223

لا لا، سعيد يأبى، سعيد يصمم أن يقول ما يكنه فؤاده: سعيد يربأ بنفسه أن تعرض في الحق، سعيد يحقر الحياة، ولا يرهب الموت، سعيد لا تأخذه في الله رهبة.

ويحك يا سعيد! إنهم ينادونك، فالله في نفسك وأولادك والعلم الذي في صدرك، إن الأمر لأهون من أن تقتل فيه، فالآن فاختر: إما الحياة وإما الموت.

يتقدم سعيد مزدريا بكل شىء إلا الحق، يمثل سعيد بين يدي الحجاج، سئل: أتقر على نفسك بالكفر؟ فقالها كلمة أكبر من الحجاج وأعوانه، وعبد الملك وسلطانه، وأكبر من كل جبروت في الأرض، قالها ليشتري الحق ويبيع الحياة. أجاب سعيد ساخرا بالجنود والأعوان، والسيف السلطان، قد ملك عليه الحق عقله وقلبه ولسانه.

قال: «ما كفرت بالله مذ آمنت به.»

هوى رأس سعيد عن جسده، قذف سعيد برأسه في وجه الجبروت، وقدمه ثمنا للعقيدة والإباء.

سعيد بن جبير لم يذله مطمع، ولم يملكه خوف، ولا أزرى به ملق، ولا طأطأ رأسه لجبروت، ولكنه كره الحياة، ورغب في الموت؛ ليقول ما يعتقد بين السيف والنطع. فاعتبروا يا أولي الأبصار.

رفائيل1

البارحة بعد نصف الليل أتممت قصة رفائيل قراءة، وكنت بدأت قراءتها منذ زمن بعيد، فتطاول الأمد، وتثاقلت النفس تثاقل الغم على قلبي جوليا ورفائيل.

ما حسبت قط أن الحزن الذي شربته جرعات، وأشربه قلبي رشحات، وأحسسته حينا بعد حين، يبلغ هذا المبلغ. بلى! أذكر أني في إحدى الليالي وقفت القراءة إشفاقا على نفسي حينما بلغت برفائيل وجوليا حديقة «منسو» وحم هنالك الوداع. أذكر أني حينئذ وضعت الكتاب على حافة السرير، وألقيت على الوسادة رأسا ينوء بالهموم، فماج بي الليل، وطار الفكر في أرجاء السماوات، وقذف القلب بأحزانه زفرات، ودارت النفس في أعماق من الظلام والفكر ما لها من قرار، ولكني ما حسبت قط أن الحزن آخذ بي إلى الغاية التي بلغها البارحة.

أذكر أن في هذه القصة مواقف موجعة، ومشاهد مروعة، أذكر جوليا ورفائيل وهما في نفسيهما مأساتان أحكم الله تأليفهما، وبعث بهما إلى الأرض في صفحات الحادثات، أو في صفحات «لامرتين» لتقرأ على مر الأيام، وأذكر البحيرة؛ بحيرة «برجيه»، يوم كان اللقاء بين حبيبين لا يعرف أحدهما الآخر، فكأنهما التقيا على موعد بعد أن برح بهما الشوق، وأمضهما الانتظار، ويوم حان فراق «إكس»، ورحلت جوليا إلى باريس، فتبعها رفائيل يرقبها عن كثب وهي لا تدري، وينجدها كلما عرض لها ما تكره، حتى أبلغها دارها ثم رجع.

अज्ञात पृष्ठ