فيرى القارئ الكريم أن مشروع الأمير عاصم نجح نصفه الأول؛ أي تفريق جوزفين عن الأمير نعيم، وأخفق نصفه الثاني؛ أي تقريب أخته الأميرة بهجت إلى الأمير نعيم، بل بالحري ازداد تنائيا؛ لأن الأمير نعيما التهى عن كل الناس بأحزانه وغمومه التي لم يكن الأمير عاصم لينظر بلوغها هذا المبلغ، وقد علم القارئ أنه أخفق أيضا في امتلاك فؤاد الأميرة نعمت وقطع الأمل من الحصول على يدها؛ ولذلك صمم على إفراغ جعبة نقمائه الخفية من نعيم ونعمت. وقد عرف القارئ كيف أن أحمد بك رد سيف نقمته عن الأميرة نعمت وجوزفين في وقت واحد.
وقد تنقل الأمير نعيم بين مدن أوروبا بغية أن يسرى عنه، فلم يكن إلا ليزداد غما ولوعة؛ لأن غيظه كان مقرونا بالحزن، ووجده على جوزفين مشفوعا بالغيرة، ولأنه ما زال لذلك العهد يحبها بعض الحب، ولكن نفسه الأبية تنكر عليه أن يصفح عنها.
وفي ذات يوم وهو في باريس وردت إليه بطاقة زيارة باسم جوزفين؛ إذ كان نازلا في فندق رويال، فلما وقع نظره على البطاقة جعل بدنه يرتعش وقلبه يختبط في صدره وصعد الدم إلى رأسه حتى اعتراه صداع شديد، فحار ماذا يعمل، فخاف أن ينزل إليها ويبتدرها بضربة قاضية، وافتكر أن يستقبلها في غرفته لكي يؤنبها ويهينها، فخاف أيضا أن لا يتمالك نفسه ويضربها.
فقال لخادم الفندق: قل للسيدة صاحبة هذه البطاقة أن تختفي من أمام وجهي لئلا تضطرني إلى ارتكاب جناية، وما خلصها من نقمتي الهائلة إلا وجودي في بلاد غريبة لا نفوذ لي فيها.
والذي يسمع هذا الكلام يتوهم أن الأمير نعيما رجل سفاك دماء وعدة شر، ولكن الذي حنكته الأيام يعلم أن كثيرين من الناس يقولون ولكنهم عند الجد لا يفعلون، ولا سيما طيبو القلب؛ فإنهم في عزلتهم وخلوتهم يستشيطون متغيظين ويحرقون الأرم غاضبين، ولكنهم متى قابلوا خصومهم بشوا لهم؛ لأن قلوبهم توحي إليهم أن المسألة أفضل.
وقد كان الأمير نعيم من هذه الفئة، ومع ذلك كان غضبه - بل وجده وغيرته - أشد من أن يقبل التسامح، فلما بلغ إلى جوزفين كلامه وهي في بوابة الفندق ارتج فؤادها، وشعرت كأنه سقط من بين جنبيها ووقعت في مكانها، فأنهضها الخادم وأجلسها على كرسي، وقال: خففي عنك يا سيدتي، لعل هذه الساعة ساعة بؤس عند الأمير، فالتمسيه في ساعة رضى.
وقد توسم الخادم من ملامح جوزفين أنها مظلومة، فرثى لها وطيب خاطرها، ولما انتعشت ركبت مركبة ويممت فندق إيطاليا حيث كانت نازلة.
أما الأمير نعيم، فقضى ذلك النهار يتلظى على نار غيظه ووجده، وافتكر عدة أفكار في الانتقام من جوزفين بالطرق الشريفة التي تزيد ندمها وتلوع قلبها بنار الغيرة، ولما جاء إلى الفندق في المساء وجد بين رسائله رسالة هذا نصها:
عن فندق إيطاليا نمرة 6
مولاي
अज्ञात पृष्ठ