224

وأذكر تلاقيهما في باريس يجتمعان على هوى عذري، وفرح هو أشد ضروب العذاب، في ملتقى حبيبين هو أشبه بمأتم تهيأ فيه للقضاء الذي ليس منه مفر، ويوم يبيع رفائيل لؤلؤة أمه وهو يبلها بدمعه ليستطيع الإقامة على مقربة من جوليا، ويوم ذهب إلى أمه فأخبرها أن الطبيب أشار عليه بالمسير إلى «سافو»، فلا تجد أمه بدا من أن تقسو على أعز صديق، وأنفس ذخيرة، وأجمل ذكرى: الشجرات اللاتي يظللن الدار، واللاتي حنون على هذه الأسرة دهرا طويلا، فكان في ظلالهن مسارح اللهو، ومدارج الصبا لرفائيل وأمه وأبيه. فانظر كيف تضطرها الأقدار أن تسلط الفأس على هذه الأشجار! كل أولئك أذكره، وإنها لذكرى ممضة، ولكن ما حسبت قط أن يبلغ الحزن بي هذا المدى.

البارحة بعد نصف الليل أخذت الكتاب أقرأ الوريقات القليلة الباقية، ونفسي تضطرب فزعا مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.

حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير إلا ظلاما، ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة، ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه، على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.

قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس، ثم عن رسائل باريس، فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط «ألن» لا خط جوليا، يقرأ سطورا سوداء تنعي إليه جوليا، وينظر بصره الزائغ، فإذا خط جوليا نفسها - أجل خط جوليا نفسها - ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت؛ لتعزي رفائيل عن نفسها فلله ما أفظعها تعزية!

تركت رفائيل يخر مغشيا عليه، وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت، ثم لج بي البكاء.

حاولت سدى أن أسكن جأشي، أو أكفكف دمعي. ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة. كانت قصة رفائيل لها كقدحة الزند، أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.

كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة، رجلا مجهولا، يشبه لامرتين؛ طبعا مكتئبا، وقلبا منقبضا، ونفسا ملتهبة.

كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلي لامرتين أم أحسن؟ ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟!

الربيع1

دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهارا، واشتعلت الأرض أزهارا وأشجارا.

अज्ञात पृष्ठ