علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
1 - من الجحيم إلى النعيم
2 - حب بلا قلب
3 - بدء الأسرار
4 - الهدية الثمينة
5 - من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
6 - مستودع الأسرار
7 - ابحث عنه
8 - أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
9 - الحية وحواء والأبالسة
अज्ञात पृष्ठ
10 - لا تدري أين هو
11 - ليست بخائنة
12 - مؤتمر عزرائيل ويوضاس
13 - بيد العناية السموية
14 - لو كنت تعلمين
15 - مديونة له بحياتها
16 - جزاء سنمار
17 - أما سألت عني؟
18 - الحية الثانية
19 - إضرام الغيرة أشد انتقام
अज्ञात पृष्ठ
20 - مفتاح الأسرار
21 - رد الكيد إلى النحر
22 - التعويذة
23 - ماري المباركة
24 - كشف المخبأ
علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
1 - من الجحيم إلى النعيم
2 - حب بلا قلب
3 - بدء الأسرار
4 - الهدية الثمينة
अज्ञात पृष्ठ
5 - من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
6 - مستودع الأسرار
7 - ابحث عنه
8 - أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
9 - الحية وحواء والأبالسة
10 - لا تدري أين هو
11 - ليست بخائنة
12 - مؤتمر عزرائيل ويوضاس
13 - بيد العناية السموية
14 - لو كنت تعلمين
अज्ञात पृष्ठ
15 - مديونة له بحياتها
16 - جزاء سنمار
17 - أما سألت عني؟
18 - الحية الثانية
19 - إضرام الغيرة أشد انتقام
20 - مفتاح الأسرار
21 - رد الكيد إلى النحر
22 - التعويذة
23 - ماري المباركة
24 - كشف المخبأ
अज्ञात पृष्ठ
أسرار مصر
أسرار مصر
تأليف
نقولا حداد
علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
تئن الهيئة الاجتماعية من آلام علل ثلاث: الشهوة أولاها؛ فالعفاف يتألم من الفساد، والسيادة ثانيتها؛ فالعدل يتوجع من الاستبداد، والأثرة ثالثتها؛ فالسلام يتفجع من الشرور.
في هذه الرواية عبرة من عبر العلة الثالثة وآلامها، وللقارئ الفطن أن يتدبر ذلك.
نقولا حداد
الفصل الأول
من الجحيم إلى النعيم
अज्ञात पृष्ठ
«أراك تقسو على ابنك في تأديبه يا شيخ حسن، مع أن الرفق لمن هو في سنه أفعل في تهذيبه.» قال هذه العبارة الأمير نعيم لوكيل أملاكه في ق. الشيخ حسن النعمان، إذ كان ذات يوم عنده يتفقد أملاكه، وقد لاحظه مرارا يكلم الغلام يوسف إذ يأمره أن يلبي أمرا. - إنه بليد يا مولاي ... - بل أراه رخصا ضعيفا لا يحتمل ما تحمله، ولا يقدر على ما تكلفه، فخليق بك أن تطلق له العنان في ميدان اللعب، لا أن تقيد حريته بقيد الواجبات؛ لأنه حديث السن جدا. كم عمره؟ - أظن خمسة أعوام. - تظن؟! عجيب، ألا تعلم كم عمر ابنك؟
قال هذا الكلام ضاحكا، أما الشيخ حسن فامتقع وجهه حياء من هذا التأنيب اللطيف، وتردد في الجواب. - ليس هذا ابني يا مولاي؛ ولذلك أجهل ميلاده. - ابن من هو إذن؟ - لا أدري، وإنما المرحومة عائشة القابلة - الداية - دفعته إلي منذ 4 أعوام، إذ كان طفلا يدرج على الأرض، وقالت: «ألك أن تربي هذا اللقيط لعل خيرا منه يرجى؟» فقلت: «أنى لك هذا؟» فامتعضت وأبت أن تجيب لو استطاعت ولكنها لم تر بدا من الجواب، فقالت: «لا أعلم أبويه، فما هو إلا لقيط، أما فهمت؟!» قلت: «فهمت، ولكن لا بد أنك تعلمين أمه على الأقل.» فاقتضبت اعتراضي قائلة: «حسبك ما فهمت، فلا تسل عن أمه إن كنت تشاء أن تربيه.» ففهمت من فحوى كلامها أنه ابن بغاء، فقلت لها: «أربيه، فلا بد أن ينفع ولو خادما.»
وكان الأمير نعيم يسمع حكاية هذا الغلام وهو ينظر إليه مبهوتا، فقال: ولكن إذا لم يكن ابنك أفتقسو عليه إلى هذا الحد؟! إن مثل هذا الوجه النضير، والمحيا المشرق، والمبسم المنير، والجسم الرخص، والعينين الذليلتين، كل ذلك خليق بأبناء الملوك، فحرام أن يسام هذا الهوان في هذه العزبة. - لا بد أن يكون يا مولاي ابنا لبعض الفساق الأوروبيين، الذين يفترشون رمل الحدائق المصرية لبغيهم في إبان قصفهم؛ لأن هذه الملامح ليست ملامح المصريين. - ليكن ابن أي كان، فلا أراه الغلام مخلوقا لحياة على هذا الأسلوب. - ماذا أفعل له يا مولاي سوى أن أعده للفلاحة والزراعة؟
ففكر الأمير نعيم هنيهة وهو جالس على كرسي في حديقة المنزل ينكت الأرض بعصاه. - لماذا لا ترسله إلى مدرسة؟ - مولاي، عندي أولادي وأنا عاجز عن تعليمهم، فهل أبذل نفسي لأعلم ابنا لا صلة لي به؟ وما الفائدة من تعليم هذا الصبي؟! - ألا ترى في مقلتيه بريق الذكاء، وفي صدغيه المنتفخين دليل العقل؟! إنه لم يخلق للمحراث، فهل تسمح لي به؟ - أنا وأولادي وكل من يلوذ بي عبيدكم يا مولاي الأمير. - ما اسمه؟ - يوسف. - ألبسه أحسن ملابسه إذن.
فتحير حسن ماذا يفعل أو ماذا يقول، فلاحظ الأمير حيرته. - أندمت على إعطائي الصبي؟ - كلا يا مولاي. - إذن لماذا تتردد في إلباسه أنظف ملابسه لكي آخذه؟ - عفوا مولاي، إن ما يلبسه الآن هو كل ملابسه.
وكان ذلك الصبي يوسف يلبس رداء لا يعرف له اسم بين أنواع الأردية، فلا هو «جلابية» يعرف، ولا وشاح يسمى، وكان خليقا مرقعا لم يبين له لون تحت أوساخه، فنهض إليه الأمير نعيم وأمسك بيده غير مستنكف، وقال: أتذهب معي يا يوسف؟
فنظر إليه الغلام نظرة استغراب وأمل، كأن لسان حاله يقول: «أنى لي أن أنتقل من الجحيم إلى النعيم؟!» ولكنه لم يفه ببنت شفة. - هيا معي هيا. وجذبه، فامتنع الصبي، فلاطفه فمشى معه بضع خطوات، ثم التفت الأمير إلى أحد الفلاحين حوله، وقال: خذ هذا الصبي الآن إلى مصر، وها إني أذودك برقعة بشأنه.
الفصل الثاني
حب بلا قلب
في ذلك الحين كان الأمير عاصم مختليا بأخته الأميرة بهجت هانم في قصره يتفاوضان بكل اهتمام. - لقد ضاق ذرعي يا عاصم في ملاطفته، وقلت، بل نفدت كل حيلي في استمالته فلم أفلح، وها الآن قد مر علي خمس سنين صابرة على إعراضه، مجالدة في هواه حتى كدت أموت من فتوره، وقد قرأ كل حرف من آيات غرامي، ولم يخف عليه شيء من شجوني، يرى مني كل ذلك ويعاملني معاملة الأخت لا معاملة الحبيبة، فما العمل؟
अज्ञात पृष्ठ
ثم تنهدت وقالت: آه يا نعيم! ما أنت إلا جحيمي ونعيم جوزفين!
وما استتمت هذه العبارة إلا بصوت أضعف من هبوب النسيم اللطيف، وبعبرات كالسيل الدافق، فقال أخوها الأمير عاصم: خففي عنك يا بهجت وهوني، إن لم تجدي من الهوى جاذبا للأمير نعيم إليك، فلا بد أن أجد في سياستي الخفية دافعا يدفعه إلى جنبك. - أتعني دافعا يدفعه بالرغم منه؟ - نعم. - وما الفائدة؟
إذا لم يكن حفظ الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجي بالتكلف - لا بأس، فإن غرضي الأول أن تكون أملاكه في قبضة يدك، وحينئذ يسهل عليك أن تجعلي قلبه في كفك. - آه، آه! ليت لي قلبه وهو حسبي وكفى. - سيكون لك الأمران يا بهجت فلا تقنطي، صبرت كل هذا الأمد الطويل فاصبري ريثما أستتم وسائلي. - كل الحق عليك يا أخي، فأنت الذي نبه قلبي إلى حب عقيم سقيم، لا أعجب إذا لم يمل نعيم إلي ميل العاشق للمعشوقة؛ لأني ربيت وإياه تحت سقف واحد كأخوين، فلا بدع أن يشغف بسواي من النساء اللواتي لا ترميه الأقدار بينهن برهة حتى تمنعهن عنه برهة أطول فتشوقه إليهن؛ ولهذا يزهد بي لأني غير ممنوعة عنه، ولكني أنا لا ألتوي عنه إذ لا أتوقع سواه، فليتك لم تمهد سبيلي إليه وتحجبني عن غيره، فكنت أرحتني من هذا الهم الناصب، آه! لقد قتل جلدي.
وحدث سكوت بضع دقائق وعلى جبين كل من الأمير عاصم والأميرة بهجت غمامة غم سوداء، إلى أن بترت بهجت ذلك السكوت سائلة: وأنت ماذا تم لك مع أخته الأميرة نعمت هانم؟ - لقد أعجزتني أكثر من إعجاز أخيها لك. - أفما لانت؟ - كلا، لم تزل شامخة ولم أدر سر رفضها. - لعل قلبها مشغول بحب مكتوم يا عاصم. - بحثت طويلا فلم أهتد إلى شيء من ذلك. - إذن تأباك ولو كان قلبها خلوا من هوى؟ - لا يهمني قلبها. - يالله! ما أقوى جلدك! ألا تزال تطمع بها وهي نافرة منك؟! - جل ما وعدت به هو أن تقترن بي على شرط أن تحفظ عصمتها لنفسها كما علمت. - ولا أراك تحصل على غير ذلك فاقنع به. - وما الفائدة منه وأنت تعلمين أن جل بغيتي أن أضم لنا كل ميراث المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرتي، بحيث يكون نصيب نعمت تحت يدي ونصيب نعيم لك، فإذا رضيت نعمت على الشرط الذي اشترطته أخيرا وهو أن تحفظ حق عصمتها لنفسها كنت كأني لم أعمل شيئا؛ لأن نعمت تقدر أن تتركني متى تشاء، أو أضطر أن أستعبد نفسي لرضاها كل عمري لكي تبقى لي، ومع ذلك لا أضمن بقاءها، فإذن يجدر بي أن أختلق الوسائل الكافلة بزواجي بها بلا شرط حفظ العصمة. - إذا لم تحصل على الكثير فاقنع بالقليل، وهاك أنت قد خطوت أكثر مني. - لا أقنع ما لم أخف أن يفلت من يدي هذا القليل، ألا تعلمين أني صبور قليل الأمل، ثبوت لا أنثني إلا ظافرا بأمنيتي؟!
لا بد هنا أن يعرف القارئ ما هي نسبة الأمير عاصم وشقيقته الأميرة بهجت هانم، بالأمير نعيم وشقيقته الأميرة نعمت هانم ...
الفصل الثالث
بدء الأسرار
وتحرير ذلك أن المرحوم الأمير إبراهيم توفيت زوجته الأولى، وهي من ذوي قرباه عن ولدين هما: الأمير نعيم، والأميرة نعمت - المذكورين آنفا. وفي أثناء رحلاته إلى الآستانة تعرف بأرملة تركية ذات ولدين هما عاصم وبهجت هانم، وقد زعمت هذه الأرملة أنها كانت زوجة أحد الكبراء، وكانت هذه الهانم على درجة سامية من الدهاء والذكاء فضلا عن الجمال النادر، فعلق بها الأمير إبراهيم المذكور أبو الأمير نعيم وتزوجها، وضم ولديها إلى ولديه ولقبهما بالأمير والأميرة كأنهما ولداه، وعني بهما جدا، فعاشا مع ولديه كأخوين لهما إلى أن مات، وحينذاك استلم إدارة ميراثه الأمير عاصم.
ولم يدخر الأمير عاصم وسيلة لإظهار طاعته وحبه لأبيه الجديد، والتفاته إلى أخويه الجديدين حتى بعد وفاة أبيهما، كان يظهر لهما الغيرة على مصلحتهما والإخلاص لهما؛ ولهذا كانا يحترمانه ويثقان به. ولكن كان في عزم الأمير عاصم أن يزوج أخته بهجت للأمير، ويتزوج الأميرة نعمت أخت الأمير نعيم؛ لكي تظل ثروة الأمير إبراهيم أبيهما الطائلة تحت إمرته، ولكن لا نعيم ولا نعمت كانا يميلان إلى عاصم وأخته بهذا المعنى قط، بل كانا يعتبرانهما كأخوين، ولما أظهر عاصم وأخته أمنيتهما من نعيم وأخته، أبى هذان عليهما ذلك.
अज्ञात पृष्ठ
أما نعيم فلما كان يدرس في فينا عاصمة النمسا علق فتاة نمساوية تدعى جوزفين، وأخلص لها الحب فعلقته وأولعا أحدهما بالآخر، وأخيرا عاهدها على أن يتزوجها، فصحبته في عودته إلى مصر بعد إذ انتهى من الدراسة، ولكن أباه أنكر عليه الزواج الشرعي بها؛ لأنها أجنبية الجنس والدين ووضيعة الحسب. أما نعيم فلم يكن ليعتبر هذه الأسباب كافية لمنع زواجه بجوزفين؛ لأنه وجد فيها كل أمانيه بالزوجة، وجد أنها على غاية من الأدب والذكاء واللطف والجمال والصحة فضلا عن المعرفة وطيب السريرة، ولم يكن نعيم ممن يحسبون الحسب ونحوه شيئا تلقاء هذه الفضائل، ولا كان ممن يتعصبون للدين ولا للجنسية، ولا سيما لأن دينه لا يحرم عليه الزواج من امرأة غريبة عنه جنسا ودينا؛ ولهذا صمم أن يثبت في حب جوزفين، وبما أنه كان يستنكر أن يغيظ أباه أو يعصيه بأمر، ولو كان الأمر مخالفا للصواب - ولا سيما لأن أباه في آخر أيامه - عقد عقد زواجه بجوزفين سرا على نية أن يعلنه بعد وفاة أبيه، وإنما فعل ذلك قبل وفاة أبيه؛ لكي يفي بوعده لجوزفين.
وفي ذلك العام الذي تزوج فيه رحل رحلة صيفية إلى أوروبا، وترك جوزفين حاملا، وقبل أن يعود نعي إليه أبوه وأبلغ خبر إجهاض زوجته، فعاد في الحال فتلقاه الأمير عاصم بكل ملاطفة وتعزية وبالغ في تسكين اضطرابه على زوجته، وفي تخفيف أحزانه على أبيه، وانتهز فرصة أطلعه فيها على وصية أبيه قبل وفاته.
وكان من أهم نصوص تلك الوصية: أولا: أنه أوصى بثلث تركته للأمير عاصم كأنه ابنه، ونظرا لما كان له من الغيرة على البيت والاهتمام بالأملاك، وثانيا أنه حتم على نعيم أن يتجنب الزواج من أجنبية عنه دينا أو وضيعة عنه حسبا؛ لأن هذا لا يليق بأسرته الشريفة، وقد بالغت الوصية في هذا الموضوع جدا وتهددته بغضب أبيه إذا أبى.
أما الأمر الأول الذي ينص على إيهاب ثلث التركة للأمير عاصم فلم يعبأ به نعيم البتة، بل أظهر رضاه عنه وأقنع أخته الأميرة نعمت بصوابه وباستحقاق الأمير عاصم له كأنه أخوها الحقيقي، وأما الأمر الثاني؛ أي تحريم زواجه بأجنبية، فانقض على فؤاده كالصاعقة؛ لأنه كان يحب جوزفين حبا شديدا، وكان مزمعا أن يعلن قرانه الشرعي بها بعد وفاة أبيه، فحار ماذا يفعل؛ فإن داس وصية أبيه ولم يعبأ بها عرض نفسه للوم أقربائه ونقد العموم له، وهو يتحاشى جدا أن يثلم بأمر، وإن طلق جوزفين طلق سعادته وهناءه، وإذا كان قد حرم على نفسه أن يشرك في حبها، فكيف يسهل عليه أن يجحده، ولا سيما لأنه كان مشهورا بين ذويه وجميع معارفه بأنه ميزان العدالة والإنصاف، فلا يبخس أحدا حقه ولا ينقض عهده ولو كان النقض فدية لدمه!
وبعد تفكر طويل صمم على أن يبقى قرانه بجوزفين مكتوما، وأن يواظب على عزوبته الطاهرة، فكان ذوو قرباه يعتقدون أن جوزفين محظية عنده لا زوجة له، أما الأمير عاصم فكان يعلم أنها زوجته، ولكنه كان يتجاهل لغرض في نفسه. وغرضه أن يبقي أمامه مجالا لعرض أخته بهجت هانم على الأمير نعيم وعقد عروة الحب بينهما؛ ولهذا كانت الأميرة بهجت تتحبب لنعيم وتتودد إليه؛ لكي تستميله فيتزوجها ويترك محظيته جوزفين، أو بالأحرى زوجته. أقول زوجته لا محظيته؛ لأنه كان يستنكف جدا أمر المحظيات، ويعتقد أن الرجل لا حق له أن يحظى بغير زوجته، وأن المحظية مهما كانت مكرمة مع رجلها، ومهما كانت راضية في عشرته الوقتية، مغبونة في هذه الحظوة التي ليست إلا ضربا من العبودية.
على أن بهجت هانم عجزت عن استمالة الأمير نعيم بوسيلة التودد والتحبب، لا لأن نعيما كان يكرهها، ولا لأنه لم يكن يستحسنها، بل لأنه كان يحب جوزفين حبا يداني العبادة ويأبى أن يشرك في هواها، ومع ذلك كان يجامل الأميرة بهجت ويحاسنها، ويحاول أن يقنعها بالأساليب اللطيفة أن توجه حبها إلى سواه حيث يكون حبا مثمرا.
ولطالما أقنعت أخاها بأن الأمل بنعيم كالأمل بالماء من السراب، وأن الأفضل لها أن تنثني عنه إلى طلابها الآخرين الذين تردهم الواحد بعد الآخر، ولكن الأمير عاصم لم ينفك عن أن يحرضها على الثبوت في هواه ممنيا إياها بالفوز في الآخر القريب.
أما الأميرة نعمت هانم فكانت قد تزوجت الأمير ظافر ولم تستوف في مساكنته الحول الكامل حتى فاجأته المنون قبيل وفاة أبيها، وكانت حاملا فولدت على الأثر، وقيل لها إن طفلها مات في الساعة الأولى من عمره.
ولذلك صمم الأمير عاصم أن يغتنم خلو قلبها لكي يحتله، حتى إذا فاز بها وفازت أخته بالأمير نعيم بقيت تركة المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرته، وهذا جل ما كان يرمي إليه بسياسته الخفية. قلت: الخفية؛ لأنه لم يكن ليظهر طماعا بالمال، بل كان يتظاهر بالغيرة الحادة على مصلحة ذلك البيت، وكان كل من يعرفه يعتقد بإخلاصه المحض وطيب قلبه وتفانيه في الحرص على من يلوذ بذلك البيت الكريم.
على أن نعمت هانم بالرغم من اعتقادها بحسن مقاصده وسلامة طويته وغيرته عليها وعلى أخيها، لم تجد في نفسها ميلا إليه، بل بالأحرى لم تكن لتطيق التصور أنه زوجها أو أنها تسر بزوجيته؛ إذ لم يكن مليحا في عينيها. ولهذا كانت ترفض طلبه وأخيرا رضيت به على شرط أن تحفظ عصمتها كما تقدم القول.
अज्ञात पृष्ठ
ولا عجب من نفورها منه؛ لأنه كان وقورا جدا، مهوبا ثقيلا على قلب الفتاة، مدققا في المعاملة، جافا في المجاملة والملاطفة، بالرغم من محاولته لمؤانستها والتودد إليها بالرقة.
الفصل الرابع
الهدية الثمينة
- كيف رأيت هديتي لك يا عزيزتي جوزفين؟ - تعني بها الصبي يوسف؟ - نعم. وابتسم الأمير نعيم ابتسامة حب. - لا أقدر أن أحكم حكما نهائيا فيها ما لم أعلم ما هي قيمتها عندك؛ لأن نظري إلى الأشياء متوقف على نظرك لها، ولا سيما هذه الهدية على الخصوص، على أني أقول لك كل ما هو منك لا أقدر أن أقدره بثمن.
فألوى الأمير نعيم على جوزفين وضمها إلى صدره، ولثم شفتها، ثم اعتدل في مجلسه. - كيف رأيت الصبي؟ - رأيته جميلا جدا ووديعا ... - بل قولي: ذليلا. - ولطيفا وأليفا. واستغربت كيف أنه لم يستوحش قط، بل كان مسرورا بالأمس، أما اليوم فشعرت أنه استوحش قليلا، فتلافيت وحشته بأن لاطفته ومازحته. - بارك الله فيك يا جوزفين يا حبيبتي، ألا تتوسمين ذكاء في عينيه؟ - بلى هذا ما لحظته وفاتني أن أذكره لك الآن، ولا تجهل يا حبيبي نعيم أن النساء أول ما يبدر إلى ذهنهن أمر الجمال ونحوه من المظاهر الخارجية، ولكن قل لي ما حكاية هذا الولد؟ فإني لم أفهم من رسالتك بشأنه سوى أنه مهمل؛ إذ تسألني هل أشاء أن أربيه كابن لي، ثم تخبرني أن لك رغبة في ذلك، وإنما تقدم رغبتك على رغبتي في أمره. - وجدته في عزبتنا في ق. عند الشيخ حسن النعمان وكيل العزبة، فدهشني منظره وحكمت لأول وهلة أنه لا يمكن أن يكون ابن حسن المذكور؛ لأن سحنته تختلف كل الاختلاف عن سحنة أولاده فضلا عن بياض وجهه الناصع، ثم إني رأيت حسنا هذا وزوجته وأولاده يعاملونه بكل قساوة كأنه غريب عنهم، فحرق قلبي عليه ورثى له، وشعرت في نفسي بحب له وحنو عليه، فسألت الوكيل حسنا: لماذا يقسو عليه؟ فأجابني: ما استفدت منه أن الغلام ليس ابنه، فتحققت أمره وعلمت أنه لقيط، حظيت به المرحومة عائشة الداية، فدفعته لحسن لكي يربيه، فخطر لي في الحال أن أتولى تربيته على يدك لغرضين: أولا: لكي يملأ فراغا في قلبك؛ فإنك وقد وصلت إلى دور الأمومة ولم ينعم الله عليك بسوى جنين قضى قبل أن تريه ويراك، لا بد تتوقين إلى ولد تربينه وتفرغين له حنوك، وقد توسمت في ملامح هذا الصبي ما يجاوب طلب فؤادك ... - عجيب! كأني بك تعبر عن إحساساتي وتشرح عواطفي، والحق أقول لك إني ما رأيت هذا الصبي حتى انعطفت عليه؛ لأن سيماه انطبعت في الحال على صفحة قلبي وشعرت بالميل نحوه كما توقعت. - ثانيا: قصدت بذلك أن أنجيه من عيشة الشقاء التي كانت أمامه، بل من الهوان الذي كان مرافقا له كظله بين أولاد حسن النعمان، قصدت ذلك لأني توسمت فيه مخائل النجابة والذكاء والفطنة، ولاحظت أنه لم يخلق لمثل هذا النوع من الحياة، وأنه إذا ربي تربية صالحة وتلقن العلم، فقد يكون فردا عاملا نافعا في الهيئة الاجتماعية، وربما صلح لأن يكون ممثلا لاسمنا في مستقبله. - حسنا فعلت، ولقد صدق ظنك بي، بل إني أضيف هذا الأمر إلى الدلائل العديدة التي تدلني على حبك الصادق، وسترى أني أتمم كل مقاصدك في هذا الصبي. - في كل حرف من كلامك يا جوزفين مضرم جديد لنار حبي ، فما أطيب قلبك وأرق شعورك! إلى متى أنتظر منك اقتراحا فألبيه؟! بل أمرا من أوامرك فأطيعه؟! لقد مر علينا أكثر من خمس سنين زوجين فلم تسأليني سؤالا واحدا، ألا تريدين شيئا؟
فابتسمت جوزفين وقد تمثلت فيها الدعة بأجلى صورها، وقالت: وهل غفلت يا نعيمي عن أمر حتى يبقى لي سؤال منك؟! أي حاجة لي لم تلبها قبل أن أفطن لها؟! وهل يكون في حاجة من هو عند النعيم؟! إن لي حاجة واحدة ولكن ...
فقاطعها قائلا: ما هي؟ - ليس في وسع أحد غير الله أن يجيبها، وهي أن تبقى لي سالما مسرورا. - يالله! ما أحلاك يا حبيبتي! لأجلك فقط أريد السلامة والسرور، ولكني أشعر معك ... - بماذا؟ - بنغصتك. - أي نغصة؟! - لا تنكري يا جوزفين، أشعر أنك تتنغصين وتتألمين لعدم إعلان زواجنا، ولعدم ظهورك للملأ بمظهر الزوجة الشرعية لي. - بل إني أتألم الآن لشعورك الأليم بما تظنه من نغصتي، فهل تريد أن تريح فؤادك وفؤادي معا بأن تعتقد أني مسرورة وراضية بهذا التخفي الذي قضت به الظروف وأوجبته عادات قومك؟ - إني لأمتن لك جدا يا جوزفين، وأقدر قيمة تضحيتك لأجلي قدرها، وأعترف لك أنها ثمينة جدا.
وبعد هنيهة جاءت إحدى الخادمات بالصبي، فنادته جوزفين قائلة: هلم يا يوسف إلى أبيك. - لا، لا أريد أبي ولا أمي أريد أن أبقى معك. وكاد يغص بكلماته. - تعال إلى أبيك هذا. وأشارت إلى الأمير نعيم، فدنا إليه فأمسكه بيده وأجلسه إلى جنبه وطوق عنقه بذراعه، وقال له: لماذا لا تريد أن تذهب إلى أبيك وأمك؟ - لأنهما يضربانني كثيرا ولا يحبانني كهذه.
وأشار إلى جوزفين. - إذن تحب هذه السيدة؟ - نعم، أحبها كثيرا. - أتريد أن تكون أمك وأنت ابنها؟ - نعم، نعم. - وهل تحبني أنا؟ - نعم. - إذن قم إلى أمك هذه وقبل يدها.
فنهض الصبي يوسف في الحال، ودنا إلى جوزفين وتناول يدها وقبلها، فحضنته جوزفين وقبلته، فقال لها الأمير نعيم: لو رأيته كما كان في العزبة لأنفت أن تقبليه؛ لأنه كان في حالة زرية جدا. - أتصور ذلك. - أكثر مما تتصورين؛ ولهذا استنكفت أن أرسله إليك رأسا، بل أرسلته إلى منزل أحمد بك نظيم وكيل الدائرة، والتمست منه أن يكلف أهل منزله أن يغسلوه جيدا، وأن يشتري له الملابس الفاخرة، وأن يقص المزين شعره، حتى لا يأتي إليك إلا وقد امحى كل أثر من آثار شقائه، وبدت ملامح بهائه. - من لا يراه الآن ولا يقول إنه ابن الكبراء؟! - لا ريب أن أبويه إفرنجيان لأن سحنته أوروبية أكثر مما هي شرقية، ولا بد أن يكون أحدهما نبيلا عريقا في الحسب إذا لم يكونا كلاهما كذلك. - ترى لماذا أنكره؟ وكيف استطاعت أمه أن تفارقه؟ - الأرجح أنه ابن البغاء، وبقاؤه مع أمه عنوان عار لها، وإذا كانت ممن لا يعبأن بالعار ولا يستحين من الشنار، فهي بلا ضمير ولا قلب، وبالتالي بلا حب ولا حنو، وبقاء ابنها معها يكون ثقلا عليها؛ إذ لا فؤاد لها لتملأ فراغه بحنو الأمومة، فعلى كلا الحالين يكون ابن البغي منبوذا. - إذن هي كالتمثال المتحرك؛ لأني لا أقدر أن أتصور مرأة ذات حياة خلوا من قلب يستوعب الحب ويعي الحنو! - نعم هي كذلك؛ لأن سقوطها في هاوية البغي أمات فؤادها فصارت كالصنم إلا أنها تفعل أفعال الأحياء.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الخامس
من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
ففكرت جوزفين هنيهة، وقالت: إني لأعجب كيف أن المرأة التي هي أحرص من الرجل على العرض والشرف تسقط سقوطا هائلا حتى تموت هذا الموت الأدبي؟ - لا تظني أنها تسقط من نفسها، بل إن الرجل يخدعها ويسقطها، وكلما اعتصمت بحصن قلبها هاجمه الرجل بشدة حتى يفتحه ويحتله، ومتى احتله يفعل ما يشاء؛ لأن المرأة تستسلم له حينئذ. - نعم، هذا هو غلط المرأة؛ أنها تستسلم. - لا تقولي «غلط» يا عزيزتي جوزفين؛ لأن الحب يقضي بهذا الاستسلام، ولا مناص للحب منه، ولكن قولي ذلك هو ظلم الرجل، بل غدره؛ أي إنه يستوهب قلب المرأة ثم ينكره عليها. - ولكن غلط المرأة أنها تستسلم قلبها بلا حجة أو «وصل» أو صك بيدها لتطالب به عند اللزوم. - الحب يا جوزفين متحد بالثقة، وحينما تكون الثقة لا يسأل عن صك وإلا كان الحب كاذبا، فالمرأة غير ملومة في أن تسلم قلبها المفعم من الحب بلا صك، وإنما يلام الرجل الذي يؤمن فيخون، وإن كنت تعتقدين أن المرأة تخطئ باستسلامها حتى بعد وثوقها بعهد من تستسلم له، فإنك أخطأت نفس الخطأ معي، ولو لم أف بعهدي لك وأقترن بك اقترانا شرعيا لسقطت باستسلامك لي.
فبهتت جوزفين هنيهة مفكرة وقالت: صدقت في ما تتهم به الرجل من الغدر والخيانة، ولكني لا أبرئ المرأة في سقوطها، فمهما كانت محبة وواثقة لا يجوز أن تستسلم ولو صدقت العهد ووثقت بالوعد. - إذا لم تستسلم لا تكون واثقة، وإذا لم تثق لا تكون محبة. - هذا وجه الخلاف بيننا. أنت تقول إنها إذا أحبت كل الحب ووثقت ملء الثقة وجب أن تستسلم، كأن الاستسلام دليل على حبها وثقتها، وأنا أقول لا يجوز لها أن تستسلم مهما أحبت ووثقت، وليس عليها أن تثبت حبها وثقتها باستسلامها، بل بشيء آخر؛ لأن في الاستسلام تضحية، فماذا يضحي الرجل لها ليثبت حبه لها وثقته بها؟
فبهت نعيم هنيهة، ثم قال خافت الصوت: بماذا تثبت حبها وثقتها إذن؟ - بماذا يثبت الرجل حبه وثقته؟ أجبني أجبك.
ففكر الأمير دقيقة وهو يفتل شاربيه، ثم نظر إلى جوزفين وبين شفتيه غدير ابتسام دافق، وقال: أفحمتني يا جوزفين، فإني أنظر الآن في المسألة من غير الوجه الذي كنت أنظر إليه قبلا.
ثم استرسلت جوزفين قائلة: أسلم معك أن الرجل ملوم كل اللوم في خداع المرأة كما يلام كل خائن، ولكن ليس ملوما في سقوط المرأة كل اللوم وحده، وإنما هي تلام أيضا؛ لأنها تسلم نفسها بلا مقابل، فإذا تكافأ الرجل والمرأة في الحب وجب أن يتكافآ في كل شيء، فإن استسلمت له وجب أن يكافئها على ذلك الاستسلام مكافأة مساوية له على الأقل، فهي لا تسلمه نفسها إلا على مطمع أن يسلمها نفسه أيضا، فلماذا تسلمه قبل أن تعقد العهد الشرعي معه؟ فحسبه أنها تظهر له من الحب كما يظهر لها. ولماذا يطالبها بأكثر وهو لم يملكها ما يساوي مطلوبه؟ وإذا شكت في حبها وثقتها لعدم استسلامها له، أفليس لها أن تشك في حبه وثقته لعدم تعهده «الشرعي» العلني لها، فإن استسلمت عن ثقة تامة، ثم خدعت لا تكون براء من الخطأ، وإن استسلمت غير معبئة بوعد أو عهد فتكون قد أسقطت نفسها عمدا، وذنبها على رأسها وحدها، وحاصل القول أن للمرأة أن تحب وتثق وتسلم ما شاءت، إلا مقامها وعرضها، فيجب أن تحتفظ عليهما، وإذا سلمتهما بلا صك أو حجة كانت ملومة بلا محالة. ولا ريب أني غلطت نفس الغلطة، ولكن لم يشأ الله أن يعاقبني على غلطتي؛ لأني سعيدة البخت إذ اتفق أني سلمت نفسي لأمين كله طيبة وإخلاص، ولكن ذلك لا يتفق لكل أنثى. - أفحمتني يا جوزفين، ولكنك لم تقنعيني. أسلم معك أن المرأة غير براء في أمر سقوطها الأدبي، ولكني ألقي تبعة الأمر أولا على الرجل ثم عليها؛ لأن الرجل مغو وهي مغواة، وهو مهاجم وهي مدافعة، وهو قوي وهي ضعيفة، تكون المرأة مطمئنة على نفسها صائنة لعرضها حريصة على عفافها، فيأتي الرجل ويحاول أن يختلس طهارتها، وقلما ظفر الرجل بعفاف المرأة إلا بناء على وعد منه لها، فإذا سلمته نفسها ثم خانها، أفلا يكون الذنب كل الذنب عليه؟! - ليس كل الذنب بل معظمه؛ لأنها أذنبت قبله باستسلامها من غير عقد شرعي. - نعم، ولكن مسكينة المرأة ضعيفة، ومع أن الواجب على الرجل أن ينصرها ويقويها، تراه يغتنم ضعفها لانتهاب عفافها وإسقاطها، وأخيرا لا يرحمها ...
فقاطعته جوزفين مباغتة: نعم، بهذه أصبت؛ «لا يرحمها»، بل يزيد شقاءها شقاء بأن ينبذها كالزهرة الذاوية، يفعل الذنوب السبعة ويظل يقال له «الفاضل العاقل الشريف النبيل الأريب ...» إلى غير ذلك من الصفات الحسنة، وأما المرأة فإذا سقطت مرة سقطت إلى الأبد، وأصبحت قذارة يتحاشى الرجل أن يتصل بها علنا لئلا يلتطخ بعارها. هل رأيت بغيا ناهضة من وهدة بغيها يمد إليها أحد الناس يده لينتشلها من وهدتها؟ وإذا انتشلها فهل ترى أحدا يغض نظره عن ماضيها ويحاسبها على حاضرها؟ بل أي بغية شقية إذا حاولت النهوض عن حضيض بغيها وشقائها لا ترتفع ألف قدم لكي تدوسها وتسحقها في ذلك الحضيض.
ولكني رأيت كثيرين من الرجال، بل معظم الرجال ينغمسون في حمأة الدنس كل يوم، بل يتمرغون سرا عند قدمي المرأة البغي التي يحتقرونها ويدوسونها ويتحاشون في العلن أن يعرفوها، بل يتجنبونها تجنب السليم الأجرب، بل يأتون كل المنكرات ويبذلون كل شرف ويدنسون كل طهارة، ومع ذلك كله يصفون بعضهم بعضا بأشرف الأوصاف وينعتون بأطهر النعوت، وأنكى من كل ذلك أنه إذا طلب الواحد منهم زوجة، قال: أريد فتاة لم يمسها النسيم بعد!
وما انتهت جوزفين عند هذا الكلام حتى ظهرت الحدة في لهجتها كأنها تخاصم، فابتسم لها الأمير نعيم ثم قال مقهقها: هدئي روعك، إني أوافقك على كل ما تتهمين به الرجل من ظلمه وغبنه للمرأة، وأعتقد أن في طاقة الرجل أن يقلل الفحش والفجور، بأن يعاون المرأة على حفظ طهارتها لا أن يحاربها ليبتز عفافها، يعاونها ليس بأن يحبسها عنه ويحتبس عنها، بل بأن يجري معها على السنن الطبيعية والاجتماعية؛ أي أن يتخذ المرأة حليلة لا خليلة.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل السادس
مستودع الأسرار
بينما كان الأمير نعيم وجوزفين يتناقشان بهذا الموضوع الاجتماعي، كان أحمد بك نظيم رئيس الدائرة زائرا في قصر الأميرة نعمت هانم شقيقة الأمير نعيم، وقد ساقتهما الأحاديث إلى ما يأتي: إني لأعجب من صبرك يا أحمد بك، لقد مر أكثر من خمسة أعوام على توددك هذا فلم تنقص ولم تزد، فإلى متى تلعب في فؤادي؟! أبثك الآن حبي الشديد الخالص، فإن كنت تخاف أن تبسط لي حبك فأنا أشجعك الآن. - لا تجهلين مقدار غرامي يا مولاتي، تعلمين تمام العلم من غير أن أصرح به بلساني، فإن في كل جارحة من جوارحي آية بينة على هذا الحب، ولكن أين أنا منك يا نعمت؟! - تعني الفرق بيني وبينك في النسب؟ إنه فرق بسيط جدا يا أحمد، وإن لي من المقام الذي أحرزته أنت في الهيئة الاجتماعية والمكانة التي اتصلت إليها في نظر الكبراء والعظماء ما يرفعك إلى مقام أسرة الأمراء، ثم إن لي من ذكائك وفطانتك وظرفك ما أفخر به، فلا فرق بيننا، وما أنا أول من تجاوز دائرة الأسرة من أميراتها، ولو شئت لعددت لك كثيرات من الأميرات اللواتي تزوجن من غير الأمراء، ونرد على ذلك أني كأخي نعيم لا نعبأ كثيرا بهذه التقاليد الباطلة السخيفة، وعندنا أن شرف النفس أفضل من شرف الأصل. إني يا عزيزي أحمد أكلمك بكل حرية؛ أولا لأني أعتقد أنك تقدر معنى حريتي هذه قدرها فلا تعدها تبذلا، وثانيا لأن لي بك ملء الثقة بأن لا تتخذ إعلان ودادي لك سلاحا تشهره علي في حين من الأحيان ... - معاذ الله يا أميرتي أن أحط من مقامك مهما رفعني الحب إلى الغرور! فإني أحبك جدا وأعلم بعظم محبتك لي، ولكن الحب لا يعميني عن محامدك وفضائلك وعلو مقامك. - إذن دعنا نتكلم صريحا بكل حرية.
فاضطرب أحمد بك كأنه يخاف نتيجة الحديث، بيد أنه لم يستطع حسم المحادثة فقال: مري ما تشائين يا سيدتي. - تؤلمني إذ تقول «سيدتي»، نحن وحدنا الآن والحب يجعلنا متساويين، والحقيقة أننا متساويان، ألا تذكر كم كنت تتودد إلي قبل وفاة زوجي؟! (فاحمر وجه أحمد بك).
لا تضطرب، كنت ألاحظ كل حركة من حركاتك، بل كنت أسمع كل نبضة من نبضات قلبك. - ولكني كنت أجتهد أن أغالطك؛ لكي لا تفهمي أن هذا التودد عن حب مبرح؛ لأنه حب محظور. - ولكن دلائل الحب إن اختفت عن الناس فلا تختفي عن المحبوب، فقد قرأت صفحات فؤادك حينئذ وتجاهلت؛ لأني كنت في عصمة رجل لا يجوز لي أن ألتفت إلى سواه، ثم بعد وفاة زوجي تفاهمنا كفاية وأدركت مطامح نفسك، أفلا تذكر أنك كدت تصرح لي مرة بأمنيتك؟ - نعم أذكر، وليتني ...
وتوقف أحمد بك كأنه لا يود أن يقول ما يعني. - ليتك ماذا؟ أفصح. - ليتني لم أفصح حينئذ عن غرامي يا سيدتي؛ لأنه غرام عقيم . - كذا كنت تظن حينئذ؟ - نعم. - تعذر، والآن هل اقتنعت أنه غير عقيم؟ - لم يزل عقيما يا حضرة الأميرة.
فاتضحت أمائر الانذهال في وجه الأميرة نعمت، وقالت: عجيب! ماذا تراه حائلا دون أمنيتك؟! - آه! لست لي يا سيدتي. - لماذا؟ - لأني لا أستحقك. - تكاد تجنني يا أحمد؛ لأني ما كنت أظنك ترفض. - لست أرفض يا أميرتي، وإنما أقول لك إنك لست لي؛ لأني لست كفؤا لك، بل أنا أدنى جدا من أن أكون لك. - ألا تصدق أن النسب لا يفرق بيننا؟ - لو كان النسب وحده فارقا لما حسبته حائلا بيننا. - إذن الغنى؟ - إذا لم يكن النسب حائلا، فهل يمكن أن يكون الغنى كذلك مع أنه شيء ثانوي بالنسبة إلى النسب؟ ومع ذلك فإني أصبحت من فضل بيتكم الكريم ذا ثروة طائلة. - نعم؛ هذا ما أراه مجرئا لك على طلب يدي ... فإذن ماذا؟
فتنهد أحمد بك وقال: آه! اعذريني يا مولاتي، إنك قد تنازلت كثيرا لمن لا يستحق إلا الخزي منك، رحماك! سامحيني؛ إني لست مستحقا لك. - حيرتني يا أحمد! أفصح، ماذا تعني؟
فاضطرب أحمد جدا وتلعثم لسانه وهو يقول: إنك لمن هو أعظم مني. - هاها! أنت تتخوف من الأمير عاصم؟! فتأكد أنه لا ينال قلامة ظفر مني لأني لا أحبه، وقد أوشكت أن أكرهه؛ لأنه ضايقني جدا بالتماس يدي، وإن كان عندي شيء من الحب له فما هو إلا حب أخوي فقط، كاد يطفئ نوره بشدة مضاجرته لي، فإن كنت تحسب له حسابا فاعلم أن إرادتي فوق كل إرادة. - ليس هذا هو الحائل الوحيد مع أنه كاف. - قلت لك إنه ليس حائلا البتة؛ لأن إرادتي في ما يخصني فوق كل إرادة. - ولكن ... - ماذا؟ قل، لقد نفد صبري.
وكادت نعمت هانم تستشيط غيظا؛ لأنها حادة المزاج، وقد شق عليها جدا أن يقابل أحمد بك عرضها نفسها بهذا الخذلان. - مولاتي، رحماك! اعذريني وسامحيني، أكون لك ما شئت غير بعل، أكون خادمك أو خادم خادمك. - خسئت يا جبان، أأعرض يدي على خادم؟! ما عرفتك بهذه النذالة!
अज्ञात पृष्ठ
ثم نهضت على قدميها وهي تقشعر من الغيظ وقالت: اسمع، إنك بعد الآن عدوي الألد، إن عرف أحد حرفا مما دار بيننا لا تدري من أين تنصب عليك البلايا!
فركع أحمد بك عند قدميها وأمسك بحاشية ثوبها متضرعا. - رحماك يا أميرة! رحماك! لست نذلا ولا جبانا إلا لديك؛ لأني أعد نفسي أثيما لك فلا أستحقك، فارحميني واستخدميني لأي مأرب تريدينه. - لا تصلح لشيء؛ لأنك نذل. - كلا يا مولاتي، أفصحت لك السبب. - أي سبب؟! - قلت لك إن في عارا لا يمحى فأدنسك لو كانت لي صلة بك.
فتنبهت الأميرة لكلامه قائلة: ماذا؟! أي عار هذا؟! لا أفهم. - لا أقدر أن أقول لك أكثر مما قلت. - بل تقول، فإما أن أمحي عارك أو أن أعذرك. - عاري لا يمحى، فاعذريني.
فعادت الأميرة إلى مكانها وقعدت مفكرة وقد أخذ اضطرابها أن يسكن، وبعد سكوت هنيهة قالت: أما تقول لي سرك هذا؟! - رحماك رحماك! ليس في وسعي، فأرجوك أن تمني علي بالمعذرة ... - يالله! لم أكن أظن أنك ذو أسرار.
فأطرق أحمد بك هنيهة، وهو يصلي في قلبه أن يخرج من هذا المضيق كما دخل، ثم قالت: إذن تستحيل إزالة هذا الحائل السري بيننا! - نعم! نعم! - ليتني أعرفه لعل لي حيلة فيه. - ليتني أقدر أن أبوح به حتى لنفسي. - أخفتني يا أحمد بسرك هذا. - لا تخافي. - هل له مساس بي؟ - كلا.
ولكن قشعريرة عبرت في بدن أحمد من رأسه إلى أخمص قدميه حتى لمحتها نعمت لمح الوميض. - لقد هجتني إلى معرفة هذا السر. - لا تهتمي به يا مولاتي، فإنه من خصائصي.
ففكرت نعمت برهة وقالت: هل يهم الأمير عاصم؟ - كلا، ولكن ... - لكن ماذا؟ قل: حالا. فإني لا أطيق هذا الكتمان بعد الآن، إنك تضطرني إلى فعل سيئ المغبة.
فنظر أحمد بك إلى عينيها، فذعره التهابهما بنار السخط. - مولاتي، إن الأمير عاصم نهاني نهي الآمر المطلق عن أن أتعرض لك بأمر.
فقهقهت قائلة: أهذا كل سرك؟ - شيء منه. - ولكنك قلت إنه لا يمس الأمير عاصم. - نعم ؛ لا يمسه سري الحقيقي. - لم أزل غير فاهمة. - بربك يا مولاتي، لا تجتهدي أن تفهمي شيئا؛ لأن فهم الأمر لا يفيدك وإنما يضرني. - ألا تثق بي؟! - كل الثقة. - فلماذا لا تقول إذن؟! - لأن لا فائدة من القول. - من العبث أن أستدرجك إلى التصريح على ما أرى. (ثم سكتت برهة وهي تفكر وأحمد بك لا يجسر أن يفوه ببنت شفة ويخاف أن يستأذن للانصراف.) إن كان كل خوفك من تهديد عاصم فبكلمة واحدة أقصره ... - كلا يا مولاتي، لا يخيفني أحد إلا نفسي، فاقتنعي أن الأفضل لك أن لا أتصل بك. - كفى! كفى! امض وانس كل ما كان، بل اصبر، لماذا إذن كنت تتحبب إلي في ما مضى؟ - لأني في بدء الأمر كنت بلا سر، ولما تمكن في حبك لم أعد أقدر أن أكتمه، فاعلمي يا مولاتي أن الحب مقودي في يدك، على أني أحبك وأبقى عازبا لأجلك.
عند ذلك استلقت الأميرة نعمت في مقعدها واهية، وقالت: اذهب عني الآن؛ فإني محتاجة إلى الراحة، لم يعد لي عصب يحتمل المزيد من التأثر.
अज्ञात पृष्ठ
فانصرف أحمد بك وهو لا يدري أين يهلك نفسه. •••
أما أحمد بك فكان شابا ظريفا لبقا جميل الطلعة خفيف الدم، وقد تخرج في المدارس العليا جيدا، ثم تولى إدارة دائرة الأمير إبراهيم وأظهر حذاقة في ضبط أعمالها ودقة حساباتها، وأبدى غيرة فائقة على ذلك البيت الكريم حتى كان محبوبا من كل أفراده، ونال عندهم مكانة سامية، وقد كان بينه وبين نعمت هانم من الود، بل من الحب الشريف، ما أفضى إلى هذا الحديث الذي سلف ذكره.
الفصل السابع
ابحث عنه
الأمير عاصم والمسيو سنتورلي كاتب قلم إفرنجي في الدائرة، اختليا في إحدى غرف القصر. - مهمة جديدة مهمة يا مسيو سنتورلي. - خير إن شاء الله. - خير لنا وشر لبعض الناس. - إذن خير. - نعم، مآله عموما للخير. - تفضل يا مولاي قل. - أنت تعلم أن جوزفين زوجة شرعية للأمير نعيم. - نعم، وأعلم أيضا أن زواجهما لم يزل سرا، والذي يعلمه الجمهور أنها محظية عنده. - نعم، وهو لا يزال يكتم زواجه هذا حتى الآن لأنه يخالف وصية أبيه.
فابتسم سنتورلي ابتسامة المتهكم وقال: نعم. - ولا يخفى عليك أن الأمير نعيما متعلم متنور، فما هو ممن يعبأون بتقاليد القدماء، ولا ممن يقيدون أنفسهم بالقيود السخيفة، فهو إن كان يحترم وصية أبيه الآن لا لأنها أمر مقدس واجب الإطاعة، بل لأنه يتجنب اندلاع الألسنة عليه باللوم والتثريب، ولكنه يريد أن يستبقي جوزفين. - وأنت تخشى أن يعلن زواجه الشرعي بها شيئا فشيئا، كذا تريد أن تقول؟ - نعم، كأنك تقرأ ضميري. - ثم ماذا؟ - ولا أظنك تجهل أن أختي بهجت هانم تحبه جدا. - وهو يتجاهل محبتها. - ولكنه لا يكرهها، وأظن أنه لولا جوزفين لكانت زوجته الآن. - صدقت؛ لأني لم أنس أيام كان يتحبب إلى الأميرة بهجت في عهد صباهما. - نعم نعم، لا تزال تذكر إذن. - نعم أذكر جيدا، وأؤكد لك أنه لو لم يرتبط بحب جوزفين ... - لا تقل حب جوزفين؛ لأنه لو كان قريبا من بهجت هانم حين عرف جوزفين لما كانت هذه شيئا يذكر عنده. - كذا كذا، ولو لم يكن نعيم من الناس الثبوتين على ولائهم المحافظين على عهودهم لهجر جوزفين من زمن ... - هو عين الحقيقة ما تقول ... - والأمير نعيم يفضل أن يدفن حياته إلى جنب أمه، على أن ينكث عهده مع أحد من الناس. - هذا هو الصواب.
قال الأمير عاصم ذلك متوسما الخير من سنتورلي. - ولا بد أن يكون نعيم الآن نادما على علاقته مع جوزفين. - ليس ببعيد. - ومع ذلك يعظم عليه جدا أن ينكث عهده معها. - بل يجتهد أن يوطده ولو كان خلاف رغبته الحاضرة. - ولهذا يخشى أن يعلن زواجه قريبا. - عجبت يا مسيو سنتورلي، ما بدأت جملة حتى أكملتها، فما أشد توافق أفكارنا! - ذلك لأن المحقين يتفقون على الحق ويلتقون عند نقطة الحقيقة بكل سهولة. - إذن تعتقد أن مشروعنا الجديد حق؟
فضحك المسيو سنتورلي قائلا: من غير شك. - أتقدر أن تجمل لي هذه الحقيقة بكلمتين؟ - نعم، إن وقوع الأمير نعيم مع جوزفين جاء أذى للأمير نفسه وللأميرة بهجت شقيقتك. - ليس ذلك فقط، بل يخشى أن يكون وسيلة لانتقال اسم هذا البيت وثروته؛ أعني بيت المرحوم الأمير إبراهيم وثروته إلى ذرية غير طاهرة الأصل؛ لأنه من يضمن لنا أن جوزفين لا تلد ذكرا مهما كان الأمير نعيم يتحاشى ذلك في ما مر من السنين الخمس الغابرة؟! وإن كنا قد نجحنا في ما مضى في استئصال الفرع الغريب، فلا نضمن نجاحنا في المستقبل إن نبت فرع جديد مثله. - على ذكر الولد الذكر، هل بلغك أن عند الأمير نعيم في قصر جوزفين الآن صبيا يربيانه؟ - نعم سمعت أن عندهما صبيا يربيانه كخادم. - كلا، ليس كخادم، بل كابن؛ لأن الأمير استدعى له مربية خصوصية تعلمه وتعنى كل العناية بتربيته كأنه ابنه. - أكيد؟ - أكيد، وجوزفين تدلله جدا كأنه ابنها. - وما الغرض من هذا الصبي؟ - لا أدري. - لا أظنهما يتبنيانه؛ لأن التبني لغو في الشريعة الإسلامية. - ولكنهما يهتمان بتربيته جدا، ويعاملانه معاملة الابن، فقد سمعت أنهما ألبساه الملابس الفاخرة، ويجلسانه على مائدتهما، ويقبلانه، وفي نية الأمير أن يرسله إلى المدارس العليا ولا يضن بشيء لأجل تعليمه. - أأكيد كل ما تقول؟ - نعم نعم، كذا سمعت وتحققت. - ومن أين اتخذا هذا الصبي؟ - قيل لي إنه كان عند الشيخ حسن النعمان وكيل أملاك الدائرة في ق. - أهو ابنه؟ - كذا المعلوم، ولكني لا أراه ابنه؛ لأن سحنته تدل على أنه أوروبي الأبوين. - أرأيته؟ - نعم، رأيته مرة مع مربيته ومنها تحققت أمره. - إن أمر هذا الصبي أشغل بالي يا سنتورلي، فما ظنك به؟ - لا أدري، وأنا كذا تحيرت في أمره. - ألا تقدر أن تتحقق أصله وفصله من الشيخ النعمان؟ - من غير بد.
وفكر الأمير عاصم هنيهة وهو يحدق في الأرض ثم رفع نظره إلى سنتورلي وقال له: لا بد أن يكون لهذا الصبي سر يا سنتورلي حتى عني الأمير نعيم بتربيته هذه العناية؛ لأنه لا يعقل أن يأخذ أحد أولاد الشيخ حسن النعمان ويجلسه إلى مائدته ويقبله قبلات الأب، إن صح ما أخبرتني، ومهما يكن أمر هذا الصبي فأخاف أن ينقل الأمير نعيم ثروته إليه بطريقة شرعية أو يدعي أنه ابنه من صلبه. - وما ظنك بسره؟
قال ذلك سنتورلي وابتسم، أما الأمير عاصم فكان مكمد الوجه مرتبك البال. - لا بد أن يكون لهذا الصبي شأن بنا وبالأمير نعيم يا سنتورلي، فابحث عنه بالتدقيق من غير أن تدع أحدا يلاحظ أمرا. - سأفعل بأقرب وقت.
अज्ञात पृष्ठ
وكان سكوت بضع دقائق بتره سنتورلي بقوله: لم أعلم إلى الآن المهمة الجديدة التي انتدبتني إليها يا مولاي. - هذه المهمة الآن أصبحت عندي أهم، فمتى عرفت حقيقة الصبي أخبرك عن المهمة التي كنا بصددها؛ لأنها صارت تتوقف على ما تعرفه عنه، فبعد الغد أنتظر تقريرك بشأنه. - إذن أستودعك الله يا مولاي. - بالسلامة.
الفصل الثامن
أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
في اليوم الثالث عاد المسيو سنتورلي من ق، واختلى مع الأمير عاصم ليخبره نتيجة بحثه عن الصبي. - أعرفت كل شيء؟ - تقريبا كل شيء. - ماذا؟ - أرجح أن الصبي ابن الأمير نعيم من جوزفين. - هذا ما لاح لي، فقد صدق ظني، أخبرني تفصيل المسألة. - توجهت إلى الشيخ حسن النعمان في ق. بحجة مباحثته في أشغال زراعية، ومن حديث إلى حديث توصلت إلى حديث عائلته، فقلت له: «كم ولد عندك؟» قال: «أربعة صبيان وابنتان.» قلت: «أعهد أن عندك ثلاثة صبيان.» قال: «الثالث لم يكن ابني حقيقة، وقد رآه عندي الأمير نعيم فاستحسنه وأخذه لكي يربيه.» قلت: «أهو الصبي الذي عند الأمير الآن إذن؟» قال: «نعم؛ هو.» قلت: «أما هو ابنك حقيقة؟» قال: «كلا.» قلت: «ابن من إذن؟» قال: «لا أدري سوى أن المرحومة عائشة الداية دفعته إلي يوما وهو في الحول الثاني من عمره، وقالت: هل لك أن تربي هذا الغلام؟ فقلت لها: إني أربيه لعله ينفعني ولو خادما.» قلت: «أما سألتها عن أبويه؟» قال: «سألتها فحاولت أن تهرب من الجواب، ولكني ألححت عليها، فأفهمتني تلميحا أنه لقيط ابن بغي وفسق.» فقلت: «أما لاحظت ما إذا كانت تعرف أبويه أو تجهلهما؟» ففكر هنيهة وقال: «أظنها كانت تعرف أمه ؛ لأني سألتها عنها لظني أنها هي التي ولدتها، فراوغت في الجواب، فاستدللت أنها تعرفها ولكن لا تريد أن تقول.» فقلت له: «ألا تعلم أين كان قبل أن أتت به إليك؟» فقال: «لم أسألها ذلك؛ لأنه أين يكون إلا عند أمه؟!» فقلت له: «ولكن أتظن أن أمه تربيه سنتين ثم تهمله؟» فافتكر هنيهة ثم قال: «لم يخطر لي هذا الخاطر؛ ولهذا لم أدقق في تسآلها، ولو دققت لما أجابتني شيئا؛ لأني لاحظت حينئذ أنها كانت شديدة الكتمان.» فقلت: «أما سألك الأمير نعيم عن أصل هذا الصبي؟» فقال: «سأل أقل مما سألت، وعرف كما عرفت ولم يبد منه اهتمام بأن يعرف أكثر؛ لأنه على ما لاح لي اقتنع بأن الغلام ابن بغي.» فقلت له: «بالطبع ما هو إلا ابن مومس أو ابن زنا، أبت أمه أن تحتضنه لئلا يكون عنوان عار لها أو ثقلا على حياتها.» وإذ اكتفيت بما تقدم واقتنعت أنه لا يدري سوى ما قاله انتقلنا إلى حديث آخر وأنا أظهر له أني لم أهتم بالتسآل عن أمر الصبي إلا من قبيل ميل الإنسان إلى الاطلاع على الأسرار.
وكان الأمير عاصم يسمع حديث سنتورلي وفمه مشقوق وقلبه قوي الخفوق، فلما استوعب كل كلامه قال: أتظن أن هذا الغلام هو ابن جوزفين الذي عهدنا إلى عائشة الداية أمر خنقه أو إهدائه للراهبات في ملجأ اللقطاء، وأن تدعي أمام أمه أنه ولد مائتا؟ - كذا أظن. - ولكن الدلائل غير واضحة ولا مؤكدة؛ لأنه يحتمل أن يكون صبيا آخر غير ابن جوزفين، ولدته إحدى البغيات أو الزواني على يد عائشة، وأوعزت إليها أن تعطيه لأحد الناس لكي يربيه. - لا أظن ذلك يا مولاي، لأنه لو كان ابنا لغير جوزفين كما تظن، لما كانت أمه تسلمه لأحد بعد أن تربيه عامين، إذا كانت قد استبقته عندها عامين، ولا كانت الداية عائشة تعطيه للشيخ حسن النعمان، بل بالأحرى كانت ترميه أمام باب الدير كما يرمى سائر اللقطاء، فإعطاء عائشة إياه للشيخ حسن يدل على أن لها قصدا بذلك. - ماذا ترى قصدها؟ - أظن قصدها أن يقع الصبي بين أيدي أهله كما جرى. - لقد أخفتني يا سنتورلي بهذا التعليل القريب من الصحة، وسواء صدق ظننا أو لم يصدق يجب أن نفترضه صادقا ونعمل عملنا مراعين هذا الافتراض. - ماذا تعني يا مولاي؟
ففكر الأمير عاصم برهة، وقال: ألا تظن أنه إن صدق ظننا كان هذا الغلام خطرا علينا وإفسادا لمشروعنا؟ لأنه إن عرف بعدئذ تاريخ ولادته أو حياته الأولى انفضح جرمنا، أقول جرمنا؛ لأنك أنت شريك فيه.
فضحك سنتورلي ضحكة الوجل، واستمر الأمير في خطابه. - ثم إن ثبوت بنويته للأمير نعيم يفسد مشروعي ويهدم كل آمالي. - إذن ماذا تريد؟ - أما هو عقبة عظمى في سبيلنا؟ - تريد إذن أن نزيل هذه العقبة؟ - ألا ترى وجوب ذلك؟ - نعم نعم. - ولكن يجب عليك قبلا أن تتحقق ماذا يعتقد الأمير نعيم وجوزفين بأمر الصبي، وماذا يظنانه. - أستطيع ذلك بسهولة؛ لأن مربية الصبي إيطالية وقد تعرفت بها وصرت صديقها، فأقدر أن أتحقق منها ذلك من غير أن تلاحظ أن لي قصدا مهما. - تفعل حسنا، يبقى عليك أن تفحص عن تاريخ حياة الصبي الأولى من زوج عائشة وغيره من ذويها وأصدقائها إن استطعت. - سأفعل، وإذا صدقت ظنونا؟ - إذا ثبت أن الصبي ليس ابن نعيم فقد زالت مخاوفنا، وإنما يبقى الصبي إفسادا لمشروعنا؛ لأن وجوده بين نعيم وجوزفين كابن لهما يؤيد ارتباطهما ويتعذر بعده أن يطلقها؛ لأن حبهما للصبي يكون صلة حب قوية بينهما، ثم يخشى أن يتمكن حب نعيم للصبي إذا رباه وصار رجلا ذا شأن وأن يهبه ثروته بعد ذلك، وأما إذا ثبت أن الصبي ابن نعيم وجوزفين حقيقة فإن كانا قد عرفا حقيقة أمره وسكتا فلا نستطيع أن نطمئن لسكوتهما، وإن كانا لا يزالان يجهلانها فلا بد أن يعرفاها ولو بعد حين، فإذن نحن تحت خطر على كل حال ومشروعنا مهدد على الدوام. - نعم مهدد ما دام الصبي موجودا في قصر الأمير نعيم. - كذا كذا. - إذن لا بد من إبعاد الصبي على كل حال، سواء ثبت أنه ابن الأمير أو كان ابن سواه. - كذا أرى، ولكن لا تغفل عن تحقق أمره لكي نطمئن ولا نشغل القارئ الكريم بتفاصيل تحقيقات المسيو سنتورلي، فإنه استفهم من مربية الصبي فتأكد له أن الأمير نعيما وجوزفين يعتقدان أن الصبي ابن زنا، واستقصى كثيرا عن حقيقة أمره من ذوي عائشة الداية، فوجد أنهم لا يعرفون شيئا، وأن عائشة لم تترك أثر خبر عن الصبي.
فاطمأن الأمير عاصم بعض الاطمئنان؛ لأنه رأى أن اعتقاد الأمير نعيم وجوزفين بنغولة الصبي يمد أمامه أجل السعي والعمل لمشروعه، ولكنه بقي متخوفا أن يصدق ظنه بأن الصبي ابن نعيم الحقيقي، وأن يهتدي الأمير إلى هذه الحقيقة قبل أن يبلغ عاصم إلى وطره؛ ولذلك قال لسنتورلي: إذن يجب أن نبتدئ بمهمتنا منذ الآن بكل سرعة وهمة ونشاط، أمامنا عقبتان كما أفهمتك. - نعم، الصبي وجوزفين. - والواجب؟ - إزالتهما. - متى يتسنى لك ذلك؟ - ليس في العهد القريب. - متى تظن؟ - حين يفترق الأمير نعيم عنهما افتراقا طويلا بعيدا. - أتتوقع افتراقه؟ - كلا؛ لأنه لا يسافر سفرا بعيدا إلا وجوزفين إلى جانبه، وفي كل صيف يبرحان معا إلى أوروبا.
ففكر الأمير عاصم برهة ثم قال: علي تدبير طريقة لحمله على أن يسبقها إلى أوروبا في هذا الصيف، فإني أخلق له مهمة في الآستانة أو غيرها تضطره إلى السفر على حين فجاءة، فيسافر على أمل أن تتبعه جوزفين إلى أوروبا. - وأنا علي الباقي. - ماذا تفعل؟ - لا أدري الآن، ولكن كن على ثقة بنجاحي. - ولكن يجب أن تبعدها عنه وتترك له منها أثرا سيئا له لكي يكرهها ولا يسأل عنها في ما بعد. - سأضع خطة وأشرحها لك مسهبة وأرى رأيك فيها. - ثم يجب أن تظهر دائما بمظهر الموافقين لكل رغائب نعيم والشاعرين معه بسروره وترحه. - طبعا، وإلا أخفق مسعانا. - إذن نفترق على أن نفتكر مليا بالأمر. - من غير بد. - ولا ريب عندي أنك مقتنع بأن مآل المشروع للخير الأعظم نحو هذا البيت الكريم الذي خلفه سيدك المرحوم صدقي باشا ... - بالطبع. - لأن كل قصدي أن لا يمتزج بالأسرة نسب وضيع. - نعم، ذلك واجب.
وهم سنتورلي أن يخرج، فأمسك الأمير عاصم بيده، ونهض ومشى معه إلى الباب هامسا: أما جزاؤك فلا تجهله. - لا شك عندي بذلك، وحسبي أني شريكك بخدمة الأسرة الكريمة في مشروع جليل الغاية. - بارك الله فيك.
अज्ञात पृष्ठ
وخرج سنتورلي وهو يقول في نفسه: ما أجنه! يظن نفسه أنه يطلي علي بهذه البراهين والتعاليل التي يجتهد أن يبرر عمله الشرير بها! حاول أن يقنعني بأن الأمير نعيما لا يساكن جوزفين لأنه يحبها، بل لأنه يأبى أن ينكث عهده معها وأنه يحب بهجت هانم، مع أني أعرف مثله أن الأمير نعيما يعبد جوزفين ولا يطيق بهجت، وإنما يكرمها إكرام الأخ للأخت. وما لي وله؟! أخدمه بأجرتي وقد جمعت ثروة طائلة من جراء خدمي لهذا الشرير، وما دام في يدي سلاح ضده لا أخاف شره، فإن لم يجزني على خدمه بما أريد أعلنت له وصية الأمير صدقي الحقيقية التي تفسد وصيته المزورة.
الفصل التاسع
الحية وحواء والأبالسة
بعد أشهر لهذه الأحاديث التي ذكرت، كانت «دلالة» إيطالية تغتنم فرصة غياب الأمير نعيم عن قصره وتتردد إلى جوزفين لتعرض عليها بعض السلع والحلي وتبيعها منها، وقد استأنست بها جوزفين جدا ومالت إليها، وعرفتها باسم مدام ببيني، وكانت توصيها أن تشتري لها بعض حاجاتها من الأقمشة والحلي ونحوها.
ولهؤلاء الدلالات - البياعات والسمسارات - شأن كبير في مصر بين نساء الأسرات العليا، فإنهن يتاجرن «بالجواهر والأعراض» في وقت واحد، وبدعوى بيع السلع يساومن على الطهارة، فهن لغة التفاهم بين المتعاشقين، وصلة التقارب بين «المتخاونين»، ويندر أن يدخلن بيتا لا يزرعن فيه زرع الدنس.
على أن جوزفين كانت تجهل ذوات هذه الحرفة جهلا تاما، وقد طلت عليها مدام ببيني غايتها، وسبكت لها حيلتها، حتى أوقعتها في الشرك الذي نصبه لها سنتورلي والأمير عاصم على يدها.
ذلك أن جوزفين انخدعت بتودد مدام ببيني وتحببها وبما كان يتراءى لها من إخلاصها وسلامة نيتها، فمالت إليها ميل الصديقة إلى الصديقة، ووثقت بها وثوقها بنفسها ؛ لأن معاملة مدام ببيني لها كانت ترمي إلى هذه الغاية؛ أي إلى فوزها بثقة جوزفين، ولا يتعذر على مدام ببيني التي حنكها الزمان أن تظفر بهذه الأمنية من مخدوعتها، ولا سيما لأن سليم القلب كجوزفين يجوز عليه تمويه الداهية؛ ولذلك لم تكن جوزفين تتكبر وتتشامخ على مدام ببيني شأن مخدرات القصور الحصينات، بل كانت تعاملها معاملة الند للند، ولا تستنكف أن تقف معها وقفة المثل مع المثل، ولا سيما لأن مدام ببيني خلبتها برقة عشرتها، وسطت عليها بعزة مظهرها.
ولما ظفرت مدام ببيني بهذه الثقة العمياء من جوزفين، انتهزت فرصة غياب الأمير نعيم من قصره إلى الإسكندرية كعادتها، وذهبت في الصباح إلى جوزفين ودعتها إلى تناول الشاي عندها في العصر، فرضيت جوزفين شاكرة مسرورة، فقالت مدام ببيني: إذن أرسل حوذيا يعرف منزلي، ولا لزوم اليوم أن تركبي مركبتك. - لا بأس، في أية ساعة؟ - الساعة الخامسة يكون الحوذي أمام باب القصر، ولي الأمل أن يكون يوسف الجميل معك، يا روحي، ما أحبه إلى قلبي!
فابتسمت جوزفين، وقالت: يكون كما ترغبين.
ثم افترقا على هذا الاتفاق.
अज्ञात पृष्ठ
ولما انتهت الساعة الخامسة كانت مركبة مقفلة تدرج بجوزفين ويوسف إلى حيث لا يدريان، وقد أطلقت جوزفين الحرية لخدم القصر أن يذهبوا حيث يريدون في ذلك المساء، فذهب كل منهم إلى جهة يتنزهون أو يزورون أصدقاءهم.
أما جوزفين فبعد أن ملت طول المسافة وتعوج الطريق في الشوارع الضيقة والأزقة القذرة وصلت إلى منزل مدام ببيني، وهي لا تدري في أي نقطة هي، فدخلت في باب حقير ويد يوسف بيدها إلى أن صعدت في سلم ضيق قذر، وانتهت إلى قاعة بسيطة، استقبلتهما فيها مدام ببيني بقبلات يهوذا الإسخريوطي وقالت لها: أرجو منك يا حبيبتي أن تعذريني على استدعائك من أبهة قصرك إلى حقارة منزلي. - إن قصري مع الوحدة كوخ حقير يا مدام ببيني، ولكن منزلك بما فيه من دواعي الأنس لهو القصر الحقيقي. - أشكر لطفك جدا يا سيدتي المحبوبة، ولي الأمل أن تسري ببساطة مجاملتي لك.
وقد بالغت مدام ببيني في مؤانسة جوزفين وملاطفتها ومحادثتها وملاعبة الصبي وممازحته، حتى شعرت جوزفين أن تلك الساعة من أسعد ساعات حياتها، وبعد تناول الشاي استولى عليها سبات عميق، فجعل القبلة الأخيرة من مدام ببيني لها آخر تذكاراتها في ذلك المنزل المجهول.
وفي صباح اليوم التالي صحت جوزفين فذعرت؛ إذ رأت نفسها على سرير بسيط في غرفة زهيدة الأثاث مقفلة النوافذ، وأمامها شاب يبتسم لها وهي خالية الذهن من صورته، فنهضت مذعورة وجلست في السرير، وقالت مضطربة: من أنت؟
فقال بكل تلطف بالفرنسية، وقد تراءى لها أنه فرنسي الجنسية: أنا من يعبدك.
فنظرت إلى ما حولها وجلة وأدارت نظرها في كل جهات الغرفة مندهشة. - ويلاه! أين أنا؟ أفي منزل مدام ببيني؟ - كلا يا معبودتي، بل أنت في المسجد الذي أعبدك فيه. - ويلي! ويلي! من أنت؟ أين مدام ببيني؟ أين يوسف؟ رحماك! قل لي من أتى بي إلى هنا؟ - يد القدر. - إذن سلمتني مدام ببيني بخيانة. - ما مدام ببيني وغيرها إلا آلة في يد القدر.
فانفجر فم جوزفين بالبكاء والنحيب وهي تقول: قاتلها من خائنة رديئة، ويلي! ما أشاقاني! ما الغاية من هذه الخيانة؟
ثم تجلدت إذ انتبهت لنفسها، فبسطت ذراعيها أمام ذلك الفتى وقالت: رحماك، رحماك! أرسول خير أنت أم رسول شر؟ - كما تشائين. - ويلاه، ويلاه! وقعت في الشرك، ماذا تريد مني يا سيدي؟ - قبل كل شيء أرجو منك أن تنزلي عن سريرك وتجلسي إلى هذا المكتب. - ثم ماذا؟ - متى جلست إليه أقول لك.
فنزلت وهي تقول: «بربك ارحمني؛ فإني طيبة القلب لا أستحق إلا الرحمة!» ثم جلست فقدم لها ورقا وقلما ودواة وقال: «اكتبي ما في هذه الورقة.» فأجابته على الفور: أتريد نقودا؟ - كلا كلا.
فقدم لها ورقة مكتوبة باللغة النمساوية - لغتها - فازداد اضطرابها، وجعلت تقرأ ما معناه:
अज्ञात पृष्ठ
سيدي الأمير نعيم، متى وصل إليك تحريري هذا تنكف عن أن تبحث عني؛ لأني لم أعد لك بعد الآن، ولا تقرأ هذه الكلمات إلا وقد صرت في أوروبا مع سواك، لا تسل لماذا فعلت هكذا؛ إذ لا سبب منك، وإنما هي المرأة، لها كل يوم هوى جديد.
جوزفين
فوثبت جوزفين عن كرسيها وثبة الأسد، ووضعت كفها في عنق الفتى وأنشبت أظافرها فيه وقالت: يا خائن، أموت ولا أنيلك مأربا.
وكان قد قبض على ذراعيها بكفين من حديد، فانحلت عزيمتها وأفلتت عنقه. - لا أنتظر منك أن تجيبي طلبي برضاك ولا بسهولة، ولكن لكي أوفر عنك الجهاد في الممانعة عبثا أقول لك إنك امرأة ضعيفة بلا سلاح، وسجينة في منزل حصين بعيد عن العالم، لا يحيط بمقرك هذا غير غيض خال من السكان، وليس من تستغيثين به.
ثم انتضى من جنبه خنجرا، وقال: إذا لم تطاوعي فليس جزاؤك إلا هذا الخنجر، ولا تظني أني أشفق عليك؛ لأني لست عاشقا لك كما ظننت.
فقالت وهي تنتفض من الخوف وصوتها يرتج ارتجاج الوتر: إذن ما الغرض من كل ذلك؟ - لا تسألي عن شيء، بل يجب أن تطيعي طاعة عمياء، وبهذه الطاعة تكسبين حياتك وتعيشين عيشة راضية. - ويلاه! أي عيشة راضية مع سواه؟ - الأفضل لك أن تنسيه؛ لأنه صار اتحاد الزيت بالماء أسهل من اتحادك معه، لك كل ما تشائين إلا عشيقك.
فوقعت على الكرسي واهية القوى مغمضة العينين، وجعل صدرها ينهض ويهبط بسرعة فوق أنفاسها، وحدث سكوت بضع دقائق والفتى قاعد على حافة السرير أمامها، ثم فتحت جفنيها وقالت: بربك، ألا رحمة منك؟ - لك كل معاملة حسنة، بل لك كل شيء إلا الرجوع إلى من تهوين أو معرفته بمقرك. - وما الغاية من ذلك؟! - قلت لك لا تسألي؛ إذ لا يعنيك أن تعرفي شيئا من هذا القبيل، واعلمي أنك لست مطلقة الحرية، وإنما تأكدي أنك تعاملين بكل الحسنى، فاكتبي، اكتبي ما تقرئينه في هذه الورقة. - رحماك رحماك! - لا يجديك التوسل أكثر مما يجدي التماس الماء من الصخر الأصم. - إذن تتعمد اغتصابي! - بل أريد أن تكتبي ما تقرئينه هنا فقط. - لا أكتب. - قلت لك لا تعاندي، فإنك ضعيفة ولا أصبر عليك طويلا، بل لا أجادلك.
ثم رد الخنجر إلى جنبه، وتناول من جيبه مسدسا وصوبه إلى رأسها وعيناه تقدحان شرر الشر، فذعرت وتناولت القلم ويدها ترتجف. - بربك، اعف عني فأكتب.
فجعلت تكتب وهو مصوب المسدس نحوها، ولما انتهت تناول الورقة ونشفها وطواها، ثم قال لها: عنوني ظرفا كهذا.
وقدم لها ظرفا معنونا باسم الأمير نعيم، فتوقفت هنيهة فصوب إليها المسدس وقال: لا تترددي.
अज्ञात पृष्ठ
فنظرت إليه خاشعة، وقالت بصوت مرتجف: رحماك! ليست حياتي أعز علي من فراق زوجي، بربك أعفني، ماذا تريد غير ذلك؟ سل ما تشاء فدية. - لا أريد غير هذا. - لا أكتب. - بل تكتبين. وأوهمها أنه هم أن يطلق الرصاص عليها. - بربك، أمهلني. - لا أمهلك، عنوني الظرف حالا.
فتناولت القلم وقد وضع الظرف أمامها وكتبت:
مصر
دولتلو الأمير نعيم بك صدقي.
وفي الحال تناول الظرف ونشفه ووضع الرسالة فيه ووضعه في جيبه، وقال: إذا لم يكن ما كتبته مثل ما قرأت تماما أعود إليك عودة الوحش الضاري.
فجثت جوزفين عند قدميه وبسطت ذراعيها لديه قائلة: ارحمني يا سيدي، لماذا أعامل هذه المعاملة؟ - لا تستحقين إلا كل خير، ولكن التقادير قضت بذلك، وما أنا إلا آلة في يد التقادير. - لماذا أبعد عنه؟ - لا أدري شيئا من أمرك، فعبثا تضرعين إلي. - أتريد أن تسمع، فأخبرك؟ - لا تستفيدين مني شيئا. - ألا ترى أني مظلومة؟ - لا ريب عندي أنك مظلومة. - فلماذا لا ترحمني إذن؟! - ليس في وسعي أن أرحمك، لقد انتهت مأموريتي. - ماذا يكون حظي بعد الآن؟ - لا أدري.
فصمتت جوزفين هنيهة والحزن يمزق أحشاءها، ثم استرسلت بالبكاء والنحيب، وعند ذلك فتح الباب ذلك الشاب لكي يخرج، فتشبثت به قائلة: بربك دعني أخرج معك. - مسكينة! ألا تدرين أنك سجينة هنا؟! - إلى متى؟ - لا أدري. - ارحمني، ارحمني، ماذا تريد مكافأة؟ - مسكينة، لقد أجنك الحزن! فعودي إلى مرقدك، إني أرثي لك ولكني لا أقدر أن أخلصك.
ثم دفعها إلى وسط الغرفة، وخرج وأقفل الباب وأوصده في الحال، فبقيت جوزفين في ذلك السجن تنحب وحدها بملء الحزن والغم وفي نهاية اليأس.
لم تفتكر جوزفين في ماذا يكون من شقائها قط، وكل ما كان يجول في ضميرها هو ماذا يظنه الأمير نعيم بشأنها، وهل يصدق أنها هجرته إلى سواه، وإذا صدق فماذا تكون حاله وماذا يفعل، وتمنت لو يتضاعف شقاؤها ويعتقد الأمير نعيم أنها لم تزل ثبوتا على حبها وعهدها، بل كانت تستلذ العذاب لأجله إذا كان يعلم به.
ثم كانت تفكر في يوسف وما تم به، فلم تقلق عليه شديد القلق؛ لأنها خمنت أنه يرد إلى القصر، وربما يعلم الأمير بواسطته شيئا عنها، أو يهتدي إلى مدام ببيني التي خانتها.
अज्ञात पृष्ठ
وقد خطر لها حينئذ أن الأمير نعيما لم ير مدام ببيني عندها ولا مرة، وإذ ذاك أدركت أن هذه الغادرة كانت تنتهز فرصة غيابه لكي لا يراها ولا يعرفها، بل ذكرت جوزفين حينئذ أن مدام ببيني كانت تتجنب أن يراها خدم القصر ما استطاعت لكي لا تنطبع في أذهانهم صورتها.
وماذا تخشى مدام ببيني؟ فقد أتمت مهمتها وأخذت أجرتها وبعدت عن مكان تلك الجناية الفظيعة، وأصبحت جوزفين في عهدة آخرين لا يعلمون أصلها ولا فصلها، وليس عليهم إلا حراستها، وهكذا تتنقل بين أيدي الأشرار المأجورين لكي يبقى أمرها سرا مكتوما.
الفصل العاشر
لا تدري أين هو
وبعد برهة ساعة فتح الباب، فدخلت امرأة إفرنجية تكاد تتجاوز طور الكهولة، وقدمت لجوزفين فطورا من اللبن والعيش والزبدة، وقالت لها بكل لطف باليونانية ما معناه: خذي يا بنيتي كلي.
فاستأنست جوزفين بليونة صوتها ولكنها لم تفهم مقالها؛ لأن اليونانية رطانة عندها، فكلمتها بالفرنسية قائلة: بحق من تحبين وتعزين يا سيدتي قولي لي لماذا أتي بي إلى هنا؟
ولم تكن المرأة تفهم من الفرنسية إلا كلمات معدودة وأما من النمساوية التي هي لغة جوزفين فلم تكن تفهم كلمة؛ ولذلك عز على جوزفين أن تسترحمها إلا بالإشارات كالركوع أمامها والسجود عند قدميها، فكانت تجيبها تلك المرأة اليونانية بهز كتفها، ولسان حالها يقول: «لا أفهم ماذا تقولين؟ وإذا فهمت فماذا تستفيدين؟»
ثم أدارت لها ظهرها، وانصرفت، وأقفلت الباب وراءها.
ولا نتمادى في وصف ما لقيته جوزفين من العذاب في ذلك السجن ومن آلام الوحدة وأحزان الفراق وغموم الوحشة، فكانت تقضي كل النهار وحدها في تلك الغرفة تبكي وتنوح، وتلك المرأة السجانة كانت تدخل عليها في ميعاد الأكل وتقدم لها طعامها، وعند العصر تخرجها من الغرفة إلى رحبة المنزل، وبعد الغروب تخرج إلى الشرفة لكي تتنشق الهواء النقي، فلا ترى جوزفين غير الظلام وبعض الأنوار الضئيلة على بعد شاسع جدا؛ ولذلك لم يتسن لها أن تعرف ما نسبة سجنها هذا إلى المدينة، أهو إلى جنوبها أو إلى شمالها؟ ولا مسافة بعده عن قصرها.
ولا ريب أن يشعر القارئ من نفسه مع هذه المسكينة وما لاقته من الأحزان، ويدرك ما آلت إليه حالها من السقم والهزال وضعف الجسم وخبال العقل.
अज्ञात पृष्ठ