أليس الأدب هو صورة المجتمع، وهو الذي تتبلور فيه نزعات المجتمع؟ اعتبر هاتين الظاهرتين المتناقضتين: (1)
الظاهرة الأولى أنه قد طبع ونشر لأبي نواس، وعنه، نحو ستة أو سبعة كتب أستطيع أن أسميها، كلها مؤلفات إقطاعية غايتها اللذة العابرة بالنكتة الإيقاعية والمعنى الانبساطي والخيال المخمور والشهوة الشاذة؛ فقد كان أبو نواس يعيش في مجتمع إقطاعي يأكل من موائده ويأخذ بميزانه الأخلاقي وينشد قيمه، ومؤلفونا، الذين أحيوا ذكراه بمؤلفاتهم العصرية، لا يختلفون عنه في الروح الإقطاعي والوسط الإقطاعي اللذين انبعثوا بهما إلى هذا التأليف. يؤلفون بلغة أبي نواس ويهدفون إلى استقطار معاني الأدب بإملائه، ليست لهم رسالة، كما لم يكن له رسالة اجتماعية أو إنسانية، وهم يفهمون الأدب على أنه لذة ومتعة لا أكثر. (2)
وثم ظاهرة ثانية نرى مثالا لها في هذا الشاب الجديد الدكتور يوسف إدريس الذي يقول في مجموعة جديدة من قصصه إنه يرتفع - أجل يرتفع - في كتابة القصة من لغة المعاجم المجمدة إلى لغة العامة، لغة الشعب المتدفقة.
نقيضان لا شك في ذلك.
واعتقادي أن هذا التناقض برهان على تناقض اجتماعي عميق بين مجتمعنا الإقطاعي القديم ومجتمعنا الرأسمالي الجديد، وهو - أي هذا التناقض - يزداد وضوحا في تناسق كل من الأسلوبين والاتجاهين.
فإن بعض أدبائنا، الذين يحبون أبا نواس ويؤلفون عنه، يسيرون في نزعتهم الإقطاعية متناسقين، فيكرهون مثلا أن تنال المرأة حقوقها الإنسانية والاجتماعية، ويكرهون لغة الشعب، ويكرهون المبادئ العصرية الاجتماعية، ويكرهون هذه البدع الجديدة عند القائلين بأنه يجب أن يكون للأدب رسالة اجتماعية أو أن يكون في خدمة الشعب، أو أن يكون كفاحيا ينشد الحرية أو المساواة ... إلخ.
لا، إنهم لا يريدون أن يكون الأدب في خدمة الشعب، وإنما يجب أن يكون في خدمة الخاصة.
إننا نعيش في عصر القلق والتردد بين حياتين وأسلوبين؛ ذلك لأننا ننتقل من القيم الإقطاعية الريفية في نظام العائلة، والأخلاق العامة، وفلسفة الحياة، وأسلوب العيش، إلى القيم المدنية الصناعية في كل هذه الأشياء ، ومع أننا نهفو إلى ماضينا الإقطاعي، ونحب أن نستبقي عاداتنا العاطفية والذهنية القديمة، فإننا نرنو إلى مستقبلنا الصناعي وننشد أهدافه وننزل مضطرين على قوانين العلم وحقائقه، والعلم هو لغة الصناعة؛ وذلك لأننا مقتنعون بأننا لن نحقق الرخاء لبلادنا، والاستقلال والقوة لوطننا، والفهم للحياة، إلا بالعلم.
وآلامنا الحاضرة وتناقضاتنا الحاضرة، هي آلام المخاض للمجتمع الجديد الذي نرجو أن يولد قريبا، وسيولد هذا المجتمع بالانتقال من الزراعة إلى الصناعة.
والعلم بطبيعته ارتقائي، شعاره الاكتشاف والاختراع إلى التغير، والتغير لا يعني شيئا آخر سوى الارتقاء، وقد كانت أوروبا جامدة راكدة إلى القرن الخامس عشر، حين نهضت وأخذت بأصول العلم، فتزعزعت أخلاقها للانتقال من ركود الزراعة إلى حركة الصناعة، وبقي هذا التزعزع إلى أن استقرت على الرضا بالتطور، أي الرضا بالتغير، ولكنها لم تستقر كل الاستقرار؛ إذ هي في تطور.
अज्ञात पृष्ठ