ومتى استنهضتنا لخطب، أو استنجدتنا في حرب؛ أنجدك منا رجال بأيديهم آجال، إذا أبدى البأس ناجذيه طاروا جماعات ووحدانا إليه، وإن صرح الشر لهم، وهو عريان، عدوا عليه عدوة الليث وهو غضبان، يرون بالقتل حياة، وفي الشر نجاة، لا يصدون عن الحرب الزبون فرارا، ولا يزدادون عليها إلا إصرارا، ولا تبلى بسالتهم وإن صلوا بها أطوارا، إذا أحلبت عليهم العدو المباسل اقتسمته الأسنة والسلاسل، وإن سما لهم الجاهل المتطاول، فما العمر منه بباق ولا المدى متطاول.
وهذا الفصل جل أوائل الحماسة: فأما نظم المنثور فلم ير المملوك تصنيفا فيه إلا الحاتمية. وهو يمثله بشيء مما حاضر به، واتفق له.
قال يوما لأمية بن عبد العزيز المعروف بأبي الصلت في مذاكره بينهما: ما أحسن قولهم: الأماني أحلام المستيقظ، فوافق على استحسانه، ونظمه فقال:
كم ضيعت منك المنى حاصلا ... كان من الواجب أن يحفظا
فإن تعللت بأطماعها ... فإنما تحلم مستيقظا
من الشعر المستحسن قول سيف الدولة صدقة بن مزيد يصف ناقة:
وحطا رحال الميس عنها فإنها ... أنيخت هلالا بعدما ثورت بدرا
ويحكى أنه لم يقل قط إلا هذا البيت، واقتصاره عليه دليل على أنه لم يستكره طبعه ولا تعسف فكره.
وهذه قضية قد اتفقت لجماعة من الفضلاء في أنهم يقولون البيت المفرد، ولا يعملون له ثانيا. فمنهم وقد - رقي المنبر يوم عيد فأرتج عليه، فنزل وهو يقول:
فإلا أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر كنت أخطب الناس! ومنهم هشام بن عبد الملك، فإنه كان يكثر التمثل ببيت قاله، ولم يقل غيره، وهو:
إذا أنت لم تعض الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
ومنهم إبراهيم بن موسى بن جعفر في قوله لذي الرئاستين معزيا بابنه العباس:
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
ومنهم عمرو بن مسعدة - ووقع به -:
أعزز علي بأمر أنت طالبه ... لم يمكن النجح فيه وانقضى أمده
وقال ابن عبدوس في كتاب: الوزراء والكتاب إنه لم يقل قط غيره.
ومنهم إبراهيم بن العباس الصولي في قوله:
أناة فإن لم تغن أعقب بعدها ... وعيدا، فإن لم يغن أغنت صوارمه
ولم يقل أولا ولا ثانيا.
وقد قيل: إنه بدأ به على أنه كلام منثور، فجاء موزونا، فأقره على ما هو به.
ولا يعلم المملوك شعرا في مكاتبة سلطانية إلا هذا البيت.
ومما مدح الفضل بن يحيى به مفردا:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... يترك الناس كلهم شعراء
فاستجيد هذا البيت، وعيب بأنه مفرد، فقال أبو العذافر:
علم المفحمين أن ينطقوا الأش ... عار منا والباخلين السخاء
ويروى أن ابن دارة واصل هجاء رجل من العرب فلقيه المهجو يوما وحده، فقتله، وقال: محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا.
ومنهم الشريف البياضي، وكتبه على مروحة:
وا رحمتا لي أن حللت بمجلس ... أن لحنوا فيه يكون كسادي
وهذا من أحسن ما هجي به غناء.
ولبعض شعراء المجلس العالي - ثبت الله سلطانه - في ملك غانة، لما وصل مصر يريد الحج، وقد شاهد أهل مملكة مولانا ما ناله من الحباء الذي سهل حجه، والعطاء الموضح له سبيل مراده ونهجه:
كذا يجيب دعاء الله من عرفه ... من غانة غاية الدنيا إلى عرفه
ولما اجتمع المملوك به طالبه بعلم ثان فذكر قصور قدرته عنه.
مما أهمله المتقدمون وتركوه، فتيقظ له أدباء هذا الوقت واستدركوه
تضمن كتاب البلاغتين للعسكري نقدا على الفرزدق وابن هرمة، وهو: قال الفرزدق:
وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم
وقال ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
والمنتقد أن ثاني بيت الفرزدق يصلح ثانيا لبيت ابن هرمة، وثاني بيت ابن هرمة يصلح ثانيا لبيت الفرزدق. ولم يزل إصلاح ذلك مهملا إلى أن فاوض المملوك بعض الأدباء فيه، فقال: ينبغي أن يكون قول الفرزدق:
1 / 48