وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كورقاء تعري للسفاهة بيضها ... وتستر بيضا غيره بالقوادم
وقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا
كمثل الذي يهريق السقاء ... إذا ما السراب لعينيه لاحا
وهذا مما قنع المتقدمون بانتقاده، وأهملوا إصلاحه وتقويم منآده، حتى هذبه أدباء هذه الأيام الزاهرة، وحرره أنشاء هذه المملكة القاهرة، وذلك لما فاض عليهم من أنوار مالكها فاسترشدوا به في طريق الصناعة ومسالكها.
ذكر الشريف المرتضى في كتاب: طيف الخيال قول البحتري:
هجرتنا يقظى، وكادت على عا ... دتها، في الصدود تهجر وسنى
وحكى كلام الآمدي عليه، وتغليطه للبحتري مع حسن رأيه فيه، ووافقه الشريف على ما ذهب إليه، مما مضمونه أنه يقظى ووسنى حالان من ضميرها، وأنها لا تكون موصالة في وسنها، حتى يقول: كادت تهجر في هذه الحال! وهذا البيت صحيح المعنى، وهو من إحسان البحتري، وذلك أن يقظى جمع يقظان، وهو حال من ضمير المتكلمين، لا من ضميرها، ووسنى جمع وسنان، وهو مفعول تهجر، وتقريبه: هجرتنا في حال يقظتنا، وكادت تهجر قوما ذوي وسن.
فالتأويل الأول يجعل البيت من إساءات البحتري ومعايبه.
والتأويل الثاني يجعله من حسناته وغرائبه.
من النقد
سمع المملوك من ينشد:
لا تعلمن مؤالفا ومخالفا ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين مضاضة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
فقال: يتوجه النقد في البيت الأول لكونه أجرى المؤالف مجرى المخالف في النهي عن إعلام حاليه، وإنما الواجب أن يعلما حاله في السراء؛ لما في ذلك من مسرة المؤالف، وغيظ المخالف، وأن لا يعلماها في الضراء إشفاقا من حزن المؤالف، وشماتة المخالف. والوجه أن يكون البيت:
لا تعلمن مؤالفا ومخالفا ... بنوازل البأساء والضراء
والدليل على ذلك تعليله إياه في البيت الثاني.
كان المملوك يوما مع إخوان له، وهم يتذاكرون أشياء من الأدب، فأنشد بعضهم قول ابن سعيد الحلبي:
إذا أخذ المرآة ينظر وجهه ... حسبتهما شمسين بينهما بدر
فأنشد آخر في التشبيه بالمرآة:
والنجم وجه مقبل ... والبدر مرآة صدية
فقال المملوك: هذا البيت مما جمع تشبيهين بغير أداة، وفيه نقد لا يدرك لمجرد الأدب؛ وذلك أن هذا التشبيه لا يكون إلا في وقت مخصوص، وهو إذا صار القمر بدرا في الثور، وكان ذاهبا إلى مقاربة الثريا، أو منصرفا عنها، لأن النجم - على مذهب العرب - الثريا. ألا تراه شبهها بالوجه، ثم ذلك لا يكون والشمس في الثور، إذ كانت الثريا من كواكبه، وكل كوكب لا يظهر إذا كانت الشمس في برجه؛ لأنه يكون تحت شعاعها.
ومن مليح ما قيل في المرآة:
قوراء تحويك وتحتويها
حاملة أشخاص حامليها
أعجب بها! تريك ما تريها
مظهرة منك بها شبيها
والحسن والقبح جميعا فيها!
وعلى ذكر التشبيه، فقد أحسن بعض الشاميين في قوله - وكتب به إلى صديق له يدعوه على عجة -:
وعندي عجة تزهى بحسن ... تناهى فاستمالت كل نفس
ولم أر قبل صائغها حكيما ... يصوغ من الكواكب عين شمس
ومن مليح اللغز فيها قول الآخر في أبيات: حروفها تقرأ مقلوبة: ومراده: اسمها، لا قلب حروفها.
وهذا يدخل في باب المحاضرة بقول الصقلي:
قد جاء بالنسرين يمسح خده ويشوفه
زهر ألذ بقربه ... ويسرني تصحيفه
ومراده أن (هذه الكلمة التي هي) يسرني، تصحيف نسرين.
وقوله أيضًا في كرسي:
وا وحشتا لمفارق ... قد كان عيشي أنسه
فاعذر أخاك فإنه ... شيء يسرك عكسه
ومراده: عكس يسرك.
ومن فضلاء الشاميين السابق المعري، وله رسالة وسمها بتحية الندمان. قال: ولهذا اللقب معنيان: أحدهما، رضيع المدامة، والآخر، فعلان، من الندامة.
فمن محاسنها قوله: صرت إلى حلب، والزمن موشي الجلباب، مقتبل الشباب، قد تم عذاره، ونم بمحاسن وجهه آذاره.
وذكر المملوك بهذا الفصل قول محمد القيرواني - وقد كتب إجابة لمن سأل عما آل إليه حال الجدب -:
1 / 49