अराम दिमश्क और इस्राइल
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
शैलियों
بعد ذلك لا يبقى أمام يشوع سوى الانشغال بكيفية توزيع أرض كنعان على الأسباط، ورسم الحدود الدقيقة لأراضي كل سبط. وهذا ما تفصله بقية إصحاحات سفر يشوع من 12 إلى 24، ثم يموت يشوع وعمره مائة وعشر سنين.
النقد النصي لسفر يشوع
يستمر في سفر يشوع أسلوب السرد الملحمي الممزوج بعناصر قصصية خرافية. فعبور نهر الأردن يتم بعد انفلاق الماء أمام الإسرائيليين، وسور أريحا يسقط من تلقاء ذاته على صوت الأبواق والهتافات العالية، والسماء تمطر حجارة ثقيلة على الجيوش الخمسة وتقتل منهم أكثر مما قتله الجنود، والشمس تقف في كبد السماء ولا تعجل للغروب حتى يطول النهار ويسمح بانتصار الإسرائيليين. ثم يعمد المحرر فوق ذلك إلى تلوين روايته بعناصر من القصص الشعبي. فقبل الهجوم على أريحا يبعث يشوع برجلين من عنده للتجسس على المدينة، فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب، واضطجعا هناك، فعرف ملك أريحا بأمر الجاسوسين وبمكان إقامتهما، فأرسل إلى راحاب يعلمها بأن الرجلين من الجواسيس ويطالبها بتسليمهما، ولكن المرأة خبأتهما على سطح بيتها بين عيدان الكتان، وقالت لرسل الملك بأنهما غادرا قبل إغلاق بوابات المدينة مساء، فلحقوا بهما في طريق الأردن إلى المخاوض. ثم أنزلت الرجلين وقالت لهما: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض قد ذابوا من أجلكم ... فالآن احلفا لي بالرب وأعطياني علامة أمانة - لأني عملت معكما معروفا - بأن تعملا أنتما أيضا مع بيت أبي معروفا وتخلصا أنفسنا من الموت.» فوعدها الرجلان خيرا وانطلقا إلى المعسكر. وحين استباح يشوع المدينة لم يبق فيها إلا على راحاب وعائلتها بسبب المعروف الذي صنعته لهم. وتعتمد قصة الصلح مع مدينة جبعون على عناصر التشويق والفكاهة الضمنية المعروفة في حكايا الشطار والعيارين. فالقائد العسكري المهيب ينخدع بحيلة رسل أهل جبعون، ويصدق قصتهم عن مدينتهم البعيدة والفقيرة جدا، ويعطيهم الأمان، ليعرف بعد قليل أن جبعون لا تبعد أكثر من بضعة أميال عن أريحا. وبالطبع فإن مثل هذه الحيلة لا يمكن أن تنطلي على قائد محنك عمل مسبقا على دراسة مسرح عملياته القتالية، وجمع المعلومات الكافية عن مدن العدو وقلاعه وحصونه وطبيعة أرضه. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصادر معلومات يشوع لم تكن وقفا على الزانيات الخائنات.
قد تبدو الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها يشوع مقنعة أحيانا، ويقترب النص التوراتي في سردها مما يشبه التاريخ، غير أن تدخل العناصر اللاهوتية والملحمية ما يلبث أن يعيد عملية السرد إلى نهجها الخيالي الذي التزمته، رغم اجتماع عناصر الحادثة التاريخية أمام المحرر. فالهجوم الأول على مدينة عاي يفشل لأن جنديا سرق بعض المتاع من أريحا، التي أمر الرب أن يكون كل ما فيها له. ولا يفلح الإسرائيليون في هجومهم الثاني إلا بعد تقديم المذنب أمام الرب ورجمه حتى الموت مع أفراد عائلته جميعهم. وفي قصة لقاء يشوع مع ملك حاصور يبدأ المحرر في تجميع العناصر المنطقية لقصته، حين يأخذ يابين ملك حاصور بجمع ملوك الشمال الخمسة من أجل الوقوف في وجه يشوع العائد منتصرا من الجنوب، إلا أن القصة ما تلبث حتى تتخذ المسار الملحمي المعهود، فنجد أن المجتمعين عند مياه ميروم للقاء يشوع ليسوا ملوك التجمع الشمالي فقط، بل ملوك من شتى أنحاء فلسطين؛ من اليبوسيين في الجنوب إلى الحويين عند سفوح جبل الحرمون، فصار أعداء إسرائيل مثل الرمل الذي على شاطئ البحر، على حد قول النص. وبذلك غلبت الحبكة الملحمية على الحبكة التاريخية بشكل مقصود ومتعمد. وفيما يتعلق بمدينة أورشليم، فإن وضعها قد بقي غامضا في استراتيجية يشوع، فقد قتل يشوع ملكها الذي كان رأس تحالف ملوك الجنوب الخمسة، ولكنه لم يعرج على المدينة في طريقه نحو الجنوب، بل تابع حملته جنوبا وصولا إلى غزة، ثم عاد إلى مقره في الشمال دون أي ذكر لأورشليم. وعندما يأتي النص على ذكر توزيع الأراضي المكتسبة على الأسباط يقول بشأن أورشليم: «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم» (يشوع، 15: 63).
وفي الحقيقة، فإن عملية توزيع الأراضي المكتسبة في كنعان على القبائل الإسرائيلية تظهر بوضوح أن حملات يشوع العسكرية لم تكن حاسمة، وأن العديد من المدن التي ذكر النص سابقا عن تدميرها وإبادة سكانها ما تزال قائمة وسكانها أقوياء، وأن الإسرائيليين عاجزون عن طردهم والحلول محلهم. فعن مدينة جازر مثلا نقرأ في حكاية الحملة العسكرية الجنوبية ليشوع: «حينئذ صعد هورام ملك جازر لإعانة الجيش، فضربه يشوع مع شعبه ولم يبق له شاردا» (يشوع، 10: 33). ثم نقرأ عن جازر بعد ذلك أن سبط أفرايم «لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم» (يشوع، 16: 10). وبخصوص مدن وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، التي تعد من أقوى المدن الفلسطينية وأغناها، نعرف أن سبط منسي، الذي أعطي هذه المناطق، لم يقدر على امتلاكها، بينها بيت شان وتعنك ومجدو: «ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، 17: 12). وهم يشتكون إلى يشوع خوفهم من سكان هذه المناطق لأنهم أقوياء ولديهم مركبات من حديد: «فقال بنو يوسف (أفرايم ومنسي): لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات من حديد؛ للذين في بيت شان وقراها وللذين في وادي يزرعيل» (يشوع، 17: 16). ولسوف نرى بعد قليل في سفر القضاة أن يشوع لم يكتسب من الأرض شيئا في كنعان، بل قام بتوزيعها نظريا على الأسباط، تاركا كل سبط يعمل على اكتساب نصيبه بنفسه وعلى طريقته الخاصة.
وتنم بعض تفاصيل سفر يشوع عن وجود شكل أقدم لقصة الخروج، يجعل جماعة موسى تنطلق من قادش برنيع أو من مكان ما آخر في سيناء، مباشرة نحو كنعان دون وقفة مطولة في شرقي الأردن، وأن هذا الشكل الأقدم هو الذي استند إليه محرر سفر يشوع. فبعد عبور يشوع للأردن وحلوله في الجلجال يحتفل بنو إسرائيل بالفصح، ويأكلون من غلة الأرض لأول مرة بعد خروجهم من مصر، وينقطع عنهم المن الذي كان غذاء لهم طيلة فترة الخروج: «وانقطع عنهم المن عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعد لبني إسرائيل من» (يشوع، 5-12). ولما كنا نعرف من سفر العدد والتثنية أن جماعة موسى قد استولوا على مناطق واسعة بمدنها وقراها في شرقي الأردن، وأقاموا فيها فترة لا بأس بها، وصارت لهم مواش كثيرة (التثنية، 13)، فإننا نعجب كيف استمر طعامهم مقتصرا على المن الذي تجود به السماء كل تلك السنين التي قضوها في قادش برنيع وفي شرقي الأردن، من دون اللحم وغلة الأرض. ولا ندري ماذا فعل هؤلاء مثلا بالألوف المؤلفة التي غنموها من أعدائهم من رءوس الغنم والبقر، مما نقرأ عنه في سفر العدد (31: 31-34): «وكان النهب - فضلة الغنيمة التي اغتنمها رجال الجند: من الغنم ستمائة وخمسة وسبعين ألفا، ومن البقر اثنين وسبعين ألفا، ومن الحمير واحدا وستين الفا.» على أن النص يخبرنا في أكثر من موضع أنهم كانوا يأكلون اللحم من دون من السماء. ففي العدد (25: 1-2) نقرأ: «وأقام إسرائيل في شطيم، وابتدءوا يزنون مع بنات موآب. فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن.»
وباختصار، فإن النقد النصي لسفر يشوع يظهر أمام أعيننا أن هذا السفر في شكله وفي مضمونه ليس نصا تاريخيا بأي معيار، ولم يكن يطمح لأن يكون كذلك. وليس الإقناع الذي يمارسه السفر على قارئه لأول وهلة إلا نتاجا لحيوية الأسلوب، وتتابع الأحداث دون فواصل أو انقطاعات وفجوات، وفوق ذلك كله اعتماد المحرر على جغرافية واقعية للحدث.
النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر يشوع
يتفق معظم المؤرخين على وضع تاريخ لأحداث سفر يشوع لا يتجاوز عام 1200ق.م. إلا أن مقارنة أحداث سفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدم لنا نقطة ارتكاز واحدة يمكن عندها تثبيت الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة، التي كانت تموج بالأحداث الجسيمة التي قادت إلى نهاية ثقافة بكاملها وابتداء ثقافة جديدة. فالفلستيون غير مذكورين بتاتا، ناهيك عن بقية شعوب البحر الذين يفترض تواجدهم بكثرة في فلسطين استعدادا لغزو مصر. ولا يوجد ذكر للفرعون مرنفتاح (1212-1200ق.م.) الذي هزم تحالف الليبيين مع شعوب البحر، وردهم عن حدود مصر الغربية، ثم شن بعد ذلك حملة على فلسطين حوالي عام 1207 أو 1208ق.م. كما لا يوجد ذكر للفرعون رمسيس الثالث، الذي قضى في عام 1191ق.م. على هجوم شعوب البحر الذين انطلقوا من فلسطين، ثم تعقبهم حتى بيت شان في الشمال حيث نصب لنفسه تمثالا عثر عليه في أنقاض المدينة إلى جانب نص مصري يصف الحملة. وفيما عدا تلك الممالك الصغيرة في شرقي الأردن، والتي أثبتنا في نقدنا لرواية الخروج أنها لم تكن موجودة، فإن النص لا يحفل بذكر أي مدينة أو مملكة معروفة لدينا من تلك المدن الكبيرة والممالك المجاورة لفلسطين. كل هذا يؤكد أن محرري سفر يشوع كانوا يصوغون قصة بدون إطار تاريخي، ولم يكن بين أيديهم معلومات واضحة عن تلك الفترة التي اختاروها لأحداثهم، أو التي اختارها لهم المؤرخون المحدثون.
وتبدو الشواهد الآثارية أكثر تخييبا للآمال، فعلم الآثار لم يستطع تقديم بينة واحدة من الفترة الانتقالية بين البرونز الأخير وعصر الحديد، تدل على حلول أقوام جديدة في فلسطين، حملت معها ثقافة مغايرة للثقافة الكنعانية السائدة. والمواقع التي أعيد بناؤها بعد تهديمها، سواء بالغزو أم بوسائط أخرى، قد بنيت بيد السكان المحليين، ودون أن تظهر في مواقعها آثار انقطاع حضاري أو تأثيرات خارجية.
अज्ञात पृष्ठ