ويعتمد «ولز» كثيرا على العلم، فإذا تخيل «طوبى» للحياة المثلى كان العلم أساس خياله. وما هو إن ظهرت نظريات «فرويد» في «العقل الكامن»، حتى سارع إلى استغلالها، فألف قصة «والد كريستينا» وهو مجنون يعالج بالتحليل النفسي على طريقتي «فرويد» و«يونج».
ومن أعظم ما يأسف له القارئ ويشعره بالمأساة البشرية، هذه الحيرة التي تقلب فيها «ولز» وهو يحاول أن يؤمن بمبدأ روحاني وراء المادة، فإنه بدأ بالاعتقاد أن لله شخصية مستقلة عنا. ثم أخذ يستند إلى آراء «يونج» السيكولوجي السويسري المعروف، ويقول إن العقل الكامن عندنا إنما هو عقل النوع البشري كله. وأن لهذا العقل الجماعي شخصية مستقلة عنا كأننا يجب أن نؤمن بها إيمانا. وأخيرا، وبعد التخبط الطويل، انكفأ إلى نفسه يتكلم في تواضع كما يتكلم البشريون الذي يؤمنون بأن المرجع الديني، بل كذلك الغاية الدينية، يعودان إلى محور واحد هو الإنسان بلا حاجة إلى عقائد غيبية. والكتب «المقدسة» التي يرجع إليها هؤلاء البشريون هي كتب العلم والأدب والفلسفة، بل كتب جميع الأديان أيضا. وقد لا يكون هذا عجيبا من رجل نشأ نشأة علمية، له كتاب في تشريح الحيوان، وأشرب مبادئ «هربرت سبنسر» المادية، فإنه وإن كان قد عرف بعد ذلك «وليم جيمس» السيكولوجي الأمريكي، أول من دعا دعوة روحية عن طريق السيكولوجية، فقد بقي في نفسه الميل إلى التحليل العلمي. وهذا الميل لم تؤثر فيه الروحية الجديدة التي انطلق فيها كل من «إدنجتون» و«جينس» بلا سبب معقول، إذ إن كل ما يستندان إليه إنما هو شكوك علمية بعيدة عن اليقين. وكذلك لم يتأثر، كما تأثر «شو» بالمبدأ الحيوي الذي يقول به «برجسون».
وقد أصبح «ولز» كتلة عقائد، فإن آراء الشباب التي كان يتبسط في شرحها في مقالاته وقصصه أصبحت، بعد أن بلغ السبعين (في 1937) من عمره عقائد جامدة، فهو اشتراكي يطعن من آن لآخر في «ماركس» زعيم الاشتراكية، وكأنه بذلك يريد أن يثبت استقلاله. وهو عالمي يطعن في الوطنية، ولكنه لا يكف أيضا عن الطعن في عصبة الأمم مع أنها بذرة العالمية؛ إذ يرى فيها تقصيرا عن العالمية . ثم هو مع هذا يريد حضارة غربية قائمة على الآلات الضخمة التي تزيد فراغ الناس. ويريد ديانة بشرية قوامها التطور، ويريد نظاما علميا للحكومة بحيث يصبح تنظيف الشارع، وبناء المنزل، وإطعام الأطفال وتعليمهم، بل استنتاجهم، من مهماتها الأولى.
وإذا أردنا أن نقابل بين «شو» و«ولز» أمكننا أن نقول إن ذهن «شو» هو ذهن التحليل والنقد والهدم، بينما ذهن «ولز» يتجه نحو التأليف والبناء.
ويعيش «ولز» في الحضارة القائمة الآن وهو يعد الناس لحضارة قادمة، فهو أكثر الكتاب شعورا بأن أوروبا تنتقل إلى النظام الاشتراكي القريب. وهو يطالب المعلمين والكتاب أن يعدوا الناس لهذا الانتقال. ثم هو يرى الخطر العظيم من التهاون في فهم هذه الحقيقة؛ لأن آلات التدمير أتقنت إتقانا فظيعا. ونحن نشرف بها ومنها على هاوية المستقبل التي قد نتردى فيها، وعندئذ يكون انقراض النوع البشري، كما انقرض نوع الديناصور وأنواع أخرى. وعلى الطبيعة أن تشرع من جديد في استيلاد حيوان آخر يأخذ مكاننا ويسلك بالحكمة، التي لم نسلك بها. فإذا تركنا السياسة الحاضرة تجري مجراها والتنافس التجاري يسير سيره الطبيعي فلن يكون ثم مفر من حرب كبرى أخرى قد تقضي على الحضارة. ومع أن الاشتراكيين الإنجليز يقبلون الملوكية القائمة، فإن «ولز» يلح في طلب الجمهورية ويصرح بذلك في الصحف وغايته إعداد الأمة الإنجليزية للنظام الصناعي الجديد وهو نظام اشتراكي. ثم هو لا يعرف التسوية مع خصومه، فهو خصم صريح للبابوية والفاشية كما هو خصم للملوكية والوطنية والحرب والتعصب القومي أو الديني.
ثم هو بنزعته العلمية لا يرضى بالنظم البرلمانية الحاضرة؛ لأنه يعتقد أن أحوالنا الاقتصادية قد بلغت من التعقد بحيث تحتاج إلى خبراء - أي علماء - في الصناعات والعلوم الاقتصادية. وأن الاعتماد الآن في إدارة شئون الأمة على أيدي السياسيين وحدهم إنما هو بمثابة لعب الأطفال بالنار. ويرى في هذه الأزمة القائمة (1933) البرهان على ذلك.
كتبت هذه الكلمات في 1933. وأنا أعود إليها بالتصحيح والتنقيح في 1945 بعد الكشف العظيم للطاقة الذرية واختراع القنبلة الذرية. وقد وقف منهما «ولز» موقف المتردد بل الواجل؛ إذ هو يصرح بأنه لا يعرف إذا كان الناس سيتطلعون بهذا الكشف إلى آفاق السعادة فيؤلفون حكومة عالمية تنظم هذا الكوكب، أم هم سوف يشرفون منه على هاوية المستقبل حين تتناحر الوطنيات وتتقاتل الأمم إلى الفناء. وهو إلى التشاؤم أميل منه إلى التفاؤل. ثم هو في سنيه الأخيرة قد ازداد حدة في بشريته؛ ولذلك صار يدعو إلى الإلحاد الصريح. وزادته الدعوة إلى العالمية اتجاها نحو الإلحاد، كأن دراسة الجغرافيا والاقتصاد والعلوم يجب أن تأخذ مكان الدراسة للغيبيات لإيجاد السعادة للبشر على هذه الأرض.
ولز بين الوطنية والعالمية
ليس في العالم خصم للوطنية يدعو إلى العالمية مثل «ولز» وهو لا يفتأ يعزف على هذا الموضوع. وهو على هذه الحال منذ نحو ثلاثين سنة، لم يتغير حتى مدة الحرب، فإنه هو الذي وضع عبارة «الحرب لإنهاء الحرب»؛ أي إنه كان يدعو الإنجليز إلى التجند وقتال الألمان كي تكون هذه الحرب الكبرى نهاية الحروب، بإقامة هيئة تقضي القضاء النافذ في الخلافات التي تقوم بين الأمم فلا يحق لدولة أن تعلن حربا على دولة أخرى بل لا يجوز لدولة أن تجند جيشا.
وفي هذا العام (1933) ألقى خطبة في مدرسة الأحرار الصوفية في أكسفورد، فدعا إلى إنشاء عصبة من الفاشيين الأحرار كي يقاوموا الفاشيين الذين يدعون إلى الوطنية الحادة مثل أتباع «موسوليني» في إيطاليا وأتباع «هتلر» في ألمانيا.
अज्ञात पृष्ठ