس فيكسوها جمالا وبهاء، بعد أن كانت عارية من لباسه عاطلة من حليه. وكما يزرع الناس في البسيطة ما جهلوه أحقابا فيغنيهم ويكسوهم فهكذا يزرعون في بسائط النفوس ما غادروه فيها أحقابا ودهورا، وأغفلوه فينشطون ويرتقون، ولكم خمدت جذوة فكرة بعد اتقادها، واتقدت جمرة بعد خمودها كما يستنبت الناس نباتا بعد أن جهلوه، ويذرون آخر بعد ما ألفوه. إن بين النفس والمادة لشبها، إنهما أختان، ألا إن العلوم كالنبات، والنفوس الإنسانية كالمواد العنصرية والكرة الأرضية، ألا إن هذا الكون لعجيب.
جهرت بهذا الرأي لتبرأ ذمتي أمام الله عز وجل. خفت أن يدفن معي، ويدخل مضجعي، وقد علمت أن التجار لا يزورون مكانا إلا أعلنوا فيه عن سلعتهم، ولا زقاقا إلا ألصقوا بجدرانه أخبارهم. فقلت: ما أحق الآراء النافعة بالنشر بين الناس، وما أولاها بالتعميم؛ لأن التجار إنما يعطون منافع الأجسام، وأما ذوو الآراء فيعطون الناس منافع العقول، وما به يرشدون ويصلحون، فأحببت من المصلحين المرشدين وقادة الأمم في الأرض أن يعنوا بتعميم الفضيلة والمحبة العامة بين الأفراد والشعوب شرقا وغربا كما تراه مفصلا في الكتاب.
ولقد أيقنت أن ما دونته في كتابي سيكون عقيدة عامة بعد حين وسيتلقاه عقلاء العالم بالقبول، ويخيل لي أن العالم الإنساني سيكون أنعم بالا وأحسن حالا وأرفع شأنا، وأعز مكانا، وأشرف نفسا، ولتعلمن نبأه بعد حين.
अज्ञात पृष्ठ