वायलिन वादक के दुःख
أحزان عازف الكمان
शैलियों
وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد.
وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل ويطفئ منارات الوعي ويدمر ويكفر ويفجر وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟
وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟
وأخيرا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي؛ ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟
ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلا من الضحك والسخرية والتشكك؟
آه يا صديقي! اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكوم عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام. كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضا النظر إلي لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق. نهضت واقفا للانصراف بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة فقلت رافع حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب. ألا تجلس لنشرب الشاي ونكمل الحديث؟ قاطعتك وأنا أتكلف الضحك: لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات. رنت ضحكتك المجلجلة ووضعت يدك على كتفي: صدقني يا غريب، أنت أحوج الناس إلى هذا الزلزال. سألتك في هدوء وأنا أتجه في تصميم نحو باب الخروج: ماذا تعني يا شفيق؟ قلت وأنت تشير إلى الراهب وتتوقف عنده: ألم أقل لك إنك اسم على مسمى. ولما سكت دليلا على عدم الفهم عدت تقول: غريب عن العالم والعالم غريب عنك. تمتمت وأنا أخطو نحو الباب دون أن أنظر إليك أو إلى الراهب الأصلع النحيل: ربما، ربما.
وذهبت يا صديقي دون أن تقول وداعا أو تحدد موعد اللقاء الجديد، وانصرفت لكتاباتك ومقالات الصحفية ورعاية أرضك ومصالحك في الصعيد، وسافرت أنا إلى بلاد الصحاري والخيام والنفط لأواصل الصياح والنباح في حجرات وقاعات التعليم العقيم، وحين رجع غريب الذي تضاعفت غربته لزم بيته القديم الكئيب الذي تعرفه وانزوى في غرفة صغيرة بالبدروم تشبه جحور الأرانب والفيران، تاركا بقية البيت للزوجة والأولاد ليتحركوا فيه معظم النهار والليل فلا تؤذيهم أشواك الصبارة العجوز. كان يمضي سحابة نهاره وساعات ليله في مغارته الصغيرة كالحي الميت، محاطا بالكتب التي ألفها أحبابه الأموات-الأحياء. يظل يحاورهم ويجادلهم ويوافقهم ويخالفهم ويزين له الوهم أنه صار عضوا في المجتمع الوحيد الذي ينتمي إليه. الأهل تخلوا عنه، والصديق طعنه طعنة الإهانة، والتلاميذ رجموه بالحجارة، والأقزام المتعملقون أهالوا على رأسه أكوام التراب، وكلما خرج من مغارته الصغيرة ليتمشى قليلا أو دفعه الضعف وحب الاستطلاع إلى أحد المجالس اتسعت حدقات الأعين وهي ترى الشبح الخارج من مقبرته أو الخلد الذي غادر جحره، ولم تلبث البومة أن رجعت لصمتها واكتفت بحديثها الخافت النبرات مع أولئك الخالدين الذين توهم أنهم قبلوه صاحبا لهم أو خادما لمحرابهم أو صبيا يتعلم الألف باء من جديد على أيديهم، وأصبح الجحر الصغير ملاذه من ضجيج العالم ومكبرات أصواته التي ارتفعت ضوضاؤها ودوت طبولها أكثر بكثير مما وصف لك في لقائكما الأخير. صار كهفه الذي يغلقه على نفسه ليحتمي من الذئاب والكلاب والغربان والضفادع والمسوخ والأقزام والعمالقة والأدعياء والمتآمرين والمتكالبين وصناع الجحيم اليومي في الأرض البور، وكان على صديقك يا شفيق أن يراجع كل شيء فيه وحوله وأمامه ووراءه. أن يجتر أشواك ذكرياته كالجمل العجوز، أن ينظر في المرآة ويسأل نفسه: كيف صرت إلى ما صرت إليه؟ أن يستعيد اللغة والهوية ويحاكم الماضي والحاضر ويسأل نفسه إن كان قد بقي له مستقبل آخر غير الإلقاء في مزبلة الإهمال؟ آلاف الصفحات التي كتبها بدم القلب وكد العقل وسهر العين وعرق العمر صارت مدادا أخرس، أكوام كلام لم ينفع أحدا ولم يغير شيئا ولم يحرك حجرا ولم يقدم خطوة ولم يؤخر. ليت الشجاعة تواتيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قبله. أليس هذا الحريق المجنون هو الشط الأخير للملاح الفاشل والرحالة الخائب؟ وعانى صديقك يا شفيق من قلة النوم، وثورات الأحشاء المتشنجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفهم والإدراك. صرخ كل شيء ينتفض ويرتج في داخله بقرب أوان الزلزال، وكم اشتقت يا شفيق في تلك الأيام القلقة والليالي الأرقة إلى يد حنانك التي طالما ربت بها على كتفي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج. كم تطلعت إلى عينيك الواسعتين المضيئتين، وإلى سلاسل ضحكتك الفضية التي كان رنينها أعذب وأحلى ما تسمعه أذناي وسط أمواج النشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تلطمنا ليل نهار.
كانت زوجتي قد ذهبت مع الأولاد إلى المصيف فرارا من الحر والرطوبة في المدينة والحي والبيت الغربي الذي ازورت عنه كل الأنسام، ورحت أعالج الصداع والقلق والأرق بالأدوية المهدئة والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب . كنت أنام كأهل الكهف لا أميز الليل من النهار، ولا أخرج من حلم إلا لأدخل في كابوس، ومع التخبط في متاهة بعد متاهة، والغرق في بئر بعد بئر، والانحدار إلى هاوية تبتلعها هاوية، سلمت بأنني أصبت بنوع جديد من الشلل أو التحجر، أو ربما بنوع غير مسبوق من عدم الوجود. لم ينج من ذلك قلمي وأوراقي وكتبي التي تصورت أنها حجارة ستسقط حتما على رأسي عندما يرتج الزلزال القادم ويرج كل شيء. لعلي قد ارتجفت كثيرا في نومي أو صحوي المختلطين، ولعلي انتفضت ونفضت من الظاهر والباطن أكثر من مرة، ولكن لطمة مروعة من قبضة مخيفة فاجأتني ذات لحظة فتخيلت أن روحي وجسمي وبيتي ومدينتي والعالم القبيح القديم كله قد تحول إلى أنقاض، وما أدري إلا والباب يدق دقات تدوي كالرعد، وأصوات حناجر وأيد وأقدام تتداخل وتتدافع وتضطرب. قلت لعلها الشرطة أو المطافئ أو النجدة جاءت تفتش عن الأحياء الباقين تحت التراب، وفتحت الباب فإذا هم أمامي يشيرون إلي ضاحكين؛ أطفال كأنهم ملائكة بغير أجنحة، يتوسطهم شيخ وقور مضيء الوجه طويل اللحية يرتدي ثوبا فضفاضا لم أتبين لونه يغطيه كمسوح الرهبان. اندفعوا داخلين وهم يتصايحون ويغنون كأنهم زفة عرس أو جوقة تمثيل وغناء وتهليل، ودخل الشيخ المضيء وراءهم وربت على كتفي كصديق قديم. شلني الذهول في مكاني وأنا أراهم يتحسسون الجدران والكراسي والأرائك والستائر المسدلة ويتجهون برغم الظلام السائد إلى غرفتي المنزوية كالجحر في ركن بعيد من البدروم. وقبل أن أتمكن من السؤال شعرت بيد طرية تأخذ بيدي وصوت متهدج يقول: ألم تكن تنتظر الزلزال؟ سألت في غيظ وغضب: ومن أنتم؟ ما أدراكم؟ من أذن لكم بدخول بيتي بغير استئذان. قال الصوت وصاحبه يشدد قبضته على يدي: جئنا لنهنئ أنفسنا بنجاتك. صحت وقد ازداد غضبي: تهنئني والمدينة تحت الأنقاض؟ رنت ضحكته مثل كرة نحاسية سقطت وتدحرجت على البلاط: المدينة بخير. الناس أيضا بخير، والعالم على حاله كما كان وسوف يكون. قلت وقد بلغ بي الاستياء من عبث الأطفال مداه: لم تجب على سؤالي؟ من أنت ومن أنتم؟ كيف ... قاطعني وهو ينقل يده من يدي إلى كتفي: وماذا تهم الأسماء؟ المهم أن زلزالك وقع وما زلت بخير. أصررت على تكرار السؤال بعد أن رأيت الصغار يتزاحمون على حجرتي الصغيرة ويوشكون أن ينتهكوا حرمة أسرارها وأسراري. سبقني الشيخ خطوات ونفذ من صفوف الصغار وجلس على الكنبة التي شهدت أحلامي وكوابيسي، وتابعت عينيه وهما تطوفان بالرفوف الخشبية والصور والأقلام والكتب والتماثيل الصغيرة وتتفرسان في اللوحات الصغيرة المثبتة فوق مكتبي وعلى الجدار المواجه له. قال كأنه يألف المكان وما فيه: القديم جديد في نفس الوقت، والنهاية تحتضن البداية على الدوام. أما زلت تلح على السؤال؟ قلت بنبرة لم يزايلها الغضب والاندهاش وأنا أقلب عيني بين وجهه ووجوه الأطفال المبتسمين الذين وقفوا في نصف دائرة كباقة من الزهور: أليس هذا أبسط حقوقي؟
قال الشيخ وهو يبادل الأطفال الذين تشابكت أيديهم ابتساما بابتسام: جئنا نسجل البداية الجديدة، نضيف ريشة جديدة إلى كفة الميزان.
تلاحقت ضربات قلبي عندما رأيت الأطفال يرفع كل منهم في يسراه سجلا أسود مزخرف الحوافي بالذهب، وفي يمناه ميزانا من النحاس البراق الذي استقرت ريشة زاهية الألوان على سطح كفته.
अज्ञात पृष्ठ