ومهما يختلف المختلفون في جمال الشباب وجمال كل عمر من الأعمار، فالحقيقة التي لا خلاف فيها أن تقدير الجمال لا ينتهي بانتهاء الشباب، وأن القدرة على التعبير لا تنقص بنقصان الشباب، بل لعلها تزيد.
ومهما يقل القائلون عن استطاعة المتعة بالحياة، فالحقيقة التي ليس فيها قولان أن المعدة التي تهضم أعسر المأكولات ليست هي المعدة التي تتذوق أحسن المأكولات؛ لأن الخبز والملح لذيذان عند من يهضم ويستخلص من الطعام القليل أكثر ما فيه من غذاء، ولكن الاختيار الأنيق إنما يكون لمن لا مناص له من الاختيار، فلا يستهويه إلا ما كمل أو قارب الكمال.
فإذا كانت الأعمار الأولى أوفر حظا من متعة الحياة، فالأعمار التالية أوفر حظا من التمييز بينها والشعور بمزاياها والعرفان بما لكل منها من قيمة وحظوة، وهذه هي الحقيقة التي تزيل الوهم العارض الذي أشرنا إليه، وهو الوهم الذي يلقي في روعنا أن وحي الأربعين أو وحي الخمسين لا يوحي جمالا؛ لأن الجمال مقرون بالشباب.
إن جمال الجوهرة غير تقويم الجوهرة، وغير تمييز الجوهرة، وغير السرور بالجوهرة لمن يقتنيها، وهذا هو بعينه ما يقال عن جوهرة الحياة فيما شئت من الأعمار وما شئت من الأقدار.
ولو اتسع المجال لأتينا هنا بالأمثلة من عشرات الدواوين الشعرية، وعشرات التحف الفنية، وقابلنا بين ما نتج منها في الثلاثين، وما نتج في الأربعين أو الخمسين أو الستين، فإننا لخليقون أن نعلم بالمقابلة والمضاهاة أن المزايا تتعادل وتتفاضل، فلا تنحصر المزايا كلها ولا الفضائل كلها في عهد من عهود الحياة، ولا تزال لكل سن فضيلة تعوضها فضيلة مثلها في سن أخرى، فإذا توفرت حماسة الشعور في بواكيره فقد تقابلها المعرفة بأنواع الشعور بعد فوات البواكير أو تقابلها القدرة على التعبير، والالتفات إلى الفروق، أو تقابلها تصفية تأخذ الخلاصة بعد أن تجمع لديها الكثير من الأزواد.
وفي الشرق تبكر الشيخوخة أحيانا كما يبكر الشباب فيسرع الذبول كما تسرع النضارة، ويكثر النبوغ قبل الأوان كما يكثر الجمود قبل الأوان، ويندر بين أدبائنا من أتى بالفلق بعد الخمسين كما أفلق أناس من أدباء الغرب الذين جاوزوا السبعين أو الثمانين، ولكننا إذا رجعنا إلى أدبائنا الذين بلغوا تلك السن ألفينا لهم حسنات يعيشون بها في عالم الخلود يقرنها الناقد بأجمل حسناتهم المأثورة في أيامهم الأولى، وكلها ذات سمعة واحدة لا تعدوها وهي سمعة الثروة المملوكة والكنز المحسوب ... (3) وحي الستين
إحياء ذكرى الميلاد، أو عيد الميلاد - كما يسميه بعضهم - عادة جميلة لسبب واحد على الأقل، وهو أن الاحتفال بهذا اليوم فرصة سنوية لاجتماع الأهل والإخوان في مودة وصفاء وإيمان بالإقبال على الحياة، كأنهم يشعرون جميعا بأن دخول الحياة «مناسبة سعيدة» تستحق التذكر والاحتفال ...
ولكنني، فيما عدا ذلك، لا أفهم في الواقع معنى لهذا الاحتفال بيوم الميلاد أو بعيد الميلاد ...
هل هو احتفال بانقضاء ما مضى من العمر؟ ... أو هو احتفال بالسنة القادمة التي لا نعلم كيف تكون؟ ... وهل لا يكفينا الاحتفال برءوس السنوات إذا كان المقصود هو الاحتفال بالمستقبل المجهول؟ ... •••
لم أتعود لزاما أن أحتفل بيوم ميلادي، ولم يعلم أحد مني أنا ببلوغي الستين في هذه السنة ... ولكن أصحابي الذين يعرفون تاريخ ميلادي علموا بذلك، وتفضل بعضهم فكتب في الصحف مهنئا ومحييا لهذه المناسبة ... فلم أفرغ بعد ذلك من الأسئلة التي ساقتها إلي هذه المناسبة السعيدة ... ولم أزل أتلقى هذه الأسئلة التي تدل - أو معظمها - على فكرة واحدة عند سائليها، وهي أن الستين «نقطة تحول» في تاريخ الإنسان يكون له من بعدها شأن غير شأنه قبل بلوغها ... ولا أدري كيف؟ ...
अज्ञात पृष्ठ