अराम दिमश्क और इस्राइल
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
शैलियों
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
الباب الأول: البحث عن إسرائيل التوراتية
1 - الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
2 - عصر الآباء
3 - العبودية في مصر، والخروج
4 - إسرائيل في كنعان
5 - المملكة الموحدة لكل إسرائيل
अज्ञात पृष्ठ
الباب الثاني: إسرائيل التاريخية وآرام دمشق
1 - نظريات في نشوء إسرائيل
2 - إسرائيل التاريخية
3 - الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
4 - إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
5 - العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
6 - صعود يهوذا ونهايتها السريعة
خاتمةأفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي
مراجع البحث
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
अज्ञात पृष्ठ
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
الباب الأول: البحث عن إسرائيل التوراتية
1 - الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
2 - عصر الآباء
3 - العبودية في مصر، والخروج
4 - إسرائيل في كنعان
5 - المملكة الموحدة لكل إسرائيل
الباب الثاني: إسرائيل التاريخية وآرام دمشق
अज्ञात पृष्ठ
1 - نظريات في نشوء إسرائيل
2 - إسرائيل التاريخية
3 - الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
4 - إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
5 - العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
6 - صعود يهوذا ونهايتها السريعة
خاتمةأفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي
مراجع البحث
آرام دمشق وإسرائيل
آرام دمشق وإسرائيل
अज्ञात पृष्ठ
في التاريخ والتاريخ التوراتي
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970 بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971 قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة .
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
अज्ञात पृष्ठ
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem during the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
अज्ञात पृष्ठ
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnant and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do and Do Not Know about
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة ، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
अज्ञात पृष्ठ
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
يعتبر كتاب التوراة بالنسبة للباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان أحد المفاتيح المهمة لفهم آخر حلقات التاريخ الديني في منطقة الشرق القديم. كما يعتبر تاريخ فلسطين مقدمة لا غنى عنها لفهم كتاب التوراة، وتوضيح السياق التاريخي لظهور أسفاره، وفهم الوسط الثقافي الذي أنتجها، والوضع الفكري لمحرريها، وبذلك يغدو تاريخ فلسطين جزءا لا يتجزأ من تاريخ الدين في المنطقة المشرقية.
من هنا جاء اهتمامي الشخصي بهذا التاريخ، وسعيي لكشف غوامضه والتعمق في إشكالياته، وذلك على هامش بحثي الأساسي في الميثولوجيا وتاريخ الدين، ثم تحول الهم الهامشي تدريجيا إلى هم رئيسي، فوضعت كتابي الأول في تاريخ فلسطين عام 1989 وكان بعنوان «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم». ولكن فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة - الذي تراكم خلال ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، والذي أخذ الآن فقط ينتظم في شبكة مفهومة أمام المؤرخ - قد دفع الموضوع مجددا إلى بؤرة اهتماماتي؛ لأن هذه المعلومات الجديدة أخذت تفرش الأرضية اللازمة لإعادة النظر في تاريخ فلسطين، ومسألة نشوء إسرائيل القديمة وزوالها في السياق العام لهذا التاريخ، وفهم علاقة تاريخ إسرائيل بالتاريخ اليهودي، وهي علاقة قد بدأت الآن بالاتضاح على خلفية المعلومات الجديدة، وذلك بعد فترة طويلة من اختلاط البحث التوراتي بالبحث التاريخي، وسيطرة الأول على الثاني.
وبما أن تاريخ آرام دمشق قد تقاطع مع تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت نشوء هذه الممالك الثلاث وحروبها وتحالفاتها واختلاف مصائرها، فقد تهيأت لي فرصة انتظرتها طويلا لأقول في تاريخ مملكة دمشق الآرامية ما لا يعرفه القارئ العربي حتى الآن، بسبب قلة الدراسات التي تعرضت لهذا التاريخ ، وسيطرة وجهة النظر التوراتية عليها، فسلطت الضوء على حقبة مهمة من تاريخ سوريا الآرامية لم يتم حتى الآن إضاءتها والربط بين أحداثها. فلقد جعلت مملكة دمشق من نفسها في تلك الحقبة القوة العظمى الثانية بعد آشور في منطقة الشرق القديم، ودافعت عن استقلال مناطق غربي الفرات في مواجهة آشور فترة طويلة من الزمن، استطاعت خلالها الثقافة الآرامية الناشئة تثبيت أقدامها، وتفتيح إمكاناتها الذاتية. وعندما تهاوت دمشق، وانهارت الممالك الآرامية سياسيا أمام آشور، قامت هذه الثقافة بالاستيلاء على غازيها من الداخل، فتكلمت آشور الآرامية بدلا عن لغتها، وعندما شرب الفاتح الآشوري من الكأس التي سقاها للشعوب المغلوبة، وورث الكلدان ثم الفرس فيما بعد أملاكه الغربية، شمل المدى الجغرافي للثقافة الآرامية المنطقة الممتدة من حدود الهند إلى البحر المتوسط، فيما يدعوه المؤرخ أرنولد توينبي بالعالم السوري.
ورغم أن اهتماماتي الأصلية بالميثولوجيا وتاريخ الأديان كانت وراء إنجازي هذا الكتاب، إلا أن القارئ سوف يلاحظ منذ البداية أن المسألة الدينية لم تأخذ أكثر من الحيز اللازم لها، فهذه الدراسة تبقى حتى النهاية ضمن إطار البحث التاريخي الصرف، وذلك في كل ما يتعلق بالمرجعية والمقتربات والمنهج. وهي تعتمد أحدث المعلومات التي قدمها علم الآثار وعلم التاريخ والعلوم المساعدة الأخرى، خلال سبعينيات وثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، وهي معلومات مختلفة جذريا، وتضع بين أيدينا المقدمات اللازمة للانعطاف نحو آفاق جديدة في كتابة تاريخ فلسطين.
مقدمة
لعل أهم ما تكشفه أمامنا المعلومات الجديدة المتوفرة خلال ربع القرن الماضي هو استقلال الصورة التاريخية لإسرائيل عن صورتها التوراتية استقلالا دفع بعض المؤرخين الجدد إلى الدعوة لوضع الرواية التوراتية بكاملها على الرف، وكتابة تاريخ فلسطين - خلال الحقبة التي تغطيها أحداث التوراة - بمعزل عن النص التوراتي والخبر التوراتي الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية، وبذلك يتحول كتاب التوراة من مصدر أول ورئيس لكتابة تاريخ فلسطين وتاريخ إسرائيل، إلى ناتج ثانوي من نواتج ذلك التاريخ، وإلى تركة أدبية تتطلب نفسها التفسير والتعليل. فالباحث غربيني
G. Garbini ، على سبيل المثال، يرى أن الأسفار المدعوة بالتاريخية في كتاب التوراة، قد دونت فيما بين أواخر العصر الفارسي وأوائل العصر الهيلينستي، وذلك بعكس الرأي الشائع بين الباحثين المحافظين الذين يرون أن تدوين التوراة قد ابتدأ خلال فترة السبي البابلي، واكتمل في مطلع العصر الفارسي. من هنا، فإن إعادة بناء تاريخ فلسطين، عند هذا الباحث، يجب أن يتخطى النص التوراتي؛ لأن هذا النص قد دون بعد فترة طويلة جدا من الأحداث التي يتصدى لروايتها. وهو يرى أن تاريخ إسرائيل التوراتية في السياق العام لتاريخ فلسطين هو أخيولة أدبية تجد دوافعها في المناخ الاجتماعي والنفسي للفترة المتأخرة التي أنتجتها.
अज्ञात पृष्ठ
1
لا ينفرد الباحث غربيني
Garbini
بهذا الموقف من تاريخ فلسطين ومن التقاليد التوراتية، بل إن دراسته الصادرة عام 1988 تأتي في سياق التوجه الجديد في الحلقات الأكاديمية المتحررة نحو إعادة النظر في تاريخ إسرائيل، بعيدا عن التوجه التقليدي الذي يقوم على التوفيق بين البحث التوراتي والبحث الأركيولوجي. وقد تم التأسيس لهذا الاتجاه المتحرر منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، من خلال أبحاث دارسين متميزين من أمثال ج. أ. سوجن
J. A. Soggin ، وج. م. ميللر
J. M. Miller ، وج. ه. هايز
J. H. Hays ، وفان سيتيرز
Van Seters ، وتوماس ل. تومبسون، وغيرهم ممن سنعرض لهم عبر الصفحات المقبلة لهذا الكتاب.
يقول توماس ل. تومبسون في كتابه
Early History of the Israelite People
अज्ञात पृष्ठ
الصادر عام 1992 ما يلي: «إن الأبحاث الجديدة التي توفرت لدينا خلال ربع قرن مضى قد فرشت أرضية صلبة تمكننا الآن من صياغة تاريخ لإسرائيل مستقل عن البحث التوراتي. وليست الكتب والدراسات المنشورة حديثا إلا برهانا واضحا على أن كتابة مثل هذا التاريخ، بشكل موضوعي وطريقة وصفية، قد صارت ممكنة. فجميع هذه المؤلفات تقريبا تضع بين أقواس معترضة الأخبار التاريخية المقتبسة من التوراة (دلالة عن الشك المبدئي بمضمونها). إن مقدرتنا المتزايدة على بناء تاريخ مفصل لأصول إسرائيل تجعل من الضروري، أكثر فأكثر، ترك الاعتماد على الروايات التوراتية كمصدر لكتابة التاريخ، وعلينا أن نتخلى بشكل جذري وواع عن كل المسلمات التي فرضت علينا من قبل النص التوراتي».
2
أما عن مصادر كتابة هذا التاريخ المستقل فكثيرة ومتنوعة، فإضافة إلى التفسير المتحرر من المواقف التوراتية المسبقة لنتائج البحث الأثري في المنطقة، ودراسة النقوش الكتابية للثقافات المجاورة، من آرامية وآشورية وبابلية وغيرها، فإن المنهج التاريخي الجديد يلجأ إلى معونة عدد من العلوم المساعدة في حقول الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والبيئة الطبيعية للعصور القديمة بنباتاتها ومناخها، ودورات الخصب والجفاف المتعاقبة عليها، والتغير في نمط الاستيطان السكاني، وما إلى ذلك مما سنتعرض له في حينه.
لقد كانت التقاليد التوراتية، حتى وقت قريب، تلقي ضوءا على الماضي، ولكنها قد صارت الآن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها من قبل ذلك الماضي، الذي بدأ يتضح بشكل مستقل عن المواقف المسبقة والمسلمات المفروضة. وبتعبير آخر، فإن كتاب التوراة لم يعد نقطة الانطلاق، بل خط النهاية في دراستنا التاريخية. فعندما نفلح في كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن الصورة الخيالية التي تقدمها الأسفار التوراتية؛ يمكن عند ذلك أن نطرح أسئلة تتعلق بكيفية نشوء الأسفار التوراتية، ثم نجيب عليها، أما الاستمرار في اعتبار التوراة نوعا من الكتابة التاريخية، فلن يؤدي إلى مزيد من التعمية على التاريخ فقط، بل سيبقى عقبة قائمة أمام فهم الكتاب ومضامينه ورسالته.
تنتمي الأسفار التوراتية، من حيث شكلها ومضمونها ودوافع كتابتها، إلى جنس كتابي يمكن وصفه بجنس الجمع التراثي. فالهاجس الذي يدفع محرري ومعيدي صياغة تلك التقاليد الأدبية المتفرقة التي صيغت منها الأسفار؛ ليس هاجسا تاريخيا بل هاجسا تراثيا، فهم يعملون على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ويرتبونها في تسلسل زمني ينسجها إلى بعض، وذلك من خلال منظور أيديولوجي مفروض عليها من الخارج، يعكس الوضع الفكري للقائمين على التحرير وإعادة الصياغة في الفترات المتأخرة. إن ما يحرك محرر التوراة، باعتباره قاصا وجامع تراث شعبي موغل في القدم، هو العقدة القصصية التي تقود إلى الإفضاء بمضمون ديني يظهر كيفية تداخل الإلهي بالدنيوي، وتوجيهه له، ومن دون التفات إلى الحدث المحقق والخبر المدقق. أما الترتيب الزمني (الكرونولوجي) لأحداث القصة الواحدة، وللقصص المتتابعة الملصق بعضها ببعض، فلا يعني أن هم النص هو هم تاريخي، فمثل هذا الترتيب الزمني للأحداث هو شأن أسلوبي بالدرجة الأولى، وهو مستلزم ضروري في الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية على حد سواء. فالقاص والمؤرخ يقدمان لنا جملة من الأحداث التي تتحرك في زمن ماض، وبشكل يتسلسل من الأقدم إلى الأحدث في حلقات يمسك بعضها ببعض بشكل منطقي. إلا أن ما يميز التاريخ كجنس كتابي عن الأدب، هو النية المسبقة للكاتب، وموقفه من مادة عمله. فالمؤرخ ينظر إلى الماضي باعتباره شأنا واقعيا وحقيقيا، ويسعى جادا من أجل التفريق بين الخيالي والواقعي، مركزا على ما يمكن لنا معرفته، والتحقق من وقوعه، خلال الفترة التي يسلط عليها الضوء. أما الأديب، فيتحرك في ماض من صنعه، ويقدم أحداثا ممكنة التحقق من منظور منطقي ظاهري. وبين المؤرخ والأديب يأتي موقع جامع التراث الذي يبحث عن التسويغ التاريخي الشكلي في المادة التي يقدمها، من دون اختبار وتدقيق للروايات التي يعمل على جمعها وتصنيفها، وهنا قد يتم استبعاد ما حصل فعلا لصالح رغبة الكاتب في تصديق سلسلة ما من الأحداث، مدفوعا بموقفه الأيديولوجي المسبق، ويغيب الحقيقي والواقعي في ضباب الخيالي.
لقد أعلن بعض الباحثين منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر، من أمثال
E. Meyer
و
H. Gunkel ، بأن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكايا الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداولة شفاهة عند تحرير أسفار التوراة، إبان وبعد السبي البالي. وجادل
Meyer
अज्ञात पृष्ठ
بشكل خاص في أن كامل سفر التكوين، برواياته عن الآباء أسلاف بني إسرائيل، لا علاقة له بالتاريخ، ويجب تصنيفه في زمرة الأخيولة الأدبية.
3
ولكن رد الفعل المحافظ على هذا الاتجاه التحرري المبكر قد جاء من قبل الباحث
O. Eissfeldt (1923) الذي أسس للمدرسة المعروفة بمدرسة نقد الشكل. ويركز
Eissfeldt
في دراسته على أسفار موسى الخمسة التي كانت موضع نقد الاتجاه التحرري، مجادلا في أن الشكل الأخيولي الأدبي لهذه الأسفار ينطوي على أحداث تاريخية حقيقية، غلفها خيال النقلة عبر العصور بغلالات جعلتها تبدو أشبه بالأدب الشعبي. من هنا فإن النقد النصي يستطيع اكتشاف المستوى التاريخي الكامن تحت الظاهر الأخيولي للمادة التوراتية.
4
وقد التقط هذا الموقف المحافظ الجماعة المعروفة بجماعة علم الآثار التوراتي، والتي بدأت أفكارها بالانتظام فيما بين 1920 و1930، وذلك عقب فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة من مناطق الشرق الأدنى القديم، وبتأثير رئيسي من الباحث وليم فوكسويل أولبرايت
W. F. Albright
المؤرخ والآثاري وعالم اللغات المعروف. يتفق أولبرايت مع
अज्ञात पृष्ठ
Eissfeldt
في أطروحته الأساسية القائلة بأن المرويات التوراتية هي أحداث تاريخية من حيث الأصل، وأن باستطاعتنا الكشف عن تلك الأحداث في أشكالها التحتية الأصلية. ويقوم منهجه على إعادة تركيب نتائج الدراسات التوراتية والآثارية والتاريخية، من أجل الوصول إلى البنية التاريخية الخفية للنص التوراتي.
5
وقد بقي هذا الاتجاه سائدا حتى سبعينيات القرن العشرين، عندما صارت نتائج البحث الأثري الشامل للأرض الفلسطينية كافية، من حيث كميتها ونوعيتها، لفرش الأرضية اللازمة للانعطاف الجديد في البحث التاريخي، مما أشرنا إليه منذ قليل.
وفيما بين أقصى يمين الاتجاه المحافظ الذي يمثله أولبرايت وتلامذته، وأقصى يسار الاتجاه المتحرر؛ تتدرج مواقف بقية الباحثين. فالبعض يرفض الأساس التاريخي لأسفار موسى الخمسة (والتي تتضمن قصص الآباء من إبراهيم إلى يوسف، وقصة الخروج من مصر)، ويبحث بالمقابل عن تاريخية أحداث الرواية التوراتية، ابتداء من فترة يشوع أو فترة القضاة، عندما بدأ الإسرائيليون كمجموعة متمايزة بالاستقرار في كنعان. والبعض الآخر يرفض الأساس التاريخي لسفري يشوع والقضاة أيضا، ويبحث عن تاريخية أحداث الرواية ابتداء من تشكيل المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر ق.م. وهناك فريق ثالث يرى أنه من غير المجدي البحث عن تاريخية الحدث التوراتي قبل القرن التاسع ق.م. عندما تبدأ أخبار إسرائيل بالظهور في سجلات آشور، وذلك لأول مرة في التاريخ. هذه المواقف المتباينة للباحثين المحدثين والمعاصرين، تعطينا فكرة واضحة عن المأزق الذي وصل إليه البحث التاريخي التوراتي.
إن أهم نتيجة يمكن أن نخرج بها من متابعة هذا الجدل الأكاديمي الدائر خلال القرن العشرين، ومن دراسة الوثائق التاريخية لثقافات الشرق القديم، ودراسة أحدث نتائج التنقيب الأثري في فلسطين؛ هي أن التقاليد التوراتية قد خلقت «إسرائيل» خاصة بها لا علاقة لها بإسرائيل التاريخية، وأن جل البحث التاريخي - الذي تم حتى وقت قريب في مسألة أصول إسرائيل وتاريخها - قد انصب على أخيولة لا تمتلك من الوجود الواقعي إلا أقله. ولسوف نسير عبر صفحات هذا الكتاب في محاولة جادة لاكتشاف صورة إسرائيل في التوراة وفي التاريخ، والبحث عن التقاطعات الممكنة بينهما، من أجل معرفة حقيقة ما جرى في فلسطين من حوالي عام 1200ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين أرض كنعان) إلى دمار أورشليم عام 587ق.م.
في المرحلة الأولى من بحثنا، سوف نعمد إلى توضيح معالم «إسرائيل التوراتية» كما رسمتها الأسفار الخمسة المدعوة بالتاريخية، ثم نقوم بعملية استقصاء للوجود الموضوعي لهذه الإسرائيل اعتمادا على النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لكل سفر على حدة. أما في المرحلة الثانية، فسوف ننتقل إلى دراسة أصول ومسار حياة «إسرائيل التاريخية» اعتمادا على نتائج نقدنا السابق، وعلى علم الآثار الحديث المدعم بالعلوم المساعدة؛ مثل: علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ وبيئة العصور القديمة، وغيرها من العلوم التي صارت معونتها الميدانية والنظرية أمرا لا غنى عنه لأي بحث أثري. وسوف يتم التركيز في هذه المرحلة على العلاقات الآرامية-الفلسطينية، والكشف عن دور مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكل من مملكتي إسرائيل ويهوذا، وممالك شرقي الأردن، وبقية العالم السوري في مناطق غربي الفرات.
وأخيرا سوف نتوقف في دراستنا عند أعتاب الفترة التي أدعوها بفترة التاريخ اليهودي في فلسطين. وهذا التاريخ اليهودي - الذي تأخذ ملامحه بالتوضح خلال العصر الفارسي (القرنين الخامس والرابع ق.م.) - لا علاقة له بالتاريخ الإسرائيلي، وليست الاستمرارية بين التاريخين سوى استمرارية كرونولوجية، لا تحمل صلة ثقافية حقيقية بين المرحلتين. إن ما بدا لنا، حتى الآن، من اتصال الإسرائيلي باليهودي، هو ابتداع أيديولوجي توراتي، استكمل المحررون التوراتيون من خلاله أخيولتهم الأدبية الرامية إلى ابتكار أصول لليهودية المحدثة في فلسطين خلال العصر الفارسي والعصر الهيلينستي.
قد تبدو هذه الفكرة غريبة على قارئ التاريخ، وعلى معظم المتخصصين، ولكن ما يأتي من فصول هذا الكتاب كفيل بتوثيقها وبتوضيحها على أفضل وجه، وذلك وفق منهجية علمية بعيدة عن السمة الإعلامية السياسية التي ميزت الخطاب التاريخي العربي حتى الآن، بتأثير وجود «إسرائيل ثالثة» في فلسطين اليوم، لا علاقة لها بإسرائيل التوراتية أو إسرائيل التاريخية.
الباب الأول
अज्ञात पृष्ठ
البحث عن إسرائيل التوراتية
الفصل الأول
الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
تشير البينات الأركيولوجية واللغوية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى أن المنطقة السورية الواقعة بين الفرات والبحر المتوسط كانت مسكونة بعناصر سامية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. فأقدم المدن في هذه المنطقة، مثل أريحا وبيت شان وبيت يارح ومجدو وعكا وصيدون وساريبتا وسيميرا وأوغاريت، تحمل أسماء سامية لا لبس فيها. كما أن اللقى الأثرية وبقايا الهياكل العظمية تشير إلى استمرارية عرقية وثقافية واضحة، ترقى إلى الألف الرابع وتتجاوزه.
1
ويمكن القول ببعض الثقة إن التركيب السكاني في المنطقة السورية لم يتعرض لأي تغيير جذري منذ أواخر العصر النحاسي، حيث نستطيع متابعة خط ثقافي متميز لحضارة متصلة لا تظهر فجوة أو انقطاعا.
2
ولكن من هم هؤلاء الساميون القدماء؟ ومن أين جاءوا؟
لقد أحدثت الدراسات اللغوية المقارنة الحديثة تغييرا عميقا في معرفتنا للأصول السكانية في هذه المنطقة، والتغيرات التي طرأت عليها، إلى درجة أن معظم النظريات القديمة - والتي تعود إلى ما قبل سبعينيات القرن العشرين - قد غدت بالية، وبحاجة إلى إعادة نظر جذرية. فلفترة طويلة، ومنذ القرن السادس عشر، سادت وبشكل كامل تقريبا نظرية الهجرات السامية من جزيرة العرب، التي اعتبرت المهد الأصلي للعنصر السامي. فهذه النظرية تحتوي ضمنا أن اللغة السامية الأصلية التي تفرعت عنها لغات حضارات الهلال الخصيب؛ قد نشأت في جزيرة العرب، وأن اللغة العربية هي أقرب الأقرباء إلى تلك السامية الأصلية. غير أن أبرز المدافعين عن نظرية الهجرات قد بدأ يتخلى عنها في ضوء المعارف الجديدة في علم اللغات المقارن، ففي كتابه الصادر عام 1957، على سبيل المثال، يقول عالم الساميات المعروف سباتينو موسكاتي في المقدمة ما يأتي: «ثمة حقيقة تبدو ثابتة إلى حد كاف، وهي أن التاريخ يدلنا على أن الصحراء العربية كانت نقطة الانطلاق للهجرات السامية، وإننا في ضوء معلوماتنا الحالية يجب أن نقبل، ولو على سبيل الافتراض العملي، أن المنطقة التي انتشر فيها الساميون كانت الصحراء العربية.»
3
अज्ञात पृष्ठ
غير أن موسكاتي، في كتاب لاحق له صدر عام 1969 حول قواعد اللغة السامية، يظهر شكه في هذه الفرضية وما يتبعها من نسبة اللغة السامية الأصلية إلى الصحراء العربية، ومن كون اللغة العربية هي الأقرب إلى هذه السامية الأصلية من شقيقاتها في الهلال الخصيب، مثل الأكادية والأوغاريتية.
4
وبدلا من التركيز على ما يسمى باللغة السامية الأصلية، يقوم العلماء الآن بتلمس خيط يربط اللغات السامية باللغة المصرية وبقية لغات شمال أفريقيا. وهم يرون أن الأقرب إلى الواقع هو وجود لغة أفرو-سامية، تفرعت فيما بعد إلى سامية وأفريقية عند نقطة معينة من التاريخ. من هؤلاء العلماء: الألماني
Behrens ، والروسي
Diakonoff . ففيما بين الألف السادس والألف الخامس قبل الميلاد تعرض الشمال الأفريقي إلى موجة جفاف طويلة وحادة، أدت إلى التشكل التدريجي للصحراء الأفريقية، وإلى هجرات نحو مصر وآسيا الغربية. وقد قادت هذه الهجرات إلى تكوين اللغة المصرية القديمة في وادي النيل، واللغات البربرية فيما وراء الصحراء الليبية، واللغة السامية الأم في سوريا، وهي السامية الغربية، وعنها انشقت السامية الشرقية التي طورها النازحون باتجاه وادي الرافدين.
5
لقد ازدهرت الحضارة الزراعية في سوريا منذ الألف الثامن قبل الميلاد، وكانت الثورة الثقافية - التي يدعوها الأركيولوجيون بثورة النيوليتيك (ثورة العصر الحجري الحديث) - قد بلغت ذروتها إبان الفترة التي وصل خلالها النازحون من شمال أفريقيا، من هنا فإن القادمين الجدد لم يكن لديهم ما يقدمونه للثقافة النيوليتية المتطورة سوى لغتهم، التي تفاعلت مع اللغة المحلية لينتج عن تفاعلهما اللغة السامية الأصلية. أما عن جزيرة العرب، فيبدو أن اللغة السامية قد جاءتها من فلسطين وسوريا الجنوبية في أواخر عصر البرونز المبكر، وأوائل عصر البرونز الوسيط (أي حوالي عام 2000ق.م.)، فخلال هذه الفترة ساد المنطقة السورية جفاف حار وطويل، أدى إلى انهيار ثقافة البرونز المبكر، وإلى اقتلاع للسكان وهجرات واسعة النطاق، وتحول شرائح كبيرة من المزارعين المستقرين إلى الرعي المتنقل. من هذا المنظور تغدو الهجرة السامية عكسية، وباتجاه الجزيرة العربية لا منها.
6
لقد أدت الثورة النيوليتية في سوريا وبلاد الرافدين إلى إحلال جملة من التغيرات العميقة الأثر في مجرى الحضارة الإنسانية. فخلال العصر الحجري الحديث استقر الإنسان الصياد في الأرض، وبنى القرى الزراعية الأولى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلا من جمعه، مبتدئا بذلك حضارتنا الحديثة التي تعتبر استمرارا غير منقطع لتلك القرى الزراعية الأولى. وكما كانت منطقة الهلال الخصيب منطلقا للثورة النيوليتية، فقد كانت أيضا منطلقا للثورة الحضرية، أو المدينية (نسبة إلى مدينة)، وهي الثورة الثقافية الثانية في حياة البشرية. فمع أواخر الألف الرابع ومطلع الألف الثالث قبل الميلاد ظهرت المدن الأولى في منطقة سومر جنوب وادي الرافدين، تبعتها المدن المصرية، فمدن بلاد الشام. ولقد غدا واضحا، على ضوء علم مناخ وبيئة العصور القديمة،
7
अज्ञात पृष्ठ
أن ظهور المدن الأولى قد جاء نتيجة لازدهار اقتصادي عم المنطقة مع بداية عصر البرونز المبكر
8 (حوالي 3000ق.م.)، بتأثير تغيرات مناخية جذرية. ففيما بين 3500 و2300ق.م. شهدت المنطقة بكاملها مناخا باردا ورطبا، تميز بارتفاع كبير في منسوب الأمطار أدى إلى استثمار مكثف لجميع الأراضي الصالحة للزراعة، وإلى استصلاح مساحات كبيرة من المستنقعات، وإزالة مساحات لا بأس بها من الغابات لأغراض الاستثمار الزراعي، وهذا كله قاد إلى تكوين فائض الإنتاج اللازم لتشييد المدينة.
لقد اعتقد المؤرخون والآثاريون لفترة طويلة أن الثورة المدينية في سوريا قد تأخرت عنها في سومر وفي مصر، وأن مناطق غربي الفرات لم تعرف المدن الكبرى ولا الكتابة خلال معظم الألف الثالث قبل الميلاد. إلا أن الاكتشاف المثير لمدينة إيبلا القديمة في الشمال السوري على مسافة 50كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب؛ قد أثبت أن ظهور المدن الكبرى في سوريا لم يتأخر كثيرا عن ظهورها في سومر وفي مصر. فقد ظهرت إيبلا كمدينة مكتملة منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، ويدل أرشيفها الكبير الذي عثر عليه في القصر الملكي على وجود شبكة واسعة من المدن السورية الأخرى المعاصرة لها، والتي قد تثبت الاكتشافات المقبلة معاصرتها للمدن السومرية أيضا. ويبدو أن موقع تل البيدر في منطقة الفرات هو المرشح الأول الآن لإحداث الثورة الأركيولوجية الثانية بعد إيبلا؛ لأن الرقم الطينية التي تم العثور عليها في الموقع خلال موسم التنقيب في عام 1994 ترجع بتاريخها إلى حوالي 2700ق.م.
9
وهذا ما يضعنا في فترة فجر السلالات في كل من سومر ومصر.
أما في فلسطين، وعلى عكس بقية المناطق السورية، فيبدو أن الثقافة المدينية لم تبلغ شأوا يعتد به، إذ بقيت التجمعات السكنية الكبيرة أقرب إلى البلدة أو القرية الكبيرة منها إلى المدينة بمفهومها الصحيح. وقد حافظ الاقتصاد هنا على طابع محلي، ولم يسهم في التجارة الدولية رغم مرور طرق التجارة عبر المناطق الحدودية للأطراف الفلسطينية. إن غياب البينة على وجود سلطة مركزية في أي من المناطق الفلسطينية خلال الألف الثالث، واعتماد أكبر التجمعات الحضرية فيها على الزراعة بالدرجة الأولى، وفقدان البضائع الكمالية ذات العلاقة بحياة الرفاهية، وغياب الكتابة التي هي من خصائص البيروقراطية المدينية؛ يجعل من الصعب التحدث عن نشوء مدن بالمعنى الحقيقي في فلسطين خلال الألف الثالث قبل الميلاد، فالبلدة الصغيرة هنا لم تتعقد بناها إلى ما وراء الحاجة إلى التبادل التجاري الإقليمي والدفاع المحلي.
10
أطلق المؤرخون المحدثون اسم الكنعانيين على سكان المنطقة السورية، وهي المنطقة المحصورة بين وادي الفرات شرقا والبحر المتوسط غربا، وبين جبال طوروس شمالا وحدود الصحراء العربية جنوبا. وقد وردت تسمية «كنعان» و«كنعانيون» في التوراة للدلالة على أرض فلسطين وعلى شعبها، ولكن هذه التسمية ليست توراتية كما يعتقد الكثيرون، فقد استعملها المصريون للدلالة على المناطق الجنوبية الغربية من سوريا، وهي المناطق التي كانوا على احتكاك بها منذ بدايات التاريخ المصري، وترد التسمية في النصوص المصرية بصيغة بي-كنعان
،
11
अज्ञात पृष्ठ
كما نجد تسمية كنعان في بعض النصوص السورية من الألف الثاني قبل الميلاد، مثل نص إدريمي ملك آلالاخ، وهي المملكة التي ازدهرت خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في الشمال الغربي من سوريا (في منطقة أنطاكية). يتحدث إدريمي في هذا النص عن هروبه من آلالاخ عقب انقلاب سياسي في القصر، ولجوئه إلى مدينة أميا في أرض كنعان، وهذه المدينة تقع على الساحل السوري الأوسط قرب طرابلس الحالية.
12
وقد بقيت التسمية مستخدمة في العصر الهيلينستي، حيث نجدها على العملة المسكوكة في بعض مدن الساحل الفينيقي، إضافة إلى استخدامها من قبل المصادر الكتابية الكلاسيكية. وفي بلدان شمال أفريقيا التي كانت مستعمرات فينيقية سابقة بقيت شريحة لا بأس بها تتباهى بأصلها الذي تدعوه كنعانيا، خلال العصر الروماني.
13
وفي إنجيل متى يطلق المؤلف تسمية كنعاني للدلالة على ساكن مناطق فينيقيا التقليدية في لبنان، نقرأ في الإصحاح 15: 21-22: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ... إلخ.» اعتمادا على هذه الشواهد وأمثالها، من المرجح أن التسمية «كنعان» هي تسمية لمنطقة جغرافية بالدرجة الأولى لا تسمية لشعب معين، وهذه المنطقة هي الأراضي الممتدة على طول الساحل السوري ابتداء من أوغاريت، أو مما يليها على الأغلب، مع بعض الامتدادات نحو الداخل كما هو الحال في منطقة فلسطين، ولا يوجد لدينا في النصوص القديمة ما يشير إلى أن التسمية قد شملت المناطق الداخلية السورية. ومع ذلك فإننا لا نرى مانعا من تعميم التسمية لتشمل أرض الساميين الأوائل الذين تواجدوا في مناطق غربي الفرات منذ العصر الحجري الحديث، وذلك من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل، خصوصا وأن المؤرخين والآثاريين المحدثين ما زالوا مصرين على استخدام هذا المصطلح. فبعد اكتشاف إيبلا وأرشيفها المسماري الضخم - الذي أطلعنا على أول لغة سامية مكتوبة - أطلق عالم اللغات السامية ألفونسو آركي الذي قرأ هذه الرقم على اللغة الإيبلائية صفة «الكنعانية المبكرة»
، ورأى في مملكة إيبلا نموذجا عن الحضارة الكنعانية في الألف الثالث قبل الميلاد،
14
الأمر الذي يدل على أن الحلقات الأكاديمية العالمية تميل إلى زيادة الاعتماد على المصطلح بدلا من استبداله.
انتهت الحضارة المزدهرة للألف الثالث قبل الميلاد على نحو فاجع في جميع أرجاء الشرق القديم، ولأسباب بدت غير واضحة للمؤرخين لفترة طويلة من الزمن . ففي مصر سقطت الأسرة السادسة مع حلول الربع الأخير للألف الثالث قبل الميلاد، وبسقوطها انتهت الفترة المعروفة في تاريخ مصر بفترة المملكة القديمة، وأعقبتها فترة من الفتن والاضطرابات والغزوات الخارجية، يطلق عليها المؤرخون اسم الفترة المعترضة الأولى، دامت حتى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وانتهت مع قيام الأسرة الثانية عشرة عام 1990ق.م. وهي الأسرة التي ابتدأت فترة المملكة المتوسطة في تاريخ مصر القديمة. وقد تزامن انهيار المملكة القديمة في مصر مع انهيار المملكة الأكادية في بلاد الرافدين، حيث سقطت العاصمة أكاد بيد الغوتيان الجبليين الوافدين من الجبال الشرقية حوالي عام 2230ق.م.، وأعقب ذلك فترة فراغ سياسي واضطرابات عامة، دامت حوالي قرن من الزمان حتى قيام أسرة أور الثالثة عام 2120ق.م. وفي سوريا هناك دليل على وجود فترة فراغ مشابهة، أدت إلى التسلسل التدريجي للقبائل الآمورية التي كانت تتجول في البادية السورية، وإلى تأسيسهم لأسر حاكمة قوية في المدن السورية الكبرى، مثل ماري وحلب وقطنة. وتظهر في فلسطين بشكل خاص آثار أركيولوجية واضحة على الدمار التام لعدد كبير من المدن، تلته فترة فراغ سكاني دامت أكثر من قرنين في بعض المواقع. وقد عثر المنقبون في مواقع المدن المدمرة في فلسطين على آثار حياة بدوية لجماعات آمورية، لم تكن مهتمة ببناء أو سكن الحواضر، واعتقدوا أن هذه الجماعات البدوية هي المسئولة عن تدمير ثقافة البرونز المبكر في فلسطين.
لقد فسر المؤرخون والأركيولوجيون هذه النهاية الشاملة لثقافة البرونز المبكر في جميع أنحاء الشرق القديم تفسيرات جزئية؛ فالغوتيان هم المسئولون عن نهاية المملكة الأكادية، والغزوات البدوية الآمورية هي المسئولة عن نهاية ممالك المدن الكنعانية في سوريا وفلسطين، وثورات الطبقات المحرومة في مصر، وما تبعها من فوضى واضطرابات هي المسئولة عن انهيار المملكة القديمة. إلا أن الأبحاث العلمية الجديدة بخصوص التغيرات المناخية للعصور القديمة - والتي صارت اليوم ركنا أساسيا من أركان البحث التاريخي والتفسير الأركيولوجي - تقدم لنا مفتاحا مهما لفهم حقيقة ما جرى خلال الفترة الانتقالية من البرونز المبكر إلى البرونز الوسيط . فمع الربع الأخير للألف الثالث قبل الميلاد انتهى المناخ البارد المطير الذي ساد المنطقة خلال الألف الرابع قبل الميلاد، وقد تميز هذا المناخ بصيف حار وطويل، وشتاء جاف وقصير، وبهبوط المعدل السنوي للأمطار، مما أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية، وشح الينابيع. وفي مصر انخفض منسوب فيضان النيل بشكل حاد تسبب في الانهيار التام للحياة الزراعية. وقد تعاملت المناطق المصابة مع هذه الأوضاع وفق استراتيجيات مختلفة؛ ففي سوريا استطاعت المدن الكبيرة عبور الأزمة بصعوبة بالغة، مع المحافظة على استقرار نسبي خصوصا في المناطق ذات المعدلات المطرية المرتفعة سابقا، أما المناطق الحساسة للجفاف، وذات المعدلات المطرية المنخفضة عادة، فقد أخذ المزارعون فيها بالتحول إلى الحياة الرعوية تدريجيا. وتشير النصوص المسمارية في وادي الرافدين إلى تحركات بشرية مستمرة من المناطق السورية باتجاه الشرق. أما في فلسطين، فقد استمرت المدن الواقعة في مناطق الوديان الخصبة وفي المناطق السهلية، ولكن تحت شروط قاسية، ومع تقلص واضح في حجمها، ونقص كبير في عدد سكانها، بينما هجرت معظم مواقع المناطق الهضبية الحساسة للجفاف وأفرغت من سكانها، وذلك فيما عدا تلك التي تتمتع بمصدر مائي غزير وثابت. وكذلك الأمر في المناطق الجنوبية، مثل عراد وبئر السبع، والتي تحولت إلى بواد قاحلة بعد فترة ازدهار زراعي طويلة. وفي مناطق شرقي الأردن تحول السكان من الزراعات المتوسطية التقليدية إلى الرعي وزراعة الحبوب. وخلال هذه الفترة بالذات تم نزوح أعداد كبيرة من سكان المناطق الواقعة على حدود البوادي - ممن تحولوا إلى حياة الرعي المتنقل - نحو الجزيرة العربية حاملين إليها اللغة السامية.
अज्ञात पृष्ठ
15
وفيما يتعلق بالمواقع التي عثر فيها المنقبون في فلسطين على آثار دمار خلال هذه الفترة الانتقالية، فيبدو أنها قد تهدمت بشكل طبيعي نتيجة إفراغها من السكان، ووقوعها عرضة للعوامل الطبيعية، ولم تكن بحاجة إلى غزاة من الخارج لإتمام ما ابتدأته الطبيعة.
حوالي عام 1950ق.م. انتهت فترة الجفاف، وأعقبتها فترة باردة ومطيرة أدت إلى ازدهار اقتصادي عام في جميع أنحاء سوريا، فازداد عدد السكان بشكل واضح، وأعيد سكن المناطق التي هجرت إبان الفترة الانتقالية، كما أعيد بناء وسكن المدن المهدمة. وفي مصر ارتفع منسوب فيضان النيل، وعادت الحياة الزراعية سيرتها الأولى تحت سيطرة الأسرة الثانية عشرة التي أسست المملكة المتوسطة. وفي بلاد الرافدين يبدو أن الأسرة الآمورية - التي شكلت الدولة البابلية القديمة (وأشهر ملوكها حمورابي) - قد قامت على أساس اقتصادي راسخ يسمح بتشكيل مثل هذه القوة الجديدة والكبيرة في الشرق القديم. وقد تطابقت بداية فترة الازدهار هذه مع بداية عصر البرونز الوسيط، الذي استمر من 1950 إلى 1600ق.م. (أو 1550ق.م.) وبشكل عام تبدي الفترة الانتقالية في سوريا ارتباطا حضاريا واضحا مع عصر البرونز المبكر، الأمر الذي ينفي بشكل قاطع نظرية الغزوات البدوية، ويؤكد على استمرارية سكانية غير منقطعة، وعلى مقدرة التركيب السكاني المحلي على استيعاب الجماعات الخارجية وهضمها. وبشكل خاص، فإن الثقافة المحلية في فلسطين تبدي، وأكثر من أي مكان آخر في سوريا، هذه الاستمرارية الثقافية والسكانية خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.
16
كما تظهر لنا المخلفات المادية للبرونز الوسيط استمرارية حضارية مشابهة مع الفترة الانتقالية ومع البرونز المبكر. وإضافة إلى هذه الاستمرارية الحضارية، فإن عصر البرونز الوسيط في سوريا يعطينا صورة لوحدة ثقافية تامة تجمع كل المناطق في بوتقة واحدة، فمن أوغاريت وكركميش في الشمال وحتى أطراف الصحراء في الجنوب تبدو الروابط واضحة في كل أثر مادي، سواء في الفخار أو الفنون التشكيلية المختلفة، أو فن العمارة أو تقنيات إنشاء الأسوار الدفاعية. ورغم أن المنطقة قد استوعبت إليها تحركات بشرية واسعة من الخارج، إلا أن الطابع الثقافي المحلي بقي سائدا ومتماثلا في جميع أنحائها، واستمرت الثقافة الكنعانية في مسيرتها لتتجاوز البرونز الوسيط إلى البرونز الأخير فعصر الحديد.
17
شهد عصر البرونز الوسيط (1950-1600ق.م.) قيام الدولة البابلية القديمة في بلاد الرافدين تحت لواء أسرة حاكمة آمورية وفدت من سوريا. غير أن هذه الدولة الجديدة لم تكن إلا استمرارا لدولة أور الثالثة، ولدولة صارغون الأكادي من قبلها، ولم يكن الآموريون هنا سوى طبقة حاكمة تبنت كل التقاليد الثقافية السومرية الأكادية في الدين والفنون والآداب واللغة، ولم تكن اللغة البابلية القديمة إلا أكادية معدلة بعض الشيء. كما شهد هذا العصر قيام دويلات مدن قوية في سوريا، مثل كركميش على الفرات في أقصى الشمال، وماري على الفرات الأوسط، وآلالاخ في سهل العمق غربا في منطقة أنطاكية، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى بمنطقة حمص. ورغم أن أسرا حاكمة آمورية قد حكمت في معظم هذه المدن، إلا أن الطابع الثقافي الكنعاني للبرونز المبكر قد استمر هنا استمرار الطابع الثقافي الأكادي في وادي الرافدين. ومن أهم الحكام الآموريين الذين ظهروا على المسرح السياسي مع بدايات عصر البرونز الوسيط: الملك شمسي هدد الأول، وهو شخصية عسكرية وإدارية متميزة، ظهر بشكل مفاجئ في أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ووحد منطقة حوض الخابور وشمال بلاد الرافدين، من المنعطف الكبير لنهر الفرات غربا إلى سفوح جبال زاغروس شرقا. وكانت آشور - التي استولى عليها هذا العاهل، واعتلى عرش ملوكها في عاصمتها - قلب هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، غير أن شمسي هدد لم يختر الإقامة في العاصمة الآشورية، بل عمل على بناء عاصمة جديدة له في حوض الخابور الأعلى، أطلق عليها اسم شوباط إنليل، وقد تم اكتشاف هذه المدينة في موقع تل ليلان في أقصى الشمال الشرقي من الحدود السورية الحالية.
وفي فلسطين نضجت البنى الأساسية للمدن التي كانت أشبه بالقرى خلال الألف الثالث، وأخذت هذه البنى تتشكل تدريجيا وفق نظام دولة المدينة الذي كان سائدا في بقية المناطق السورية لوقت طويل مضى. ونستنتج من النصوص المصرية العائدة لفترة المملكة المتوسطة قيام أسر حاكمة في عدد من المدن الكبرى، إلا أن هذه المدن - من أمثال شكيم وحاصور ومجدو - لم تصل في حجمها وفي قوتها إلى ما وصلت إليه بقية المدن السورية، ولم تتجاوز في توسعها الحد اللازم لحياة مركز إقليمي يقدم خدمات التسويق والصناعة الحرفية، والدفاع المحلي للمنطقة الصغيرة المحيطة به، والقرى الدائرة في فلكه. ورغم أن زراعات بعض المناطق الفلسطينية قد تركزت حول سلع التبادل النقدي، مثل الخمور والزيوت، وما يستتبع ذلك من توسيع لأسواقها المحلية، ورغم قيام تحالفات سياسية عائلية بين حكام المدن الكبرى، وظهور نوع من الهرمية في ميزان القوى بشكل عام؛ إلا أن هذا كله لم يؤد إلى نشوء دولة قوية تبسط سلطانها على عدد من المدن والمناطق التابعة لها. ومن ناحية أخرى، فإن الثقافة الفلسطينية في عصر البرونز الوسيط تظهر تأثرا واضحا بالثقافة المصرية، لا سيما في المناطق الجنوبية، إلا أن هذا التأثير يمكن تفسيره بالقرب الجغرافي والتبادل التجاري، ولا يوجد لدينا أي دليل على وجود سلطان سياسي مصري مباشر على فلسطين خلال البرونز الوسيط. وفي الحقيقة، فإن طرق الاتصال بين فلسطين ومصر كانت مفتوحة منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وكانت الدلتا المصرية منذ ذلك الحين تستوعب أعدادا متزايدة من الآسيويين القادمين إليها من فلسطين أو عبرها، إلى أن صارت منطقة شبه آسيوية مع حلول عصر البرونز الوسيط. ويبدو أن الهكسوس - الذين استولوا على مصر وأسسوا أسرا حاكمة آسيوية فيها، فيما بين 1730 و1570ق.م. - لم يأتوا من أي مكان خارج مصر، بل من الدلتا نفسها.
18
سوريا وفلسطين في عصر البرونز المتأخر.
अज्ञात पृष्ठ
لم تعمر المملكة المتوسطة التي قامت في مصر مع مطلع البرونز الوسيط إلا حوالي قرنين من الزمان، فحوالي عام 1730ق.م. استولى على الحكم الجماعات المعروفة في التاريخ باسم الهكسوس، وتبدأ في مصر الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الثانية. يتفق معظم دارسي اللغة المصرية القديمة على أن كلمة هكسوس تعني «حكام الأراضي الأجنبية» (الحكام الذين جاءوا من أراض أجنبية)، من هنا، فإن معرفة أصلهم ومصدرهم أمر مستحيل اعتمادا على النصوص الهيروغليفية المصرية، وذلك فيما عدا كونهم قد أتوا من آسيا الغربية. ورغم أن معظم أسماء الملوك الهكسوس سامية، إلا أننا نعثر بينها على أسماء غير سامية أيضا، الأمر الذي يدل على وجود عناصر مختلطة في التركيب الإثني (العرقي) لهذه الجماعات. وربما كانت العناصر غير السامية قد جاءت من أصل حوري، فقد تميزت بداية عصر البرونز الوسيط بحدوث تحركات سكانية كبيرة من وإلى المنطقة السورية، أهمها تلك الهجرة الواسعة لجماعات غير سامية وفدت من الشرق والشمال الشرقي لتستقر في الشمال السوري والجزيرة العليا، وتشكل عدة ممالك قوية، أهمها مملكة ميتاني. ورغم أن لغة هؤلاء الحوريين لا تنتمي إلى أسرة لغات معروفة، سامية كانت أم هندو-أوروبية، إلا أن الطبقة العسكرية الحاكمة للجماعات الحورية كانت من أصل هندو-أوروبي. وبعد الموجة الرئيسية التي جاءت بالحوريين إلى المناطق المذكورة أعلاه، لدينا دلائل على موجات صغيرة حملت جماعات منهم خلال عصر البرونز الوسيط إلى كل مكان تقريبا من بلاد الشام. وبما أنه لا يوجد لدينا دليل على غزو أو انسياح حوري واسع النطاق نحو الغرب والجنوب، فإن من المرجح أن تكون هذه الموجات الصغيرة من تحركات الحوريين قد جاءت نتيجة تسرب سلمي تدريجي. وقد اختلطت هذه الجماعات الحورية بالسكان المحليين تدريجيا، وحافظت على لغتها فترة لا بأس بها قبل أن تذوب تماما في محيطها السامي. ونستدل من رسائل تل العمارنة المتبادلة بين حكام فلسطين والبلاط الفرعوني حوالي عام 1350ق.م. على وجود حكام حوريين على رأس عدد من الممالك السورية. ولدينا من مدينة أوغاريت شواهد على وجود جالية حورية كبيرة ونشطة في المدينة حوالي عام 1400ق.م.، وهذا يعني أن التواجد الحوري في سوريا قد استمر قويا وفعالا حتى عصر البرونز الأخير. وإلى جانب التحركات الحورية، لدينا شواهد على تحركات محدودة لجماعات هندو-أوروبية وفدت إلى سوريا خلال عصر البرونز الوسيط من آسيا الصغرى. ونجد بشكل خاص في أوغاريت وآلالاخ عددا لا بأس به من أسماء الأشخاص مكتوبة بالقلم الحثي اللوفياني.
وإلى جانب هذه التحركات الحورية والهندو-أوروبية، لدينا في عصر البرونز الوسيط تحركات واسعة النطاق لجماعات معروفة باسم الخابيرو. وعلى عكس الحوريين والهندو-أوروبيين، فإن هؤلاء الخابيرو لم يكونوا جماعة عرقية متميزة، بل أخلاطا من أجناس شتى. ولا تساعدنا أسماء العلم الدالة على أفراد منهم، في نصوص مملكة ماري وغيرها من ممالك البرونز الوسيط، على تبين لغة واحدة تجمع بينهم، كما أن هذه النصوص لا تساعدنا على تحديد نمط حياة موحد لهذه الجماعات، فأحيانا نجدهم جنودا مرتزقة، وأحيانا عمالا مأجورين في حقول الزراعة ، وأحيانا جماعات هائمة من النهابين وقطاع الطرق. وتزودنا نصوص مملكة ماري بشكل خاص بمعلومات عن هؤلاء الخابيرو الذين كانوا يتواجدون بكثرة في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، وفي المناطق المحيطة بها. وتشير هذه النصوص إلى جماعتين رئيستين من الخابيرو، هما «بنو-يامينا» أو أهل الجنوب، و«بنو-شمأل» أي: أهل الشمال. ونعرف منها أن بعض هؤلاء كان يعمل في الزراعة ويقيم في قرى أو معسكرات خاصة، وبعضهم كان يمارس الرعي المأجور للآخرين، أو يحصد ويدرس مواسم القمح لهم. ومن النصوص الحثية نعرف أن جماعات من الخابيرو كانت تستأجر لأعمال النقل والخدمة في الجيش. ومن نصوص أوغاريت وآلالاخ نعرف أن جماعات منهم كانت منتشرة في تلك المناطق، وكانت تقدم خدماتها للملوك المحليين لقاء أجور عينية أو نقدية، أو على شكل أراض زراعية في بعض الأحيان. كما كانت مناطق تواجدهم تشكل موئلا للهاربين من يد العدالة.
19
فالخابيرو، والحالة هذه، هم فئة اجتماعية وليسوا فئة عرقية، إنهم شتات من الجماعات التي لم تجد لها مكانا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط، فآلت إلى حالة هامشية تعيش في قلق واضطراب وحركة دائمة، تحت قيادات سياسية مؤقتة لا تتمتع بالديمومة والاستقرار. بعض هؤلاء الخابيرو وفد إلى المنطقة من خارجها، وبعضهم جاء من البوادي الداخلية، وبعضهم من شذاذ الآفاق والمغامرين، أو من حثالة الشرائح السفلى للمجتمعات الحضرية تبحث عن حظوظ جديدة. ففي أوقات انعدام الأمن كان الخابيرو يلجئون إلى السلب والنهب، وعند استتباب الأمن كانوا يتقدمون للعمل المأجور، وفي أوقات الحروب كانوا يتحولون إلى مرتزقة يحاربون إلى هذا الجانب أو ذاك. ونحن إذا لم نقبل بنظرية الأصل المحلي للهكسوس، والتي أشرنا إليها منذ قليل، فإن أكثر النظريات قربا لواقع حال عصر البرونز الوسيط هي التي تجعلهم جماعات من الخابيرو حققت نوعا من التلاحم الداخلي تحت قيادات سياسية قادرة، قادتها نحو الدلتا المصرية.
في عصر البرونز الوسيط هذا تبدأ القصة التوراتية، على ما يجمع عليه المؤرخون والباحثون التوراتيون. وفي هذا العالم الذي يموج بثقافات عالية ، وتتلاقى عبره الأفكار التي ستمهد لكل منجزات التاريخ الإنساني اللاحق، تبدأ قصة أصول إسرائيل التوراتية، مع عائلة تهيم على وجهها انطلاقا من مدينة أور على الفرات الأدنى، على عادة تلك الجماعات الهائمة من صيادي الحظ، المقتلعين من جذورهم الاجتماعية، ممن غذوا - عادة - تجمعات الخابيرو على حدود المراكز الحضرية.
ولسوف نتتبع القصة التوراتية وفق التحقيب الزمني المتعارف عليه، والمستمد من كتاب التوراة نفسه، والذي يقسم القصة إلى العصور التالية: (1) عصر الآباء. (2) العبودية في مصر، والخروج. (3) اقتحام كنعان. (4) عصر القضاة. (5) المملكة الموحدة. (6) المملكة المنقسمة (إسرائيل ويهوذا).
الفصل الثاني
عصر الآباء
تنتهي سلسلة نسب سام بن نوح، في سفر التكوين أول الأسفار التوراتية، إلى المدعو تارح أبي أبرام (أبو إبراهيم)، ومع تارح هذا تبدأ قصة الأصول التوراتية. لا يقدم الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين أية معلومات تفيد في رسم صورة شخصية واضحة للمدعو تارح، ومعرفة أي شيء عن حياته السابقة ومنبته ومهنته. ولا نعرف سوى أنه قد غادر منطقة أور الكلدانية متجها إلى أرض كنعان، وفي الطريق حط الرحال في مدينة حران في أقصى الشمال السوري غربي الفرات الأعلى، ومعه ابنه أبرام وزوجة ابنه المدعوة ساراي، وحفيده لوط ابن ابنه هاران المتوفى. ولسبب لا يفصح عنه النص، أقام تارح مع جماعته في حران إلى أن وافته المنية وعمره مائتان وخمس سنين (تك، 11: 27-32). ومرة أخرى، لا نعرف ما الذي كان يمارسه تارح وجماعته من مهنة في حران، ولا يقدم لنا النص أية معلومات عن طبيعة حياتهم فيها، ولكننا نعرف من الإصحاح الثاني عشر أن أبرام ولوطا قد غادرا حران بعد موت تارح ومعهما مقتنيات كثيرة وعبيد، لا ندري كيف حصلا عليها.
يخرج أبرام من حران متابعا رحلة أبيه تارح نحو أرض كنعان، ويكون خروجه بأمر الرب الذي خاطبه قائلا: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك» (تك، 12: 1-2)، وكان عمر أبرام في ذلك الوقت خمسا وسبعين سنة. كانت مدينة شكيم في شمال فلسطين أول محطة لأبرام، ومنها نزل جنوبا فخيم بين مدينتي بيت إيل وعاي، حيث بنى مذبحا للرب، ثم واصل ارتحاله جنوبا دون تحديد الموقع الذي وصل إليه. ثم إن جوعا حصل في الأرض دفع أبرام إلى مصر، وهناك قال لساراي زوجته أن تدعي بأنها أخته حتى لا يقتل بسببها؛ ذلك أن المرأة المتزوجة في مجتمعات الشرق القديم كانت تتمتع بحصانة، على عكس المرأة العازبة، وقد خاف أبرام أن يدبر له المصريون مكيدة تودي بحياته ليكونوا أحرارا في التصرف بزوجته. رأى المصريون أن المرأة حسنة جدا (على حد تعبير النص)، فأخذت ساراي إلى بيت فرعون وانضمت إلى حريمه، رغم أنها كانت في سن الخامسة والستين من العمر على الأقل.
अज्ञात पृष्ठ
1
وصنع فرعون إلى أبرام خيرا بسبب المرأة، فصار له غنم وبقر وحمير وإماء وجمال، ولكن الرب لم يكن راضيا عن هذه المقايضة، فضرب بيت فرعون ضربات عظيمة بسبب ساراي، فدعا فرعون أبرام وقال له: «ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: «هي أختي» حتى أخذتها لي لتكون زوجتي؟ والآن هذه امرأتك، خذها واذهب» (تك، 12: 4-20).
يرجع أبرام إلى كنعان، ويقوم بزيارة المذبح الذي أقامه للرب بين بيت إيل وعاي، ومعه لوط أيضا. وهناك يفترق الاثنان بسبب خصام وقع بين رعاة مواشيهما الكثيرة العدد، فيختار لوط دائرة شرقي الأردن، ويبقى أبرام في أرض كنعان. وبعد رحيل لوط يخاطب الرب أبرام مرة ثانية، وهو في هذه البقعة التي تتوسط منطقة الهضاب المركزية في فلسطين، ويأمره أن يجيل البصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، لأنه يعطي هذه الأرض له ولنسله إلى الأبد. ثم يقفل أبرام عائدا إلى مناطق إقامته في الجنوب، والتي يحددها النص الآن ببلوطات ممرا التي في حبرون (الخليل)، حيث يبني مذبحا آخر هناك (تك، 13).
بعد ذلك نسمع عن ملك اسمه كدر لعومر ملك عيلام،
2
الذي شن حربا على منطقة شرقي الأردن بسبب توقف ملوكها عن دفع الجزية له، ورافق كدر لعومر في هذه الحملة المدعو أميرافل ملك شنعار
3
وثلاثة ملوك آخرين. ينتصر كدر لعومر على ملوك شرقي الأردن، ويقفل راجعا ومعه الغنائم والأسرى، وبين هؤلاء الأسرى لوط وجماعته وأملاكه. يسمع أبرام بخبر الحملة وبأسر ابن أخيه، فيجهز على عجل حملة من أتباعه وعبيده، وعددهم ثلاثمائة، ويتبع الغزاة حتى يدركهم في موقع دان في شمال فلسطين، وهناك يوقع بالملوك الخمسة هزيمة منكرة، ويسترجع الأسرى والأسلاب. ولدى وصوله خرج ملوك شرقي الأردن لاستقبالهم، وخرج أيضا ملكي صادق ملك شاليم، الذي أخرج خبزا وخمرا، وكان كاهنا لله العلي (إيل عليون باللغة التوراتية)، وباركه وقال: «مبارك أبرام من الله العلي مالك السموات والأرض» (تك، 14).
وكان أبرام حتى ذلك الوقت عقيما بلا نسل. ونعرف من سياق النص أنه قد تبنى شابا اسمه أليعازر الدمشقي ليدير أملاكه ويرثها بعد موته، وفق العادة المتبعة في ذلك الوقت. ولكن الرب يخاطبه للمرة الثالثة بعد عودته من الحرب ويعده بمولود من صلبه يرث أملاكه، ويقول له: «لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك، أجرك كثير جدا، فقال أبرام: أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما، ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي! ... وهو ذا ابن بيتي وارث لي. فإذا كلام الرب إليه قائلا: لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو الذي يرثك.» وفي هذا اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا وأبرم عهدا، ومضمون هذا العهد أن يعبد أبرام وذريته هذا الإله مقابل إعطائهم الأرض، وتقديم الحماية والمساعدة لهم (تك، 15). وهذا النوع من العهود والمواثيق بين الجماعة وإلهها معروف في أنحاء مختلفة من مناطق الشرق القديم.
وبعد أن أقام أبرام عشر سنين في أرض كنعان، ويئست ساراي من الإنجاب، سألته أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر، فحملت هاجر وولدت له إسماعيل، وكان عمر أبرام عند ذلك ستا وثمانين سنة. ولما صار أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الرب مجددا ووعده بتكثير نسله، وجدد معه العهد الذي أبرمه سابقا. ولتثبيت هذا العهد وجعله حيا في الأذهان غير الرب اسم أبرام وجعله إبراهيم، كما غير اسم زوجته ساراي لتصبح سارة . وفرض عليه الختان هو وولده وبقية عبيده. ثم بشره بغلام من سارة يدعوه إسحاق، يقيم عهده معه من دون إسماعيل، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين! (تك، 17).
अज्ञात पृष्ठ
في الإصحاح الثامن عشر الذي يلي مباشرة يطالعنا النص برواية مختلفة تماما عن البشارة بإسحاق، فبينما إبراهيم جالس في باب خيمته عند الظهيرة، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فركض لاستقبالهم وسجد إلى الأرض، ولم يكن هؤلاء الثلاثة سوى الرب نفسه ومعه شخصيتان قدسيتان أخريان. دعا إبراهيم ضيوفه للاتكاء في ظل الشجرة القريبة ريثما تجهز لهم سارة طعام الغداء. وبعد أن انتهى الثلاثة من طعامهم، وإبراهيم واقف لديهم تحت الشجرة، قال الرب لإبراهيم: أين سارة امرأتك؟ فأجابه: هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك بعد الزمن اللازم لحملها ووضعها ولدا من صلبك، فضحكت سارة من وراء الخباء في سرها قائلة: هل يكون لي ولد وقد انقطعت عني عادة النساء، وزوجي قد شاخ! فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الموعد الذي حددته لك أرجع ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، فقال الرب: لا بل ضحكت. ثم قام الضيوف للانصراف، وبينما إبراهيم يشيعهم أسر له الرب بخطته لتدمير مدينتي سدوم وعمورة في شرقي الأردن؛ لكثرة خطاياهما، فحاول إبراهيم عبثا أن يثنيه عما انتوى (تك، 18).
ولما كان لوط ساكنا في مدينة سدوم أو في جوارها، فقد استثناه الرب من القضاء الذي حم على المدينتين، وأمره أن يرحل مع زوجته وابنتيه قبل الموعد المضروب، وألا يلتفت أحدهم إلى الوراء ليرى دمار المدينة، وإلا تحول إلى عمود ملح، ففعلوا. وبينما كان الرب يمطر على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء، التفتت زوجة لوط إلى الوراء، فصارت عمود ملح، أما لوط فقد لجأ مع ابنتيه إلى مغارة بعيدة في الجبل ونجا، ثم أقام في تلك المغارة بعد دمار المنطقة. وبعد مدة قالت إحدى البنتين لأختها: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض من حولنا رجل ليدخل علينا كعادة بني الناس، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي منه نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ثم دخلت الكبرى فاضطجعت مع أبيها وهو لا يدري ما يفعل، وفي الليلة التالية فعلت الصغرى الشيء نفسه، وحملت ابنتا لوط من أبيهما. ثم ولدت الكبرى ابنا دعته موآب، وهو أبو الشعب الموآبي، وولدت الصغرى ابنا دعته عمون، وهو أبو الشعب العموني (تك، 19). وكما نعرف من الأحداث اللاحقة للروايات التوراتية فإن هذين الشعبين كانا من الأعداء التاريخيين لبني إسرائيل.
بعد ذلك ينتقل إبراهيم من ممرا قرب حبرون إلى جرار الواقعة قرب غزة، وهنا تتكرر بحذافيرها قصة إبراهيم في مصر. نقرأ في النص: «وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل، فقال: ألم يقل لي: إنها أختي، وهي نفسها قالت: هو أخي! ... فقال له الله في الحلم: ... فالآن رد امرأة الرجل إليه، فإنه نبي، فيصلي لأجلك فتحيا.» فبكر أبيمالك في الصباح ورد سارة إلى إبراهيم، وأعطاه غنما وبقرا وعبيدا، وخيره أن يسكن في أي مكان من أراضيه (تك، 20).
أخيرا حملت سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته دعاه إسحاق. ثم خافت سارة من مزاحمة إسماعيل لابنها إسحاق في الميراث، فطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها. ولما تردد في تلبية هذا الطلب الغريب تدخل الرب واقفا إلى جانب هاجر، وطمأن إبراهيم على مصير إسماعيل، وأكد له بأنه سيرعاه ويجعل منه أمة كبيرة. فبكر إبراهيم صباحا، وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر السبع. ولما نفد الماء من القربة، وأشرف الولد على الموت عطشا، فتح الرب عيني هاجر فرأت نبع ماء قريب، فشربا وأقاما هناك في برية فاران بين بئر السبع وسيناء، حيث شب إسماعيل وترعرع، واتخذ له زوجة مصرية. أما إبراهيم، فقد أقام فيما بين جرار وبئر السبع التي احتفر فيها بئرا ما زالت قائمة هناك (تك، 21).
وحدث بعد ذلك أن الرب أراد امتحان إبراهيم، فأمره أن يصعد ابنه إسحاق محرقة على رأس الجبل، فبكر إبراهيم صباحا ممتثلا لأمر الرب، وصعد إلى الجبل وجهز حطبا للمحرقة، وأخذ بيده النار والسكين، ولكن الرب ناداه من السماء: «إبراهيم، إبراهيم. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه» (تك، 22).
عاد إبراهيم من جرار فأقام في حبرون حيث كان سابقا، وهناك ماتت زوجته سارة وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة. ولما كان إبراهيم حتى ذلك الوقت غريبا في الأرض، ولا يملك مكانا يدفن فيه ميته، فقد اشترى من بني حث المقيمين في المنطقة حقلا دفن زوجته في مغارة عند طرفه. وقد صارت هذه المغارة فيما بعد مدفنا لأسرة إبراهيم. وبعد ذلك شعر إبراهيم بالحاجة لرؤية أحفاد له من ولده إسحاق قبل مماته، فاستدعى أليعازر الدمشقي قيم بيته واستحلفه ألا يزوج إسحاق ببنت من الكنعانيين، بل أن يذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور أخي إبراهيم ليخطب له من هناك فتاة من عشيرته ومن أهله. ففعل أليعازر، وانطلق بعشرة جمال وهدايا مهرا للزوجة المقبلة. ولما وصل أطراف البلدة أناخ جماله عند بئر ماء، فرأى فتاة تستقي، فأسقته وقالت: اسق جمالك أيضا. ولم تكن هذه الفتاة سوى رفقة بنت بتوئيل بن ناحور (أخي إبراهيم) التي دعته إلى ديار أبيها للمبيت، حيث استقبل بحفاوة بالغة من قبل أبيها بتوئيل وأخيها لابان، وعندما كشف أليعازر عن مقصده قوبل طلبه بالقبول، وارتضت رفقة أن تمضي معه في اليوم التالي لتغدو زوجة لإسحاق (تك، 24).
بعد أن رأينا إبراهيم في الإصحاح السابق شيخا متقدما في الأيام ينتظر منيته، يطالعنا في الإصحاح 25 رجلا في تمام الصحة والعافية، قادرا على الزواج والإنجاب وعمره مائة وأربعون سنة، وهو الذي عجب سابقا من بشارة ربه له بإسحاق قائلا: «هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين!» يأخذ إبراهيم زوجة جديدة اسمها قطورة، فتلد له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبان وشوحا. ويأتي لولده يقشان: شبا وددان. ونلاحظ من سلسلة النسب المتحدرة من قطورة أن الأسماء الواردة فيها هي أسماء لقبائل كانت تتحرك في المساحات الواقعة بين البادية السورية وشمال الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد، مثل مديان حول خليج العقبة، وشبا أو سبأ وددان، وهم من قبائل العرب الواردين في السجلات الآشورية. غير أن هذه الفروع في شجرة عائلة إبراهيم - شأنها شأن فرعه من إسماعيل - هي فروع ثانوية، أما الخط الرئيسي في الشجرة، والمعترف به من قبل الرب، فيستمر عبر إسحاق بكر إبراهيم من سارة، والذي يقيم الرب معه العهد ومع ذريته من بعده. ثم مات إبراهيم وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، بعد أن أعطى لإسحاق في حياته كل أمواله وممتلكاته، ودفن في مغارة المكفيلة قرب سارة.
بعد عشرين سنة من زواجها بإسحاق، تحمل رفقة توءمين يتزاحمان في بطنها «فمضت لتسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان؛ شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير.» وفي هذا القول إشارة إلى عيسو الابن الأكبر لإسحاق، الذي صار أبا للشعب الآدومي الذي سكن جنوب البحر الميت نحو خليج العقبة، ويعقوب الابن الأصغر الذي أنجب الأسباط الاثني عشر، ونبوءة بخضوع آدوم لإسرائيل. فلما كملت رفقة أيامها لتلد، خرج الأول من رحمها أحمر اللون، كله فروة شعر، فدعوه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب. وكان إسحاق يحب عيسو، أما رفقة فكانت تفضل يعقوب. وحدث بعد أن كبر الأخوان أن عيسو الذي كان صيادا عاد من الصحراء وهو متعب وجائع، فوجد يعقوب الذي لم يكن يغادر الخيام يطبخ عدسا، فطلب إليه أن يطعمه من طبيخه، فأبى يعقوب، وطلب لقاء طبيخه ثمنا غاليا هو كل الحقوق المتعلقة بالابن الأكبر في العائلة، فوافق عيسو على الصفقة مستخفا بالبكورية (تك، 25).
يجدد الرب مع إسحاق العهد الذي قطعه مع إبراهيم، ويأمره أن يمضي إلى جرار في الجنوب بسبب المجاعة في الأرض. وفي جرار يقول إسحاق عن رفقة زوجته إنها أخته؛ كي لا يقتل بسببها، كما فعل أبوه إبراهيم سابقا. ولكن ملك جرار، الذي يدعى هنا أبيمالك أيضا، اكتشف كذبته قائلا: «ما هذا الذي صنعت بنا! لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا. فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلا: الذي يمس هذا الرجل أو امرأته يموت ...» بعد ذلك يلتفت إسحاق إلى الزراعة فتكثر غلاله، ويتعاظم رزقه إلى درجة تثير غيرة الملك، فيطلب منه مغادرة المدينة، فأقام في وادي جرار (تك، 26).
وحدث لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر ليباركه، ولكن رفقة دفعت إليه بيعقوب بدلا من عيسو، ووضعت على ساعده فروة جدي لتصبح مشعرة كساعد عيسو، فباركه إسحاق وهو غافل عن خدعة زوجته. وعندما حضر عيسو للحصول على البركة من أبيه يكتشف الاثنان خدعة رفقة ويعقوب، ويصرخ عيسو: «باركني أنا أيضا يا أبي، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال: ألا إن اسمه دعي يعقوب، قد تعقبني الآن مرتين؛ أخذ بكوريتي، وهو ذا الآن قد أخذ بركتي. ثم قال: أما بقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر، فماذا أصنع إليك يا ابني!» فحقد عيسو على يعقوب وطلب قتله، فهرب يعقوب من وجه أخيه، ولكن إسحاق نصحه بالسفر إلى خاله لابان في حران بآرام النهرين، والإقامة عنده حتى يرتد غضب أخيه عنه، وأن يتزوج هناك إحدى بنات خاله (تك، 27).
अज्ञात पृष्ठ