مقدمة
التجديد في الأدب الإنجليزي
جمود العصر الفكتوري
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الرجعيون الثائرون
بواعث التجديد
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
اثنان من الرواد
المنحطون في الأدب الإنجليزي
كبلنج: شاعر الاستعمار
دراسة الاقتصاد والاجتماع
برنارد شو
الدرامة الاجتماعية
فلسفة برنارد شو
من داروين إلى برجسون
ولز
دراسات ولز الاجتماعية
ولز بين الوطنية والعالمية
ه. ج. ولز
جالزورثي
رجال الذهن في إنجلترا
الثائرون
لورنس: أحد الثائرين
جيمس جويس
ألدوس هكسلي
الشاعر ت. س. إليوت
الشاعر أودين
مقدمة
التجديد في الأدب الإنجليزي
جمود العصر الفكتوري
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الرجعيون الثائرون
بواعث التجديد
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
اثنان من الرواد
المنحطون في الأدب الإنجليزي
كبلنج: شاعر الاستعمار
دراسة الاقتصاد والاجتماع
برنارد شو
الدرامة الاجتماعية
فلسفة برنارد شو
من داروين إلى برجسون
ولز
دراسات ولز الاجتماعية
ولز بين الوطنية والعالمية
ه. ج. ولز
جالزورثي
رجال الذهن في إنجلترا
الثائرون
لورنس: أحد الثائرين
جيمس جويس
ألدوس هكسلي
الشاعر ت. س. إليوت
الشاعر أودين
الأدب الإنجليزي الحديث
الأدب الإنجليزي الحديث
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
هذا الكتاب هو عرض ونقد للأدب الإنجليزي في السنين الأربعين الماضية. وفي هذه المدة ظهر أدباء ثائرون على التقاليد في هذا الأدب ومجددون له. وقد حاولت أن أبين للقارئ العربي المغزى من هذا التجديد. وعندي أن التجديد في الأدب هذه الأيام لا يعني شيئا آخر سوى التجديد في الحياة. وهذا هو ما نفهمه من المجددين الإنجليز الذين نعرضهم في الفصول التالية؛ فإن الأدب الإنجليزي يتصل بالحياة ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة. وهذا خلاف ما نجد من طبقة الأدباء التقليديين في مصر، حيث الاهتمام كبير بالأسلوب الكتابي، في حين ليس هناك اهتمام أصلا بأسلوب العيش؛ فإن الأدب التقليدي يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يعنى مثلا بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينتقده ويطلب إصلاحه. وهو يكتب عن العرب ومجدهم وتاريخهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، هو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلة عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برج عاجي. وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا والعالم العربي.
ولكن الأدب الأوروبي الحديث، وخاصة الأدب الإنجليزي، هو أدب الحياة؛ ينتقد المعايش والغايات ويجعلهما موضوعه، سواء في القصة أو المقالة. وهو لذلك يتصل بأنواع النشاط البشري كله؛ فللأديب رأيه في العلم والصناعة، والاقتصاد، والزواج، والتعليم، والصحافة. بل من الأدباء الإنجليز، مثل «برنارد شو» من ينتقد النظريات الطبية. ومنهم من يدعو إلى الإيمان بدين جديد.
والحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة؛ فقد كانت الفلسفة القديمة تترفع عن درس الحياة الدنيا، وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء وماهية هذا الشيء. وكانت تبحث الغيبيات؛ أي ما قبل الوجود وما بعده. وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم. ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكف عن البحث عن كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان. وواضح أن هذا الكف ليس أبديا، ولكنه اعتراف بالعجز عن فهم الغيبيات وإيثار لبحث الشئون البشرية التي لا تتجاوز مستطاعنا.
وكذلك الحال في الأديب، فإنه كان يعتكف بين الكتب ويترفع عن نقد المعايش وغاية الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. وكان الأديب يدأب في الاجترار، ويعيش في برجه العاجي لا يتغذى مما حوله ولكنه يتغذى بالمؤلفات القديمة. أما الآن فإن الأديب الجديد يكاد ينظر إلى الأدب القديم نظرة «بيكون» إلى العلوم القديمة، فهو يطلب التجربة والاختبار بنفس الروح الذي طلبهما به علماء النهضة؛ وذلك لأنه يشك في قيمة المقاييس القديمة. ثم هو يستخدم أدبه، كما يستخدم الفيلسوف الجديد فلسفته، لمصلحة الإنسان، فيبحث أساليب العيش والاجتماع، ولا يكاد يبالي بأساليب الكتابة.
ومع أني عرضت لطائفة من الأدباء في مدى السنين الأربعين الماضية، وعالجت آراءهم بالشرح أو النقد أو التعليق، فإني أرى الآن أنه كان يكون أروح لي لو أني قصدت إلى واحد منهم فاقتصرت عليه بالدرس؛ وذلك لأن الإسهاب في شرح فترة قصيرة، هي حياة الأديب، يتناول من الدقائق المفيدة والتفاصيل الطريفة ما يضطر الكاتب إلى التجاوز عنه حين يعمد إلى موكب كامل من الأدباء يصف أفراده مع الإيجاز الذي قد يكون مخلا في بعض الأحيان. ولكن القارئ العربي الذي يجهل الأدب الإنجليزي يؤثر رؤية الموكب على رؤية الفرد، وعنده أن الإلمام بطبقة الأدباء المجددين خير من الإحاطة بواحد منهم. وهو على حق في هذا الرأي؛ وذلك لأن كلا منهم قد انتحى ناحية في التجديد لم ينتحها غيره، والإسهاب في شرح الأدب لواحد منهم لا يقوم مقام التلخيص للكل.
وعلى هذا الاعتبار يمكنني أن أقول إن هذا الكتاب هو في حقيقته مقالة مسهبة، أو هو المقدمة لدرس التجديد في إنجلترا. وأملي أن أوفق في القريب إلى درس واحد من هؤلاء المجددين لعله «برنارد شو»، فيكون هذا الكتاب الراهن بمثابة الفرش للصورة، يهيئ للقارئ «البيئة التاريخية» والثقافية التي تكون منها هذا الأديب العظيم.
فليقرأ القارئ إذن هذا الكتاب على اعتبار أنه مقدمة لدرس التجديد الأدبي في إنجلترا. وعليه أن يلتفت إلى التفاعل المستمر بين الأدب والمجتمع، وأن يقابل بين هذه الحال وبين ما نحن عليه في مصر وخاصة عند أدبائنا التقليديين الذين قطعوا بين الحياة الراهنة وبين ما يزاولونه من أدب قديم في الأسلوب والغاية والموضوع.
س. م. 1933
قبل أن يقدم هذا الكتاب للطبعة الثانية عدت عليه قراءة وتنقيحا وزدت فيه ثلاثة فصول هي الأخيرة من الكتاب.
س. م. 1948
التجديد في الأدب الإنجليزي
إذا ذكر الإنجليزي عبارة «العصر الفكتوري» عنى بذلك نحو سبعين سنة قضتها إنجلترا في خمول يشمل الأخلاق والأدب بين سنة 1837 وسنة 1900 وهي المدة التي تولت فيها الحكم الملكة فكتوريا.
وقد كان هذا العصر عصر تجديد، بل ثورة في العلوم؛ ففيه ظهر «داروين» وقلب البيولوجيا رأسا على عقب. واستحالت نظرياته إلى مذاهب تشبه المذاهب السياسية من حيث ابتعاث الحماسة أو المقت. وفيه ظهر «هربرت سبنسر» الذي قضى حياة طويلة يدافع عن مادية صريحة. ومن الناس من يطلق عليه وصف الفيلسوف ، مع أنه أعدى أعداء الفلسفة؛ إذ هو لا يؤمن إلا بالعلم. وظهرت في هذا العصر نزعات علمية كثيرة نقلت الطب من الكهانة والسحر إلى التجربة، ونقلت التربية من حفظ اللغتين الإغريقية واللاتينية إلى درس الطبيعات والكيمياء.
وكانت المدينة الإنجليزية في هذا العصر الفكتوري تنتقل من الزراعة إلى الصناعة، ومعايش الناس تتجدد من حيث اختلاف الحرفة، ولكنها تبقى مع ذلك جامدة من حيث العادات الاجتماعية متشبثة بعادات المجتمع الزراعي البائد.
وهذا الجمود شمل الحياة الاجتماعية. وإلى الآن لا يزال الإنجليزي يستعمل لفظة هي «المسز جرندي» التي تدلنا على هذا الجمود، فإن هذه المسز أو السيدة هي ربة البيت الإنجليزية التي كانت تحتم على أعضاء منزلها الوقار والاحتشام، بل التزمت؛ فلم تكن تسمح للفتاة بالخروج وحدها أو المزاح مع الشبان أو اتخاذ الملابس المختصرة أو ارتياء الآراء الجديدة. وكان البيت الإنجليزي مدة ذلك العصر مثالا للجمود، بل الكمود، لوجود هذه السيدة المحترمة التي كانت تعتقد أنها تصون الأخلاق بتزمتها.
والأدب بطبيعته يساير الحياة الاجتماعية، فإن الأديب يكتب مقالته، أو يؤلف قصته، وهو يفرض جمهورا يسمعه، فإذا هو ارتأى رأيا، ينبو عن ذوق هذا الجمهور أو عقائده أو أخلاقه، أكنه في نفسه وكظمه وأبدى غيره مما يرضي هذا الجمهور. وقد يقال هنا إن حرية الرأي تقول بغير ذلك، ولكن يجب على القارئ أن يعرف أن الجمهور يحد من حرية الرأي مثلما تحد منها القوانين سواء؛ ولذلك كان جميع الأدباء في العصر الفكتوري يحترمون آراء «المسز جرندي» ولا يخالفونها إلا في تواضع وذلة. ولهذا السبب اتجه الأدب الإنجليزي طوال القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام، فنحن إذا قرأنا «ماكولي» المؤرخ راعنا أسلوبه المنمق وعبارته الملحنة المنغمة، ولكننا نخرج منه بلا شيء من حيث التفكير. وكذلك الحال مع «سكوت» و«ثاكري» القصصيين.
وقد يستطيع القارئ أن يذكر الشاعرين «شيلي» و«بيرون» وأن يصفهما بالثورة على التقاليد والعرف والنزوع إلى حرية الإغريق، وهذا صحيح، ولكنهما عاشا وماتا وكأنهما غريبان عن إنجلترا، تقرؤهما فئة صغيرة وتقتني مؤلفاتهما، وتدسها في زوايا الحجر حتى لا تراها عين هذه السيدة المحترمة «المسز جرندي».
واستمر الجمود شاملا للمجتمع والأدب إلى حوالي سنة 1880 حين أخذت تتراكم أسباب الثورة أو التجديد وتستمد قوتها من العلوم الجديدة، فهذه الصناعة مثلا تبعث «كارل ماركس» على تأليف كتابه في ضرورة الاشتراكية مع شروح وافية مؤلمة في فساد المجتمع. وهذا العلم الجديد «البيولوجيا» يبعث «إبسن» الشاعر النروجي على تأليف دراما تصف «سلطان» الوراثة، وكيف يرث الأبناء نقائص آبائهم في الجسم والغريزة. ثم هذه المادية الجديدة تبعث الشاعر «سونبرن» على أن يؤلف القصائد في الانتقاض على العقائد. ثم نرى دعوة إلى الجمال يدعو إليها «أوسكار وايلد» من ناحية، و«ولتر باتير» من ناحية أخرى، مع اختلاف بين الاثنين في الوثن الجميل الذي يتعبد له كل منهما؛ فإن الأول يحب باريس الحديثة ويتغنى بلياليها، ويعرف للترف المادي قيمته في الجسم الرائع، والمائدة المطهمة، والحديث البارع، ولذة اللحم. والثاني يحب أثينا القديمة، ويذكر آلهتها وفلاسفتها ويساوي بين الاثنين، ويرى في تمثال الرب أفلون نموذجا فذا للجمال الإنساني كما يرى في شبان الإغريق نماذج أخرى لجمال الآلهة.
لورد بيرون.
وكل هذا يحدث على الرغم من آراء الجمهور أو شعائره الاجتماعية، حتى إن «أوسكار وايلد» قضى سنتين في السجن لأنه عمل بما قال، ونزل بالواقع إلى ما كان يتخيله، وجعل من الأدب حياة يعيشها على نحو تلك الحياة التي كان يعيشها أبو نواس، وهي لا تختلف من أدبه، كما لا يختلف خياله وواقعه وقصيدته من معيشته.
ولكن ما نكاد نقترب من 1900 حتى نجد الانفجار، ولهذا الانفجار أسباب خارجية وأخرى داخلية. وقد ذكرنا هذه الأسباب الداخلية، وهي تنحصر في التقدم العلمي الذي عكس أشعته على الأدب، والتقدم الصناعي الذي عكس أشعته على التفكير الاجتماعي. وكانت إنجلترا طوال القرن التاسع عشر في مقدمة الأمم في العلم والصناعة. وتأثر الأدب من هاتين الناحيتين يرجع إليها وحدها.
ولكن كان في أوروبا مؤثرات أخرى. ومن أغرب ما يذكر هنا أن أعظم هذه المؤثرات، وهو الأدب الروسي، لم يترك أثرا صغيرا أو كبيرا في إنجلترا. وأدباء الإنجليز جميعهم يعترفون بسمو هذا الأدب، وأنه الأدب الإنساني الرائع الذي لم يخلق مثله في العالم، ومع ذلك ليس فيهم واحد، ولا واحد، قد تأثر به. ولست أستطيع أن أعزو ذلك إلا إلى أن البيئة الإنجليزية (الاقتصادية الاجتماعية) كانت تختلف جد الاختلاف عن البيئة الروسية؛ ذلك أن المجتمع الروسي أيام القياصرة كان حافلا بالفوضى والشقاء والذل، مما كان يحمل الأديب على أحد طريقين: إما أن يثور ويلحد بالسلطة القيصرية والآلهة مثل «مكسيم جوركي»، وإما أن يستسلم للقدر، ويتعوض من البؤس المادي غبطة روحية مثل «دستوفسكي». وكلا الطريقين غريب عن الذهن الإنجليزي.
أما سائر المؤثرات فيرجع بعضها إلى «إبسن» الشاعر النروجي الذي يمكن أن يقال إنه جدد الدرامة الإنجليزية عن سبيل «برنارد شو». وقد أنكر «برنارد شو» أنه مدين لهذا الكاتب النروجي، ولكن الذي يقرأ الاثنين لا يستطيع إلا الاعتراف بأن الثاني مدين للأول في فنه وآرائه وثورته على العرف، ودعوته إلى استقلال الشخصية، ودعوة المرأة إلى الرجولة، ولا أقول الاسترجال. ويقول «برنارد شو» إنه تلميذ لأديب إنجليزي هو «صموئيل بطلر»، ولا شك في أنه صادق في ادعاء هذه التلمذة، ولكنها ليست كل شيء في تلمذته؛ فإنه مزيج من «داروين»، و«نيتشه»، و«إبسن»، و«بيرون» و«برجسون».
شيللي.
ومن المؤثرات الحديثة القوية في الأدب الإنجليزي نجد لنظرية «التحليل النفسي» والعقل الكامن أكبر الأثر، وهذا الأثر أكبر وأعظم في الشبان الجدد.
ويمكن أن نقسم الأدب الجديد، أو المجدد، إلى ثلاثة أقسام، هي ثلاثة أطوار: طور الرائدين، ثم طور المجددين، وأخيرا طور الثائرين.
وهذه التسمية نريد بها التوصل إلى فهم التجديد، ولا نريد بها التعيين؛ ففي الطور الأول نجد الرائدين وهم «سونبرن» الشاعر، وهو إنما يثور على العقائد دون العرف الاجتماعي، ثم «صموئيل بطلر» أستاذ «شو»، وهو ثائر على العرف الاجتماعي، وكلاهما يدعو إلى احترام الشخصية واستقلال الفرد استقلالا دينيا اجتماعيا. ثم تجد أنه يعاصرهما «أوسكار وايلد» و«ولتر باتير» وكلاهما يدعو إلى الجمال دون الأخلاق الشائعة مع فرق سبق أن بيناه. ثم ندخل بعد ذلك في طور المجددين، فنجد «برنارد شو» في المقدمة، لا يقنع بالانتقاض على الدين، بل هو يثور أيضا على المجتمع والعرف. وهو ليس هداما يرضى بالهدم ويسكت عنده، ولكنه يبني، فيدعو إلى الاشتراكية واستقلال الشخصية ويرسم الطرق لاستخراج «السوبرمان». وكأنه يضع مقاييسه ويقوم بعملية حسابية عن توليد خروف أبيض من نعاج سود. وهو كافر يعتقد في نفسه أنه مؤمن، ومادي يظن أنه روحي، وعالم يمارس الأدب ويعلن احتقاره له، وكاهن من كهنة البشرية الجديدة وجوهرة من جواهر الأدب الحديث.
ومن المجددين أيضا «ولز» وهو يشبه «برنارد شو» من وجوه كثيرة من حيث النظر العالمي للأدب، وإن كان هو من حيث المزاج أديبا، بينما «شو» عالم. و«ولز» الآن قوة من قوى الخير في العالم، وهو أكبر أثرا من عصبة الأمم في الدعوة إلى الإخاء. وقد رضي بالتضحية بالفن من أجل الوعظ، فإنه يعظ ويعظ ولا يفتأ يعظ ويبين للناس كيف يتوقون الحروب والأمراض، ويدلهم على وسائل الخدمة الإنسانية. وقد حاول أن يؤمن، وأخلص في المحاولة، إلا أنه فشل وعاد يدعو إلى الكفر أو الإلحاد في غلواء بقوة إيمانه الإلحادي الجديد.
ثم ندخل في طور الثائرين، وهم الشباب الجدد الذين كابدوا من الحرب ويلاتها وعرفوا منها السفالة العميقة التي يمكن أن تهوي إليها الإنسانية على الرغم من طلائها النظيف. وجميع هؤلاء الثائرين قد درسوا التحليل النفسي والعقل الكامن، ونظرية التطور، وخرجوا من هذا الدرس بجواهر تحيط بها أكوام من «الزبالة». وقد خالفوا أوضاع القصة، ورفضوا حتى عرف الكتابة بحيث إن الذي لم يتسلم مفتاحهم لا يكاد يفهم ما يكتبونه. ومفتاحهم هو الكامنة أو «العقل الكامن»، وما في داخل رءوسنا من حشرات وأفاع. ولكنهم مع ذلك يعرفون أنه إلى جنب هذه الحشرات والأفاعي طواويس زاهية وفراش جميل. ثم إلى جنب هذا وذاك نزوع غامض في النفس البشرية نحو الكمال. وأبطال هذا الطور هم «لورنس»، و«هكسلي»، و«جويس ».
والمستقبل لهؤلاء على الرغم مما فيهم من ضعف وتردد، بل من خلط واضطراب؛ لأنهم قد حطوا على حقائق النفس البشرية وكشفوها وأبانوا عنها عارية، ولم يستروا منها قبحا أو حسنا، فهم يتسابقون في ميدان جديد جرى فيه «ولز» نفسه شوطا ثم كف عنه.
وهذا كلام كله مختصر يحتاج إلى إسهاب في الشرح.
جمود العصر الفكتوري
كان العصر الفكتوري - أي الفترة الواقعة بين سنة 1830 وسنة 1900 - يوهم بالجمود في الأدب باعتبار الأدب فنا من الفنون الجميلة.
وقد سبق هذا العصر شاعران كان ينتظر منهما أن يبعثا نهضة جديدة في الأدب الإنجليزي هما «شيلي» الذي مات في 1822 و«بيرون» الذي مات في 1824. ولكنهما ماتا وكأنهما لم يعيشا. وإذا كان أحد يقرؤهما هذه الأيام فذلك يرجع إلى النهضة الحديثة التي ابتدأت حوالي 1890.
بدأ «شيلي» حياته الثائرة وهو طالب بتأليف كتاب في «ضرورة الإلحاد» وطرد من الجامعة لهذا السبب. ثم رحل إلى دوبلين عاصمة أيرلندا وهناك دعا إلى استقلال أيرلندا، ومات في سن الثلاثين.
أما «بيرون» فقد رحل إلى بلاد الإغريق يؤلف القصائد في الدفاع عن حريتها. وقصائده هي أناشيد الحرية يقرؤها القارئ إلى الآن بل يتغنى بها.
ولكن «شيلي» و«بيرون» كما قلنا، ماتا دون أن يتركا لهما خلفا للعصر الفكتوري يدعو إلى الحرية. ومضى هذا العصر على طوله كأنه عصر الظلام، يقرأ فيه الناس تاريخ «ماكولي» فيعجبون بأنفسهم وإمبراطوريتهم ومجدهم وعظمة برلمانهم. وهذا الماكولي يمكن للقارئ الآن أن يعرف حقيقة واحدة عنه تكفيه للحكم عليه، فقد ذكر عن الهندي أنه لا يقبل الرقي، وكاد يقول إنه جبل من طينة أخرى غير الطينة التي جبل منها الإنجليزي. وهذا هو الرأي الاستعماري الذي ما يزال يقول به «كبلنج» الشاعر. والقارئ المصري يعرف الآن أنه ليس «كبلنج» ولا «ماكولي» الإنجليزيان جديرين بأن يحل أحدهما سيور حذاء «غاندي» أو «نهرو» الهنديين.
فإلام يعزى هذا الجمود في العصر الفكتوري؟
يعزى إلى شيئين؛ أولهما: الروح المادي الذي انتشر بين الإنجليز بتدفق الثروة عليهم ونجاحهم في الاستعمار. والثاني: الروح الديني الذي ورثه الإنجليز عن النهضة الطهرية.
ففي العصر الفكتوري ازداد استعمال الآلات في المصانع، وكادت إنجلترا تختص بالصناعات الآلية، فكانت تغزل وتنسج، وتصنع المعادن، وتصدر مصنوعاتها إلى أوروبا باختراعها الآلات البخارية والاعتماد على الفحم. وقد أثرت إثراء فاحشا، وأخذ أسطولها يفتح لها الأسواق بالاستعمار، فكانت طوال العصر الفكتوري في نهضة اقتصادية بعثت فيها الروح المادي والإكبار من شأن الترف والنجاح المالي على نحو ما نرى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بالدور الثاني للنهضة الاقتصادية الآلية. وهذا النظر المادي وما يعقبه من نجاح مالي هما أقوى العوامل لتثبيط الحركات الأدبية.
أما العامل الثاني فهو النهضة الدينية التي فشت في إنجلترا واتخذت شكلا خاصا يقرب من النزعة الوهابية في جزيرة العرب، نعني بها تلك الحركة الطهرية «بيوريتانزم» التي تدعو إلى التقشف وكراهة الفنون والابتعاد عن الملاهي. وهذه النهضة هي التي اخترعت الملابس السود الكابية للرجال، وهي التي ما زلنا نرى أثرها حتى في رجل مجدد مثل «برنارد شو» حين يمتنع عن تناول طعام اللحم أو الخمر، وحين يميل إلى الزهد. ولا يمكن للدراما أو القصة أن تنجح أمام هذا الروح الذي لا يجيز للمؤلف أن يترخص مثلا في رواية الحب والغرام.
ونشأ من هذين العاملين - أي مادية النهضة الاقتصادية، وروح التقشف الديني - نزوع في الأمة إلى لزوم العرف وكراهة البدع؛ لأن المجتمع الإنجليزي كان مستقرا متفائلا، مؤمنا بالتقدم الذي أحدثه ارتقاء الآلات الصناعية وتوسع الصناعة والاستعمار فاستقر الأدب الإنجليزي لذلك وجمد.
ولكن في أواخر القرن التاسع عشر شرع المجتمع الإنجليزي يتقلقل بالتعطل والتفاوت الفاحش بين الغنى والفقر، وشرع الأدب يتقلقل أيضا. وأصبح القصصي، كي يتجنب النقد، يعمد إلى خياله ويبتعد عن الواقع ما استطاع ذلك. وحركة التجديد التي قامت عقب العصر الفكتوري هي في لبابها ثورة على هذا الأدب الخيالي الفكتوري السخيف الذي لم يعد ينطبق على حقائق الحياة.
وقد رأينا كيف أن الروح المادي قد أتلف ذهن المؤرخ «ماكولي» فجعله ينسى إنسانيته ويحتقر الهنود. ويبعثه زهو الثروة والنجاح المالي والتوسع الإمبراطوري على أن يؤلف تاريخا للإنجليز يرفعهم فيه إلى مقام الآلهة ويزهو فيه بعظمتهم.
وإلى جانب «ماكولي» نجد رجلا آخر يغمر تاريخ الملكة فكتوريا بشخصيته، هو «كارليل» الذي مات في 1881، فإن الروح الديني أتلف ذهنه كما أتلف الروح المادي ذهن «ماكولي»، فاستحال واعظا بعد أن كان يرجى منه أن يكون أديبا، وخاصة إذا اعتبرناه وقد بدأ حياته بتأليف كتاب عن الثورة الفرنسية (1889) وكان الطراز الأعلى للأدب عنده ذلك العظيم الألماني «جوته»، فإذا كان درس الثورة الفرنسية ورجال الذهن الذين هيئوا لها، ثم التتلمذ لجوته لا يخرج للناس أديبا عظيما، فلا بد أن يكون هناك عند «كارليل» حاجز صفيق لا تستطيع بصريته أن تنفذ منه. ولنضرب لذلك مثلا مقابلة بين «جوته» و«كارليل» في موضوع معين عالجه كل منهما.
فقد عالج «جوته» موضوع الواجب، وكيف يجب أن نعمل في الدنيا فلا نترك ساعة من حياتنا حتى نملأها بعمل مفيد. ولما مات ابنه الوحيد حزن عليه ولكنه لم يجزع ولم يستسلم للكمود والهمود، بل نفض عن نفسه الحزن وهب إلى العمل. ولكن ماذا كان يقصد إليه «جوته» من الواجب وكراهة التعطل؟
كان يقصد من ذلك إلى أن تزداد شخصيته عرفانا وقوة فيزداد بذلك حرية واستمتاعا. وكان يرى في الجهل تقييدا، فكان يدرس العلوم والآداب بروح الطالب. وكان يرى في الدعة والانكفاف تضييقا لشخصيته، فكان يختبر كل شيء، ولا يبالي وهو في الثمانين أن يعشق. ولا يمنعه درسه من أن يقوم بأعمال إدارية وسياسية. وقد اندغمت ثقافته في شخصه، فكان يقبل على الدنيا ويلتذ الحياة ويستغل ما كسب من اختبارات ومعارف كي تقوى شخصيته، وكأنه يرى نفسه مركزا أو محورا للكون، فنحن يجب علينا، في رأي «جوته»، أن نكبر من شأن العمل ونقبل عليه، ونؤدي واجبنا فيه كي نستكمل به شخصيتنا ونزيد استمتاعا بالدنيا وفهما لشئونها.
ولكن «كارليل» يدعو إلى الواجب لغاية أخرى انحدرت إليه من المبادئ الطهرية التي شاعت في إنجلترا وصبغتها بالروح الديني، فهو يقول:
نحن هنا على الأرض جنود نحارب في قطر غريب، ولسنا ندري الغاية المقصودة من هذه الحرب، ولسنا في حاجة لأن ندريها، وإنما علينا أن نؤدي ما يجب تأديته. وعلينا أن نؤديه كالجنود بالطاعة والشجاعة وطرب البطولة.
والفرق واضح بين الاثنين، «جوته» سيد أديب و«كارليل» عبد واعظ. وقد تستطيع أن تفضل «كارليل» على «جوته»، وأنت بذلك تفضل النهضة الدينية الإنكارية الانكفافية على النهضة الأدبية الإقدامية الاستمتاعية، كما يمكنك أن تقول إن الوهابيين في كراهتهم للفنون والترف والاستمتاع والالتذاذ، خير من الباريسيين الذين لا يبالون ما يفعلون مما يخالف التقاليد. وأنت حر في هذا النظر، ولكن يبقى بعد ذلك أن تعترف أن في باريس فنونا جميلة وأدبا رائعا، ولكن ليس في الرياض، عاصمة نجد، شيء من ذلك.
والطهريون في إنجلترا هم وهابيو الديانة المسيحية. وقد صبغوا الأدب الإنجليزي بصبغة التقشف في العصر الفكتوري.
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الأدب ظاهرة اجتماعية مثل سائر الظواهر الاجتماعية كالحكومة والتعليم والعادات والأخلاق والعقائد. والمجتمع ينهض في كل زمان ومكان على أساس اقتصادي؛ أي إن الطراز الذي تتبعه الأمة في إنتاجها الزراعي والصناعي يستتبع طرازا معينا آخر من الاجتماع. ولذلك يختلف المجتمع في أمة زراعية من المجتمع في أمة صناعية. ويختلف أيضا الأدب بين أمتين.
بل هناك طرز مختلفة من الإنتاج الزراعي تحدث طرزا أخرى مختلفة من النظم الاجتماعية؛ ففي مصر زراعة تقارب النظام الإقطاعي في القرون الوسطى، وقد نشأ على هذا النظام مجتمع معين نراه على أوضحه في مجلس الشيوخ. وفي دنمركا نظام زراعي تعاوني قد أحدث مجتمعا ديمقراطيا. وفي الولايات المتحدة نظام زراعي آلي، يختلف كل الاختلاف من النظامين السابقين؛ ولذلك نستطيع أن نقول إن الزارع الأمريكي مدني وليس ريفيا.
والإنسان، بمحض عمله اليومي في الإنتاج والارتزاق، تتكون له عواطف، وتنشأ له من هذه العواطف عقائد وآراء وأخلاق، ولذلك فهو يعيش وفق إنتاجه؛ أي إن مجتمعه يتخذ طرازا معينا يتفق مع طراز الإنتاج. وبكلمة أخرى، ينبني الاجتماع على الاقتصاد.
وإذن نستطيع أن نفسر العقائد والآراء والمذاهب والأخلاق والآداب تفسيرا اقتصاديا في الأمة.
فالبيئة الزراعية في مصر، بما يفشو فيها من فاقة سوداء، ومن جهل يجعل الفلاح عاجزا عن علاج هذه الفاقة، تحمل فلاحنا على الاستسلام للقدر؛ أي لليأس، وأيضا على التمسك بعقائد جامدة، وأحيانا على المغامرة بالجريمة لمعالجة فقره.
والبيئة الزراعية التعاونية في دنمركا تحدث في الفلاح أو المزارع الدنمركي عواطف الحب والرضا بالمساواة وتنتهي في القمة بحكومة ديمقراطية تخدم الشعب.
والبيئة الزراعية الآلية في الولايات المتحدة الأمريكية تجعل المزارع رجلا «صناعيا» ينظر إلى عزبته (مزرعته) كما ينظر الثري إلى مصنعه في المدينة. وعواطفه وأخلاقه وعقائده وآراؤه جميعها لا تختلف مما نجد عند ساكن المدينة.
وإذا انتقلنا من البيئة الزراعية المصرية مثلا إلى بيئة صناعية، مصرية أيضا، وجدنا اختلافا في الأخلاق والعادات والآراء والعقائد بين أفراد البيئة الأولى وبين أفراد البيئة الثانية.
ذلك لأن حرفتنا التي نرتزق بها هي جزء كبير من معيشتنا. وهي تكيف معيشتنا. وكلنا يحس وهو في الريف أن حرفة الفلاح هي معيشته، وأن معيشته هي حرفته؛ لأن بيته، مثل حقله، هو مكان إنتاجه.
والأدب يتبع أيضا بيئتنا الاجتماعية التي تنبني على أسس من البيئة الاقتصادية، فحيث تكون الزراعة على الأسلوب المصري وسيلة الإنتاج، يكون الأدب محافظا بل جامدا «جمود الفلاحين» ويكره التطور. ولا يؤمن الأديب بحرية المرأة، أو بحق الشعب في الحكم الديمقراطي، أو بسائر الآراء العصرية التي ترد إلينا من بيئات اجتماعية أوروبية نهضت على أنماط أخرى من النظم الاقتصادية. ولذلك نجد في مصر أن النزعة الكلاسية تغلب على الرومانتية، فنحن نكتب بلغة كلاسية اتباعية ونحن إلى القديم في الأدب، ونكتب عن أبطاله، ونكره الابتداع؛ لأن استقرار الوسط الزراعي عندنا قد انعكس في استقرار الآراء والعقائد في الأدباء عندنا. وقد كان المجتمع العربي أيام العباسيين زراعيا أيضا، فكان الأدب تقليديا، دينيا، قرويا (من حيث الاستسلام للقدر وضيق الآفاق) ولم تظهر فيه أي نزعات رومانتية ابتداعية إلا القليل جدا.
ثم انظر إلى الأدب في أوروبا وأمريكا الآن، فإن المجتمعات التي تعيش في طرز من الإنتاج الصناعي قد استحدثت طرزا من الثقافة العلمية تلائم هذا الإنتاج. هذه الثقافة العلمية التي لا يكاد يحتاج إليها وسط زراعي. ولذلك تجترئ شعوب هاتين القارتين وتقتحم المستقبل ولا تستسلم للقدر. وقد أحدثت الأزمات الاقتصادية التي نشأت من الإنتاج الآلي للمصانع أزمات نفسية انعكس أثرها في الأدب الأوروبي الأمريكي، فكان التقلقل والدعوة إلى آراء وعقائد جديدة بشأن الحكومة، والمرأة، والعامل، والفضيلة، والرذيلة، والدين.
وعندما تنتقل الأمة من الزراعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، كما حدث في إنجلترا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في أواخره، نجد صراعا بين الأدباء التقليديين (الزراعيين) وبين الأدباء المجددين الثائرين (الصناعيين)؛ إذ يدعو الأولون إلى الاستمساك بالقديم في قواعد اللغة والتفكير، والإيمان، والعادات الاجتماعية، ويدعو الثانون إلى الابتداع والتغيير في كل شيء تقريبا. وتنتهي الغلبة بالطبع للثانين؛ لأن هؤلاء الثائرين يدعون إلى مقاييس جديدة للأخلاق، وإلى حريات جديدة للمجتمع. وكلتاهما، المقاييس والحريات، إنما دعا إليها تغير الإنتاج من الزراعة إلى الصناعة. بل من الصناعات اليدوية الصغيرة إلى الإنتاج الآلي العظيم.
وبين هذين الفريقين يقف فريق يبالغ في جموده، أو هو يفر من الواقع فيرتد إلى التاريخ القديم وكأنه يسير القهقرى نحو المستقبل. ونحن في مصر نرى كثيرا من أدبائنا قد يئسوا من مواجهة الحاضر والمستقبل ووجدوا في الحضارة العصرية ما يبعثهم على القلق ويثير فيهم المخاوف، فعمدوا إلى تاريخ العرب قبل ألف سنة يؤلفون عن أبطالهم ويدعون إلى التمثل بهم. وقد رأى الإنجليز مثل ذلك أيضا في كل من «تشسترتون» و«بيلوك» و«أرسكين» الذين دعوا إلى العودة إلى القرون الوسطى، ولكنهم بالطبع فشلوا وتغلب عليهم أولئك الأدباء الذين بصروا بالقوات الاقتصادية الجديدة التي غيرت المجتمع ودعت إلى أخلاق جديدة تلائم هذا التغير.
الرجعيون الثائرون
ساد الوسط الاجتماعي في القرن التاسع عشر في إنجلترا روح مادي يدفع بالناس إلى التكالب على جمع المال. وقد بعث هذا الروح انتشار الآلات وقيامها مقام الأيدي، فسهل بذلك جمع المال بتراكم الأرباح، وقيام المصنع الكبير الآلي مقام عشرات بل مئات المصانع الصغيرة اليدوية.
فإلى القرن التاسع عشر كانت الصناعات لا تزال في أيدي الصانعين، كل صانع يستقل بمصنعه، فهو نفسه عامل وصانع، فهناك طبقة كبيرة من العمال لا تملك سوى الأجور، وطبقة أخرى صغيرة من الممولين تملك المصانع الضخمة. وكانت الصناعات أشبه أو أقرب الأشياء إلى الفنون كما هو الحال إلى الآن في النجارة؛ فالنجار - المصري على الأقل - هو فنان كما هو صانع، يتأنق ويلتذ عمله وينشد منه جمالا ومصلحة. ولكن العامل في المصنع الآلي الكبير الذي يضم بين جدرانه نحو مائة أو ألف عامل لا يمكنه أن يمزج بين الفن والصناعة؛ لأنه يختص بجزء من العمل، كأن يقنع بصنع الكوتشوك من الأتومبيل، أو بدهنه بالطلاء، أو فرشه وتنجيد مقاعده أو نحو ذلك. فإذا قابلنا بينه وبين النجار ألفينا هذا الثاني خالقا يبتكر ويخرج من بين يديه شيئا تاما وله مادة أصلية، فما يزال به حتى يخرجه خلقا سويا قد انطبع بشخصيته، فالعامل هنا فنان يحب عمله ويلتذه وهو يرقى به. ولكن العامل في المصنع الكبير لا يصنع سوى جزء صغير من السلعة التي يقتسم صنعها العمال جميعا، فهو عامل لا أقل ولا أكثر، وهو أشبه بالآلة منه بالإنسان.
روسكين.
ولم تكن الصناعة اليدوية تؤذن بتراكم المال في أيد قليلة كما هي الحال الآن في الصناعات الآلية التي جمعت رءوس الأموال في طبقة من الممولين وجعلت جميع الصناع عمالا مأجورين.
وكان القرن التاسع عشر، أو العصر الفكتوري، في إنجلترا قرن الانتقال من الصناعات اليدوية إلى الصناعات الآلية. وهذا الانتقال نجده الآن على أشده يوشك أن يتم ويبلغ أوجه في الولايات المتحدة التي يصنع أحد مصانعها نحو عشرة آلاف أتومبيل في اليوم. وهذه الولايات المتحدة هي الرائدة الآن للعالم كله في هذا الاتجاه وفي إيجاد حضارة صناعية تمحو ما قبلها من حضارات زراعية أو يدوية.
وفي كل انقلاب نجد فريقين، فريق السلفيين الآسفين المتشبثين بالماضي، ونحن نسميهم رجعيين أو جامدين إذا كنا نكرههم، وفريق الراغبين في الحال الجديدة الداعين إليها، ونحن نسميهم المجددين إذا كنا نحبهم. أما إذا كنا نكرههم، فإننا عادة نتهمهم بالإلحاد، والإباحية، والمادية، والهوس.
وهذا هو ما وقع في إنجلترا في أواخر القرن الماضي، فقد ظهر أدباء يدعون إلى النزوع إلى التجديد وآخرون يدعون إلى الاستمساك بالقديم. ونحن هنا نقصر الكلام على اثنين من عظماء الرجعية في إنجلترا هما «جون روسكين» و«وليم موريس».
وكلاهما أفاد بثورته على روح التجديد في القرن التاسع عشر؛ لأنه أوضح أضرارا كادت تخفى على الناس من حيث انتشار الروح المادي وتغلب الصناعة على الفن، وإيثار السرعة على الإتقان. وقد أخذ كل منهما في دعوة الناس إلى إيثار المصنوعات اليدوية على المصنوعات الآلية، وكراهة العلم وتقبيح النهضة الأوروبية العلمية وامتداح القرون الوسطى. وأخلص كل منهما لدعوته إخلاصا عظيما هو السبب الأساسي للفائدة التي جناها وما يزال يجنيها الناس من مؤلفاتهما بل من حياتيهما.
لما بلغ «روسكين» شبابه وجد في لندن جماعة تدعى «أخوية الداعين إلى ما قبل رفائيل» وهم جماعة من الرسامين عمدوا إلى النهضة الأوروبية فقبحوها، وطعنوا في العلم، ودعوا الفنانين إلى إيثار الروح الديني للقرون الوسطى. ولم يأتوا بطائل فتشتتوا، ولكن دعوتهم كانت بذرة لقح بها ذهن «روسكين».
وقد لا يكون بين كتاب الإنجليز من أحسن الكتابة بهذه اللغة مثل هذا الرجعي العظيم «روسكين» فقد جمع ما في اللغة من رقة وحلاوة وجمال فحواها في أسلوبه. وما تقول في رجل يصفه عدو له بالجنون (هو ماكس نورداو) ثم يعترف له بأنه يمكنه أن يصف السحاب في خمسين أو مائة صفحة يقرؤها القارئ فلا يسأمها بل يطلب المزيد.
ترك «روسكين» بلاده ورحل إلى البندقية، مدينة القرون الوسطى، وهناك ألف كتابه «أحجار البندقية» الذي يقول فيه: «إن البناء القوطي في البندقية هو ثمرة الإيمان الطاهر والفضيلة العائلية.»
وأيضا: «إن البناء الحسن هو التعبير الظاهر عن الحال السليمة للمزاج وعن الشعور الأخلاقي.»
ثم يمضي بعد ذلك في نثر رائع فخم فيشرح جميع الأعمال الفنية مدة النهضة؛ أي عقب القرون الوسطى، ويصفها بأنها ثمرة الغدر وفساد الأسرة وسقوط الأخلاق.
وهذا كله هراء بليغ، فإن البناء أبعد الأشياء عن الدلالة على الأخلاق. وهذه مباني المماليك في القاهرة، فإنها من الفخامة والجمال بحيث تناقض الحياة الإجرامية التي عاشها كثير من هؤلاء. وتاريخ البندقية التي ما تزال قصورها القديمة قائمة، هو تاريخ الدسائس الدموية، والسفالات العظيمة التي ارتكبها أصحاب هذه القصور. وإنما كره «روسكين» النهضة لأنها كانت الأصل في الروح العلمي الذي ساد أوروبا وأخذ مكان الروح الديني. وكان رجلا متدينا لا يطيق النزعات الجديدة التي تكتسح كل ما أمامها، فلم يكن في وسعه سوى السباب. وهو سباب أنيق يسمع له الناس؛ لأنه يتأنق في عبارته، ثم يغضون لهذا التأنق عن سخافاته، فلقد بلغ به السخف ذات مرة أن علل الكوارث التي تقع فيها بريطانيا بسخط الله عليها.
ولكن «روسكين» كان مخلصا في دعايته، يحض الناس على التمسك بالدين، وكراهة المصنوعات الآلية، والرجوع إلى الصناعة اليدوية، والابتعاد من الروح المادي. ورث نحو 150000 جنيه من والديه فحرمها على نفسه ولم ينفق منها مليما، ووقفها على الأعمال الخيرية وعاش قانعا بما يجنيه من قلمه. واتجه نحو الاشتراكية، أو بالأحرى الميول الاشتراكية، فأسس كليات للعمال في الجامعات، ورفع من شأن العمل حتى كان يأخذ الطلبة من أبناء الأغنياء فيؤلف منهم فرقا لتعبيد الطرق.
ومهما قلنا في «روسكين» وانتقصنا من قيمة الحملة التي حملها على الروح الحديث فإننا يجب أن نعترف بأنه يحسن التفكير حين ينتقص لنا من شأن السرعة. وإننا مثلا عندما نركب القطار نستفيد سرعة فقط، بينما نحرم فوائد السفر والتفرج التي نجنيها من الجواد أو من العربة التي تجرها الجياد، فهنا شيء للتفكير. وخاصة في هذه الأيام حيث أخذت الطائرة مكان الأتومبيل والقطار، وحيث تنذرنا بالسفر في السكائك وليس على الأرض.
أما «وليم موريس» الرجعى العظيم الآخر، فإن جهاده أبقى وأثره أعظم، فإنه لقح الصناعات بالفنون. وكان هو و«روسكين» سواء في كراهة الآلات، ولكنه كان يمتاز على «روسكين» بأنه يرى الواقع ويسلم به ويقنع بإصلاحه؛ فقد كان في ذات نفسه، مثلا، يحب خط اليد ويؤثره على حروف الطبع ولكنه كان يرى آلة الطباعة شيئا واقعا لا فرار منه، فكان يقنع بأن يكتب حروفا جميلة يسبكها ويقدمها لآلات الطبع فتتحسن الطباعة. وكان يرى أن الروح المادي يطغى فيحمل البنائين على أن يبنوا المنازل من أسخف المواد ويزينونها بالبهرج من الأثاث، فصار هو نفسه يصنع الأثاث. وألف شركة لهذه الغاية لا تزال حية إلى الآن، غايتها الجمع بين الفن والصناعة، أو الجمال والتجارة. ولهذا الرجعى أثره الجميل في صناعة الآنية والسجاجيد وورق الجدران.
وحارب الروح المادي بأن صار اشتراكيا طوبويا، يؤلف بل يبيع بنفسه الكتب والرسائل الاشتراكية على قوارع الطرق. والاشتراكية الطوبوية هي اشتراكية الأماني والأحلام التي سبقت الاشتراكية العلمية الماركسية التي تنهض على وفرة الإنتاج الآلي.
والآلة مع كل ذلك منتصرة، تطغى علينا وتسوقنا بل تدفعنا دفعا عنيفا لا ينجح في وقفه مثل «روسكين» أو «موريس» اللذين قاوما تيار التطور عبثا، ولكنهما نجحا في تنبيهنا إلى وجوب العناية بالفن وتلقيح الصناعات الآلية به.
بواعث التجديد
تبعث على التجديد بواعث كثيرة، ويصيب التجديد ميادين النشاط البشري جميعها سواء أكانت ثقافية أم حضارية.
فقد يهتدي الذهن البشري إلى فكرة جديدة تكشف عن المغزى لطائفة من المعارف بحيث تجعل المعرفة الميتة ثقافة، كفكرة التطور مثلا اهتدى إليها «داروين» فكانت وما تزال نظاما انتظمت به المعارف البيولوجية، فمن هنا يعد «داروين» مجددا في البيولوجيا كما يعد «فرويد» مجددا في السيكولوجيا؛ لأنه اهتدى إلى فكرة «الكامنة» أو العقل الكامن. أو كما يعد «ولسون» مجددا في السياسة لأنه اهتدى إلى فكرة عصبة الأمم.
ويصيب التجديد الحضارة كما يصيب الثقافة، فحياتنا الحضارية في مصر قد تجددت في نصف القرن الماضي بأكثر مما تجددت ثقافتنا؛ وذلك لأننا اصطدمنا بظروف جديدة اضطرتنا إلى اتخاذ الحضارة الغربية والتسليم بها، فنحن ننتقل بالقطار والأتومبيل، دون الجمل أو الحمار. ونحن نؤسس المؤسسات في التعليم والقضاء والبريد والإدارة على غرار الأنظمة الأوروبية دون الأنظمة التي ورثناها من العرب أو من الشرق. ونحن في كل ذلك مجددون لا يكاد يوجد بيننا رجعي يقول بأفضلية الجمل على القطار، أو خطة الالتزام القديمة في جباية الضرائب على الخطة الحاضرة في فرض الضرائب.
وأعظم ما يبعث على التجديد هو تبدل الوسط، فإذا فرضنا مثلا أن جزيرة العرب قد حدث لها تبدل فجائي فانتقلت من اليبس والجفاف إلى البلل والمطر، واستحالت صحراؤها القاحلة أرضا زراعية، فإننا ننتظر من العرب عندئذ أن يقلعوا من البداوة والرحلة ويأخذوا بأساليب الزراعة والإقامة. ومن يفعل منهم ذلك يعد مجددا ومن يجمد ويلزم البداوة يعد رجعيا لا يستجيب للوسط الجديد.
فالثقافة التجديدية في مثل هذه الحال يجب أن تدعو إلى الأخذ بالزراعة وتعلم أساليبها والنزول على أخلاقها، وهجران البداوة والإقلاع عما بقي منها في المعيشة والأخلاق.
وقد حدث في القرن التاسع عشر في إنجلترا ما يشبه هذا الانتقال، فإن الحضارة الزراعية أخذت تتراجع وتتقلص بينما الحضارة الصناعية كانت تأخذ في التوسع والغارة عليها. وهذه الحضارة الصناعية هي حضارة الآلات، وما تستتبع من تبدل في المعيشة والأخلاق. وهذا الانتقال كان يدق على أفهام الناس، لا عامتهم فقط، بل خاصتهم أيضا. وكان هناك قليلون يفهمونه ويدركون مغزاه ويكرهونه ويقاومونه مثل «جون روسكين» و«وليم موريس»؛ إذ إن كليهما دعا إلى ترك الآلات والرجوع بالناس إلى العصور الوسطى والقناعة بالعمل اليدوي.
وقد قلنا إن هذه الحضارة الصناعية كانت تغير على الحضارة الزراعية مدة القرن التاسع عشر. وهي ما تزال إلى الآن في هذه الغارة لما تتم لنفسها النصر، فالدعوة التجديدية القائمة الآن في إنجلترا، كما نفهمها من مؤلفات «برنارد شو» أو «ه. ج. ولز» أو كما نراها أحيانا على أبلغها في مؤلفات «برتراند روسل» تدعو إلى أن نستبدل من ثقافتنا بمثل ما استبدلنا من حضارتنا؛ لأن أحماض العلم قد أذابت العقائد القديمة وزعزعت الاستتباب النفسي الذي كان يسود في العصر الفكتوري، فيجب لذلك أن نأخذ بمنطق جديد يتفق ومبادئ الحضارة الجديدة، ولا نرسف في أغلال التقاليد وندفن عقولنا في الماضي. وهؤلاء الكتاب وكثير غيرهم قد جعلوا من أدبهم وسيلة لأن نعمد إلى معيشتنا وأخلاقنا فننفتح فيهما بما يوافق العصر الجديد عصر العلم والآلات والمادية.
ولننظر الآن في الوسط الزراعي وما يقتضيه. ثم نعود إلى الوسط الصناعي فنبحث وجوه الفرق بينهما وهي الوجوه التي أخذ أدباء إنجلترا المجددون في شرحها وحث الإنجليز على اعتمادها دون سواها.
فقد كان الناس إلى القرن التاسع عشر يعيشون على مبادئ الحضارة الزراعية، وكانت الصناعات يدوية، العامل فيها أشبه بالمالك منه بالأجير، والمدن صغيرة كأنها القرى، والانتقال بطيء لا يساعد على انتشار المصنوعات، وتراكم رءوس الأموال في بقع معينة هي المصانع الحديثة والمدن الكبيرة. ولمثل هذه الحضارة أخلاق تلازمها هي الأخلاق التي ما زلنا نراها عندنا مثلا حيث لا يجوز للمرأة أن تستقل وتعمل لحسابها الخاص، وحيث الإيمان بالقضاء والقدر على أقواه، وحيث الديمقراطية اسم بلا مسمى، وحيث نرى العقائد والتقاليد تأخذ مكان الرأي والاستنباط، والنزول على العرف مكان الاستقلال والانفراد. وحيث تحترم الرابطة العائلية وتوضع فوق كل اعتبار، وحيث للدين الحرمة الأولى في تفكير المفكرين.
كانت هذه حال إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر. ولكن رويدا رويدا أخذت الصناعة تطارد الزراعة، والمدن تجذب إليها السكان فيهجرون القرى والريف، والصناعات اليدوية تموت، ويحتشد العمال في المصانع الكبيرة. وأخلاقنا هي ثمرة الوسط الذي نعيش فيه، وهي تبع للأحوال الاقتصادية التي تلابسنا. ومن هنا نشأ النزاع بين الأخلاق التقليدية القديمة وبين الوسط الصناعي الجديد. ومن هنا ظهر التصادم بين المحافظين الذين كانوا يرغبون في الأخلاق القديمة، فيطلبون من المرأة أن تكون زوجة فقط، ومن الأولاد طاعة الآباء والارتباط بهم، ومن الفقراء القناعة بالفقر، ومن المفكرين النزول على العقائد الدينية والتسليم، وبين المجددين الذين كانوا يرغبون في أخلاق جديدة توافق البيئة الصناعية الجديدة. وهي أخلاق تدعو المرأة أن تكون لها شخصية مستقلة تعيش لنفسها أولا فترقى وتستمتع، ثم إذا أرادت بعد ذلك فلتكن لزوجها وأولادها وأمتها. كما تدعو العامل أن يواجه الوسط الصناعي الجديد بنظام جديد يحقق له الاشتراك في الحكم والإنتاج هو النظام الاشتراكي ، بل كما تدعو المفكرين إلى النزول على مبادئ العلم والتسليم بنظرياته دون التسليم بالعقائد الموروثة أو العرف الاجتماعي. وإذن احتاج المجددون إلى المصارحة وإظهار الجمهور البريطاني على عيوب العرف والأخلاق القديمة والدعوة للأخلاق الجديدة. وأصبح الأدب الإنجليزي اجتماعيا في نزعته، يحاول الأديب أن يبتكر عن سبيله القيم الجديدة للأخلاق كي يلائم بين البيئة الصناعية وبين معايش الناس.
هذه هي المهمة التي أخذ الأدباء الإنجليز في تأديتها للجمهور الإنجليزي، وما زالوا في سبيل التأدية إلى الآن.
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
تجمع بين الأقطار الأوروبية جامعة من الحضارة والثقافة. وهي جامعة تربطها في العموميات من المزاج والنزعة، إذ هي تشترك في تراث الحضارة الرومانية والثقافة اللاتينية والإغريقية وقد كانت جميعها أيام القرون الوسطى أمة واحدة تدين بالمسيحية وتكتب باللاتينية، وإن تعدد الأمراء الحاكمون.
ولكن لكل واحد من هذه الأقطار سماته الخاصة التي تميزه من الأقطار الأخرى في حضارته وثقافته، فالنزعات السائدة الآن في الأدب الفرنسي تختلف جد الاختلاف عن النزعات السائدة في الأدب الإنجليزي. ويشتد هذا الاختلاف أحيانا حتى لنسمع من بعض المصريين الذين تثقفوا بالأدب الفرنسي أن الإنجليز لا يعرفون الأدب. وهو إنما يزعم ذلك لبعد الشقة واختلاف العطر والنكهة بين الأدبين، ولأنه يجد في أدب الإنجليز غير ما ألف وتعود في أدب الفرنسيين. وليس هذا الاختلاف غريبا إذ هو يدل على الحيوية والاستقلال عند الأمم الأوروبية المختلفة، من حيث إن كل أمة تنزع إلى مثلياتها وتتخذ طرقا خاصة دون أن تأبه لما عند غيرها من هذه المثل والطرق فتحتذيها.
ولكن التفاعل لا ينقطع مع ذلك، فإن الأفكار تتلاقى وتتصارع ويحدث منها الامتزاج أو التنافر. وقد تأثر الأدب الإنجليزي لهذا السبب بالنزعات الأدبية في أوروبا، وإن كان هو في الأرجح أقل الآداب الأوروبية تأثرا بغيره. ونحن نجد في الأدب الجديد ثلاثة رجال لهم الأثر الأكبر في التفكير عامة وفي الأدب خاصة عند الإنجليز.
وأول هؤلاء هو «برجسون» الفرنسي، فإن له أثرا واضحا في تجديد الأفكار الدينية والمذاهب الداروينية، فقد استطاع أن يؤثر في العالم الأدبي، وكادت طعنته أن تكون الطعنة النجلاء التي وقف دونها المادي حائرا، إن لم نقل مهزوما. وإيمان «برنارد شو» يكاد يكون كله منقولا عن «برجسون» الذي يقول إن الحياة هي الخالقة، وإنها في صراع مستمر مع المادة، وإنها دائبة في التطور. وإذا كان هناك شيء من التجديد الديني الغيبي الآن، أو إذا كان ينتظر شيء منه في المستقبل، فإنه لن يعدو هذه الأفكار البرجسونية.
وثاني هؤلاء الأجانب هو «فرويد» النمساوي فقد انسلت نظرياته إلى الأدب الإنجليزي، وأصبح «العقل الكامن» موضوع الأدباء الجدد مثل «لورنس» و«جويس» وغيرهما. وعماد الأدب الجديد الذي أعقب الحرب الكبرى هو التحليل النفسي والعقل الكامن.
أما ثالث هؤلاء فهو «إبسن» وهو بلا شك أعمقهم أثرا في الأدب الإنجليزي بل الأدب الأوروبي، وخاصة أدب الدراما، فإن «برنارد شو» نشأ عليه وشدا منه وبنى لنفسه شهرته الأولى على طريقته. والدرامة الإنجليزية كلها تعترف لإبسن بالأثر الكبير وتخطو في سبيله، وتتخذ طريقته كلما استطاعت ذلك؛ ولذلك يحسن بنا هنا أن نلم بطرف من حياته ومؤلفاته.
كان «إبسن» كاتبا نروجيا، التحق بالتمثيل واحترف إدارة أحد المسارح، ثم رحل عن بلاده إلى ألمانيا حيث عاش سائر عمره يؤلف للمسرح النروجي، فتترجم جميع مؤلفاته إلى اللغات الحية في أوروبا، فتبعث الحياة للمسارح وتجعل الدرامة موضوع المناقشة بين الأدباء، بل بين الصحفيين والجمهور. وقد استطاع «إبسن» أن يجعل المسرح بدراماته ميدانا للأفكار والآراء، لأنه خص الدرامة بغاية لم تكن تعرفها، هي البحث الاجتماعي ونقد العادات والأخلاق والسياسة. وقد سبق أن تناول «موليير» هذه الأبحاث في فرنسا في القرن الثامن عشر، ولكن الذين خلفوه في فرنسا، بل في أوروبا، لم يستأنفوا عمله ولم يتجهوا نحو غايته فبقيت الدرامة راكدة لا تنتعش، قد انقطعت عن الحياة أو كادت، فلما جاء «إبسن» أعاد لها هذه الصلة وجعل المسرح ميدانا لنقد المعايش وبحث الأخلاق. وكانت كل دراما من دراماته «مسألة» اجتماعية تحتاج إلى الحل.
والدرامة الإبسنية هي قصة عائلية، تحتوي مشكلة وتنتهي بالرجاء أو اليأس. وغاية المؤلف في جميع دراماته أن يكون لأبطاله «شخصية»، فهم ينتحرون إذا لم يستطيعوا تحقيق هذه الشخصية أو هم يتركون لهذه الغاية أهلهم وأولادهم.
ولننظر في إحدى دراماته نظرة إلمام كي نقف منها على الغاية التي رمى إليها؛ ففي «بيت عروس» نجد زوجة تحب زوجها حبا عميقا، ويبدو لها من مسلك زوجها أنه هو أيضا يحبها. وقد دفعها هذا الحب إلى أن ترتكب جريمة التزوير كي تحصل على مبلغ من المال تقدمه لزوجها حتى يرحل عن المدينة ويستطيع التعالج في جو أوفق. وتنوسيت هذه الجريمة التي لم يكن زوجها يعرف عنها شيئا، ولكن شخصا آخر كان يعرف هذا السر المؤلم وقد استطاع أن يهدد به هذه الزوجة.
ويقف الزوج على السر فيغضب، وهو في غضبه لا يذكر سوى نفسه والعار الذي سيلحقه من فضح هذه الجريمة التي ارتكبتها زوجته. يذكر نفسه وكرامته وشرفه ولا يذكر شيئا من ذلك عن زوجته. ويريد «إبسن» أن يقول إن الزوجة هي «عروس» يلعب بها الزوج وأنها ليست رفيقته. وقد يكون في تصويره بعض المبالغة، ولكن ليس هناك شك أيضا في أنه قد وضع للمتفرجين مسألة تستحق المناقشة والحل، وهي:
هل يجب على المرأة أن تكون إنسانا أولا، أو يجب عليها قبل كل شيء أن تكون زوجة وأما؟
هذه هي المسألة التي يعمد «إبسن» إليها فيحلها، أو يوضحها، في جرأة صارخة موجعة. ومن الحوار التالي يتضح للقارئ موقف الزوجين، بل موقف الحياة العائلية بين القرنين؛ القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهذا الحوار يأتي عقب اكتشاف الزوج لجريمة التزوير التي ارتكبتها زوجته وغضبه لكرامته، ثم ارتياحه إلى أن ذلك الشخص الذي هددهما بالفضيحة قد أرسل خطابا يرجع فيه عن عزمه على فضح هذه الجريمة، وعودة الزوج «هلمر» إلى مصالحة زوجته. ولكن الزوجة «نورا» تترك الغرفة وتعود وقد استعدت لترك المنزل:
هلمر :
ما هذا؟
نورا :
لقد مضى على زواجنا ثماني سنوات. ألا يخطر ببالك أننا نحن الاثنين، زوجا وزوجة، نتحدث لأول مرة حديثا جديا؟
هلمر :
ماذا تعنين بالحديث الجدي؟
نورا :
في هذه السنوات الثمان، بل قبل ذلك منذ تعارفنا، لم نتبادل الحديث عن موضوع جدي.
هلمر :
وهل كان من الممكن أن أخبرك كل يوم عن همومي التي لم تكوني تستطيعين مساعدتي على تحملها؟
نورا :
لا أتكلم عن هموم العمل، إنما أعني أننا لم نقعد معا مرة كي نتحدث في جد ونصل إلى الأصول والأعماق.
هلمر :
ولكن يا عزيزتي نورا، ماذا كنت تفيدين من مثل هذا الحديث؟
نورا :
هذا إذن هو ما ظننت فيك؛ أنك لم تستطع قط أن تفهمني. هلمر، لقد ظلمت كثيرا، ظلمني أبي أولا، ثم ظلمتني أنت بعده.
هلمر :
ماذا تقولين؟ نحن الاثنان؟ نحن الذين أحببناك أكثر من أي إنسان؟
نورا (تهز رأسها) :
أنت لم تحبني قط. وكل ما عندك أنك يلذ لك أن تظن أنك تحبني.
هلمر :
ما هذا الذي أسمعه منك يا نورا؟
نورا :
هذا هو الحق أقوله لك. لما كنت ببيتنا، عند أبي، كان يخبرني عن آرائه في الأشياء فآخذها عنه. وكنت إذا اختلفت معه أنكرت أن لي رأيا آخر خشية أن يكره مني أن يكون لي رأي. وكان يدعوني باسم «العروس» وكان يلعب معي كما كنت أنا ألعب وأنا طفلة مع عروسي. وعندما جئت كي أسكن في دارك ...
هلمر :
ما أغرب هذا التعبير الذي تعبرين به عن زواجنا!
نورا :
أعني أني أخذت من يدي أبي إلى يديك. وأنت شرعت ترتب كل شيء كما تهوى وكما يشاء ذوقك. وأخذت أنا عنك هذا الذوق، أو ادعيت أني أهوى ما تهوى، ولست أعرف أيهما فعلت، أو لعلني فعلت هذه المرة، وذاك مرة أخرى. وعندما أراجع نفسي أراني كأني قد عشت هنا كأني امرأة مسكينة لا أملك شيئا. أجل، لقد عشت أؤدي لك الحيل لأنك ترغب في ذلك. لقد جنيت أنت وأبي علي. وإليكما أنتما الاثنين أعزو هذه الحال، وهي أن حياتي هباء لا قيمة لها.
هلمر :
أي شيء أبعد عن العقل من هذا الكلام؟ ما أقل شكرانك، ألم تكوني سعيدة هنا؟
نورا :
لم أكن سعيدة، وإنما كنت مرحة فقط، وكنت أنت تلاطفني، ولكن بيتنا هذا لم يكن سوى ملعب، فقد كنت لك زوجة تلعب بها، كما كنت عند أبي طفلة يلعب بها، وكما أصبح أطفالي لعبتي بعد ذلك. وكما كنت أطرب عندما كنت تلعب معي، كذلك كان يطرب الأطفال عندما كنت ألعب معهم. وهذا زواجنا ...
هلمر :
أنت مصيبة في بعض ما قلته - مع ما في قولك من المبالغة - ولكن سيكون المستقبل غير الماضي. سينتهي اللعب، ثم تبدأ الدروس.
نورا :
أي دروس؟ دروسي أم دروس الأطفال؟
هلمر :
دروسك ودروس الأطفال يا عزيزتي نورا.
نورا :
ولكنك للأسف لست الرجل الذي يستطيع تربيتي كي أكون الزوجة الحقة له.
هلمر :
وتقولين هذا؟
نورا :
ثم أنا، كيف أستطيع أن أربي الأطفال؟
هلمر :
نورا!
نورا :
ألم تقل وقت غضبك أنك لا تثق بي لتربية الأطفال؟
هلمر :
وقت الغضب نعم، وكيف تهتمين بذلك؟
نورا :
ولكن الواقع أنك كنت محقا لأني غير كفء لهذا الواجب. وعلي أنا واجب يجب أن أقوم به أولا، هو أن أجتهد وأربي نفسي. ولست أنت الرجل الذي يمكنه مساعدتي في ذلك، فعلي أن أقوم بنفسي بهذا العمل، وهذا هو السبب الذي يدعوني لأن أتركك الآن.
هلمر (يهب واقفا) :
ما تقولين؟
نورا :
يجب أن أقف وحدي وأعتمد على نفسي إذا كنت أريد أن أفهم نفسي كما أفهم كل شيء حولي، ولهذا لا يمكنني أن أبقى معك بعد ذلك.
هلمر :
نورا، نورا!
نورا :
سأخرج الآن من البيت.
هلمر :
تتركين بيتك، وزوجك، وأولادك، ولا تبالين ما سيقوله الناس عنك؟
نورا :
لا أبالي ما سيقوله الناس، إنما أفعل ما أراه ضروريا.
هلمر :
هذا عجيب، أهكذا تهملين أقدس الواجبات؟
نورا :
وما هي أقدس واجباتي؟
هلمر :
وهل أنت في حاجة إلى أن أخبرك؟ أليست هي واجباتك نحو زوجك وأولادك؟
نورا :
عندي واجبات لا تقل عنها قداسة.
هلمر :
أي واجبات هذه؟
نورا :
واجباتي نحو نفسي ...
هلمر :
أنت زوجة وأم قبل كل شيء.
نورا :
لست أصدق هذا الآن؛ لأني أعتقد أني إنسان قبل كل شيء كما أنت إنسان. أو على الأقل يجب أن أجتهد حتى أصير إنسانا. وإني أعرف أن معظم الناس يؤيدونك في رأيك، وأن مثل رأيك هذا يقال به في الكتب، ولكني لن أقنع بعد الآن بما يقوله الناس ... أو بما تقوله الكتب ... إذ يجب علي أن أفكر بنفسي، وأفهم.
هذا شيء من الحوار الذي يدور بين الزوجين. وهو كما يرى القارئ ينتهي بامرأة، هي زوجة وأم، بأن ترفض الزوجية والأمومة كي تبدأ بتربية نفسها حتى تكون إنسانا.
ولكن كيف يكون ذلك؟
إن الدرامة تنتهي بإيصاد الباب بعد خروجها. ولكن إلى أين تذهب «نورا»؟ وما هو برنامجها في تربية نفسها؟
ستذهب بلا شك إلى أحد المصانع أو المكاتب كي تتعلم وتعمل وتكون لنفسها شخصية جديدة كانت إلى الآن فانية في الزوج والأولاد. ولا بد أنها ستلقى المصاعب وتكابد المشقات في هذا الطريق الوعر الجديد، ولكن هذه الشخصية التي تنشدها لن تتربى إلا بهذه المصاعب وبما تتعلمه من الفشل والنجاح.
وهذه هي المرأة الأوروبية الجديدة. و«إبسن» هو لذلك حجر الزاوية في الأدب الأوروبي الجديد، وخاصة الأدب الأمريكي والإنجليزي. و«نورا» التي كانت خيالا وأملا يتحرك على المسرح في 1890 هي الآن حقيقة، نرى من أشباهها الآلاف في لندن، ونيويورك، وبرلين، كما نرى أن المسرح، بها وبأمثالها، قد أصبح مدرسة لدرس الحياة.
وقد ألف «جرانت ألين» الأديب الإنجليزي قصة «المرأة التي فعلت» على هذا النمط؛ أي إن بطلة القصة امرأة ترفض الزواج الذي يحرمها من استقلالها، ثم تعيش كادحة تعمل وتكسب فتربي شخصيتها وتصون حريتها. وهو بالطبع كان متأثرا بدراما «بيت عروس». وقد ألف «فكتور مرجريت» الأديب الفرنسي المعروف قصة «الفتاة الغلامية» متأثرا أيضا بالغاية التي رمى إليها «إبسن».
والمرأة الأوروبية عامة، والمرأة الأمريكية والإنجليزية خاصة، قد أصبحت تتجه نحو استقلالها وتكوين شخصيتها كما تتجه نحو الزواج والعائلة؛ نعني بذلك أن استقلالها لم يمنعها من الزواج وإنما رفعها من الأنثوية إلى الإنسانية.
اثنان من الرواد
ليس من الممكن أن نذكر جميع الأدباء الذين ساهموا في حركة التجديد الإنجليزي. وكل ما نستطيعه أن نذكر الأعيان. وقد يكون في الترجمة المفصلة المسهبة لواحد من هؤلاء الأعيان ما يبصر القارئ بالنزعات التجديدية، ويقفه على أسبابها، أكثر مما يكون في إيراد التراجم المختصرة، وسرد الأسماء والمؤلفات.
ولكن الاقتصار على ترجمة أو ترجمتين، مع ما فيه من الفائدة إذا عمدنا إلى الإسهاب والاستيفاء، لا بد أن يرافقه نقص في الإحاطة بجملة المجددين. وهو نقص نضطر إليه على سبيل التضحية.
فلا بد ونحن نذكر الحركة التجديدية أن نهمل «دكنز» و«سونبرن» و«أوسكار وايلد» وأمثالهم من رجال العصر الفكتوري الذين ساهموا بالقليل أو الكثير في الحركة التجديدية. والشعور بالتضحية يشتد هنا عند ذكر «دكنز»، فإن هذا الكاتب العظيم استجاب للوسط الصناعي الجديد بقصته «أيام الشدة». وحسبك أن تقرأ هذا الوصف للبلدة الصناعية «كوكتاون» كي تعرف مقامه في ميدان الإصلاح الاجتماعي، وكيف أنه استطاع أن يجعل أدبه وسيلة للخدمة الإنسانية، قال:
كانت بلدة كوكتاون قد بنيت من الآجر الأحمر، أو من الآجر الذي كان يكون أحمر لولا طبقة الدخان والرماد التي تكسوه. ولكن كوكتاون كانت بهذه الطبقة بلدة تبدو بجدرانها الحمراء السوداء في ألوان غير طبيعية، كأنها وجه رجل متوحش قد طلاه بالأدهان والأصباغ.
وكانت حاشدة بالآلات والمداخن السامتة التي كانت تنساب منها ثعابين الأدخنة، يتحوى بعضها على بعض فلا نهاية لتحويها ولا افتكاك.
وكانت بها قناة سوداء، ونهر تجري مياهه حمراء بصبغة كريهة الرائحة، وكانت بها أكوام من المباني التي تملؤها النوافذ. ثم كان بها عجيج وارتجاف طوال النهار حيث كان كباس الآلة البخارية يهبط ويصعد كأنه رأس فيل قد أصابه الجنون. وكانت بها عدة شوارع كبيرة، كل منها شبيه بالآخر، يقطنها ناس كلهم متشابهون. يدخلون بيوتهم ويخرجون منها في وقت معا، ويؤدون عملا واحدا. وكان كل يوم عندهم يشبه يوم أمس ويوم غد، وكل عام يشبه السنة الماضية والسنة القادمة ...
ولم يصف أحد من الكتاب الأثر السيئ الذي أحدثته المصانع الآلية الكبيرة في المدن كما وصفه «دكنز». ومن هذه النبذة يمكن للقارئ أن يرى التفاعل بين الحياة والأدب، وكيف أن الأديب يخدم المجتمع بأدبه ويكشف عن مساوئ الصناعة. و«دكنز» من هذه الناحية يعد رائدا في الأدب الإنجليزي الجديد، وقد ترك تراثا لمن خلفه في القصص هو «القصة الاجتماعية» التي ترى على أوفاها عند «ولز». بل هذه النبذة التي نقلناها عن «دكنز» لو أنها قرئت في غير أصلها لأخطأها الناقد ونسبها إلى «ولز».
وهنا يجب أن نقف بالقارئ قليلا كي نقول إن أسمى الأمثلة من القصص أو الدرامة الإنجليزية إنما هو وسيلة لخدمة الاجتماع، وليس غاية في نفسه. وهناك مثل «ميرديث» أو «والتر باتر» أو «أوسكار وايلد» ممن نظروا إلى الفن نظرة «فرنسية» وجعلوا الجماعة غاية الأدب كما هو رأي «بودلير» أو «أناطول فرانس». ولكن هذه النظرة بعيدة إجمالا عن روح الأدب الإنجليزي، وإن كنا نعثر عليها من وقت لآخر، ونجد منها القليل من الأمثلة.
دكنز.
وقد كان «أناطول فرانس» يقول عن الأدب إنه لا يتوخى الحقائق؛ لأن توخي الحقائق إنما هو شأن العلم، أما الأدب ففن من الفنون، والقصة يجب أن تكون كالصورة أو التمثال، ليس وراءها غاية. وقد سار هو على هذا المذهب، وهو مذهب جدير بالاحترام، وإذا صدق، فكل ما نقوله عندئذ أن الأدب الإنجليزي يتجه بكل صراحة نحو العلم. والواقع أننا نجد في إنجلترا عددا كبيرا من الأدباء الذين يصح لنا أن نسميهم أيضا علماء.
ومن هؤلاء «صمويل بطلر» وهو الرائد الذي يقول «برنارد شو» إنه تعلم منه، فإنه مزج بين الأدب والعلم، وألف في القصص كما ألف في نظرية التطور. وهو يعد من الثائرين على العصر الفكتوري، من حيث تنديده بالحياة العائلية والعرف الاجتماعي والكنائس. أما في العلم فيمكن أن نرى فيه رأي «برجسون» الفرنسي، فإنه كافح «داروين» في نظره الآلي للحياة وأبى إلا أن يرى فيها - أي الحياة - قصدا تقصد إليه، بل غاية سامية تسمو إليها؛ فعند «داروين» أن الأحياء تتطور لأنها تصطدم بحوادث يموت فيها العاجز ويبقى القوي المحتال، فالتطور إذن خبط عشواء أو محض مصادفة. ولكن «بطلر» لم يستطع قبول هذه النظرية وأبى إلا أن يؤمن بأن في الحياة حكمة ترشد الأحياء نحو غاية سامية قد لا نستطيع نحن أن نعيها من الآن، لكن يمكننا أن نلمحها من سيادة الإنسان على سائر الكائنات. بعبارة أخرى نقول إن «داروين» مادي في تفسيره للتطور أما «بطلر» و«برجسون» فروحيان، يؤمنان بالقصد والغاية في الحياة.
أما قصص «بطلر» فمكتسبة من اعتباراته؛ ولذلك ننقل عنه هذه النبذة التي كتبها عن والده:
لم يحبني كما أني لم أحبه. ولم أذكر وقتا لم أكن أخشاه وأكرهه، وكم من مرة كنت ألين وأقول لنفسي إنه رجل طيب لا بأس به، ولكنني لا أكاد أفعل ذلك حتى يعود فيصدمني ويملأ نفسي مرارة نحوه. ولست أشك في أني سلكت معه مسلكا يبعثه على الاستياء مني كما أني لست أشك في أني ارتكبت معه ذنوبا كثيرة. كما أني لست واثقا من أن أخطاءه كانت أكثر من أخطائي. ولكن الواقع، بصرف النظر عن هذه الأخطاء، أني بقيت سنوات طويلة لم يمر بي يوم إلا وكنت أفكر فيه مرات، وأرى فيه الرجل الذي يقف ضدي ويري الجانب السيئ بدلا من الجانب الحسن في كل ما أقول أو أعمل.
هذا الوسط العائلي هو الذي حاربه «بطلر» بقصته «طريق اللحم» وهو الذي حاربه بعد ذلك «برنارد شو»؛ أي تلك العائلة الإنجليزية التي كانت تتسلط على الشاب والفتاة وتستبد بهما وتعوق حريتهما.
والشاب أو الفتاة سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة هما الآن أكثر فتيان العالم استقلالا عن الأسرة. ومن المبالغة أن نقول إن هذا الاستقلال يعزى إلى الأدب؛ لأنه في الحقيقة يعزى إلى الوسط الصناعي الجديد الذي جعل المرأة تعمل في المصنع أو المكتب وتستقل بمعاشها عن أهلها، ولا تكاد لذلك تبالي طاعة الأبوين. وكذلك هو يعزى إلى وفرة الملاهي الجديدة مثل الأتومبيل والسينماتوغراف. وكلاهما عمل لتفكيك الأسرة الإنجليزية. ولسنا نجد الآن أبا يشبه ذلك الذي نكب به «صمويل بطلر»، فإن مؤلفات «بطلر» تدلنا على مقدار الجمود في ذلك العرف الاجتماعي أو الأخلاق الإنجليزية مدة العصر الفكتوري، وهو عرف كان يفشي الشقاء في الأسرة.
ولقد ذكرنا هنا «دكنز» وكيف سخط على الوسط الصناعي الجديد ووصفه أدق وصف وأبشعه. ثم ذكرنا «صمويل بطلر» وكيف كره الحياة العائلية وأنكرها. ولكن القارئ المصري لا يمكنه إلا أن يعترف بأن هذا الوسط الصناعي كان هو العلاج لجمود العائلة الإنجليزية؛ لأنه فك قيودها ونقض الاستبداد الأبوي بالحرية الجديدة التي لقيتها الفتاة الإنجليزية في الصناعة والملاهي الكثيرة التي جعلت الشاب ينشد سلواه خارج البيت.
إن للصناعة وجوها سيئة، ولكن لها وجوها أخرى حسنة. ومن حسناتها هذه الحرية التي يتمتع بها الآن الشبان والفتيات في العالم المتمدن؛ لأن العائلة البطريركية القديمة، عائلة الزراعة حيث الأب يعول ويسود، قد بادت. وأخذت مكانها العائلة التي يكسب أفرادها عيشهم من المصنع، فيستقل الشاب بدخله كما تستقل الفتاة بكسبها. وهذا الاستقلال الاقتصادي قد أدى إلى استقلال اجتماعي أخلاقي زعزع العائلة إلى حد ما.
المنحطون في الأدب الإنجليزي
في أوائل هذا القرن نشر «ماكس نورداو» كتابا عن «الانحطاط» تناول فيه جماعة كبيرة من الأدباء والشعراء بالنقد، واتهمهم بأنهم إنما نزعوا نزعاتهم الخاصة لأنهم منحطون، فهم مجانين أو قد اقتربوا من الجنون. ونزعاتهم إنما هي نزعات العقل المضطرب المفتون؛ ولذلك فإن كل ما يدعون إليه من فلسفة أو إصلاح ليس في حقيقته، وعند التأمل، سوى هراء الأبله أو هذيان المحموم.
وقد ذاع هذا الكتاب لأن التهمة طريفة والرأي بدعة، وكلاهما يلفت النظر ويبعث على التأمل. وقد مضى على نشر هذا الكتاب نحو خمسين سنة تكفي لتأييد نظرياته أو دحضها. والواقع الذي نراه الآن أنها قد أدحضت جميعها وأن هؤلاء المنحطين الذين ذكرهم «ماكس نورداو» إما أن الجمهور قد تناساهم لأنهم لم يكونوا من القدرة والكفاية بحيث يستحقون دوام الذكر، وإما أنهم قد ثبتوا لأن كفايتهم لم تزعزعها التهم التي وجهها إليهم هذا الطبيب الأديب. وحسب القارئ أن يعرف أن «نيتشه» و«تولستوي» و«إبسن» وضعوا في مقدمة المنحطين عنده، وهم الآن من زعماء النهضة الأوروبية.
ولكن قبيل «ماكس نورداو» - أي في أواخر القرن التاسع عشر - ظهرت طائفة من الكتاب في فرنسا وإنجلترا يجوز لنا أن نسميهم بالمنحطين. بل لقد عرفت الطائفة الإنجليزية نفسها وارتضت هذه الصفة وأطلقتها على نفسها تحديا وفخارا.
والمنحطون في الأدب الإنجليزي يمتون بنسب إلى المنحطين في الأدب الفرنسي، وقد تتلمذوا إلى حد ما «لبودلير» و«جوتييه». ولكنهم كانوا مع ذلك مستقلين، يجدون في البيئة الإنجليزية نفسها السم والدسم لأدبهم، وقد أخصبت بهم إنجلترا في السنوات الثلاثين بين 1870 و1900.
وكي نفهم المنحطين في إنجلترا يجب أن نعود فننظر نظرة عاجلة في أبى نواس؛ إذ ليس هناك شك مثلا في أن هذا الشاعر العظيم كان - بمقاييسنا الاجتماعية الحاضرة - منحطا. وهذه حياته وأشعاره توضح لنا هذا الانحطاط. وإذا نحن تأملنا البواعث التي بعثت عليه ألفيناها تتلخص في الرجع أي «رد الفعل» الذي شعر به هذا الشاعر وهو يعيش في مدينة تحتوي على صنوف من فتنة المدن وملذاتها، ثم ينظر فيجد أن الشعر لا يزال بدويا لا ينطبق على حال هذه المدن، فهو ثائر على الشعر البدوي يدعو إلى حياة المدينة وملذاتها. وهو في ثورته يبالغ ويمعن لأنه يريد الانتقام. وكلما أمعن وبالغ تورط فيما يتجاوز صحة الفن وسلامة النظر، فهو هنا مجدد، ولكنه في تجديده منحط.
وكذلك الحال مع هؤلاء المنحطين الإنجليز، فإنهم ثاروا على أدب القرن التاسع عشر. وبالغوا في الثورة إلى حد الانتقام للحديث من القديم، فتورطوا في أشياء لا تختلف عما تورط فيه أبو نواس. حتى لقد مارس بعضهم بعض رذائله. وحتى لقد دعوا إلى المدينة مؤثرين حياتها على حياة الريف، يفضلون جمالها وضوضاءها على جمال الطبيعة وسكونها. فضوضاء المدن موسيقى وألحان، وسكون الريف ركود وأسن، كما آثر أبو نواس المدينة على البادية. ولكنهم كانوا حتى في هذا الانحطاط مخلصين. وهم الآن بعد زوال أشخاصهم قد ذهب زبدهم وبقي منهم ما ينفع الناس.
كانت إنجلترا في القرن التاسع عشر منكوبة بنزعتين، إحداهما سلطان العرف والعادة، والثانية الروح الطهري الذي كان يجنح إلى النسك وكراهة الملذات الفنية، وكلتا النزعتين تدعو في النهاية إلى الانكفاف والإحجام والخوف من التجارب والبدع؛ ولذلك حدث الرجع في نهاية القرن التاسع عشر وكان شديدا عنيفا حتى لقد انتهى عند بعض القائمين به بالسجن أو الموت المبكر أو التشريد. ولكن مع كل ذلك بقي من هؤلاء «المنحطين» أثرهم في الأدب الإنجليزي الحديث، ففي إنجلترا الآن نهضة تنزع نحو الإغريق وتدعو إلى الجمال، وفيها ثورة على العرف، وجرأة على الابتكار في الأخلاق، وبها نزوع إلى التجربة والاقتحام. وكل هذا يرجع إلى هؤلاء المنحطين الذين احترقوا بالنار كي يعرفوا الناس فوائدها.
وأول هؤلاء المنحطين هو «والتر باتر»، وكان في فنه وأدبه مشبعا بالإحساس الإغريقي. وقد دعا إلى الوثنية الإغريقية، وفتن الناس بالنزوع إلى اللذة والجمال، فهو القائل ما معناه: إننا يجب أن نختبر الاختبار ونجرب التجربة، ولكن ليس لكي نجني منهما ثمرتهما فنزداد حكمة، وإنما علينا أن نختبر ونجرب للذة الاختبار والتجربة وحسبنا ذلك منهما. وهذا مذهب مخيف لا يستطيع أن يتحمل قائله عواقبه أو يعمل به كله. ولكنه يدل على الرجع - أي «رد الفعل» - للقرن التاسع عشر.
أما المنحط الثاني فهو «أوسكار وايلد» الذي كان يتأنق في أسلوبه وحديثه. وقد دفعه التأنق إلى الشذوذ. وكما أن الكاتب المتأنق يتحرى اللفظة النادرة لبريقها أو رنينها، كذلك هو صار يتحرى الشذوذ في ملذاته وينزل على رأي باتر في توخي التجربة أو الاختبار للذة فقط. وأدب الكاتب هو بعض حياته؛ ولذلك فإن «أوسكار وايلد» اتخذ أسلوبا للحياة، حياة اللذة والتلألؤ، يتطعم أطايب الحياة وتوابلها ويتأنق في اختيارها. وصار يطلب اللذة النادرة حتى وقع في اللذة الشاذة، وعاش بذلك في فسق الجسم والذهن. واختياره لقصة «سالومي ويوحنا المعمدان» يدل القارئ على هذا الذوق الذي ينشد الجمال الشاذ ويعشق الموقف عند أزمة العواطف وهزيمة العقل الرزين أمام غلواء الشهوة. ونحن حين نقرأ هذين الكاتبين نشعر أننا نتنزه في جنة الذهن ونتلذذ العبارات المتلألئة والكلمات المتألقة. ولكننا نحس أيضا أننا في صحراء الروح إذ لا نجد أهدافا أو مثليات. بل نجد أحيانا التهكم بالأهداف والمثليات.
وكلاهما - أي «والتر باتر» و«أوسكار وايلد» - يدعو دعوة جديدة هي التعمق في الحياة، فإن عامة الناس يعيشون على السطح، يلمسون من الحياة أقل تجاربها وأبسطها ولا يكادون، بل منهم من ينكف ويحجم كأنه راهب يخشى الاقتحام والانغماس. ولكن هذه الحياة لا يمكننا أن نصل منها إلى اللباب والصميم إلا إذا انغمسنا فيها، ننغمس في الحياة كما ننغمس في اللذة، وإنما يكون ذلك بالتعمق والتوغل في الاختبارات والتجارب.
وهذه دعوة وثنية إغريقية يمكنها أن تثمر الثمرة المرة كما تثمر الثمرة الحلوة. وقد نستطيع أن نرى في قصة «جرانت ألين»، «المرأة التي فعلت»، مثالا من ثمرات هذه الدعوة؛ فهو هنا يصف لنا فتاة ترفض الزواج استبقاء لحريتها، وثورة على العرف وقيود المجتمع.
وقد يعد الإنسان هذه القصة كما يعد بعض قصص «أوسكار وايلد» من الثمرات المرة لهؤلاء المنحطين. ولكن كل واحد من هؤلاء المنحطين قد ترك أثرا حسنا في الأدب الإنجليزي إلى جانب ما نظنه آثارا سيئة، فإن المسرح الإنجليزي مثلا قد ارتقى بفضل «أوسكار وايلد» الذي يمكن أن نقول إنه مهد ل «برنارد شو» بتعويد الناس الحوار البارع بين الممثلين، والانتقاد الاجتماعي عن سبيل الفكاهة اللاذعة. وكذلك «والتر باتر» ما زلنا إلى الآن نرى أثره في الطبقة الجديدة من الكتاب مثل «لورنس» و«ألدوس هكسلي».
وللمنحطين - كما هو المنتظر - شأن خطير في الأدب الفرنسي. وللمنحطين الإنجليز صلة قوية بهم حتى لقد ألف «أوسكار وايلد» إحدى دراماته «سالومي» باللغة الفرنسية. ولكن هؤلاء الإنجليز بادوا في حين لا يزال الانحطاط حيا في فرنسا. كما نرى في مثال «أندريه جيد». ومهما بلغ المنحط الإنجليزي فإنه لا يصل إلى مستوى «بيير لوتي» الذي كان يدهن وجهه بالمساحيق والأصباغ، ويسلك مسلك أبي نواس في ملذاته الجنسية.
ويمكن أن نلخص السمات التي اتسم بها المنحطون فيما يلي:
الدعوة إلى الجمال بلا اعتبار للأخلاق أو العرف الاجتماعي.
إيثار المدينة والصناعة على الطبيعة والسذاجة.
توخي اللذة حتى لو كانت شاذة تخالف المألوف في الطبيعة.
وضع الحياة الحسية فوق الحياة الذهنية.
إيثار الفن على الطبيعة، بل على الحقيقة.
كبلنج: شاعر الاستعمار
في إنجلترا ثلاثة من الأدباء يشهد لهم قارئهم بأنهم دعاة عظماء للرجعية ينافحون عنها في بلاغة وقوة إيمان. ومن هؤلاء اثنان يكرهان العصر الحديث قلبا وقالبا؛ أي روحا وشكلا، هما «تشسترتون» و«بيلوك». وكلاهما كاثوليكي يكره بدعة البروتستنتية ولو قام جهاد ديني لقمع هذه البدعة لتجند كلاهما فيه. ثم هما يحنان حنينا عظيما، كأنه وحم الحبلى، إلى القرون الوسطى، ويتغنيان بها كأنها الجنة المفقودة، فهما يذكران منها مثلا نظام «الطوائف» ويتحسران على زواله. ويذكر «بيلوك» النظام الإقطاعي بالإعجاب. وكلاهما يكره مذهب «داروين» وينكره بلهجة الجزم التي ينكر بها المتدين عقائد خصومه. وهما يدافعان عن البابا والكاثوليكية كما يدافعان عن عصر الصناعات اليدوية.
أما الرجعي الثالث فهو «كبلنج» شاعر الإمبراطورية؛ أي شاعر الاستعمار. وهو يختلف من الاثنين السابقين من حيث إنه يؤمن بالقرن العشرين. وهو من الشعراء الذين يستطيعون أن يؤلفوا القصائد في مدح الأتومبيل والقطار والتلغراف. ولكنه مع ذلك رجعي يكره النزعات الإنسانية الجديدة؛ إذ هو داعية بليغ من دعاة الحرب، لا يعرف عصبة الأمم، ولا يؤمن بتحقيق السلام. وهو نقيض «المنحطين» من حيث إنه يجعل الفن وسيلة لخدمة الاستعمار البريطاني في حين كانوا يجعلون الفن غاية. وهو مع إيمانه بالحضارة يكره منها نعومتها وما فيها من أساليب التطرية، ويكتب عن الغاية وقتال الحيوان والإنسان كأنه يعيش في العصور البدائية. وبراعته هنا تتجاوز الوصف نثرا ونظما، فإنه يجعل «أشخاص» القصة من الحيوانات التي تتكلم وتتناقش في حال من الألفة الذهنية التي لا يستطيعها إلا كاتب كبير. وقد حلم المنحطون ولعبوا بفكرة الترف والتطرية. ولكنه هو لا يعرف من الرجال سوى الفحل الممتلئ بالرجولة، وهو إذا انحط فإنما يتجه انحطاطه نحو الإعجاب بالرجل المتوحش، وليس بالرجل المترف الناعم.
نشأ «كبلنج» في الهند واكتسب مزاجا خاصا بالإقامة بين الجاليات الإنجليزية في ذلك القطر العظيم الذي يشبه القارة، فهو إنجليزي يحتقر الهنود ويظن أنهم هم والمصريون، والبوير، والزنوج لم يخلقوا، وليس لوجودهم معنى أو مغزى إلا أن يخدموا شعب الله المختار؛ أي الإنجليز. وهو صاحب هذه الكلمة الاستعمارية المشهورة: «لا يعرف إنجلترا من لم يعرف سوى إنجلترا.» يعني بذلك أن عظمة الإنجليز تتضح في مستعمراتهم التي لا تغيب عنها الشمس.
فهو يعجب «باللورد كرومر»، ويعده من عظماء العالم، وينسى أنه صاحب فجيعة دنشواي، وأنه أرصد حياته كي يعوق أمة كبيرة عن التقدم. وأنه كان يبتز أموالها لدولته، ويدعي حماية عمالها، وهو يعرف أن هؤلاء العمال مرضى بألوان من الأمراض، وعلة هذه الأمراض هي مشروعات الري التي عممها في مصر كي يزيد زراعة القطن، فتشتريه مانشستر رخيصا وفيرا. وهو يعجب «بسسل رودس»؛ لأنه ارتكب من الجرائم وجر من الويلات على البوير، ما كان يستحق عليه أن يشنق، لو أنه عومل معاملة المتمدنين. ولكنه يعجب بكرومر ورودس لأنهما إنجليزيان استعماريان، وينسى الإنسانية والشرف والمروءة إذا ذكر المصريين أو البوير.
تشسترتون.
وهو مع براعته النادرة في قرض الشعر وسمو الخيال، يكاد الإنسان يخرجه من زمرة الأدباء، كلما تأمل البواعث الإجرامية التي تبعثه على تأليف قصيدة أو قصة؛ فإن الأديب يؤمن بالحرية الفكرية إذ هي دينه الذي يجب أن يدافع عنه طيلة حياته. ويؤمن بالإنسانية التي هي موضوع أدبه. ولكن «كبلنج» يخون الاثنين، يخون الحرية ويخون الإنسانية. وهو قبل كل شيء يدعو إلى السيف والنار، ويتغنى بالمدمرات والغواصات. وهو في إنجلترا بمثابة «تريتشكه» في ألمانيا، مع فرق واحد وهو أن صوته لا يزال عاليا؛ لأن إنجلترا خرجت من الحرب ظافرة، بينما صوت «تريتشكه» قد خفت عندما انهزمت ألمانيا.
وقلما تخلو أمة من الأدباء الوطنيين، يضعون وطنيتهم فوق أدبهم. ولكن الوطنية إذا احتدت واحتدمت صارت مرضا يشبه الحمى في نوباته، ويدفع إلى الهذيان والعدوان. وقد كان «تريتشكه» الألماني يدعي أن العالم كله يجب أن يخضع لألمانيا. وكان «تشمبرلن» الإنجليزي المتألمن يدعي أن العبقرية والاختراع والمثليات، كل هذه ثمرات ألمانية . حتى السيد المسيح نفسه، كان في زعمه ألمانيا.
و«كبلنج» لا يهذي كل هذا الهذيان، ولكنه يتغنى بالإمبراطورية والاستعمار. ويتكلم عن عبء الرجل الأبيض، كأنه يعني ويصدق ما يقول ويؤمن به، كأن الاستعمار لم يخترعه الرجل الأبيض إلا لخدمة السود والصفر والسمر من بني الإنسان؛ وهم لذلك عبء عظيم يحمله الإنجليزي والفرنسي بدافع شريف من دوافع المروءة والإنسانية. ولذلك كثيرا ما نقرؤه فنفتتن برنين قصائده، ولكنا نعاف ونشمئز من أهدافه ومثلياته التي لا تزيد على أن تكون رواسب سيكولوجية من أيام التلمذة ومفاخر الصبيان.
وهذه الوطنية الحادة المحتدمة هي التي بعثت «كبلنج» على أن يقول مدة الحرب الكبرى هذه الكلمة الكافرة: إن العالم يسكنه اثنان هما النوع البشري والألمان. وبنفس هذه الروح سبق له أن قال: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقي الاثنان.» والشرق عنده مؤلف من الأمم التي تستعمرها بريطانيا وتدوسها بأقدامها وتحرمها من العلم والصناعة.
وهو من حيث الأخلاق يدعو دعوة القرن التاسع عشر، فهو يطلب من المرأة أن تلزم بيتها، ومن الرجل أن يعتمد على نفسه ويجترئ ويقتحم؛ وهو لهذين الغرضين يكره الاشتراكية ويناصبها العداء. وأنت تقرؤه فتشعر أن «صموئيل صميلز» صاحب الكتب العديدة، التي ألفت في «تقديس النجاح» قد انقلب شاعرا يعظ الناس ويشرح لهم قيمة الأخلاق التي يمتاز بها الرجل الناجح في جمع المال. وهو قصير النظر لا يستطيع أن يبصر بحقائق النظام الاجتماعي، ولا يتعظ بوجود نحو ثلاثة ملايين عامل عاطل في بلاده، سبب عطلهم هو «نجاح» الماليين في جمع المال. وكذلك هزيمة بلاده أمام اليابان في التجارة لم تفتح عينه. وكذلك نهضة الهند لم تنبه ذهنه الغافل.
وأحيانا يؤلف «كبلنج» قصائده كالسكران أو المجنون، فيحرص على الجريمة ويشرح للجندي البريطاني كيف يسرق وينهب ويقتل الهنود والمصريين، أو البورميين والزنوج. انظر إلى هذه الكلمات الفاجرة:
تذكر، أيها الجندي، وأنت تحطم المعبد حول رب من الأرباب المذهبة في بورما أن عينيه مرصعتان بالأحجار الثمينة.
وتذكر أنك عندما تعطي الزنجي جرعة من سوطك المطهر فإنه سيعترف لك بكل ما يملك.
أما بعد ذلك فقل فيه ما شئت من براعة في نظم القصائد وتأليف القصص. ويشق على الناقد أن يسلكه في زمرة خاصة من الرجعيين أو المجددين، فليس شك مثلا في أنه أبعد الناس عن المنحطين كما هو أيضا أبعدهم عن المجددين. ثم إن رجعيته لا تمت بأي نسب إلى رجعية «موريس» أو «روسكين» أو «تشسترتون» أو «بيلوك» من حيث كراهة الآلات والعصر الصناعي الحاضر. وإنما هي رجعية الاستعماري الذي يستغل الآلات في جمع الثروة، ولكنه يأبى أن يؤمن بالإنسانية. وقد يكون مما يوضح غرضنا أن نقول إنه نقيض «بيرون» في الأخلاق والخيال الشعري. وهو لو عاش قبل مائة سنة أي سنة 1830 أو 1840 لوجد الوسط المحيط به أليق به وأكثر مشاكلة لأدبه. أما الآن فلسنا نظن إنسانا مثقفا يتطعم أفكاره ويسيغ نزعاته. وهو لذلك بطل من أبطال المدارس الإنجليزية، يقرؤه التلاميذ والطلبة ويتغنون بأمجاد الإمبراطورية التي تفهق بها قصائده. ولكن الإنجليزي المهذب يجد فيه كثيرا مما يخجله، أما غير الإنجليزي، وخاصة إذا كان وطنه قد نكب بالاستعمار البريطاني مثل مصر والهند، يجد فيه كثيرا مما يحنقه ويؤسفه على أن مثل هذا الرجعي يوجد في القرن العشرين.
دراسة الاقتصاد والاجتماع
أخذت المسائل الاقتصادية تغمر كل شيء منذ أوائل هذا القرن حتى تدخلت في الدين والسياسة والأدب، فصرنا نسمع عن «الاشتراكية المسيحية». ونقرأ لكهنة الدين المسيحي أقوالا توهمنا أن المسيح قد سبق كارل ماركس وأنه دعا إلى دعوته. بل ظهرت في أوروبا أحزاب تمزج بين المسيحية والاشتراكية، وترشح أعضاءها كي ينفذوا المبادئ الاقتصادية التي يدعو إليها الإنجيل.
وكذلك السياسة أخذت منذ أكثر من خمسين سنة تتجه نحو الاقتصاد، فمجالس الوزراء الآن لا تشغل في معظم أوقاتها إلا بالصناعة والزراعة والتجارة وزيادة الأجور وضرائب الجمارك ونحو ذلك. بل لقد شعر المستر تشرشل أحد وزراء بريطانيا السابقين بضغط المسائل الاقتصادية. وهذه السنوات السود التي نعيش فيها تدلنا على أن السياسة إذا لم تكن اقتصادا فهي ليست شيئا يذكر.
وليس غريبا إذن أن يلتفت المجددون في الأدب الإنجليزي إلى الاقتصاد، فقد وجدوا أن للعوامل الاقتصادية آثارا واضحة في حضارة الأمة، وأخلاقها. ولذلك اتجهوا إلى درس الأحوال الاقتصادية اتجاها قويا، فألفوا القصص والدرامات حتى يقفوا الجمهور على المساوئ الاقتصادية التي تجر في أعقابها مساوئ اجتماعية.
وأبرز الأدباء الإنجليز الذين جعلوا من الأدب وسيلة لدرس المسائل الاقتصادية هم «برنارد شو» و«ولز»، وهما أيضا على رأس المجددين. ومن هنا نعرف أن كثيرا من التجديد الأدبي في إنجلترا إنما هو تجديد اقتصادي.
ولا تكاد تخلو قصة من قصص «ولز» من عبرة اجتماعية، يستخرجها القارئ من الأحوال الاقتصادية. وأي شيء أفعل في النفس من قصة «تونوبنجاي» التي يصف فيها كيف تجمع الثروة الضخمة بالغش والخداع، ثم كيف تضاع في مظاهر اجتماعية سخيفة؟ فهنا نرى رجلا يؤلف عقارا ويعلن عنه أنه يشفي طائفة من الأمراض، ويؤسس الجرائد والمجلات، الغرض الظاهر منها خدمة صحفية. والغرض الباطن هو الإعلان عن هذا العقار، وليس في هذا العقار أي شيء لا يعرفه الناس، وليس فيه أي ميزة ولكن الجمهور يقبل على شرائه؛ لأن الإعلانات المتكررة تستهويه وتغريه وتقنعه بفائدته. ولا يزال صاحبه في هذا النشاط حتى يصبح من أغنياء العالم المعدودين. ويتساءل «ولز» هنا: أي نظام هذا الذي يجيز لمثل هذا الرجل أن يخدع السذج حتى يستولي على نقودهم بمثل هذا الدواء الذي لا يفيد أحدا ممن يستعمله من المرضى؟
ولكن «ولز» لا يقتصر على القصة، فهو قصاص بالمهنة، ولكنه اشتراكي بالنزعة، وعندما يجد أن القصة لا تسعفه بتحقيق غرضه يعمد إلى الموضوع نفسه فيخرجه مدروسا مشروحا في كتاب مستقل، فمن ذلك كتابه «عوالم جديدة للقدماء»، وهو في شرح المسائل الاقتصادية. وكتابه «شقاء الأحذية» وهو في هذا الموضوع أيضا. وللأحذية مكانة في نفس «ولز» لا يستطيع أن ينساها حتى الآن، وهو يربح في العام أكثر من عشرين ألف جنيه؛ لأنه نشأ وهو صغير في مسكن وضيع في بدروم أحد البيوت الكبيرة، فكان يري، لأول ما يرى من السابلة في الشارع ، أحذيتهم .
وفي عام 1933 صدر له كتاب ضخم لا يقل عن 850 صفحة كبيرة هو أعظم شهادة على الرغبة الحارة التي تحدو هذا الأديب إلى الإصلاح الاقتصادي. وهذا الكتاب هو «العمل والثروة والسعادة». وهو يعالج الأزمة المالية المستحكمة وقتئذ في ذكاء وإحاطة جديرين بالإعجاب من الاختصاصي، فضلا عن الأديب. والكتاب أشبه بالموسوعة يشرح فيها كيف يعمل الناس في الصناعة والزراعة، وكيف يلهون في فراغهم، وكيف ينتقل الناس في أسفارهم، وما هي مهمة المرأة في هذه الدنيا، وما ينتظر منها، وكيف تتألف الحكومات ... وما إلى ذلك.
وكذلك «برنارد شو» فإن مؤلفاته ودراماته تكاد جميعها تتجه نحو الاشتراكية. وله كتب عدة في هذا الموضوع، منها «اشتراكية المجالس البلدية» و«الاشتراكية للأغنياء». ثم كتابه الضخم «دليل المرأة الذكية عن الاشتراكية».
أما دراماته فجميعها تقريبا تعالج موضوعات اجتماعية لها أساس اقتصادي. وهو يعزو جميع النقائص الاجتماعية كالبغاء، والحرب، والجرائم، والأمراض، إلى عوامل اقتصادية، ويبحثها جميعها من هذه الناحية. والقارئ ل «برنارد شو» يشعر في جميع ما يقرأ أن المؤلف يريد أن يبرز له هذه الحقيقة، وهي أن في العالم فقراء يؤذيهم الفقر في صحتهم وأخلاقهم. وأغنياء لا يعرفون كيف يتمتعون بغناهم ولا هم مرتاحون إلى هذا الغني؛ لأن تكاليفه تكاد أحيانا تزيد على مكافأته. وهو لا يطالبنا بأن يكون لنا ضمير فقط، بل يلح علينا بأن هذا الضمير يجب أن يكون ذكيا مدربا، وليس بليدا غافلا.
وقد كان الفقر موضوعا للأدباء، قبل خمسين سنة، فإن كتاب «البائسين» الذي ألفه «فيكتور هوجو» هو في الحقيقة كتاب الفقراء؛ لأن البؤس هو الفقر. والقصص التي ألفها «تولستوي» و«دستويفسكي» و«جوركي» تنحو أحيانا كثيرة نحو هذه الغاية. ولكن القصد لم يكن واضحا عند «هوجو» أو «دستويفسكي» أو «تولستوي»؛ لأن الفن يتغلب هنا على القصد الاجتماعي، ولأن اشتراكيتهم كانت طوبوية قائمة على الأماني، ينشدون طوبى المستقبل. وهي ليست معللة بالعلم في ضوء المخترعات الآلية المنتجة لملايين السلع. وقد لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن «جوركي»؛ لأن غايته واضحة واشتراكيته علمية. ولكن لا يسع القارئ مع ذلك إلا أن يحس أن رجل الفن هنا أبرز من رجل الاجتماع.
أما الأدباء المجددون في إنجلترا فإن غايتهم تتضح وقصدهم يسفر. وقد يكون ذلك لأنهم دون «جوركي» في الفن، أو لأن الرغبة في الدعاية المذهبية تتفوق على الحاسة الفنية. ولذلك كثيرا ما نجد «ولز» أو «شو» ينسيان القصة أو الدرامة ويأخذان في شرح حالة اجتماعية بلهجة التدريس لا بلهجة القصص أو الحوار.
ولا يقتصر هذا الالتفاف على هذين الأديبين البارزين، فإن هناك عددا كبيرا من الأدباء الإنجليز قد جعلوا الفقر حجر الزاوية عندهم في القصة أو الدراما. وقد تجاوزت هذه النزعة كتاب إنجلترا إلى الكتاب الأمريكيين، فهناك نجد مثلا «إبتون سنكلير» الذي خص نفسه لمعالجة الدعاية الاشتراكية في أسلوب سافر جعل جميع الناشرين يقاطعونه، حتى صار يضطر إلى أن يطبع مؤلفاته بنفسه فهو مؤلف وطابع وناشر.
برنارد شو
قلما يتاح لأديب أن ينال من الذكر بين العامة والخاصة مثل ما ناله «برنارد شو»، فإن قراء الصحف الذين لم يعتادوا قراءة كتاب في الأدب يعرفون اسمه ويحبونه، بينما هم يجهلون «كبلنج» أو «روسكين» أو «ولز». وليس هذا بين الجمهور الإنجليزي فقط بل بين سائر الجماهير القارئة في العالم المتمدن. وبعض هذا يرجع إلى أنه عاش إلى الآن (1948) أكثر من تسعين سنة على هذا الكوكب. وهو في رحلته الطويلة عبر القرنين التاسع عشر والعشرين قد اختبر كثيرا وأصبحت الأجيال تورثه أبناءها كأنه كنز وطني.
وذلك لأن «برنارد شو» يمزج فلسفته بالفكاهة، فالأولى للخاصة والثانية للعامة. وهو في فكاهته يسمو على التهريج، فإذا أراد أن يضحك لم يدهن وجهه بالدقيق ويهرج لك تهريج البله والمجانين، بل هو يتأنق في إعمال الفكرة، وينظر إلى ما وراء الظواهر فيزيل عن الوقار هيبته، وينضو عن العرف ثوبه، ويقف بك حيال الحقائق العارية. ولكن لما كان مثل هذا الموقف يؤلم؛ لأنه يحرمنا من أوهامنا المحبوبة؛ فإنه لذلك يخفف من هذا الألم بالفكاهة. وفكاهاته هي تشنجات الحكمة التي قد يضحك منها العامي. ولكن الرجل المثقف يقف عندها متأملا مفكرا، وأحيانا متألما. ويمتاز «برنارد شو» بذهن قلق نشيط، يشع ضياء على كل ما يمسه كأنه جسم مفصفر يتألق. وهو ينعت نفسه بأنه «ثائر»، وهو كذلك في المعنى السامي للثورات؛ ذلك لأن لكلمة «الثورة» في الأذهان معنى الحركة التشنجية والمفاجأة المنظرية. ولكن «برنارد شو» يقول إن هذه المظاهر برهان الفشل في الثورة؛ لأن الثورات يجب أن تتسلل إلى المجتمع وتتخلله حتى يتغير في سلم وهدوء، فإذا لم تنجح في التسلل والتخلل فإنها تنفجر.
ويختلف «برنارد شو» من المنحطين اختلاف النقيض للنقيض. إذ بينما هم يؤمنون باللذة ويدعون إلى الاستمتاع، يدعو هو إلى النسك والزهد. ولا يعرف من اللذات غير اللذات الذهنية، فهو يتهالك على الصورة الفنية وينغمس في درسها، أو يتهالك على الموسيقى ويرضى بتكبد المشاق لاستماع أحد الموسيقيين أو رؤية أحد الراقصين. ولكنه يصد صدودا مستغربا عن اللذة الجنسية. وقد عشق الممثلة الجميلة «إلين تري» فكان يراها وهي تمثل على المسرح ثم يتجنبها فلا يلتقيان ولا يتواعدان، ولكنهما يقنعان بالمكاتبة.
وقد علل أحد النقاد هذا الزهد الجنسي بتعاليل مختلفة، منها زهده في طعام اللحم وشراب الخمر. ولكن أصح من هذا التعليل أن يقال إن زهده للنساء واللحم والخمر يعود إلى منبع واحد في نفسه هو هذا المزاج الطهري الذي تجد له أمثلة عدة في إنجلترا، وهو ثمرة الدعاية الطهرية التي فشت في تلك البلاد منذ أيام «كرومويل» وجحدت حتى اللذات الفنية.
وقد سبق أن قلنا إن «كبلنج» يجعل من الفن أداة للخدمة الإمبراطورية والاستعمار. و«برنارد شو» يشبهه من حيث استعمال الفن أداة، ولكنه يخدم بهذه الأداة «الإصلاح الاجتماعي». وهو قبل كل شيء يدعو إلى الاشتراكية العلمية. ولا يبالي إنفاق وقته وماله في تحقيق هذه الاشتراكية. وعواطفه شعبية، ينحاز إلى الضعيف والمظلوم والفقير. وقد تبرع بمبلغ ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال.
ومن يتأمل مؤلفاته وحياته يجده عاش، وما زال يعيش، في ضوء «داروين» و«ماركس». وليس هذا غريبا، فإن حياته الذهنية تقع بين 1880 و1948. وفي النصف الأول من هذه المدة كان التطور مثار المناقشة وموضوع المجلات والكتب. أما النصف الثاني فموضوعه الكفاح الذي لم ينته بعد بين الاشتراكية التعاونية وبين الانفرادية التزاحمية.
برنارد شو.
وقد نشأ «برنارد شو» في أيرلندا من أبوين بروتستانتيين. وكانت أمه تجيد العزف على البيانو، وكان أبوه سكيرا مستهترا. ورحلت به أمه إلى إنجلترا، وكان «برنارد شو» لا يخجل وهو شاب من أن يعيش بما تتكسبه هي من الموسيقى. وقد استطاع بفضل هذه الأم أن يتوفر على القراءة والدراسة.
وكانت الاشتراكية حوالي 1880 بدعة تجذب إليها الشبان لكثرة نظريتها وشكوكها واختلاط المذاهب بين القائمين بها، فجذبته إليها، وكان هو أحد المؤسسين للجمعية الفابية التي أخذت على نفسها تغذية الجمهور الإنجليزي بالمؤلفات الاشتراكية.
والقارئ ل «برنارد شو» لا يسعه إلا أن يعترف بأنه اكتسب شيئا كثيرا من المفكرين والأدباء الأجانب، فهو متدين غير سني يؤمن فيما يتعلق بما وراء المحسوس ب «برجسون» و«شوبنهور». وقد أخذ عن «إبسن» دراما «الموضوع» أو المسألة. كما أخذ شيئا كثيرا عن «نيتشه» في الأخلاق. هو يؤمن بالتطور ولكن ليس عن طريق «داروين» بل عن طريق «لامارك» أما اشتراكيته فكانت، وما تزال، اشتراكية «ماركس» العلمية.
أما الكتاب الإنجليز الذين تأثر بهم فكثيرون، منهم «روسكين» و«صموئيل بطلر» و«دكنز» و«داروين».
وهو في أسلوبه وغايته أقرب في الشبه إلى العلماء مثل «برتراند روسل» أو «هلفاوك أليس» منه إلى الأدباء مثل «رديارد كبلنج» أو «أرنولد بينت». فإن عبارته تمتاز بالدقة، وتخلو خلوا من التزويق أو الرشاقة. وأكاد أتوهم من مؤلفات «برنارد شو» أنه رائد لسلالة جديدة من الأدباء هي تلك التي تؤمن بالعلم، وتقلع عن الأدب كأنه من الوسائل العتيقة التي مضى زمانها. وهو يكره الأساليب المعبدة والأفكار المعبدة، ولا يبالي الفن الدرامي كثيرا. وقلما نجد في دراماته ذلك التوتر المسرحي الذي يعلق أنفاسنا؛ لأنه إنما يعني بالمناقشة الذهنية الحريفة بل المشوطة.
والآن ما هي المهمة التي أداها «برنارد شو» لبني عصره؟ (1)
أنه جعل الدرامة اجتماعية ، فوصل بين المسرح والحياة، وجعل منه مدرسة للكبار يرون فيها معضلاتهم الاجتماعية. (2)
أنه أزال من المسرح تلك المكانة التي كانت للغرام والحب، والخيال الفاسد. كما أنه قضى، أو كاد يقضي، على أساليب التهريج المسرحي من إيجاد مواقف دموية، ومصادمات عنيفة، تستثير الجمهور ولا تفيده، كتلك المواقف التي لا تزال حية في مسرحنا بفضل العاجزين السائدين في التمثيل من مؤلفين وممثلين. (3)
أنه جعل الفكاهة وسيلة إلى درس الفلسفة. (4)
أنه أفشى في العالم الإنجليزي روحا إنسانيا يكره الاستعمار، واستغلال الأمم الصغيرة، وتشريح الحيوان الحي، وضرب التلاميذ، وقتل الحيوان للطعام. (5)
أنه جعل التطور مادة من مواد البرنامج الاجتماعي لإصلاح البشر. ورفع القيم البشرية فوق القيم الاجتماعية في معنى الرقي والتقدم. (6)
أنه أثبت في أذهان الطبقة القارئة المستنيرة أن التقاليد والأخلاق عادات وعرف، لا أكثر ولا أقل. وأنها بعيدة لهذا عن أية قداسة تحول دون تغييرها.
هذه خلاصة مقتضبة. ولكن على القارئ المصري أن يذكر أن «برنارد شو» رجل غربي، يؤمن بأوروبا، ولا يؤمن أقل الإيمان بآسيا. بل هو إلى حد ما يؤمن بالسلالات الأوروبية، وأنها زبدة البشر. وقد عطف على بعض المبادئ الفاشية لاتجاهها البيولوجي وأنها تعمل لتطور النوع البشري بتعقيم الناقصين.
وبكلمة أخرى نقول إنه أبعد الناس عن «غاندي»؛ لأن هذا يكره الآلات وما جرته من مظاهر الحضارة العصرية، ويدعو إلى العودة إلى سذاجة الإنتاج اليدوي، والمعيشة القروية. ولكن «برنارد شو» يؤمن بالآلات والحضارة العصرية.
الدرامة الاجتماعية
كان «برنارد شو» أول من جهد لتعميم الدرامة الاجتماعية في المسرح الإنجليزي، فقد دعا أولا إلى دخول الدرامة الإبسنية، وكان بوقا عاليا لهذا المؤلف النروجي «إبسن» الذي اكتسحت دراماته الخاصة المثقفة في أوروبا. ثم شرع هو منذ 1890 يؤلف للمسرح ويعالج المسائل الاجتماعية، فله دراما عن البغاء وعلاقته بالأحوال الاقتصادية، وأخرى عن الإيمان بالمسيحية، وأخرى عن الحرب ... إلخ.
وهو في بعض هذه الدرامات يهدم ولا يبني. وقد يعتذر عنه هنا بأن الهدم نصف البناء، وأنه لا يمكن البناء إلا بعد أن تزول بقايا القديم ، وينظف المكان للجديد.
وقد سبق أن قلنا عن «برنارد شو» إنه يمثل الانتقاض على القرن التاسع عشر والثورة على عقائده ومؤسساته، ففي هذا القرن نرى الإيمان بالديمقراطية التي هي النتيجة المحتومة للثورة الفرنسية. ونرى أن الرواج الصناعي قد بعث في النفوس آمالا بالنجاح، فزاد الإيمان بالفردية والاستقلال الذاتي. ولكن درس الأحوال والتقلبات الاقتصادية وقف المفكرين العصريين على علل كثيرة في النظام الاقتصادي الحاضر.
وعندما نقرأ «برنارد شو» نجد أنه يمثل روح العصر في هذا التزعزع الذي يشمل كل شيء تقريبا، فقد تزعزع إيماننا بأشياء كثيرة، ووهنت عقائدنا أو انمحت، ولكنا لم نضع مكانها إيمانا جديدا. وهذا الجهد الذي نراه عند كثير من العلماء مثل «برجسون» في القول بالبصيرة بدلا من العقل، أو عند «جيمس جينز» في القول بأنه يشرف على الكون عقل رياضي عظيم؛ كل هذه المحاولات لإيجاد إيمان جديد إنما هي برهان على تزعزع العقائد القديمة ورغبة النفس الجامحة إلى الاستناد إلى شيء لأنها لا تطيق الخواء.
فإذا نحن درسنا «برنارد شو» أو من جاءوا بعده من الأدباء الاجتماعيين وجدنا شيئا كثيرا جدا من الهدم مع القليل جدا من البناء. وهم من هذه الناحية يشبهون علماء الاقتصاد في الأزمات الحاضرة، فإن هؤلاء يجمعون الآن على فساد عظيم في النظم الاقتصادية الراهنة، ولكنهم عندما يطلب منهم إيجاد مقترحات جديدة للعلاج يعجزون عن اقتراح أي شيء إيجابي يمكن الأخذ به، والاعتماد عليه، غير القليل التافه. وهذا بالطبع باستثناء الاشتراكيين الذين يعتمدون على برنامج إيجابي واضح.
ولست مع ذلك أتعامى عن أشياء ومقترحات كثيرة اقترحها «برنارد شو» على سبيل البناء والعلاج، ولكنها يبدو عليها عند التأمل أنها في مكان الاعتذار عن البناء، لا البناء نفسه. فهو عندما يأخذ في نقد المسيحية ويسير شوطا بعيدا في الهدم ينتهي، في ضعف، إلى التعلق بأن الألوهية كائنة فينا. وعندما يسقط في يده عن قيمة المنافسة بين الأفراد في عصر صناعي وما تجلبه من ضرر بالناس يلتجئ إلى الاشتراكية بتحفظات عدة تجعل كثيرا من المفكرين يتهمونه من أجلها بالفاشية.
وقد يشعر القارئ له أن إيمانه كبير وأنه يعتقد اعتقادا راسخا بالعلم وفائدته. ولكنه لم يستطع مع ذلك أن يصور لنا مجتمعا يعيش على ما يراه إلا بعد أن يتخلص من العقل ويطير بالخيال إلى زمن مجهول في المستقبل يبعد عن زماننا بنحو 30000 سنة حيث تنقطع كل علاقة بين الحاضر والمستقبل.
ومما يجب أن يلاحظ هنا أن جميع الأدباء الذين يمثلون الانحلال ويعملون للهدم يتفاءلون بالمستقبل ويؤمنون أعظم الإيمان بالعلم. وهذا ما نرى من «ولز» و«شو» مثلا. بينما العلماء أنفسهم أمثال «برتراند روسل» يتشاءمون من سلطان العلم ويتنبئون أسوأ النبوءات عن المجتمعات التي تعيش في ظل العلم، ويقولون إن الفئة التي تحتكر الثقافة العلمية ستأخذ في الاستئثار بالسلطان وتتسلط على العامة.
ونظن أن القارئ سينتهي إلى الاعتقاد بأننا نستصغر شأن «شو» بهذا الذي ذكرنا عنه. ولكن الحقيقة أننا نكبره ونعتقد أنه أدى أعظم خدمة للأدب الإنجليزي عامة وللمسرح الإنجليزي خاصة بتوجيهه هذه الوجهة. ثم هو في ظروفه التاريخية لم يكن له مفر من أن يقف معظم مجهوده الأدبي على الهدم، فقد نشأ في وسط اجتماعي ورث تقاليد عتيقة في الأسرة والاقتصاد والحكومة وعلاقات الدول، ورأى ظروفا اقتصادية جديدة في الصناعة تفعل فعلها في الانحلال، فأخذ في شرح النقائص حتى تطابق الحال الاجتماعية الحال الاقتصادية.
وحسبنا من «شو» أنه فتح الأعين إلى الإصلاح بأن وضع الإصبع على أمكنة الداء.
و«برنارد شو» عندما يعالج المسائل الاجتماعية إنما تحدوه إلى هذه المعالجة نزعتان؛ إحداهما: تلك النزعة العلمية التي تجعله يؤلف كتابا في الاقتصاديات لا تقل صفحاته عن 500 يشرح فيها قيمة النقد، ومعنى البدل النقد، والعرض والطلب، وأجر العامل، وأجرة العقار، ونحو ذلك، مما هو أبعد الأشياء في العرف الأدبي عن أديب يحترف القصص أو الدرامات. والأخرى: تلك النزعة الإنسانية التي تعيد إلينا ذكرى «فولتير» و«روسو». وأحيانا تصطدم فيه النزعتان، فإنه يحارب العلماء والأطباء بماله وقلمه ووقته لأنهم يجربون تجاربهم أحيانا في الحيوان الحي. وهم بالطبع يقصدون من هذه التجارب إلى المنفعة البشرية، ولكن إنسانية «برنارد شو» تمنعه من التفكير في هذه المنفعة إذا كان لا بد من إيلام الحيوان لأجل تحقيقها. وهو يكره القسوة بألوانها المختلفة، ودرجاتها المتفاوتة، فهو من ناحية يلعن الأطباء والعلماء لأنهم يؤلمون الحيوان بما يسمونه التجربة العلمية، ويتهمهم بأنهم إنما يمارسون لذة خفية «سادية» بهذا الإيلام لا تختلف من لذة الرجل الذي يصاب بالشذوذ الجنسي حين يضرب المرأة ويؤلمها ولا يتمم علاقته الجنسية إلا بضربها وإيلامها. ومن ناحية أخرى يخاطب الزوج الإنجليزي ويبكته في لهجة لاذعة من التقريع لأنه يلح على اقتضاء حقوقه الزوجية بالنوم في سرير واحد مع زوجته.
وبين هذين الطرفين نجده في معالجته للمسائل الاجتماعية ينزع نزعة كثيرا ما تتفق وأغراضه الاشتراكية. فهو يكره الاستعمار، ويذكر حادثة دنشواي بالتفصيل المؤلم. والحق أنه في هذه النزوات البارة يقف من المجتمع موقف «فولتير» من مجتمعه في القرن الثامن عشر. وليس شك أن «شو» في أيامنا هو السليل الروحي ل «فولتير». وهو يطلب الرفق بالأطفال، ويصرح بأن هناك آباء يسيئون تربية أبنائهم ويجب أن يفصلوا منهم. وقد آمن بنظرية التطور، بل دعا إلى الاستنارة بها في ترقية المجتمع ترقية عضوية حتى ينشأ من الإنسان «سوبرمان» تكون نسبته إلينا كنسبتنا نحن إلى القردة. ولكنه عندما اصطدم بمبدأ «تنازع البقاء» والطبيعة الحمراء بين المخلب والناب، أبت إنسانيته أن يصدق أن في هذا الكون مثل هذه القسوة، فرفض الإيمان بهذا المبدأ وأخذ يحتال على تفسير آخر للتطور، كأنه يريد أن تكون الطبيعة إنسانية أيضا، أو كأنه لا يفهم أنه هو نفسه إنسان لأنه أرقى من الطبيعة.
الطبيعة اخترعت الشهوة، ولكن الإنسان اخترع الحب. والطبيعة اخترعت التنازع، ولكن الإنسان اخترع التعاون.
ومنطق الطبيعة هو الغريزة الوقتية، ولكن منطق الإنسان هو العقل البصير.
وعدل الطبيعة هو قوة البطش بالذراع، ولكن عدل الإنسان هو القانون.
ولكن من الحق علينا أيضا أن نسلم بأن كل ما في الإنسان من إنسانية إنما ترجع جذوره إلى الطبيعة.
فلسفة برنارد شو
كان الفلاسفة في الأزمنة القديمة وبعض الحديثة لا يعدون أنفسهم جديرين بالفلسفة إلا إذا تكلموا عن الأصول والنهايات، وما يتجاوز حدود التفكير المنطقي إلى الغيبيات. ومن هنا لم يكن الفرق عظيما بين الصوفي والفيلسوف. ومن هنا أيضا كانت الفلسفات متشابهة في الغاية والإبهام أو الاستعصاء التام على الفهم، فلم يكن يفهمها إلا المعتقد الذي يرى أن العقيدة خير من الرأي، والبصيرة أنفذ من الفهم. وكان الفيلسوف لذلك يبتعد عن الناس ويعيش في عزلة ونسك، يجتر ذهنه ويكتب في القرن التاسع عشر ما كان يكتبه «أفلاطون» قبل 2300 سنة عن الفكرة والموضوع. أو الشيء في عقلنا والشيء في ذاته، إلخ.
وقلما ينجو مفكر من هذه الشواغل الذهنية. والواقع أنه يجب ألا ينجو منها، وأن تكون له منها رياضة، بشرط ألا ينغمس فيها؛ لأن الاختبارات الماضية تدل على أن الانغماس لا يأتي بطائل، وأننا ننتهي بعد الجهد ونفاد الصبر والذهن إلى أن نقول كما قال «هربرت سبنسر» إن كل هذه الأشياء هي «مما لا يمكن معرفته».
وفيلسوف هذه الأيام إذن ليس هو ذلك الناسك الذي ينأى عن الناس ويتكلم من فوق رءوسهم بما لا يفهمون، وإنما هو الذي يختلط بهم ويدرس مسائلهم ويحاول المحاولات المختلفة لإصلاح أحوالهم، بل إصلاح أجسامهم وعقولهم. وأنت إذا سألت عن المواد الخام التي يتغذى منها الأديب أو الفيلسوف في عصرنا ألفيتها أبعد ما تكون عما كان يفكر فيه الأديب أو الفيلسوف القديم، فهو الآن يدرس الطبيعة البشرية من المقامرة في البورصة ومضمار الجياد، وعليه أن يجهد ذهنه في درس العوامل الاقتصادية التي ترفع وتحط الأمم أو الأفراد، فمسائل النقد والأجر والإيجار والامتلاك والفاقة والغنى يجب أن تشغل باله؛ لأن جزءا كبيرا من سعادة البشر يرجع إليها. ثم هو لا يمكنه الآن أن يستغني عن العلوم لأنه لم يعد في مقدور إنسان أن يتكلم عن الأخلاق والفضيلة والرذيلة ما لم يعتمد في ذلك على المكاشفات العلمية الحديثة.
و«برنارد شو» يعد من هذه الاعتبارات فيلسوفا حديثا يمتاز بنزوات فلسفية جميلة، ظاهرها عبث وفكاهة وباطنها جد أكبر الجد، فهو يلح في درس المجتمع الحاضر قبل درس التاريخ. ويؤلف الكتب في واجبات المجالس البلدية كما يبلغها عن مستقبل الإنسان بعد ثلاثين ألف سنة. ويقرأ الكتب الطبية ويجاهر الناس بأن الطب يحتوي، إلى جنب العلم الصحيح، مجموعة من الخرافات التي صارت حرفة يحترفها الأطباء للعيش. وهو هنا متأثر بطب القرن التاسع عشر الذي لم يكن علميا محضا، أما الطب العصري فينهض على العلم. ثم يعود على الأدب فينكر على أدباء القصة والدراما اهتمامهم بالحب والغرام، ويصرح بأن ذلك الرجل الذي يعدد مآثره الغرامية إنما هو كذلك الآخر الذي يعدد مآثره في التهام ألوان الطعام سواء.
وتمتاز الدراما، كما يؤلفها «برنارد شو» بأنها خالية من الغرام، أو هو فيها في المحل الثاني، بل هو أحيانا كثيرة يخترع المواقف للتهكم بالعواطف الغرامية. ودراماته هي مصطرع الأفكار يتألق منها شرر الذكاء في حوار بديع، فلا يستطيع البليد أو الذكي إلا أن يفكر كلما قرأ له دراما أو شاهدها ممثلة على المسرح. وله بدعة جميلة هي أنه يكتب لكل دراما مقدمة تبلغ 150 صفحة، يشرح فيها الموضوع الذي تعالجه الدرامة. وهو هنا يشرح فلسفته، ويسهب في بيان ما اضطر إلى اختصاره في حوار الدرامة. بل هو أحيانا يبالغ في هذه البدعة، فلا يقنع بالمقدمة، بل يؤلف كتابا آخر ينسبه إلى أحد أبطال الدرامة ويلحقه بالدرامة نفسها. ففي «الإنسان والسوبرمان» نرى على المسرح رجلا يقول إنه ألف كتابا، ثم يقدمه لأحد أصدقائه. ولا ندري نحن المشاهدين من أمر هذا الكتاب شيئا. ولكن «برنارد شو» يكتبه ويلحقه بالدرامة المطبوعة. وهو كتاب جميل يبحث آداب الثورة والثائرين لأبناء القرن العشرين. والثورة هنا بيولوجية يراد بها تغيير الإنسان في جسمه وعقله، فهي ليست ثورة على الحكومة أو المجتمع، وإنما هي ثورة الإنسان على نفسه حتى ينشأ منه إنسان آخر يعلو عليه، كما يعلو الإنسان الآن على القردة.
وليس ل «برنارد شو» نظام فلسفي كما نرى مثلا ل «شوبنهور» أو «برجسون» وإنما له أفكار فلسفية يمكننا أن نستخرجها من دراماته أو بالأحرى من مقدمات دراماته.
ولو شئنا لعددنا له الكثير من هذه الأفكار، ولكن نقنع ببعضها أو بالأهم دون المهم.
فهو في الأخلاق يطلب حرية الفرد التامة، فلكل إنسان أن يفعل ما يشاء من فضيلة أو رذيلة. فيرى أن ليس للمجتمع مثلا، أن يكف الناس عن الخمر. ويبني رأيه هذا على أن مصلحته الحقيقية تقتضي أن تباح الخمور لجميع الناس حتى تصطرع الإرادات فيبقى الرجل المتين الصليب الذي لا تغريه الخمر بالانغماس ويموت اللين الخريع الذي ينغمس في الشراب. وذلك أن من شأن الرذائل أن تقتل المتهالكين عليها، وأن من مصلحة الأمة أن ينقرض هؤلاء الضعفاء الذين لا يملكون إرادتهم وعندئذ لا يبقى فيها غير الأقوياء. أو بعبارة أخرى يريد «برنارد شو» أن تكون الفضائل سجايا موروثة تجري في عروقنا وتتمشى بنا كأنها بعض طبائعنا، نلزمها عفوا وطبعا وليس تكلفا وتعليما. ولن يكون ذلك إلا بأن تنقرض منا عناصر الشر بانقراض أصحابها. وانقراض أصحابها لا يكون إلا بأن يستسلموا لها وينغمسوا فيها. وإذا كانت الرذيلة لا تقتل أصحابها، فهي إذن ليست رذيلة وليس ما يدعونا إلى أن نكف الناس عنها، فالنهم، والمنغمس، والمدمن، والقذر، والمستهتر، كل هؤلاء يؤذون أنفسهم بما يمارسونه، فمن مصلحة الأمة أن تتركهم حتى يبيدوا منها وليس من مصلحتها أن تقيم الحواجز كي تكفهم عنها؛ لأن قصارى ما تفعله عندئذ أنها تقيم قفصا من الواجبات الأخلاقية. ولكنها مع ذلك لن تغير طبائعهم. وهو يضرب المثل بفرنسا التي تستباح فيها الخمور يشربها الصغار والكبار والأطفال والشيوخ، فإن الفرنسي أقل الأمم سكرا وإدمانا؛ لأن الذين أدمنوا قد هلكوا وباد نسلهم فلم يبق سوى المعتدلين.
ولكن الذين رأوا تفشي المخدرات في مصر عقب الحرب الأولى لا يمكنهم أن يؤمنوا بهذه الإباحية، فقد رأينا نحن نصف مليون مصري تفترسهم المخدرات، وليس فينا من يستطيع أن يقول إنه يجب علينا أن نتركهم حتى تقتلهم هذه المخدرات؛ لأنهم إنما وقعوا فيها لضعف إرادتهم، وأن هذا الضعف جدير بأن تطهر منه الأمة حتى لا يبقى فيها غير الأقوياء المستعصمين الذين يستطيعون أن يعيشوا ويتصونوا مهما أحاطت بهم الغوايات.
ولمذهب «داروين» الأثر الأكبر في نزعات «برنارد شو» التجديدية. وهو هنا في موضوع الأخلاق إنما يجيز هذه الإباحية لأنه يرجو منها تطورا يصيب القلوب والغرائز فتستحيل الأخلاق طباعا موروثة لا يحتاج الناس إلى تعلمها وتكلفها وسن القوانين وإقامة الحواجز للمنع من مخالفتها.
وهذا «التطور» يشغف به «برنارد شو» شغفا عظيما حتى لقد جعله موضوعا لاثنتين من أقوى دراماته. وهو في واحدة منهما يقترح إنشاء «وزارة للتطور» يكون رئيسها عضوا في مجلس الوزراء. والقصد من هذه الوزارة تدبير الطرق وتهيئة الوسائل لاستنتاج طراز جديد من الناس يكون أقوى جسما وأذكى عقلا وأصح غرائز منا. وهذا الطراز الجديد هو سلالة «السوبرمان» - أي ما فوق الإنسان - فإنه يقول إنه ما دمنا في عصر ديمقراطي، الحكم فيه للأمم، فإنه يجب أن نجعل الناس يتطورون. حتى إذا مرت القرون ظهرت سلالات جديدة من الإنسان تمتاز من السلالات القديمة بميزات إنسانية جديدة. وهو هنا يشرح للقارئ جمود الإنسان منذ فجر المدنية إلى الآن، فإن هذا الرقي الذي نفخر به إنما هو في الوسط الذي يحيط بنا وليس في أنفسنا، فنحن أبناء العصر الحاضر وآباؤنا من عشرة آلاف سنة، سواء من حيث صحة الجسم أو ذكاء العقل، لم نتقدم في شيء. وإنما هذا التقدم الموهوم هو في الوسط فقط. وهو هنا يستشهد على أننا والمتوحشين سواء في الغرائز بآلاف الأمثلة، منها مثلا أن المتوحشين يحملون في فخار رءوس قتلاهم، وكذلك فعل «كتشنر» مع جثة «المهدي» التي بعثرها بقنابل المدافع في السودان.
وهو يرى أنه لا بد لاستنتاج هذا الطراز الجديد من الإنسان من الانتخاب الذي يتجاوز حدود الزواج. وهو يفرض وجود هيئة من العلماء تكلفهم وزارة التطور بتعيين الأشخاص الذين ترى في تزاوجهم فائدة للأمة من نسلهم المنتظر. وهو هنا إباحي لا غش فيه. ولو أردنا الشرح والإسهاب لتورطنا فيما لا يطيقه ذوق القارئ العربي، ولكننا نقول إنه ينظر إلى القوانين والشرائع من حيث إنها عادات وعرف، وأنه يجب أن تغير كلما وجدنا فائدة في التغيير. وهو يضرب المثل هنا بالزواج، فإن هذه الكلمة تحاط بهالة من الاحترام والقدسية حتى ليظن الإنسان أنها تعني شيئا واحدا عند جميع الناس. مع أن الواقع أنها تعني عادات تختلف بل تتناقض، فهناك المرأة التي تتزوج بضعة رجال في «التبت». وهناك الرجل الذي يتزوج بضع نساء. وهناك الزواج الذي لا يجاز فيه سوى رجل وامرأة لا أكثر. وينتقل من هذا البيان إلى استدراج القارئ إلى أن القول باستنتاج طراز جديد من الناس بلا زواج شرعي وعشرة دائمة بين الزوجين ليس قولا غريبا وإنما هو ابتكار عادة جديدة يقررها وزير التطور، أو هو زواج جديد، يسن المجتمع قوانينه الجديدة.
ولا يجوز لنا أن نتناول فلسفة «برنارد شو» دون أن نشير إلى الاشتراكية، فإنه يعلق هذا المذهب الاقتصادي على مذهبه البيولوجي السابق في استنتاج السوبرمان. وما دامت المرأة حرة من هذه الناحية الاشتراكية تعمل وتكسب فهي تستطيع أن تختار زوجها بهداية غرائزها. وهو يرى أن هداية الغرائز أدعى إلى ترقية السلالات البشرية من أي اعتبار آخر من الاعتبارات الحاضرة في الزواج، كأن تنشد المرأة في الزواج كفيلا يكفل لها العيش بدلا من أن تنشد حبيبا ومحبا إذا رأت وزارة التطور ذلك.
وهو من حيث الدين، أو بكلام أصح، من حيث المعاني الدينية، يؤمن بالتصوف «البرجسوني»، وأن البصيرة هي التي تهدي الذهن، وأن التطور يحمل في نزعته عناصر الرقي. وقد ألف ثلاث درامات عن الدين، وهي وإن لم تدل القارئ على أنه صريح الإيمان بالله فإنها تدل على الأقل على أنه مشغول البال بهذا الموضوع. ولكن لا يمكن مع ذلك أن يقال إنه ملحد، فإنه يرى أن الوظيفة هي أصل العضو، وأن العقل هو الأصل للجسم، وأن الفكرة هي الأصل للمادة، وأن وراء الكون الظاهر عقلا مختفيا. وقد حمل على «داروين» لأنه حين عالج موضوع التطور نظر إليه نظرة مادية فأزال منه القصد والغاية ، وجعل ظهور الأنواع الجديدة وقفا على بقاء الأصلح. وهذا لا يعني عند «داروين» أكثر من الاعتماد على المصادفات العمياء، وأن التطور يجري جزافا بلا قصد. في حين أنه هو - أي «شو» - يرى أن الحياة تهدف إلى غاية تسير نحوها على بصيرة هادية. وكأنه يقول: إن الحياة هي الله.
من داروين إلى برجسون
من الإهمال العظيم أن نعنى بحركة التجديد في الأدب دون أن نلتفت إلى عناية الأدباء بالدين.
صحيح أن الأديب الأوروبي الآن لا يبالي الموضوعات الدينية كثيرا، كما كان يباليها «فولتير» مثلا قبل قرنين تقريبا، ولكن ذلك يرجع إلى أن الاضطهاد الديني كان قويا أيام «فولتير»، فلم يكن اهتمام هذا الأديب العظيم به إلا على سبيل الجهاد للحرية فقط.
أما الآن فإننا بفضل «فولتير» وغيره من الذين حاربوا الظلم والظلام نعيش في جو من التسامح الديني لا يبعث الأديب على الجهاد للحرية. ثم إن محور المدنية الحاضرة يعتمد في حركته على الاقتصاديات؛ ولذلك انتقلت هموم الأدباء، أو معظم همومهم، من الدين إلى معالجة الاقتصاديات.
ولكن التجديد الأدبي كما هو مشاهد الآن ومنذ أربعين سنة في إنجلترا، يرافقه تجديد ديني ترى علاماته في كثرة المؤلفات التي يضعها كبار الأدباء. وفي اهتمام الجمهور المتعلم بالفلسفات الشرقية عامة وفي الدعوة إلى محاربة المادية بألوان من العقائد «الدينية» كالروحية والحيوية والبشرية.
وأول من ألقى الحجر وعكر المياه هو «داروين». ولم يكن «داروين» أول من تكلم عن التطور، فقد سبقه «لامارك» و«جوته» بل سبقه جده لأبيه «أرازموس داروين». وإنما امتاز «داروين» بوفرة الشواهد التي اعتمد عليها في التدليل على تسلسل الأحياء الحاضرة من أحياء قديمة بائدة، وإيراد هذه الشواهد في سلسلة منطقية مقنعة، بل مفحمة. ثم إن الكنيسة وقفت موقف العداء، فصار المذهب الدارويني حربا بين الكنسيين والتطوريين. وهذه الحرب هي التي أكسبت هذا المذهب قوة وانتشارا.
ولكن منذ أيام «داروين» ظهر لمذهبه عدو جديد غير الكنيسة. وقد وجد أنصار «داروين» أن الانتصار على الكنيسة ليس شيئا عظيما، ولكن الانتصار على هذا العدو الجديد لم يكن سهلا. ولا يعد حتى الآن كذلك.
وهذا العدو الجديد يؤمن بالتطور والتسلسل ولكنه لا يؤمن ب «داروين»؛ وذلك لأن «داروين» اعتمد على «تنازع البقاء» و«الانتخاب الطبيعي» كأنهما العاملان الوحيدان تقريبا في تطور الأحياء. وإذا نحن تأملنا هذين العاملين ألفينا معناهما ينحصر في المصادفة، فكأن الطبيعة عمياء تخبط في التطور، وكأنه ليس وراءها إرادة أو عقل. وهذه هي المادية الصريحة.
ولذلك نجد منذ أيام «داروين» حركة قوية يتزعمها «بطلر» الذي كان يؤمن بالتطور ولكنه كان يقول بأن الأساس أو المحرك لهذا التطور هو الإرادة أو العقل. وأن الإنسان لم يبلغ إنسانيته إلا لأنه أراد أن يكون إنسانا، فهذه الإنسانية لم نبلغها مصادفة بتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. ولم يكن ظهورنا على الأرض خبطا ومصادفة، كما يعتقد «داروين». وإنما كان لأننا أردنا وقصدنا إلى الغاية التي انتهينا إليها. ولا عبرة بالقول بأن أسلافنا من الأحياء الوضيعة لم تكن تعرف هذه الغاية، لأن عرفانها بها لا يقتضي الشعور أو الوجدان. وهذا لا يمنع أن إرادة التطور إلى الإنسانية كانت مستقرة في نفسها.
وهذا النظر الغيبي الصوفي للعلم، أو الإيمان بأن وراء الظواهر قوة خفية تعمل للرقي، لا يمكن حذفه بالسهولة التي يبعثها البحث السطحي، فإن التعمق في هذا الموضوع إن لم يؤد إلى الإيمان فإنه سيؤدي على الأقل إلى الشك في المادية.
وكلمة «المادية» تؤدي الآن معنيين في أذهان المفكرين؛ أحدهما: ذلك المعني الفلسفي الذي نعني به الإيمان بما يخالف الروحية والاقتصار على المحسوسات أو المعقولات. والآخر: ذلك المعني الاقتصادي الذي نقصده حين نفسر التاريخ تفسيرا ماديا، فلا نرى وراء الحادثة أو الشخص سوى الظروف المحيطة التي تؤثر فيهما. والواقع أن هذا «النظر المادي للتاريخ» الذي أذاعه «ماركس» يشبه تمام الشبه ذلك النظر المادي للحياة الذي اعتمد عليه «داروين» في تاريخ الأحياء - أي التطور - فكل من «داروين» و«ماركس» يكبر من شأن الوسط، بل يكاد يقول إنه العامل الوحيد في تطور الحيوان أو المجتمع، ويصغر من شأن الحي ويكاد يجعله ضحية الوسط .
والآن تسمع في بعض الأوساط أن مذهب «داروين» قد مات. وقائلو هذا القول لا يعنون أنهم لا يؤمنون بالتطور وإنما يعنون أن تنازع البقاء وبقاء الأصلح ليسا هما المحركان للتطور، وأن الأحياء «حيوية» تسمو إلى قصد وتتوخى غاية.
وهذه «الحيوية» هي الآن مذهب يعارض المادية في الفلسفة. وقد عادت الكنيسة الإنجليزية بعد مشاكسة طويلة تؤمن بالتطور وتقول به لأنها رأت في هذه الحيوية شيئا قريبا من الروحية، واعترافا بأن في الكون عقلا يدبر. وكان «بطلر» أول من بذر هذه البذرة، ثم جاء بعده «برنارد شو» فقال أيضا بقوة الحياة. وأخيرا جاء «برجسون» العالم الفرنسي، فشرح وأسهب واستطاع أن يشق شقا بين الماديين فيكتسب منهم البعض ويلقي الشك في أذهان البعض الآخر. وهو إلى الآن محور المعركة ورجاء الروحيين. وهو يرى أن الحياة نفسها دائبة لا تفتر في التطور، وهي ترمي إلى قصد وإن لم يكن معينا. وقد يأتي يوم بعيد نعرف فيه غايتها ونقف منها على أسرارها؛ وذلك أن الحياة قد أخذت طريقين في تاريخ الأحياء في الماضي:
طريق العقل، كما نراه على أكمله في الإنسان.
وطريق الغريزة، كما نراها على أكملها في الحشرات.
وكل من العقل والغريزة قد نشأ لمصلحة الحيوان للبحث عن الطعام وطلب الأنثى والهجوم والدفاع ونحو ذلك. ولكن نحن نرى الآن أننا قد صار لنا من هذا العقل الوضيع ذهن فلسفي يستطيع أن يتجرد من مطالب الطعام واللقاح إلى التفكير في الكون منشأ وغاية. وإذن - يتساءل «برجسون» - لماذا لا يكون في مقدور الإنسان أن يستخرج من غرائزه بصيرة يستطيع أن يكشف بها الحقائق كشفا لدنيا بلا عناء ولا تفكير، كما تهتدي الحشرة إلى فريستها أو أنثاها بلا تفكير أو تدبر؟
والغرائز كامنة في الإنسان قد تغلب عليها العقل، ولكن يمكن إحياؤها في أي وقت واستنباط البصيرة الفلسفية منها. وهذا هو النظر الصوفي على أقصاه وأبلغه. وهو أيضا نظر طائفة من الأدباء الذين يحاولون تجديد الدين، وفي مقدمة هؤلاء «برنارد شو»، فإن هذا الأديب يخاف العلم خوفا حقيقيا مع أنه يرى فيه الرجاء لتحقيق السعادة بتوفير الخيرات للناس؛ فهو لذلك ينذر الناس بأن مصيرهم إلى الفناء والدمار إذا لم يعتمدوا في حياتهم على الدين. ولذلك حمل حملته المنكرة على «داروين»؛ لأنه كما يقول «بطلر» قد ألغى العقل من الكون، ووضع تنازع البقاء وبقاء الأصلح مكانه، فكأنه بذلك قد جعل القتال والحروب والتناحر والمزاحمة إلى الموت سننا، أو نواميس، قد شرعتها لنا الطبيعة، فلا بأس من أن نسير فيها. وهذا هو الدمار.
والخوف من تقدم العلوم، والحذر منها، إذا لم يرافقها دين، يتضح في جميع ما كتبه «شو» و«ولز»؛ فقد كتب هذا الثاني جملة مؤلفات عن الله والدين ولكنه ألحد أخيرا، وسكن إلى الإلحاد على الرغم منه. وأصبح يشبه القائلين بالبشرية - أي الإيمان بالإنسانية فقط - أصلا وغاية، ويعمل لرقيها. ولكنه مع إلحاده هذا يدعو إلى الدين البشري لأنه يخاف مادية العلم، وأن يؤدي تقدمه إلى زيادة التنازع والتناحر فيقضي هذا التقدم على الحضارة.
وهنا يجوز لنا أن نتساءل: هل الباعث الحقيقي إلى هذا الاهتمام بالدين عند «بطلر» و«ولز» و«برجسون» هو الاصطدام بحقيقة لا يمكن الهروب منها، أو هو الرغبة الحارة في إيجاد عواطف دينية رحيمة توازن المنطق العلمي القاسي؟
لندع هذا الآن. ولكن يجب أن نقرر هنا أن هذا المنطق العلمي ينطوي على قسوة تكاد تدفع بالإنسان إلى الفرار منه إلى أية عقيدة يتماسك بها كيان المجتمع ولو كانت كاذبة، فقد عبر «برتراند روسل» عن هذا المنطق العلمي أحسن تعبير في كتابه «طوالع العلم» فوصف كيف يكون الناس حين يستفيض الروح العلمي ويسود الحكومة والتعليم والنظام عامة، فإذا به يخرج بعد هذا بجهنم متقنة الوضع محبوكة الأطراف، حيث يتغلب العبقريون ويتزاوجون فيما بينهم فتكون منهم سلالة منفصلة في بناء الجسم والعقل تستبد بالعامة وتحرم على أفرادها التعمق في درس العلوم ... إلخ.
هذا المنطق القاسي الذي يخيف الأدباء في إنجلترا وغير إنجلترا هو الذي يدفعهم إلى تجارب دينية جديدة غير بصيرة «برجسون». فمن ذلك هذه الثقافة الجديدة التي تفشت في الأوساط المتعلمة في أوروبا عن درس الأديان الشرقية، وخاصة البوذية والهندوكية. ومن ذلك أيضا هذه الحماسة أو هذا التلهف لدرس الطبيعيات الجديدة على يد «جينز» و«أدنجتون» العالمين الإنجليزيين اللذين يقولان بأن وراء الكون فكرا مدبرا، ويجنحان إلى غيبيات «عصرية» تشبه غيبيات «أفلاطون» من حيث أن وراء المادة فكرة.
ولم يبلغوا بعد نهاية هذه التجارب. فمنهم المؤمن القديم، ومنهم الذي يوهم نفسه بأنه يؤمن بإيمان جديد. ومنهم المتردد، ومنهم الملحد الذي سكن إلى إلحاده سكون اليأس. ثم منهم أخيرا «البشري» الذي يسكن إلى ديانة بشرية ليس فيها شيء من الغيبيات؛ إذ هي مجموعة الجهد البشري للرقي لا أكثر.
ولكن لن نفهم الحركة التجديدية في إنجلترا بل في عالم الثقافة الأوروبية حتى نولي هذه الأفكار بعض انتباهنا.
ولز
كان الأديب الناشئ في إنجلترا يقضي تلمذته في درس الشعر والتاريخ والأدب القديم. أما الآن فإنه يبدأ بدرس الآراء الاقتصادية والاجتماعية. وكان الأديب قبل نحو مائة سنة يحوم حول الآراء الاجتماعية ولا يكاد يمسها، أما الآن فإنه ينغمس فيها. وتعود هذه الظاهرة إلى أن الوسط القديم لم يكن معقدا، ولم تكن المسائل الاجتماعية والاقتصادية تبرز بروزها الحاضر وتقصر المفكرين على التفكير فيها ومحاولة حلها. ويجب أن لا ننسى أن الوسط يؤثر في المذاهب الأدبية بأكثر جدا مما تؤثر المذاهب الأدبية في الوسط؛ وذلك أن الأديب يستمد إلهاماته وعواطفه من البيئة التي تحيط به سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية. وهو يستجيب لها أو لواحدة منها بمقدار الصدمة التي يصطدم بها ذهنه. إذا كانت الحال الاجتماعية أو الاقتصادية من التعقيد بحيث تنبه وتوقظ، كما هي الآن بمفاجأتها وحروبها وأزماتها وثوراتها، فإن الأديب الناشئ يضطر إلى درسها ويعنى بها أكثر من عنايته بالأدب القديم.
وقد سبق أن قلنا إن الثقافة الإنجليزية أصبحت اجتماعية. الآن نقول إن الأدب الإنجليزي أصبح اجتماعيا. ولو أننا قابلنا بين أديبين عظيمين يغمران عالم الأدب الآن مثل «شو» و«ولز» والأدباء الذين عاشوا في القرن التاسع عشر لألفينا الفرق واضحا، فإن أولئك الأدباء لم يعرفوا القصة الاجتماعية كما يمارسها الآن «ولز» ولم يعرفوا الدرامة الاجتماعية كما يمارسها «شو».
وقد ظهر أدباء مجددون لهم بريق وحرارة. ولكنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يكسفوا ببريقهم «شو» و«ولز»؛ وذلك لأن هذين الكاتبين تناولا الحياة الإنجليزية بمشرط الجراح، ودأب كل منهما في إيضاح العلل والأمراض حتى اصطبغ تفكير المفكرين عامة بآرائهما. وأنت حين تقع على رأي مخيف، بل مرعب، ل «برتراند روسل» أو للآنسة «إيثيل مانين» أو ل «هولدمان جولياس» أو الآنسة ابنته (في أمريكا) فإنك تستطيع أن تبحث عن البذرة الأولى في هذين الكاتبين. وأيضا عندما تجد أسقف برمنجهام يقف في كنيسته ويجرح شعور المؤمنين حين يصرح لهم بأن القديس فرانسيس لم يكن يستحم، فإنك تستطيع أن ترجع في استقصاء هذه الوقاحة إلى الروح العلمي الذي يكتب به «ولز» وإلى أن القداسة التقليدية عنده لا تساوي نظافة الجسم.
ولم يقتصر «ولز» على القصة الاجتماعية، فإن دراساته في الموضوعات الاجتماعية قد تعددت؛ فإنه ألف كتبا مستقلة عن الاشتراكية والتاريخ والتنبؤات الاجتماعية والدين والاقتصاد. وهو لم ينس نزعته الأولى وهي النزعة العلمية، فإن أول كتاب ألفه كان عن التشريح. وقد حرر، ولم يؤلف، كتابا ضخما عن المعارف العلمية الحديثة. وله قصص يعتمد فيها على نظريات علمية سواء في البيولوجيا أو السيكلوجية. وقد ورث «جول فرن» في القصة الخيالية التي تعتمد على العلم، وألف في الحروب الهوائية القادمة. وقد عاش إلى أن رأى بعينيه أرجاء الجو تنبض بالمواخر الجوية، كما رأى أساطيل الطائرات تدك برلين ولندن. وله خيالات علمية عن طعام الآلهة، والجنون الذي ينشأ من مركب النقص.
ومع هذا الروح العلمي الذي يسود ثقافة «ولز» فإنك تقرأ قصته النابضة بالحركة فلا تشعر بأي نقص أو خلل في فنه. وهو أقرب المؤلفين إلى «دكنز» وله عطف خاص على الفقراء والمشردين والسكارى. ولكن عطفه ليس عطف البكاء والدموع، وإنما هو عطف الحب والضحك والاستهانة بمشقات الفاقة والحرمان. كما أن قصصه تغص بالأفكار التي تنقض وتهدم، كما تبني وتكمل.
ولز.
وقد ألف قصصا عن الزواج والحرب والعقاقير. وهو فيها جميعها ينحو نحو غايتين هما الحرية والتقييد؛ أي الحرية للفرد في تفكيره وعقائده ومسلكه الشخصي، والتقييد للنشاط الاقتصادي الذي يجب أن تقوم به الجماعات دون الأفراد. ونقول بعبارة أخرى إنه يطلب الاشتراكية ولكنه لا يريد أن يتقيد بمذهبها كأنها عقيدة ماركسية لا يجوز مخالفتها.
ويعد «ولز» الآن عند كثيرين في أوروبا الأب الروحي لحضارة المستقبل، كما هو زعيم التفكير الحر والدعوة إلى البر في السياسة، فهو ينتقض الدعوة الوطنية ويدعو إلى العالمية. وهو الخصم اللدود الآن ل «موسوليني» يجد المهضومون عنده أبدا صوتا صارخا لمكافحة الاستبداد. وقد دعا إلى الجمهورية في إنجلترا مع أن العرش ليس مكروها هناك. وإنما دفعه إلى ذلك كراهته للميزات الاجتماعية التي تنشأ من الميراث.
وأدب «ولز» مع كل ما ذكرنا، هو أدب صحفي، فلو أننا تناولنا كتابا أو قصة ألفها قبل عشرين سنة لشعرنا بالقدم والتأخر باديين عليها، فقد ألف مثلا قصة عن المرأة التي تطلب المساواة بالرجال وحقوق الانتخاب، وكلاهما قد تحقق الآن، فالقصة لا تدلنا الآن عن حال نعرفه في الوسط الراهن. وألف كتابا عن مستقبل أمريكا حوالي سنة 1903، لو أنه قرئ الآن لخالف الواقع. وله من هذه المؤلفات «الوقتية» عدد كبير نقصت قيمته أو زالت تماما لأنها كتبت لغير وقتنا، فخدمت قراء ذلك الوقت وانتهت عند ذلك. وهي هنا تشبه سائر مؤلفاته الاجتماعية التي تعالج أحوالنا الحاضرة، فإن قيمتها ستزول ولا يبقى غير دلالتها التاريخية. والدنيا دائبة في التطور؛ ولذلك فإن النزعة الصحفية في الكاتب ستعمل لفنائه لا لخلوده. وهذا الفناء هو في الواقع تضحية الكاتب بنفسه من أجل جيله.
ولسنا نعني أن كل ما يكتب عن التطور الحاضر من المدنية ستزول قيمته الفنية عندما يتبدل هذا التطور، وإنما نعني أن شيئا كثيرا من قصص «ولز» ودراساته قد اصطبغ بالصبغة الوقتية «الصحفية»؛ ولذلك ستنقد فيه الأجيال الآتية ما نجده نحن من لذعة الحقائق ومرارة الواقع.
ولكن إذا كانت هذه الكتب «الصحفية» لن تعيش فذلك لأنها أدت مهمتها في الإصلاح الذي نشده مؤلفها، فإذا ماتت هذه الكتب فإن موتها برهان نجاحها.
وقد سبق أن رأينا مثل ذلك في درامات «إبسن»، فإن «بيت عروس» مثلا كانت تعد من الدرامات الثائرة؛ لأنها تطلب للمرأة شخصية مستقلة عن الزوج والأولاد. ولكن ثورتها ضعفت؛ لأن الناس قد آمنوا بهذه الأفكار للمرأة وصرنا نحن لذلك لا نستطرفها ولا نستهول آراءها. وهذا برهان على نجاحها لا على فشلها؛ إذ إن نفوسنا نحن المتمدنين قد أشبعت بها حتى لا نجد فيها جديدا.
وأغلب الظن أن ما سيعيش للأجيال الآتية من «ولز» هو القصص المسلية مثل «كبس» أو «بيلبي» التي لم يؤلفها إلا ليرفه عن نفسه سأم الدرس لهذه الفوضى التجارية والصناعية والمالية التي تجتاز بها إنجلترا، بل الدنيا، الآن. وذلك لأن هذه الفوضى ستزول، فلا يعود يباليها جمهور القراء أو يقرءون عنها تفاصيلها المؤلمة في كتب «ولز». ولكنهم سيحتاجون إلى الضحك بقراءة «الفقير كبس» الذي أثرى فجأة، فلا يعرف كيف يعيش عيشة الأغنياء. أو بقراءة «بيلبي» الصبي الهارب من أمه الذي يشرد في الحقول ويشارك رجلا قد احترف التشرد والسرقة، فيتعلم منه حرفته، ويسرقه هو نفسه، ثم يعود إلى أمه وقد تعب من قلق العيش في التشريد، ينشد أمن الحياة بين ذراعي الأم.
دراسات ولز الاجتماعية
إذا تحدث الإنسان عن الأدب الإنجليزي خطرت «القصة» بالبال. ولكن ليس معنى هذا أن القصة هي أحسن ما في الأدب الإنجليزي، وإنما معناه أنها تغمره بكثرتها، ففي كل عام يطبع في إنجلترا نحو ثلاثة آلاف قصة: 999 في الألف منها هو مجموعة من الهراء والسخف والعواطف المبهرجة. والأدب الإنجليزي الآن أوسع من أن ينحصر في القصة أو «الدرامة»؛ لأن الأديب يعالج ألوانا وصيغا أخرى تتناول الترجمة - أي السيرة التحليلية - بل تتناول أحيانا التاريخ. وفي إنجلترا لون من ألوان الأدب قلما يتقنه غيرهم، هو «المقالة» التي ترجع في تقاليدها إلى «ستيل» و«أديسون» و«ماكولي». وللمقالة مقام في إنجلترا الآن يزيد على مقام القصة. وقد عالجها جميع المجددين والرجعيين مثل «شو» و«ولز» و«شسترتون» و«بيلوك».
وقد وجد «برنارد شو» أن الدرامة تعجز عن التحليل الكافي الذي يفي بتفاصيل الموضوع؛ وهو لذلك يزود الدرامة التي لا تزيد صفحاتها على خمسين بمقالة قد تبلغ مائة صفحة. ومقالات «ولز» لا تنقص في القيمة الفنية عن قصصه. ثم هل هناك من القصص الحديثة ما يسمو على ما كتبه «أندريه موروا» أو «ليتون سنراتشي» من السير التحليلية؟
ويبدو أن الأدب الإنجليزي سيمعن في الاتجاه إلى هذه النواحي؛ وذلك لأنه يغزو ميادين جديدة في الثقافة، فالأديب يكتب الآن في الاقتصاديات والاجتماعيات، وكثيرا ما يجد أن القصة أو الدرامة أداة ناقصة لا تفي بغرضه فيعمد إلى المقالة يؤلف أجزاءها حتى تستوي جسما فنيا كما يروق الذوق بشكله، يحرك الذهن بموضوعه.
بدأ «ولز» يؤلف القصص، وانتهى بتأليف المقالات والكتب. ولم يكن في ذلك منحدرا، وإنما كان صاعدا؛ لأنه وجد أنه كلما ازداد ثقافة تناول ذهنه من الموضوعات ما تعجز القصة عن إيفائه حقه. وقد راجت مؤلفاته - غير القصص - رواجا عظيما جدا، فإن مؤلفه في التاريخ العام بيع بمئات الألوف، وترجم إلى جميع اللغات الحية تقريبا. وتعددت طبعاته، فمنها الأنيق المزخرف الذي يباع بالجنيهات، ومنها ما يباع بخمسة قروش فقط.
ول «ولز» كتب عدة في الاشتراكية أو التفكير الاشتراكي الذي يصبغ قصصه أيضا. وقد عالج الاقتصاديات في كتاب ضخم لا يصدق من يقرؤه أن مؤلفه من أبرع القصاصين في إنجلترا الآن. ثم هو قد امتد نشاطه إلى العلم؛ ولذلك حرر كتابا في المعارف العلمية بمساعدة ابن «جوليان هكسلي» تناول فيه تلك المعارف التي تؤثر في سعادة الإنسان. بل لقد ألف كتابا عن التعليم، وصف فيه مدرسة جديدة هي مدرسة «أوندن» التي ابتكر مديرها «ساندرسون» نظرا جديدا للتعليم هو أن يكون عالمي الغاية. هذا النظر هو الذي حدا ب «ولز» إلى تأليف التاريخ العام للعالم.
ويعتمد «ولز» كثيرا على العلم، فإذا تخيل «طوبى» للحياة المثلى كان العلم أساس خياله. وما هو إن ظهرت نظريات «فرويد» في «العقل الكامن»، حتى سارع إلى استغلالها، فألف قصة «والد كريستينا» وهو مجنون يعالج بالتحليل النفسي على طريقتي «فرويد» و«يونج».
ومن أعظم ما يأسف له القارئ ويشعره بالمأساة البشرية، هذه الحيرة التي تقلب فيها «ولز» وهو يحاول أن يؤمن بمبدأ روحاني وراء المادة، فإنه بدأ بالاعتقاد أن لله شخصية مستقلة عنا. ثم أخذ يستند إلى آراء «يونج» السيكولوجي السويسري المعروف، ويقول إن العقل الكامن عندنا إنما هو عقل النوع البشري كله. وأن لهذا العقل الجماعي شخصية مستقلة عنا كأننا يجب أن نؤمن بها إيمانا. وأخيرا، وبعد التخبط الطويل، انكفأ إلى نفسه يتكلم في تواضع كما يتكلم البشريون الذي يؤمنون بأن المرجع الديني، بل كذلك الغاية الدينية، يعودان إلى محور واحد هو الإنسان بلا حاجة إلى عقائد غيبية. والكتب «المقدسة» التي يرجع إليها هؤلاء البشريون هي كتب العلم والأدب والفلسفة، بل كتب جميع الأديان أيضا. وقد لا يكون هذا عجيبا من رجل نشأ نشأة علمية، له كتاب في تشريح الحيوان، وأشرب مبادئ «هربرت سبنسر» المادية، فإنه وإن كان قد عرف بعد ذلك «وليم جيمس» السيكولوجي الأمريكي، أول من دعا دعوة روحية عن طريق السيكولوجية، فقد بقي في نفسه الميل إلى التحليل العلمي. وهذا الميل لم تؤثر فيه الروحية الجديدة التي انطلق فيها كل من «إدنجتون» و«جينس» بلا سبب معقول، إذ إن كل ما يستندان إليه إنما هو شكوك علمية بعيدة عن اليقين. وكذلك لم يتأثر، كما تأثر «شو» بالمبدأ الحيوي الذي يقول به «برجسون».
وقد أصبح «ولز» كتلة عقائد، فإن آراء الشباب التي كان يتبسط في شرحها في مقالاته وقصصه أصبحت، بعد أن بلغ السبعين (في 1937) من عمره عقائد جامدة، فهو اشتراكي يطعن من آن لآخر في «ماركس» زعيم الاشتراكية، وكأنه بذلك يريد أن يثبت استقلاله. وهو عالمي يطعن في الوطنية، ولكنه لا يكف أيضا عن الطعن في عصبة الأمم مع أنها بذرة العالمية؛ إذ يرى فيها تقصيرا عن العالمية . ثم هو مع هذا يريد حضارة غربية قائمة على الآلات الضخمة التي تزيد فراغ الناس. ويريد ديانة بشرية قوامها التطور، ويريد نظاما علميا للحكومة بحيث يصبح تنظيف الشارع، وبناء المنزل، وإطعام الأطفال وتعليمهم، بل استنتاجهم، من مهماتها الأولى.
وإذا أردنا أن نقابل بين «شو» و«ولز» أمكننا أن نقول إن ذهن «شو» هو ذهن التحليل والنقد والهدم، بينما ذهن «ولز» يتجه نحو التأليف والبناء.
ويعيش «ولز» في الحضارة القائمة الآن وهو يعد الناس لحضارة قادمة، فهو أكثر الكتاب شعورا بأن أوروبا تنتقل إلى النظام الاشتراكي القريب. وهو يطالب المعلمين والكتاب أن يعدوا الناس لهذا الانتقال. ثم هو يرى الخطر العظيم من التهاون في فهم هذه الحقيقة؛ لأن آلات التدمير أتقنت إتقانا فظيعا. ونحن نشرف بها ومنها على هاوية المستقبل التي قد نتردى فيها، وعندئذ يكون انقراض النوع البشري، كما انقرض نوع الديناصور وأنواع أخرى. وعلى الطبيعة أن تشرع من جديد في استيلاد حيوان آخر يأخذ مكاننا ويسلك بالحكمة، التي لم نسلك بها. فإذا تركنا السياسة الحاضرة تجري مجراها والتنافس التجاري يسير سيره الطبيعي فلن يكون ثم مفر من حرب كبرى أخرى قد تقضي على الحضارة. ومع أن الاشتراكيين الإنجليز يقبلون الملوكية القائمة، فإن «ولز» يلح في طلب الجمهورية ويصرح بذلك في الصحف وغايته إعداد الأمة الإنجليزية للنظام الصناعي الجديد وهو نظام اشتراكي. ثم هو لا يعرف التسوية مع خصومه، فهو خصم صريح للبابوية والفاشية كما هو خصم للملوكية والوطنية والحرب والتعصب القومي أو الديني.
ثم هو بنزعته العلمية لا يرضى بالنظم البرلمانية الحاضرة؛ لأنه يعتقد أن أحوالنا الاقتصادية قد بلغت من التعقد بحيث تحتاج إلى خبراء - أي علماء - في الصناعات والعلوم الاقتصادية. وأن الاعتماد الآن في إدارة شئون الأمة على أيدي السياسيين وحدهم إنما هو بمثابة لعب الأطفال بالنار. ويرى في هذه الأزمة القائمة (1933) البرهان على ذلك.
كتبت هذه الكلمات في 1933. وأنا أعود إليها بالتصحيح والتنقيح في 1945 بعد الكشف العظيم للطاقة الذرية واختراع القنبلة الذرية. وقد وقف منهما «ولز» موقف المتردد بل الواجل؛ إذ هو يصرح بأنه لا يعرف إذا كان الناس سيتطلعون بهذا الكشف إلى آفاق السعادة فيؤلفون حكومة عالمية تنظم هذا الكوكب، أم هم سوف يشرفون منه على هاوية المستقبل حين تتناحر الوطنيات وتتقاتل الأمم إلى الفناء. وهو إلى التشاؤم أميل منه إلى التفاؤل. ثم هو في سنيه الأخيرة قد ازداد حدة في بشريته؛ ولذلك صار يدعو إلى الإلحاد الصريح. وزادته الدعوة إلى العالمية اتجاها نحو الإلحاد، كأن دراسة الجغرافيا والاقتصاد والعلوم يجب أن تأخذ مكان الدراسة للغيبيات لإيجاد السعادة للبشر على هذه الأرض.
ولز بين الوطنية والعالمية
ليس في العالم خصم للوطنية يدعو إلى العالمية مثل «ولز» وهو لا يفتأ يعزف على هذا الموضوع. وهو على هذه الحال منذ نحو ثلاثين سنة، لم يتغير حتى مدة الحرب، فإنه هو الذي وضع عبارة «الحرب لإنهاء الحرب»؛ أي إنه كان يدعو الإنجليز إلى التجند وقتال الألمان كي تكون هذه الحرب الكبرى نهاية الحروب، بإقامة هيئة تقضي القضاء النافذ في الخلافات التي تقوم بين الأمم فلا يحق لدولة أن تعلن حربا على دولة أخرى بل لا يجوز لدولة أن تجند جيشا.
وفي هذا العام (1933) ألقى خطبة في مدرسة الأحرار الصوفية في أكسفورد، فدعا إلى إنشاء عصبة من الفاشيين الأحرار كي يقاوموا الفاشيين الذين يدعون إلى الوطنية الحادة مثل أتباع «موسوليني» في إيطاليا وأتباع «هتلر» في ألمانيا.
فالرجل لم يتغير عن دعوته الأولى التي دعا إليها حوالي 1902. وهو في هذه الدعوة يرث الرسالة من «فولتير» و«روسو» وسائر البشريين من الإنجليز والفرنسيين. وقد ألف كتابه «خلاصة التاريخ» وهو ينظر إلى العالم كأنه أمة واحدة. والكرة الأرضية عنده هي «القرية الكبرى» لجميع البشر. ولذلك أيضا طعن في كل من «الإسكندر» و«نابليون» لأنهما من رجال الحرب والفتح. وترتيب هذا الكتاب هو بدعة في تأليف التاريخ؛ فإنك لا تجد فيه تاريخا لكل أمة على حدتها. وإنما تجد موكبا سائرا يدلك على التقدم البشري بصرف النظر عن الأمة التي ينتسب إليها هذا التقدم.
ومنذ ثلاثين سنة أيضا اقترح تأليف حزب أو عصبة يكون أعضاؤها من جميع الأمم يسيرون فيما سماه «مؤامرة مكشوفة» غايتها هدم الوطنية والاتجاه بالناس إلى الحرية والعلم والعالمية؛ أي أن يكون العالم أمة واحدة لها حكومة مركزية تتولى التعليم والنظام المالي. وهذه الهيئة يجب أن تؤلف للعالم موسوعة كبيرة تترجم إلى جميع اللغات، فتكون دستور الثقافة، يعاد تنقيحها من آن لآخر كي تتجدد معارفها، فإذا قرأها جميع الناس في مختلف الأمم اتفقت آراؤهم السياسية عن فهم، فلا يكون اختلاف وتعصب يبعثان على التنافر والحروب.
ثم يجب أن تأخذ هذه الهيئة نظام التعليم أيضا، فتمنع مثلا تدريس التاريخ إذا كان يبعث في التلاميذ روحا وطنيا، كما يجب أن يستوي جميع التلاميذ في العالم في الحصول على أوفى قسط من التربية؛ لأن الجهل الذي ينشأ في أمة ما من إهمال التعليم قد يؤدي إلى خطر كبير على سائر الأمم. بل هو يرى أن تقوم هذه الهيئة بإيجاد دين عام، أو بعبارة أصح، مزاج ديني عام لجميع الأمم بحيث لا يؤدي التعصب الديني في واحدة منها إلى إيقاع خطر بالأمن العالمي.
ثم هو يرى أن تحقيق هذا النظام العالمي لا يمكن إلا مع إنشاء نقد عالمي واحد يتعامل به جميع البشر، فلا بد إذن من إنشاء بنك للعالم يتولى إصدار النقود سواء أكانت من ورق أو من معدن.
وفي «ولز» خصلتان، تتضحان في جميع مؤلفاته؛ إحداهما: نشاط في نفسه يدفعه إلى الإعجاب بنشاط الآخرين، ولو كانوا من خصومه. والثانية: دأبه في التنظيم والترتيب.
فهو يدعو إلى إنشاء عصبة من الشبان يتولون تهيئة الأذهان وإعداد العالم للدولة العالمية التي ينشدها. وهو هنا يضرب المثل بالفتيان الكشافة وفتيان الفاشيين، مع أنه يكره نزعاتهم الحربية الوطنية. ثم هو لا يكف عن التنظيم، فإنه يؤلف القصة ويتعلل بما فيها من حب وإغراء جنسي، كي يشرح نظاما عن تأليف موسوعة أو موسوعات مختلفة.
وقد استهوت هذه النزعة الولزية عددا كبيرا من المفكرين في كل أمة. ومع أن الآمال التي عقدت بعصبة الأمم خابت وعرف الناس أن مبادئ الرئيس «ولسون» ضرب بها عرض الحائط، وأن الانتداب هو الاستعمار لا يختلف منه إلا في الاسم، فإن كثيرا من التأييد الذي لقيته هذه العصبة يرجع إلى هذه النزعة التي بعثها «ولز» والتي تجعل الناس يتشبثون بعلالات العالمية أو الأممية ويرجون من العصبة المريضة أن تعود فتنهض وتكون بذرة لحكومة قوية تدير مصالح العالم العامة.
ولا يفتأ «ولز» يجمع الشواهد والبراهين التي يقصد منها إلى إقناع القارئ بأن خياله يمكن أن يتحقق، فهو يذكر لك «اتفاق البريد» بين جميع الأمم من حيث إنه نظام عالمي. ويذكر لك المعهد الأممي لإحصاء القمح في روما، فإن هذا المعهد قد أنشأه رجل يهودي أمريكي وحبس عليه أوقافا. وله مندوبون في جميع أنحاء العالم يجمعون الإحصاءات التي تذاع على العالم عن حاصلات القمح كي تعرف الأمم مقدار القمح وتحتاط للمستقبل من القحط. وليس شك أن هذا المعهد قد أفاد العالم وأنه يمكن التوسع في هذه الخطة، فتزداد مثل أعمال هذا المعهد حتى يستطيع أن يخرج إحصاء كل عام عن جميع الحاصلات الزراعية والمعدنية. ومن مصلحة جميع الأمم أن تقف على هذا الإحصاء الدقيق لأن جهلها قد يؤدي بها إلى نتائج اقتصادية توقعها في خسائر كبرى.
وهذه العالمية هي الآن حلم فقط، لأن النزعة التي تسود العالم السياسي الآن (1933) هي النزعة الوطنية؛ ولذلك نجد جميع الأمم تسارع إلى إقامة السدود الجمركية وتدعو إلى الوطنية الاقتصادية. وفي الوقت الذي يدعو فيه «ولز» هذه الدعوة العالمية يدعو فيه ولي عهد بريطانيا دعوة وطنية بندائه المشهور: «اشتروا البضائع البريطانية!»
والمتأمل لأحوال العالم في ضوء هذه الأزمة الحاضرة وأمام تاريخ الاستعمار والأسباب الرئيسية للحروب - وخاصة بعد أن أخذت مدرسة الاقتصاد الجديدة بقيادة «الميجر دوجلاس» تشرح نظرياتها وتبسطها بسطا وافيا - لا يمكنه إلا أن يعتقد بأن التنافس في التجارة الخارجية والرغبة في الحصول على المواد الخام الرخيصة واحتكار الأسواق هي السبب الأساسي للاستعمار. وإذن فكل ما يعمل لنقص التجارة الخارجية يعمل أيضا لتخفيف الاستعمار ويمنع في الوقت نفسه أقوى البواعث على الحرب، فإن القائلين بالعالمية يقولون بإلغاء الحواجز الجمركية وأن تختص كل أمة بالصناعة التي يليق لها مناخها ثم تبادل الأمم الأخرى ما تصنعه من المصنوعات أو ما تنتجه من الحاصلات. وبديهي أن من يقول بحكومة عالمية يجب أن يقول بحرية التجارة على أوسع معانيها.
ولكن حرية التجارة تبعث على المزاحمة التجارية والسعي للاستيلاء على أسواق العالم. وقد حاربت بريطانيا الصين كي تجبرها على شراء الأفيون الهندي، مع أن الصين كانت قد منعت الاتجار به. والسبب الأساسي للحرب الكبرى هو هذا السباق إلى أسواق العالم بين بريطانيا وألمانيا. والأساطيل لا يقصد منها حماية الوطن، وإنما يقصد منها حماية التجارة الخارجية. وأكبر أمة تعتمد على التجارة الخارجية هي بريطانيا؛ ولذلك كانت أيضا صاحبة أكبر الأساطيل.
ه. ج. ولز
في 1946 مات «ولز» وهو في التاسعة والسبعين. وقد كتبت عقب موته هذا الفصل التالي في مجلة «الكاتب المصري» ورأيت إثباته هنا:
كان «ه. ج. ولز» أديبا علميا يكتب باللغة الإنجليزية. ولكنه كان آخر من يرضى بأن يصف نفسه بأنه إنجليزي في قوميته، فقد كان يكافح القوميات ويصف العالم بأنه «قريتنا الكبرى» وقد كتب كثيرا لهذه الدعوة العالمية التي نسير إلى تحقيقها على الرغم من الدعوات الانفصالية التي يزدحم بها عالمنا الحاضر من أثر العقائد الدينية والوطنيات واللغات والمذاهب والإمبراطوريات.
وربما ننسى أشياء كثيرة من «ولز» في المستقبل. ولكن ليس شك في أننا سنذكر بأنه الأب الروحي للعالم الجديد المتحد، وبأنه أول من عمد إلى وضع التفاصيل لحكومة عالمية ولغة عالمية وموسوعات عالمية، بل أيضا لوضع النصوص والشروط التي يستطيع أن يعيش بها أبناء هذا العالم وهم آمنون من استبداد الحاكمين والأولياء حتى الآباء.
وإذا شئنا أن نعين الطراز الذي ينتسب إليه «ولز» وجدناه أقرب إلى رجال النهضة الأوروبية (من 1400 إلى 1650) منه إلى عصرنا، فهو من طراز «دافنشي» الرسام الجيولوجي البشري المستقبلي. والاختلاف بينهما بسيط، لأن الأول استعمل الريشة، والثاني استعمل القلم، ولكن كليهما عرف قيمة العلم ، وكان على وجدان بمغزاه في مستقبل البشر وعلى تفاؤل بهذا المستقبل.
وقد روي عن «دافنشي» أنه حين مات حطت على رأسه حمامة، فكانت رمزا لطيران الإنسان، هذه الأمنية التي فكر فيها هذا المفكر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكذلك مات «ولز» وهو يرى بعينيه في العام الأخير من حياته هذا الكشف العالمي، كدت أقول الكوني العظيم: الطاقة الذرية، تخدم الإنسان. وصحيح أن هذه الخدمة كانت للشر والدمار، ولكن ماذا في هذا؟
أجل، لقد اهتز «ولز» من هذا الكشف، بل تزعزع وتكلم في تشاؤم. ولكن ما كان أحراه لو أنه عاش سنوات بعد هذا الكشف أن ينهض ويكافح، وفق سيرته الماضية، لاستخدام هذا العلم الجديد في خدمة الإنسان. ولا بد أنه كان يظفر، فقد سبق أن حدثنا في خيال علمي، بديع، مرعب، عن غارة أبناء أحد الكواكب البعيدة على أرضنا، وكيف استولوا في أيام قليلة على الأرض والبحر والسهل، وكيف شرعوا يربوننا كما نربي نحن الأرانب، فإذا جاعوا مصوا دماءنا، ثم كيف نجونا منهم بالميكروبات، هذه الميكروبات التي يزخر بها عالمنا وقد تعودتها أجسامنا، ولكن أجسام هؤلاء الغرباء لم تتعودها؛ ولذلك تعفنوا وهلكوا.
وجاءت الطاقة الذرية في العام الأخير من حياة «ولز» ترمز إلى هذا الخيال، كما حطت الحمامة على رأس دافنشي ترمز إلى صعود الإنسان إلى السماء. وقد تحققت الرؤية الأولى؛ رؤيا «دافنشي» فهل تتحقق رؤيا «ولز» في استعمار الكواكب؟
وهذا الطراز الجديد من الأدباء يتكاثر في أيامنا. أجل، أولئك الأدباء العلميون الموسوعيون الذين عرفوا القوة التحريرية في العلم؛ أي تلك القوة التي تحرر الناس من الكد وتبسط لهم آفاقا في الحياة الطويلة العريضة، حين يكد لنا الحديد والكهرباء والذرة، ولا يكون لنا بعد ذلك من هم واهتمام سوى الاستمتاع بالدراسة والكشف والاختراع والوقوف على أسرار الطبيعة. ولو أن «ولز» عاش أيام النهضة الأوروبية حوالي 1500، لكان واحدا من رجال النهضة لأنه كان يدعو في حماسة إلى «البشرية» وكان يكافح «الغيبية». وقد تغير معنى «البشرية» من أيام النهضة لأيامنا. كانت قبلا دعوة إلى قراءة مؤلفات الإغريق والرومان القدماء. أما الآن فهي في معناها الأمريكي الأوروبي دعوة إلى مقاطعة الغيبيات.
وليس غريبا أن تنشأ هذه الدعوة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث العلم مزاج نفسي، وتطبيق عملي، ومذهب ديني، وليس من شك أن لكل هذا نقائصه، بل شروره. ولكن للحوادث حتمية تتجاوز النيات البشرية. ومن هنا الحاجة الملحة إلى مثل «ه. ج. ولز» كي يعمل للتوفيق بين المعارف فلا يجعل إحداها تتمكن منا وتوجهنا بدلا من أن نتمكن نحن منها ونوجهها. وقد أوشك أن يحدث مثل هذا من الطاقة الذرية.
عمد «ولز» إلى القصة، وهو بلا شك قصاص ماهر، ولكنه لو خير لآثر على القصة الشرح الموضوعي. وهناك قصص ألفها في الفترة الأولى من حياته الأدبية يبدو أنه التذ كتابتها وسر بما فيها من براعة فنية، ولكنه في السنين الأخيرة، أو بالأحرى منذ بداية الحرب الكبرى الأولى إلى الآن، جعل القصة وسيلة إلى نشر بحوثه الاجتماعية العلمية. ولكن يجب ألا نخطئ فنزعم أنه اختار هذا الطراز من القصة العلمية لأن الاختيار لا مكان له. ذلك أنه حين ابتدأ يكتب في العقد الأخير من القرن الماضي كان العصر والظرف، كلاهما، يتيح إلى حد ما نبوغا فرديا أو اقتحاما شخصيا، فكان هناك مجال للبطل في القصة، ينوي فيعمل، ويريد فينجح، أو على الأقل كان هذا هو الفهم العام. والأغلب أنه كان فهما مخطئا حتى في ذلك الوقت. ولكن منذ بداءة هذا القرن أخذ الوسط يتغلب على الفرد. كان وسط القوات الاقتصادية الآلية، فصارت الأعمال «تكيف» النيات وتوجه الإرادات؛ ولذلك أصبحت قصص «ولز» رسائل مسهبة في التحليل النفسي أو التضخم الاقتصادي أو الاتجاه السياسي، وانحط شأن الفرد في القصة لهذا السبب.
سألني ذات مرة أحد القارئين عن أحسن كتاب قرأته في اللغة الإنجليزية من حيث الأسلوب، فقلت له ببديهتي: كتاب داروين «أصل الأنواع». ولم أكن مازحا في هذا؛ لأني أحس أن أسلوب التفكير الذهني عند «داروين» خير ألف مرة من أسلوب العاطفة المزيفة أو الخالصة عند «أوسكار وايلد» لأن الفن الذهني خير من الفن العاطفي.
وأسلوب «ولز» الأديب العلمي هو أسلوب «داروين»، لا أسلوب «أوسكار وايلد». ولو أن «ولز» نفسه سئل عن أسلوبه من أي الطرز هو لأجاب بقهقهة عالية؛ لأنه لو استطاع أن يكتب بالعامية وأن يصل منها إلى غايته في سعة الانتشار لما أحجم.
وقد استخدم «ولز» العلم بمهارة كبيرة في القصة أكبر من المهارة التي استخدمه بها «جول فيرن» ولكنه وجد أن القصة لا تؤاتيه على إيضاح أغراضه، فتركها وعمد إلى ما وصفناه بأنه «رسالة مسهبة» في شرح الموضوعات التي يتماس فيها العالمان: المادي والاجتماعي.
ولعل أعظم ما حمله على ترك القصة أنه رأى أن إغفال البطل منها يجعلها ماسخة؛ لأن حيوية القصة بأشخاصها. وأغلب القصص يجعل مرتكز هذه الحيوية الغريزة الجنسية، فما تفتأ جميع القصص تتحرش بهذه الغريزة. والانتقال من هذا التحرش العامي إلى البحوث السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخطيرة يحدث للقارئ صدمة لا تتفق وفن القصة. وهذه القصص الخطيرة التي عالج فيها «ولز» مشكلات المجتمع لن تعيش؛ لأن هذه المشكلات تتغير ويجد غيرها بتغير الوسط الاجتماعي الاقتصادي، لأن ما لنا من عواطف وأمان، وما يرافقهما من سلوك وتفكير، إنما هو كله ثمرة الوسط الاجتماعي الاقتصادي. ولذلك فإن القارئ لقصص «ولز» الاجتماعية بعد عشرين أو ثلاثين سنة سوف يجدها غريبة عن قلبه وعقله، في حين أن تلك القصص الأولى التي تحوي «أبطالا» سوف تقرأ في لذة مهما طال عليها الزمن، وخاصة تلك التي يعمد فيها «ولز» إلى فكاهاته التي تقارب، بل أحيانا تطابق ما خلفه «ديكنز» أحد أمراء القصة في القرن التاسع عشر.
قال «ولز» في كتابه «طوالع الإنسان» وهو كتاب يبحث فيه مشكلات البشر ومستقبلهم:
لقد استغرق كفاحي لأجل نشر المعارف المثمرة جزءا كبيرا من حياتي الوجدانية، فقد حاولت أن أجمع المعارف الراهنة كي يستطاع استغلالها في المعيشة البشرية، وكي أحمل غيري ومن هم أكفأ مني على أن يقوموا مثلي بهذا العمل، وكذلك عملت كي أجمع بين النظم غير المتناسقة من التفكير بشأن الحقائق. وهي نظم، يتجاهل كل منها الآخر، في بلادة الذهن وإضاعة الفرصة، كما أن كثيرا من التشويش الذهني في التفكير البشري يعود إليها. ذلك أن هذه الفلسفات والغيبيات المناقضة، التي لم تتناسق، تزحم الذهن البشري. وعدم تناسقها هذا يرجع إلى أن كلا منها يتجاهل الآخر وأنا لا أطيق هذه المتناقضات؛ لأني حين أعالجها أجد أنها تقلقني وتربكني. وما لذهني من ميزة خاصة أو نقص خاص إنما يرجع إلى صفة واحدة، فإذا مدحت لقيت أن عقلي يجابه المشكلات، وإذا ذممت قلت إنه لا يفطن للخفايا، فأنا لا أطيق التفاصيل المربكة أو الأكاذيب العرفية لأني أخشاها جميعا ... وأنا أطرق فكرتي كما لو كانت سندانا ...
أجل، لقد طرق «ولز» طائفة من الفكرات، ودق عليها في تكرار. ولكن، في كل مرة، كان يختار ناحية أخرى منها غير تلك التي دق عليها من قبل. ولذلك انتقل من القصة إلى المقال الاجتماعي، ثم جعل القصة تتناول بحوثا اجتماعية مختلفة. وأخيرا ترك القصة، أو كاد، إلى تأليف الكتب الضخمة في الاجتماع.
وقد نجح كل من «إبسن» و«شو» في استخدام الدرامة للبحوث الاجتماعية. واحتفظ الأول بمائة في المائة من فن الدراما، واحتفظ الثاني بأكثر من خمسين أو ستين في المائة. ولكن لا يمكن أن يقال إن «ولز» نجح في استخدام القصة حتى إلى الحد الذي بلغه «شو». والحق أن المسرح يتيح للمؤلف معالجة المشكلة الاجتماعية أكثر مما تتيحه القصة؛ لأن الأشخاص على المسرح يجسمون المشكلة بلا شرح مسهب لما تحويه من عقد ولكن مؤلف القصة يضطر إلى مثل هذا الشرح، فتنقلب القصة إلى بحث اجتماعي، كثيرا ما يتعارض مع أصول الفن فيها.
عندما أتأمل حياة «ولز» ومؤلفاته أحس أن شهوته الذهنية الأولى هي العلم، فقد تتلمذ للعظيم «توماس هكسلي» جد «جوليان» و«ألدوس» الذي جعل من نظرية التطور مذهبا كفاحيا، وقضى حياته في مكافحة المظلمين والغيبيين، كي يجعل هذه النظرية مألوفة تتحدث عنها الصحف ويسلم بها العامة. وقد نجح في ذلك. وشيء من هذا الروح الكفاحي قد انتقل إلى «ولز»، فإنه حين ألف «خلاصة التاريخ»، بل حتى في أواخر السنين من عمره، لم يكن ينسى أن ينبه إلى أننا كنا سمكا قبل 300 أو 400 مليون سنة، فكيف نكون بعد مثل هذه الملايين من السنين في المستقبل؟ وقد نبعت تكهناته المختلفة، الخيالية والحقيقية، من هذه البؤرة، فمن التكهنات الخيالية هاتان القصتان: «حرب العوالم» و«ناس كالآلهة». ومن التكهنات الحقيقية الحرب الأوروبية الكبرى الثانية، والدبابات والطائرات، والقنبلة الذرية. وكانت بصيرته، لسوء حظ البشر، صادقة في كل ذلك.
ولكن «ولز» انقطع عن البحث العلمي؛ لأنه اضطر عقب حصوله على درجة «بكالوريوس في العلوم» إلى أن يسعى لرزقه، فاختار القصة الخيالية والفكاهية أولا، حتى إذا زالت عنه الحاجة الملحة عمد إلى البحوث العلمية الاجتماعية أو كما قال هو «محاولة التنسيق بين المعارف المادية والنظام الاجتماعي». وكأنه بهذه البحوث قد استأنف إشباع شهوته العلمية الأولى ولكن في الميدان الاجتماعي.
وكتاب «خلاصة التاريخ» يعد حسنا من حيث إنه محاولة أولى في اعتبار العالم أمة واحدة تسير متساندة في موكب الحضارة: الكتابة في مصر، والورق في الصين، والمطبعة في ألمانيا. ثم بعد ذلك انفجار الثقافة على العالم كله. أو، من قبل ذلك: الزراعة في مصر، ثم نقود «الإسكندر» وجيوشه وفتوحاته، ثم انفجار الحضارة الإغريقية المصرية الرومانية في البحر المتوسط. ثم يتصل العالم ويتشابك، حتى إننا نرى ملكا هنديا في بداية القرن الثاني قبل الميلاد يبعث إلى الإسكندرية يدعو المصريين إلى البوذية. ثم يزداد التشابك بمخترعات القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، إلى أن يعود استقلال الأمم وانفرادها مستحيلا، بل ضارا؛ إذ يجب التوحيد السياسي للعالم بحكومة واحدة.
وقد عاش «ولز» أيام طفولته في بدروم. وكانت أمة خادمة للأسرة التي تعيش في الطبقتين العليين. وكانت أمه، كما هو الشأن في الخادمات، تخشى صعوده إلى إحدى الطبقتين. ولذلك هو يذكر من أيام طفولته ذلك البعبع الذي يسكن في الطبقة العليا. وقد أتاح له نجاحه أن ينتسب بعد ذلك إلى الطبقة المتوسطة، ولكن بقي في نفسه خوف الفقر إلى يوم وفاته. وعندي أن هذا الخوف هو، في سيكولوجية الأعماق الفرويدية التحليلية، السبب لكراهته للاشتراكية الماركسية أو حرب الطبقات؛ لأنه أبى أن يمثل طبقات العمال الذين ولد معهم في ظلام البدروم. وأصبحت دعوته إلى الاشتراكية هي الدعوة الفابية؛ أي اشتراكية التطور السلمي بالإصلاحات المتدرجة التي يمكن أن يقبلها أبناء الأمة جميعهم فقيرهم وثريهم.
وقد زار روسيا مرتين، فلم يرتح إلى اشتراكيتها، وفهم منها مثلما فهم «برنهام» الأمريكي في كتابه «الثورة الإدارية». أي إن القائمين بإدارة المصانع والمزارع والمكاتب قد أخذوا في النظام الجديد مكان المالكين في النظام القديم، من حيث التمتع بامتيازات الأجور أو الرواتب العالية وغيرها. ولكن ليس شك في أن حجة «ولز» ضعيفة جدا في مكافحته للماركسيين. وقد أنفق كثيرا من جهده في هذه المكافحة العقيمة، وكان في مستطاعه أن يتركها، وخاصة لأن موضوعه الأصلي وهو «الحكومة العالمية» لا يحتاج إلى مثل هذه المكافحة، فقد آمن هو بالاشتراكية، ووجد أنها ضرورية للسلام والطمأنينة للأفراد والأمم. ومشاجرته هنا للماركسيين الاشتراكيين تشبه مشاجرته القديمة في 1906 حين وقف في الجمعية الفابية، وهي جمعية تدعو إلى الاشتراكية السلمية التدرجية، يدعو إلى الكفاح السياسي، في حين كان زعماؤها قانعين بالكفاح الثقافي. ووجد نفسه أيضا ضد مبادئ ماركس؛ أي ضد حرب الطبقات، والمنطق الكلامي، والدوليات. مع أن هذه «الدوليات» كانت الطليعة للبرنامج العالمي الذي انتهى إليه هو بعد ذلك. ولكن يمكن الدفاع عن «ولز» هنا بأنه أيقن في تلك السنين أن المزاج الإنجليزي أقرب إلى المبادئ الفابية السلمية منه إلى المبادئ الماركسية. وحكومة العمال القائمة الآن، بعد أربعين سنة من مشاجرته مع الفابيين، تدل على أنه صدق هنا أيضا في تكهنه السياسي، كما سبق أن صدق في تكهناته العلمية. وفي تلك الفترة وضع كتابه عن الاشتراكية «عوالم جديدة للقدامى»، وغايته أن يثبت أن الأثرياء والمتوسطين يجب أن يقبلوا النظام الاشتراكي مثل العمال؛ لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.
ولكن «ولز» سيعرف في السنين القادمة بجهاده لأجل التوحيد العالمي. وأول ما نجد هذا الاتجاه واضحا فيه في كتابه الذي ألفه في 1921 «استنقاذ الحضارة» وفهرست الكتاب تدل عليه:
المستقبل المرجح للبشر.
مشروع الدولة العالمية.
من التوسع الوطني إلى الدولة العالمية.
إنجيل الحضارة.
تعليم البشر.
الكلية، والجريدة، والكتاب.
وهذه الفهرست لا تحتاج إلى شرح. فهو يقترح إيجاد حكومة عالمية تهيئ البشر جميعهم بتعاليم موحدة إلى وطنية عالمية.
وفي 1932 وضع كتابه «أعمال البشر وثروتهم وسعادتهم» وهو دراسة موضوعية للحال القائمة للعالم في تلك السنة كأنها الجغرافية الاجتماعية. اعتبر الفهرست هنا أيضا:
كيف أصبح الإنسان حيوانا اقتصاديا.
كيف تعلم الإنسان التفكير والتسلط على القوة والمادة.
التسلط على المسافات.
التسلط على الجوع وكيف يغتذي الإنسان.
التسلط على المناخ.
كيف تشترى السلع وتباع.
كيف ينظم العمل.
لماذا يعمل الناس.
كيف يكافأ العمل وكيف تجمع الثروة.
الغني والفقير وخصومتهما التقليدية.
مهمة المرأة في عمل العالم.
حكومات البشر والقتال الحربي والاقتصادي.
عدد البشر وصفاتهم.
الطاقة الفائضة للبشر.
كيف يعلم البشر ويدربون.
طوالع البشر.
ثم كتابه «أشكال الأشياء القادمة» وهو تعقيبات وشروح وتكهنات عن الكتاب السابق. وقد وضعه في 1933.
وأخيرا كتابه «طوالع الإنسان» وقد ألفه في 1942. وهو أيضا مثل الكتاب السابق تعقيبات وشروح.
وصفحات هذه الكتب الأربعة تبلغ نحو ألفي صفحة كبيرة. وهي جميعها حافلة بالإحصاءات والإشارات إلى دراسات أخرى.
ومن هذه العجالة يرى القارئ أن «ولز» طراز جديد من الأدباء. أجل، هو أديب علمي، سوف نرى في هذا القرن مئات يسيرون على الطريق الذي شقه. ولن يكون هذا للتقليد، ولكن لأن أدباء القرن العشرين سيجدون من واجبهم أن يقفوا حياتهم على حل المشكلة القائمة، وهي التقدم الرائع في العلوم المادية مع الجمود التام في العلوم الاجتماعية، وما ينتجه هذا من الرعب في جميع المتبصرين المتكهنين الذين يرون الطاقة الذرية تصطدم بالغيبيات، والاختراع العلمي يصطدم بالوضع الاجتماعي.
جالزورثي
لما منحت جائزة نوبل ل «جالزورثي» دهش جمهور الأدباء أو قراء الأدب، فإن اختيار هذا الأديب الإنجليزي وتمييزه من بين جميع أدباء العالم بهذه الجائزة السنية يدل على أن المستوى الأدبي في العالم قد انخفض قليلا، فإن «جالزورثي» أديب «إنجليزي» يكتب للإنجليز؛ ولذلك فإن بصره وبصيرته محدودان بالبيئة الإنجليزية، وقلما تجد له قراء في القارة الأوروبية أو في القارة الأمريكية.
والأديب العظيم الآن لا يقنع بارتقاء عرش الأدب في بلاده فقط لأنه هو بطبيعة العلاقات البشرية القائمة يسمو إلى الإمبراطورية لا إلى الملوكية في الأدب، فنحن في عصر قد صغر إليه العالم، وأصبح على حد قول «ولز»: قريتنا الكبرى. تضطرنا الصحف في الصباح إلى أن نفكر في الاستعمار الياباني في منشوريا، وتضطرنا الأزمات في بلادنا إلى أن ندرس عواملها في إنجلترا والشرق الأقصى. وقد أصبح «غاندي» وكأنه زعيم وطني لكل بلاد منكوبة بالاستعمار. وأصبحت البطالة والأجور والآراء عنهما تدرس في ألمانيا على ضوء الأحوال الجديدة في الولايات المتحدة، فالأمم الآن تتفاعل كما تتفاعل العناصر في المعمل الكيماوي؛ ففي أفريقيا الجنوبية يؤسس «غاندي» «مزرعة تولستوي». و«أناطول فرانس» يمنح ثمانية آلاف من الجنيهات (وهو مقدار جائزة نوبل التي نالها) لتخفيف الفاقة في روسيا. و«برنارد شو» يتكلم عن دنشواي كما يتكلم عنها المصري الوطني. و«رومان رولان» يغادر وطنه فرنسا إلى سويسرا لأنه ينكر عليها الحرب مع ألمانيا ... إلخ.
وفي مثل هذه الظروف العالمية لا يمكن الإنسان أن يعد أديبا من الطبقة الأولى ما لم تتجاوز همومه واهتماماته وطنه إلى أوطان البشر كافة؛ لأن الأديب كالدين يجب أن يتجاوز الحدود الوطنية. ولو أن جائز «نوبل» أعطيت ل «ولز» لكان الإجماع على سداد هذا العمل عاما من جميع الأمم. والفرق بين «ولز» و«جالزورثي» هو أن الأول يخدم العالم ويدرسه ويشتغل بهمومه في الثقافة والأخلاق، بينما الثاني يقصر درسه على إنجلترا.
ونحن عندما نفحص عن أديب إنجليزي ونتحرى بواعثه، لا نستطيع أن نهمل رأيه عن الاستعمار البريطاني؛ لأن هذا الاستعمار ينكب العالم نكبة واضحة كما لا نستطيع أن نهمل رأي الأديب المصري عن المرأة أو الفلاح اللذين سحقتهما التقاليد. وإذا نحن ألفينا فيه إهمالا أو نقصا في درس هذا الموضوع جاز لنا أن نحكم على ضميره بالنقص ، فإن أديبا يرى دولته تملأ أقطار العالم بالولاة والمحافظين والمندوبين السامين كي يحكموها على الرغم منها، ويقهروا فيها الحرية، ويعطلوا فيها الثقافة ويحبسوا فيها زعيما من زعماء الإنسانية مثل «غاندي»، لجدير بأن يتهم في ضميره الأدبي إذا سكت. و«جالزورثي» لم يقل كلمة في استنكار الاستعمار البريطاني، فكان بذلك شيطانا أخرس.
ولا يذكر «جالزورثي» حتى يخطر بالبال «أرنولد بنيت»، فإنهما يشتركان في درس الطبقة الإنجليزية المتوسطة. ولكن «جالزورثي» يدرسها ويستنكر إكبابها على جمع المال وإهمال الفنون وجمود الضمير، بينما الثاني لا يرى فيها إلا كل ما يحب ويستحق الإعجاب. ثم إن «أرنولد بنيت» يعد من أبناء القرن التاسع عشر. ينزع إلى الانفرادية ويؤمن ب «هربرت سبنسر» في المادية العلمية والنزاع الاقتصادي، ويسلم بفضيلة الاعتماد على النفس في الوسط الصناعي الحاضر، ويكبر من شأن النجاح. وله كتب سخيفة في هذا الموضوع، يشرح فيها حياة الأغنياء وترف المال بالإعجاب.
ولكن «جالزورثي» أعمق نظرا منه إذ هو يستطيع أن يرى من خلال النجاح المالي والاجتماعي خللا في البيئة ونقصا في الأخلاق. وهو من أبناء القرن العشرين ينزع نحو الاشتراكية وإن كان لا يصرح بها. وقد رفض لقب «سير» وعطف على المظلومين سواء أكان الظلم اجتماعيا أم اقتصاديا. وهو من حيث الفن يعد من أبرع الأدباء سواء كان هذا في القصة أم في الدراما.
جالزورثي.
وهو عندما يكتب يقنع بالتقرير والتصوير ولا يقترح علاجا، فقد وصف آلام المظلومين المسجونين في دراما «العدالة»، فكان وصفه من الدقة والفظاعة بحيث استجابت له الحكومة في إصلاح السجون، ولكنها لم تصلح القانون الذي يبعث بالمنكوبين إلى هذه السجون. ومن أعظم مشاهد هذه الدرامة مسجون قد ضاق بحبسه وانفراده في الخلية - أي الزنزانة - فأفرج عن ضيقه بثورة عصبية؛ إذ اندفع يخبط الحيطان ويضرب الباب بيده ورأسه وقدمه، ثم انتقلت عدواه إلى سائر المسجونين مثله، ففعلوا فعله وهاجوا كالمجانين. حتى إذا تعبوا سكتوا كاظمين مهزومين.
ثم هو يلزم الحقائق، فلا يزوق ولا يتخيل غير الواقع، فهذه «أيرين» مثلا، فتاة جميلة فقيرة قد تزوجت رجلا غنيا من تلك الطبقة التي تنتمي عادة إلى حزب المحافظين. وتؤمن بعبء الرجل الأبيض، وتعرف الدين في الكنسية فقط، ويوم الأحد فقط. أما سائر الأسبوع فلا تعرف غير التجارة الحرة والمزاحمة التي تجري على سنة الحرب، كل شيء جائز فيها. وهي تؤثث البيت بأفخر الأثاث، ولا تعرف من الفنون غير الصور الغالية في الثمن والكتب الضخمة المتقنة الطبع.
ولكن «أيرين» تسأم هذا الزوج، وتهجره، وتحب مهندسا فقيرا. ثم تضطرب الأحوال المالية لهذا المهندس فينتحر. ثم تعود «أيرين» الفقيرة إلى زوجها الغني وهي صاغرة.
ويسكت «جالزورثي» فلا يعظ القارئ ولا يلوم الزوج. ولا يعلق على هذه الحال أي تعليق؛ لأنه يقنع منك بهذا التنهد الذي يضيق به صدرك عن هذه الحال المؤلمة. وأنت عندما تقرأ مثل هذه القصة تحب «جالزورثي».
وقد مات «جالزورثي» كهلا في العام الماضي (1933) ولم يبلغ الخامسة والستين. ووفاته في هذه السن مأساة لآمال كانت معلقة به بعد أن استضاءت بصيرته بالحرب والأزمة الاقتصادية.
رجال الذهن في إنجلترا
ليس التجديد مقصورا على رجال الأدب من مؤلفي الدرامات وممارسي الفنون الجميلة. وإن كان هؤلاء أقرب إلى الجمهور وأعمق أثرا فيه من غيرهم؛ لأنهم يتصلون بعامته وخاصته بما يؤلفون من قصص أو يعرضون من درامات أو حتى بما ينحتون من تماثيل أو يرسمون من صور، فإن هناك هيئات أخرى تعمل للتجديد. وقد تكون هذه الهيئات جمعيات ترصد نفسها لبث دعاية لآراء ثقافية خاصة، أو قد تكون مجلات تعيش بمجهود محرريها وعطف طبقة من رجال الذهن عليها. أو قد تكون قائمة على أيدي أدباء أو علماء يؤلفون الكتب في نزعات جديدة في الآراء الاجتماعية أو العلمية أو الأدبية.
فهناك مثلا جمعية تدعى «جمعية العقليين» قد طبعت ونشرت إلى الآن ملايين من المجلدات من الكتب التي تدعو إلى التفكير الحر والاعتماد على الرأي العلمي دون العقيدة الدينية. وقد كان لهذه الجمعية أعظم الأثر في تطور الأفكار بين شباب الإنجليز، بل شيوخهم. وهناك جمعية أخرى تدعو إلى الفلسفة الوضعية التي يقول بها «كنت» الفيلسوف الفرنسي. وقد بقيت أكثر من ثلاثين سنة وهي تصدر مجلة، كان يكتب فيها الأديب الكبير «فردريك هريسون» ويدعو فيها إلى نوع من «البشرية» هو مزيج من الرأي والعقيدة أو العقل والعاطفة.
ثم هناك إلى هذه الجمعيات، رجال الذهن الذين ينتمون إلى العلم أو الدين أو الاجتماع، فيدأبون في نشر آرائهم التي استنبطوها من دراساتهم. وهم يعملون لنشرها بين الجمهور بمختلف المؤلفات. وأعظم مثال على هؤلاء، ذلك اللورد العجيب الذي بهر الناس بذكائه وثقافته، وبهدم ما يحترمونه من عقائد، نعني به «برتراند روسل». فإن القارئ لمؤلفاته يشعر أن «برنارد شو» بالنسبة إليه يعد من الجامدين في أشياء كثيرة؛ إذ هو كتب عن الإمبراطورية البريطانية والزواج والصناعة والدين، بروح اقتحامي جريء. ولو أن أحد المفكرين في القرون الوسطى نسب إليه كتاب واحد من مؤلفاته لكان هذا كافيا لإحراقه. وهو عالم ينظر إلى الاجتماع نظرة مادية محضة. ثم هو مخلص أشد الإخلاص في تفكيره؛ إذ هو لا يعرف المداعبة في الغيبيات العلمية التي يخرق فيها العلماء مثل «جينس» أو «إدينجتون» ويهيمون في خلالها. ولا هو يستطيع أن يداهن الوطنيين الإنجليز بكلمة مديح عن تاريخهم أو إمبراطوريتهم؛ إذ هو يصرح بأن هذه الإمبراطورية تعوق التقدم في العالم، وأنه ليس هناك أي مبرر لأن تغتال بريطانيا الهند أو مصر.
ثم هناك مفكر آخر من رجال الذهن هو «هافلوك أليس» فإنه اختص منذ أكثر من ثلاثين سنة بدرس التناسليات، فأشاع على هذا الموضوع فيضا من الضوء الذي استخلصه من ثقافته العلمية. وهو لا يستطيع الوصول إلى الجمهور، ولكنه يهيئ الخميرة للخاصة من الأدباء والصحفيين الذين يعلمون هذا الجمهور. ولا يمكن لإنسان يقرأ مؤلفات هذا الرجل إلا أن يتأثر بها.
وكل من «برتراند روسل» و«هافلوك أليس» يدعو إلى التمتع بالحياة، وإلى أن يعيش الإنسان ملء حياته، فلا يقتر على نفسه ولا ينكر عليها لذة الذهن أو لذة العواطف. وكل منهما يعد من هذه الناحية الوارث الشرعي لدعوة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر ، فإن هذه النهضة هي في لبابها، وصميم الغاية التي نشدتها، دعوة إلى التمتع بالدنيا على حساب الآخرة والإكبار من شأن الجسم على حساب الروح. ومن ذلك العصر إلى الآن، والتجديد في أوروبا سواء أكان في الأدب أو الفنون يتجه هذا الاتجاه. وعلينا نحن «الشرقيين» أن نعرف ذلك وندركه حق الإدراك كلما أردنا أن ندرس ثقافة أوروبا، أو مزاجها الأدبي، أو المقصود من حركاتها التجديدية. وقد نكره نحن هذه النزعات، وليس شك أن فيها كثيرا مما يكره، ولكن يجب ألا نخدع أنفسنا عن حقيقتها فنتوهم أنها غير ما تبدو لنا.
هافلوك أليس.
ومن رجال الذهن الذين أثروا أثرا غير صغير في التفكير الإنجليزي القسيس «إنج»، فإن هذا القسيس يرتئي من الآراء ما لو أعلن هنا في بلادنا لعد إلحادا أو كفرا. ولكنه مع ذلك يحتفظ بمنصبه في الكنيسة الإنجليزية، وهو منصب سام. وهذا برهان على مدى الحرية التي يتمتع بها رجال الدين في إنجلترا. ولم يغب عن ذهننا تلك الثورة الصغيرة التي قام بها أسقف برمنجهام (وهو دكتور في العلوم) حين صرح بأن القربان المقدس في الكنيسة لا يمكن لأحد أن يثبت قداسته بالتحليل الكيماوي. ولا يزال هذا الرجل في منصبه مع ذلك، لا يجد الاحترام فقط بل يجد العطف من الجمهور الحر.
والقسيس «إنج» وأسقف برمنجهام كلاهما يعمل للتجديد في الدين. وينتشر منهما روح الحرية الفكرية إلى الصحف والقسيسين والخطابة. ومن هذه الوسائل الأخيرة ما يبلغ الجمهور فيؤثر فيه. ولكن ذكرنا للقسيس «إنج» ول «برتراند روسل» في فصل واحد قد يوهم القارئ باشتراكهما في الآراء. ولكن الحقيقة أن الفرق بينهما شاسع، وإنما هما يشتركان في النزعة؛ إذ كلاهما مجدد في ميدانه. وميدان الأول هو الاجتماع، وهو ميدان حر، وميدان الثاني هو الدين، وهو كثير العقبات والقيود.
وقبل سنوات ظهر قسيس آخر هو «هيوليت جونسون». وقد ألف عن روسيا كتابا شعبيا بيعت نسخه بمئات الألوف ودعا فيه الإنجليز إلى تأليف حكومة اشتراكية. وقد فسر المسيحية بأنها مذهب اشتراكي.
وللمفكرين الأوروبيين أثر آخر في تجديد الفكر الإنجليزي، لا يقل عن أثر المفكرين من الإنجليز أنفسهم، فإن «أدلر» و«فرويد» و«برجسون» و«نيتشه» و«سبنجلر» و«كوهلر» تقرأ مؤلفاتهم بشراهة، بل تؤسس المجلات لدرس مذاهبهم التقدمية والرجعية.
وعلى ذكر المجلات نقول إنها في إنجلترا تزود المفكرين بالمواد الخام للتجديد. وليس في العالم شيء يعمل للتثقيف بين الجمهور مثل المجلات الإنجليزية الأسبوعية، فإنها وإن كان عدد قرائها قليلا تعيش بما تنشر على الناس من آراء سياسية، واجتماعية، وأدبية. وقد نجد في إنجلترا جريدة أحدية؛ أي تصدر يوم الأحد، ولها من القراء مليونان، أو ثلاثة ملايين، ومع ذلك فإنها لا قيمة لها أصلا عندما تبدي رأيا في السياسة أو الأدب، بينما العالم السياسي يهتز اهتزازا إذا كتبت مجلة «إسبكتاتور» أو «نيوستيتسمان» أو «ويك إند» مقالا عن الأحزاب أو إحدى الخطط. وقد لا يزيد قراء إحدى هذه المجلات على عشرة آلاف أو عشرين ألفا.
ولهذه المجلات الأسبوعية تأثير كبير؛ لأن قراءها صفوة الأمة، ولهم النفوذ والسلطان في تقرير الخطط، وتكوين الرأي العام، وتسويغ البدع أو استنكارها. وقد كانت مجلة «النيشن» عقب الحرب (في 1919) قوة كبيرة في يد محررها العظيم «ماسنجهام»؛ فإنه هو الذي أكسب التفكير السياسي في إنجلترا روح التسامح نحو الاشتراكية؛ إذ كان هو نفسه من الأحرار الذين يميلون إلى حزب العمال.
وهناك مجلات أخرى هي أدوات التجديد في جميع نواحي الحياة. ونحن نضع في المقدمة المجلة التي يحررها الدكتور «جاكس» نعني بها «هبرت جورنال»، فإنها مجلة دينية، ولكنها تكتب في البوذية والإسلام والأفلاطونية والمادية، فتملأ أذهان المفكرين ذخيرة للتجديد الديني. وهناك مجلة «نيو إنجلش ريفيو» التي تكاد تقصر نفسها على الدعوة إلى التجديد الاقتصادي بزيادة الاستهلاك على طريقة «دوجلاس» ومحررها «أوراج» رجل معروف منذ ثلاثين سنة يدعو إلى «نيتشه» والأدب الجديد. ثم هناك مجلات صغرى، تلتف حولها جماعات خاصة من الأدباء، وتنزع نزعات خاصة مثل «كريتيريون» و«أدلفي» فإن جميع الثائرين في الأدب الإنجليزي رأوا النور عقب ميلادهم في عالم الأدب في صفحاتهما .
وهذه المجلات، ثم أولئك المفكرون الذين ذكرنا بعضهم، هم الذين يمدون الأدب الإنجليزي الحديث بوسائل التجديد. وإليهم يرجع الفضل في النزعات الجديدة التي نجدها في «ألدوس هكسلي» و«لورنس» و«جويس»؛ لأنهم يقدمون الخمائر أي المواد الخام التي يتربى بها الأديب، يأخذها تبرا مخلوطا مشعثا فيصهرها في ذهنه ويخرجها ذهبا ناصعا في قصة، أو دراما، تستعذب وتستجمل. ولسنا نقصد من هذا إلى أن الأديب لا يبحث بنفسه في البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، أو أنه لا يكسب اختباراته منها مباشرة وإنما نريد أن نقول إن أدباء الإنجليز المجددين تحيط بهم بيئة ثقافية صحفية تعينهم على التفكير والتجديد، بل تحفزهم إليهما.
ونحن في مصر محرومون من هذه الخمائر الصحفية؛ لأن الإنجليز سنوا لنا قبل نحو أربعين عاما «قانون المطبوعات» الذي يفرض غرامة على كل من يرغب في إنشاء مجلة أو جريدة. ولا يزال هذا القانون باقيا؛ لأن الأحزاب تستغله في مناوأة خصومها ومنعهم من إنشاء الصحف. وبذلك تأخر تطورنا وسوف يتأخر ما دام قانون المطبوعات قائما يقيد الصحفي في إصدار الصحف ويعاقب على أشياء تباح في أوروبا الحرة. وهذا القانون هو عارنا الأبدي، فقد كنا نعده أيام الإنجليز من وسائل الاستعمار، أما الآن فهو من وسائل الاستبداد المصري، يستعمله مصريون لمنع التفكير الحر في مصر.
الثائرون
نقصد بالثائرين أولئك الذين جاءوا عقب المجددين وتتلمذوا لهم، ولكنهم خطوا خطوة أخرى أبعد منهم، وفتحوا ميادين جديدة حاول أولئك المجددون أن يفتحوها ولكنهم لم يستطيعوا لأن الزمن لم يكن قد هيأ لهم بعد أسباب الفتح.
وهؤلاء الثائرون جاءوا مدة وعقب الحرب (1919) ورأوا المدنية تضرى وتستوحش أمام أعينهم، وتهدم ما تعلموه من أخلاق أو أديان، فخرجوا منها وقد أنكروا كل شيء تقريبا. وشرع كل منهم يؤسس لنفسه إيمانا جديدا يخلص له ويدعو إليه. ولم يعد الأدب عند هؤلاء الثائرين صنعة تحتاج إلى الدرس والتأنق، وتوخي ما يحبه الجمهور القارئ، والوقوف على أسرار الفنون وغاياتها، وإنما هو عندهم بحث عن أرشد الطرق لأن نعيش في هناء على هذه الأرض. وهم لهذه الغاية يعتمدون على أنفسهم، ويكتبون تراجمهم أو تراجم أصدقائهم الذين عرفوهم، في صيغة القصة، ولا يبالون بأي لغة يكتبون. ولذلك تجد ما شئت من الخروج على القواعد - أي قواعد اللغة - وعرف القصة، وأسلوب الرواية. وأنت إذا لم تكن صبورا فإنك تطرح الكتاب بعد فصل أو فصلين.
ولهذا أسباب كثيرة أولها وأهمها، أن هؤلاء الثائرين لا يريدون التسامح في قليل أو كثير من الخيال، فهم يقررون الواقع، ويريدون مواجهة الحياة بكل ما فيها من خير أو شر، فلا يبالي أحدهم أن يقول لك أن في الحياة أقذارا وأن الناس يبنون المراحيض في بيوتهم. ثم إذا عبت عليهم تفكك القصة، أو تشتت حوادثها، أو أنها غير مهذبة في صيغتها، أجابوك بأن الحياة كذلك ليست متناسقة ولا مهذبة، وأنك إذا وقفت لحظة كي تفحص عن خواطرك وأفكارك ألفيتها في غاية التشعب والتشتت. ولن تجد صورة مهذبة لأي حادثة إلا في القصص الخيالية. وهم لا يريدون أن يرووا قصصا عذبة لذيذة، وإنما يريدون أن يترجموا الحياة الحقيقية كما يعيشونها هم أو كما يرونها في غيرهم بدون تحلية أو تزويق.
ويمكن أن نلخص العوامل التي أثرت فيهم بما يلي: (1)
إن الحرب فتقت أذهانهم للشك في كل شيء حين رأوا مبادئ الأخلاق التي تعلموها لا قيمة لها أصلا. (2)
إن الأمراض العصبية والنفسية التي نشأت في المجتمع، قد أشاعت نظريات العقل الكامن على طريقة «فرويد»، وبعثت حرية جديدة في بحث البواعث التي تبعث على التفكير وغاية الحياة. (3)
إن هذه النظريات نفسها أكدت ضرورة التفريج عن الغريزة الجنسية والكف عن الكظم وقمع الشهوات.
وهم بكلمة مختصرة قد تركوا «الأدب» والتمسوا الحياة. وإذا كانوا يعتمدون على القصة فذلك لأنها تتسع لألوان مختلفة من وصف العيش ونقد النظر. وإلا فهم كثيرا ما يعتمدون على المقالة. وسواء عندهم هذه أو تلك أداة لبسط آرائهم في الدنيا والإنسان.
وهؤلاء الثائرون كثيرون الآن في إنجلترا منهم من نوفق إلى فهمه، ومنهم من يعتاص ويستوعر. وسنتكلم عن أشهرهم، وهم «لورنس» و«جويس» و«هكسلي»، فأما الأول فقد مات في 1931 وهو في زعم كثيرين رأس الثائرين وبداية العهد الجديد للأديب الإنجليزي. وهناك من يضع «جويس» على رأسهم. وكل من الاثنين يختلف عن الآخرين في الطريقة والغاية. ولكنهم جميعا سواء في الدعوة إلى التمتع بالحياة بالذهن وبالغريزة معا.
وفي كل من «لورنس» و«جويس» نجد التفاتا كبيرا إلى اللذة الجنسية، وبحثا مستفيضا فيها، كان من أثره أن منعت الحكومة بعض مؤلفاتهم من التداول. وهما، كلاهما، ينغمسان في أعماق العقل الكامن حتى ليشعر القارئ لهما أنه قد انتقل من قراءة القصة، إلى قراءة حادثة معينة من تلك الحوادث التي يذكرها «فرويد» في بعض محاضراته. وقد كانت «ماري ستوبس» تعد قبل الحرب من الغلاة في الدعوة إلى الصراحة في المسائل الجنسية ولكنها الآن لا تعد شيئا أمام هؤلاء الثائرين. كما أن دعوة «برنارد شو» إلى مواجهة الحياة والنزول على حقائقها دون بهارجها وتزاويقها قد عمل بها وغلا فيها «ألدوس هكسلي».
و«ألدوس هكسلي» هو رجل الذهن والعلم، وهو أقرب إلى «ولز» منه إلى الثائرين. وهو يبتعد عن «فرويد» والتحليل النفسي بقدر ما يقترب من «واطسون» في السيكولوجية السلوكية. ويستطيع أن يهرب من الحياة بقصة خيالية عن حالة الناس على الأرض بعد مئات السنين.
أما «لورنس» و«جويس» فلا يعرفان غير الواقع، وكلاهما يجنح إلى الغريزة ويضعها فوق العقل. وفي كل من هؤلاء الثائرين فجاجة هي أمارة المبتدئ الذي لم ينضج.
ويجدر بنا هنا أن نعرض موكب الأدب الإنجليزي منذ العصر الفكتوري إلى الآن لنرى هل هؤلاء الثائرون يقفون في طرف هذا الموكب موقفا منطقيا أم لا.
فإن العصر الفكتوري اتسم بالجمود، وانساق في أدبه إلى الخيال والإبهام، كما انساق في مجتمعه إلى الغش والنفاق. وكلتا النزعتين ترجعان إلى أصل، هو الصدود عن الحقائق الواقعة وكراهة الحياة كما هي، وتوهمها شيئا آخر أسمى وأجل وأقوم مما هي في الحقيقة. وكما كان هناك عرف اجتماعي وعادات فاشية تكسو الحياة بالنفاق، كذلك كان في الأدب عرف آخر يدعو المؤلف إلى أن يتوهم الحياة وكأن ليس فيها غير ما يهواه كل الناس من حسن وسمو وجمال.
وقد صمد المجددون لهذا النفاق يكشفونه. ولما عرفوا أن النفاق الاجتماعي هو الأصل للنفاق الأدبي، عمدوا إلى الاجتماع يمزقونه تمزيقا. وهذه هي مهمة «برنارد شو». وظهر «المنحطون» فدعوا في صراحة وجرأة إلى أن التمتع باللذات والشهوات ليس عيبا. وقد تورطوا بهذه الدعوة في بعض الشذوذ.
وبعد هؤلاء وهؤلاء جاء الثائرون، وقد اصطلوا نار الحرب الكبرى فعرفوا من نفاق المدنية في أربع سنوات ما لم يعرفه أسلافهم في سبعين سنة من العصر الفكتوري، فكانت ثورتهم أشد من ثورة المجددين.
وليست الثورة مقصورة عليهم وحدهم، فإن الصدود عن الوهم والخيال عظيم الآن في إنجلترا، حيث تروج كتب التراجم للعظماء وأشباه العظماء، كما تروج التواريخ، رواجا عظيما. وهذا يدل على أن الجمهور نفسه يريد أن يقرأ قصصا حقيقية عن أشخاص حقيقيين، ولا يريد وهما أو خيالا. وإذا كان «برنارد شو» قد قصر الأدب على إصلاح المجتمع، فإن هؤلاء الثائرين لا ينشدون من الأدب سوى غاية واحدة هي البحث عن الطرق التي نستطيع بها أن نعيش أمتع عيش وألذه، فهم يرون أننا شغلنا عن لذة الحياة بنظريات وواجبات غريبة، في حين أن غايتنا الأولى يجب ألا تكون الفلسفة، أو العلم، أو خدمة البشر، أو تحصيل العيش، وإنما الغاية الأولى والوحيدة هي التمتع بالحياة، وما عدا ذلك فحواش وزوائد.
لورنس: أحد الثائرين
مات «د. ه. لورنس» منذ بضع سنوات (في 1931) فشرع الكتاب يدرسونه ويفحصون عن الغاية التي رمى إليها. وكان طيلة حياته لا يلقى سوى الاستهجان أو الإهمال، الذي هو عند المؤلفين شر من الاستهجان.
وقد نشأ «لورنس» في بيئة العمال؛ لأن أباه كان فحاما يشتغل في مناجم الفحم. ولكن أمه كانت على شيء من الثقافة، فوجهت الصبي نحو القراءة والتطلع في الأدب. وما هو أن بلغ سن الشباب، حتى كان يحترف التعليم في إحدى المدارس في الريف ويراسل المجلات فيكتب القصص والقصائد والمقالات . وقد مات وهو دون الخامسة والأربعين. ولكن الضجة التي أثيرت عقب موته لن تموت؛ إذ هي تجد من الأنصار والخصوم، ما سيبقي على ذكره بالجدال القائم عن مذهبه في الأدب الجديد.
وقد كان ل «لورنس» مذهب يدعو إليه لو أردنا الرجوع لأسبابه لاحتجنا إلى شرح طويل، فإننا نجد فيه مثلا، نزوعا إلى «المنحطين»؛ إذ هو حين يتكلم عن اللذة الجنسية يذكرنا ب «أوسكار وايلد» وإن كان هو في الوقت نفسه سليما من الشذوذ. كما نجد فيه دعوة إلى الحياة واشتهاء الملذات والتجارب، والإكبار من شأن الجسم واللحم والدم مع إهمال النفس والأخلاق. وهذه دعوة تشبه نزعات النهضة الأوروبية مع الزيادة والمبالغة. وهو مع ذلك ينظر للحياة نظرا فلسفيا يريد أن يعرف أسرارها ويتذوق أطايبها. وهو في هذا النظر ينتهي، كما انتهى بعض الصوفيين من قبل، إلى اللذة الجنسية. وذلك لأن الدعوة إلى الحياة كثيرا ما تسير نحو الثورة على العرف والأخلاق والذهن. والرغبة في تحسسها وتجربة ما فيها من ألم أو لذة هي في الحقيقة رغبة في إيثار الغريزة على الذهن. وعندئذ يلتقي المهذار المستهتر بالجاد المفلسف في ميدان واحد، وإن كان كل منهما يختلف من الآخر في بواعثه.
زد على هذا تعقد الحضارة القائمة، وأنها تشغلنا بشواغل وتخلق لنا من الواجبات ما يجعلنا ننسى أن إنسانيتنا إنما تنبت من أصل حيواني. وأن الواجب الأصلي هو أن يعيش كل منا ويتمتع بعيشه. ثم بعد ذلك يمكنه أن يتكلم عن الوطن أو الصناعة أو الأدب أو الفلسفة، أو ما شاء من ثمار الحضارة القائمة.
هذا هو «لورنس» الثائر على الأدب الإنجليزي، فإنه يصيح بأعلى صوته: قبل أن تهذر عن فنون الحضارة، وواجبات الإنسانية، تذكر أني أريد أن أعيش وأبلغ أقصى ما يمكنني من ملذات الحياة وآلامها وتجاربها ... «فإني أؤمن بإيمان عظيم هو الدم واللحم، وهو يسمو على الإيمان بالذهن.»
وإليك هذه النبذة المثيرة نقتبسها من بعض كلامه حيث يقول:
ماذا يعود علينا من هذا النظام الصناعي الذي يزحمنا بأقذار في حين لا يتمتع أحدنا بعيشه؟ إننا نحتاج إلى ثورة، ولكنها لن تكون ثورة في سبيل المال، أو العمل، بل في سبيل الحياة؛ ذلك لأن المال أو العمل شيء عرضي. إني أزداد كل يوم ثورة، ولكن ثورتي هي من أجل الحياة. وليست المادية التي يقول بها «ماركس» خيرا مما نحن فيه؛ لأننا إنما نحتاج إلى الحياة، وتبادل الثقة حيث يثق الإنسان بالإنسان. ويصبح العيش في الدنيا شيئا حرا وليس شيئا مكسوبا. وهذا العالم سيختار بين أمرين، إما القيام بحركة كبيرة للسخاء والتسامح وإما انتظار الموت الكاسح.
د. ه. لورنس.
ويجب على القارئ ألا يخطئ هذه الدعوة فيحسبها أنانية لا أكثر، فإن «لورنس» كما قدمنا صوفي، وإن كانت صوفيته أشبه الأشياء بحب «روسو» للطبيعة، كما ترى من هذه القطعة:
إن الإنسان في حاجة قبل كل شيء وفوق كل شيء إلى أن يؤدي لجسمه حقوقه؛ لأنه هو الآن، الآن فقط، يعيش في اللحم ويقوى به. وأعظم العجائب عند الإنسان أن يحس أنه حي. ومهما قيل عن الموتى والذين لم يولدوا، وعما يعرفون، فإنهم لا يعرفون الجمال الذي نعرفه عن الحي بحياة اللحم. وللموتى أن يعرفوا ما وراء الدنيا. ولكن هذه الجلالة التي نعرفها عن الحياة والجسم، إنما نحن الذين نعرفها، ونعرفها لمدة معينة. ويجب علينا إذن أن نرقص طربا لأننا نحيا ونلتئم في جسم الكون؛ لأني أنا جزء من الشمس، كما أن عيني جزء مني. وقدماي تعرفان أني جزء من الأرض. كما أن دمي جزء من ماء البحر. وكذلك نفسي تعرف أني جزء من البشر، وأنها هي عضو حي في النفس البشرية الكبرى، كما أن روحي هو جزء من أمتي. وفي أعماق نفسي أنا جزء من أسرتي. وليس عندي شيء مستقل مطلق سوى عقلي. ولكن ليس للعقل كيان في ذاته؛ إذ هو لا يختلف من لمعة الشمس على سطح المياه.
وانفرادي إذن هو وهم؛ لأني جزء من هذا الكل العظيم الذي لن أستطيع الفكاك منه. ولكن يمكنني أن أنكر صلتي به حتى أعود وكأني شظية منفصلة ، وعندئذ أشقى. ونحن نحتاج إلى أن نحطم الصلات الكاذبة التي تربطنا بغير الأحياء، وخاصة تلك الصلات التي تربطنا بالمال، ونعيد الصلات الحيوية بيننا وبين الكون، بالشمس، والأرض، والناس والأسرة. ولنبدأ بالشمس، وعندئذ نسير في بطء نحو الصلات الأخرى.
وإذا دعا كاتب إنجليزي إلى الشمس فإنما يدعو إلى الطبيعة؛ لأن الشمس عنده خلاء وريف وهجرة من المدن وعيش ساذج بعيد عن تكلف الحضارة.
ولكن «لورنس» يستهجن عند خصومه لأنه يدمن الكلام عن اللذة الجنسية. وهو قد انغمس في الثقافة الجديدة، وعرف شيئا كثيرا عن العقل الكامن، وألف فيه. وهذه الثقافة الجديدة التي تعزى إلى «فرويد» تنظر للذة الجنسية كأنها المحور للنشاط الإنساني. وهي تدعو إلى الصراحة في جميع مسائل الجنس أو شهوات الرجل والمرأة؛ لأنها عرفت أن أكثر من ثلاثة أرباع المجانين في المارستان يرجع جنونهم إلى قمع هذه الشهوات والخوف من التصريح بها. ولذلك لا يبالي «لورنس» أن يصف لك الجمال في جسم المرأة وصفا يجعل الحكومة الإنجليزية تمنع قصصه من التداول. ثم هو لا يعبث أو يلهو بالكلام عن هذا الموضوع؛ إذ يكفي القارئ أن يعرف أنه يتفق ودعوته إلى التمتع بالعيش. وهو يقول إننا نقمع في أنفسنا الشهوة الجنسية، أو نخاف الكلام عنها، حتى ليقف الجنسان وكأن كلا منهما عدو للآخر، فهو إما متوجس وإما قامع. وهنا يقول:
عليك أن تقبل وجودك الجنسي الجسمي ووجود كل حي آخر فلا تخافه ولا تخف وظائفك الطبيعية ... فإن خوفك هو الذي يقطع بينك وبين أقرب الناس إليك وأعزهم عليك. ومتى قطع الناس ما بينهم عادوا متوحشين قساة متهجمين، فاهزم الخوف من الجنس الآخر وأعد للطبيعة مجراها.
وليس من حقنا أن نطالبه بنظام وقواعد، فإنه داعية ينبه ويوقظ، وعلى غيره يجب أن يقع عبء التنظيم ووضع القواعد.
جيمس جويس
كان يقال مدة الحرب وعقبها (في 1919) أنه ما من إنسان رأى هذه الحرب إلا وقد صار غير ما كان قبلها. وهذا القول يصح على الذين درسوا «فرويد»، فإنه ما من إنسان درس العقل الكامن، ووقف على خفاياه وترهاته وأمانيه، إلا وصار غير ما كان قبل أن يدرسه، لأنه سيجد أننا في حديثنا الذاتي وأحلام اليقظة والنوم، نلتفت إلى العلاقات الجنسية ونتخيل تفاصيلها بأكثر مما يجب أن يعرف الناس عنا. وجميع الأدباء الذين درسوا «سيكولوجية الأعماق» التي كشف عنها «فرويد» قد أعطوا الشئون الجنسية حظا كبيرا في قصصهم.
وهذا أحدهم «جيمس جويس» قد ابتدع طريقة جديدة في القصص لأنه جعل موضوعه درس خفايا النفس معتمدا على السيكولوجية الحديثة، فهو في قصة «أوليس» لا ينقل إليك ما يقوله أشخاص القصة، بل يصف لك خواطرهم. وهو يصفها بإخلاص، لا يهمل الشيء لأنه مستكره، ولا يسهب في الآخر لأنه محبوب. وقد قال هو عن الفن أنه يجب أن يكون حرا بعيدا عما نكره وعما نحب. وكأنه يصف العلم بهذا القول.
ولد «جيمس جويس» في دوبلين في 1882 وتربى عند اليسوعيين الذين تتفشى مدارسهم في أنحاء أيرلندا. وقد بولغ في تربيته الدينية، وجاءت المبالغة بالنتيجة العكسية التي تنتظر من المبالغة؛ لأنه يعد الآن من أعداء الكنيسة الكاثوليكية.
ولكن هذه العداوة تدل، بما فيها من حدة ومثابرة، على أن «جيمس جويس» لا يستطيع أن ينظر إلى الدين بعين المجانة والإهمال. وقد قيل عنه بحق إن جميع مؤلفاته لا تحتدم ولا تبلغ أقصى حماستها وغلوائها إلا في مكانين؛ أحدهما: عندما يعالج جدلا دينيا، والثاني: عندما يعالج الشهوة الجنسية. وهو في كلا الموضوعين يجد ولا يهزل، ويكتب وكأنه يريد التقرير والتحقيق ولا يبالي النتيجة بعد ذلك.
ولكن هذا العقل الكامن، الذي يلتفت إليه كثيرا في مؤلفاته، يجعله يخرج على قواعد اللغة، فيكتب الصفحات تلو الصفحات. وليس فيها علامة من علامات الوقف أو الاستفهام أو نحوهما مما يعرفه قراء الإنجليزية. ويتفكك الأسلوب لأن الخواطر التي يسردها مفككة لا تتصل. وهذا هو ما ينتظر؛ لأن أسلوبه عندئذ شخصي، مبلبل، مختلط.
وكي يقف القارئ على طريقته الجديدة، يمكنه أن يتوقف فجأة وهو سائر في الطريق مثلا، ويبحث عن الخواطر التي ترد عفوا إلى ذهنه، فإنه أمام نفسه وأمام الناس يسير وكأنه أحد الناس. ولكنه لو فحص عن خواطره في حديثه الذاتي لألفاها في غاية التبلبل والاختلاط. ولو هو عرف كيف يحللها لوقف منها على حقيقة نفسه، وصميم أمانيه، ولباب الخطة التي يختطها في حياته من حيث لا يدري.
مثال ذلك: لنفرض أني أسير في الشارع خلف جنازة لأحد الأصدقاء أو المعارف، فلو تركت ذهني ينطلق لوجدت طائفة من الخواطر ترد إلى عن الموت وهي: استلقاء على الظهر، حكم الإعدام، ورد على النعش، نتن في الفم، نوم، انتفاخ البطن، ظلام، «فولتير»، لشبونة، زلزال، باب القبر، جرس الميت، فئران، صندوق، إحراق الجثث، «سبنسر»، مادية، «برجسون» ... إلخ.
فكل هذه الخواطر ترد وتتصل في ذهني، ولكنها أمام القارئ مفككة قد تغيب عنه دلالتها؛ لأنها شخصية خاصة بشخصي أنا. ومن هنا الصعوبة في قراءة «جيمس جويس»؛ لأنه يصف لنا حياة الذهن، ويكشف عن مخابئ العقل الكامن. ويضطره هذا الموقف إلى أن يذكر لنا تلك الخواطر الجنسية التي تمر في ذهن الشاب أو الفتاة، كما يذكر لنا فيما لا يقل عن صفحتين تلك الخواطر التي تمر بذهن أحد الأشخاص الذي يدخل المرحاض عقب إمساك، فهو يتريث، ويتلبث، وكأنه يلتذ التخلص من إمساكه.
جيمس جويس.
وأحسن قصصه هي قصة «أوليس» التي يصف فيها يوما واحدا من أيام حياته في أكثر من 750 صفحة. وهذا الإسهاب يرجع إلى أنه يعنى بخواطر العقل الكامن في حالي الصحو والسكر، فيصف لنا بطل القصة وهو يحضر جنازة صديق. ثم وهو في مطعم. ثم يصفه وهو في ماخور دنس بين الخمر والبغايا. ثم في منزل صديق. ويسهب في وصف الخواطر الجنسية لإحدى النساء إسهابا يبلغ حد البشاعة. والقصة تبتدئ من الساعة الرابعة بعد الظهر وتنتهي في الساعة الثانية أو الثالثة من الصباح.
وإليك هذه القطعة التي يصف فيها دخول بطل القصة في المطعم:
كان قلبه يدق عندما دفع باب المطعم. وكان قد أدرك أنفاسه صنان من العيارة الحريفة للحم وغسالة الخضروات. ها هي الحيوانات تأكل.
رجال ، رجال، رجال .
قعدوا على مقاعد عالية إلى المشرب وقبعاتهم قد نحيت إلى الوراء. وقعدوا إلى الموائد يطلبون الخبز. الخبز مجانا، مجانا. يشربون ويلتهمون لقما ضخمة من أطعمة تعوم في المرق، وقد جحظت عيونهم، وأخذوا يمسحون شواربهم. وهنا شاب شاحب، له وجه كشحم الثرب يمسح كوبه وشوكته وسكينه وملعقته بالمنشفة. مجموعة جديدة من المكروبات. وهنا رجل قد علق على صدره منشفة أطفال قد لوثتها الصلصة، وهو يغترف الحساء ويصبها في بلعومه. ورجل يبصق في طبقه: غضروف لم يتم مضغه. ليس له أسنان للمضغ. طرف جامد من اللحم المشوي، يبلعه كي يتخلص منه. لهذا السكران عينان حزينتان، قضم قضمة لا يمكنه أن يمضغها. هل أنا كذلك؟
كما يرانا غيرنا ...
فهنا يرى القارئ رواية الحوادث تختلط بخواطر الذهن: حوادث موضوعية خارجية تختلط بإحساساتنا الذاتية الداخلية. وليس هنا في هذا الذي نقلناه ما يستبشع أو يغمض فهمه على القارئ، ولكنه في أمكنة أخرى لا يبالي أن يصف ديدان العقل الكامن وهي ترقص في النتن.
وليس «جيمس جويس» أول من عالج الخواطر الذهنية، فإن كثيرين من القصصيين عالجوها في الحديث الذاتي، حين يكلم الإنسان نفسه ويحلم في اليقظة؛ لأن هذه الخواطر هي حديث الإنسان لنفسه. ولكن «جيمس جويس» جعلها موضوع القصة الأساسي، ورواها على أصلها بلا تنقيح أو تهذيب.
و«جويس» متشعب الثقافة، يعرف النروجية وقد درس «إبسن» في هذه اللغة. وعاش في فرنسا، وتقلب بين عواصم أوروبا. وإذا شك الإنسان في القيمة التجديدية لمؤلفات «لورنس» أو «هكسلي» فإنه لا يستطيع أن يشك في هذه القيمة عنده. وهذا بالطبع لا يعني الثناء عليه، فإن طريقته تحتاج إلى أن يصهرها النقد من جهة، ويحكم عليها الجمهور من جهة أخرى، إن إقبالا وإن نفورا.
ألدوس هكسلي
يمكن الذين يؤمنون بالوراثة أن يؤيدوا إيمانهم بمثال «ألدوس هكسلي»، فإن والده «هكسلي» الكبير، ذكر اسمه مقرونا إلى اسم «داروين». ولولا دفاعه عن نظرية التطور، وجهاده في الدعوة إليها، لما اكتسبت هذه النظرية كل ما اكتسبته من أصدقاء وأعداء. وكذلك أخوه «جوليان» فإنه يعد من أعظم الدعاة إلى العلم ونشره بين الشعب. وقد شارك «ولز» في كتابه الشعبي الضخم «علم الحياة».
ولم يبلغ «ألدوس» الأربعين من عمره (في 1933). ولكن اسمه ذائع الآن بين جميع الأوساط الراقية. وثورته على الأدب القديم، أو على الأدب في العصر الفكتوري، هي ثورة الذهن، فإن الرجل يكتب في الأدب بالروح العلمي. وهذا خلاف «لورنس» أو «جويس» اللذين يضعان الغريزة فوق الذهن.
ول «ألدوس هكسلي» جولات في الفلسفة والنقد تنبئ عن ميله العلمي واعتماده على ذكائه وتعمقه في الثقافة. وقلما يقرأ له الإنسان فصلا في النقد، أو قصة قصيرة أو كبيرة، إلا ويبهره ذكاؤه ونشاطه الذهني. ولكنه لهذا الذكاء نفسه يميل إلى الهدم أكثر مما يميل إلى البناء؛ وذلك لأنه يجد أشياء كثيرة تحتاج إلى الهدم.
والقارئ لقصصه يذكر «ولز» في وصف الأشخاص وطريقة الرواية، كما يذكر «شو» في النزاهة الذهنية؛ فإنه يجعل العلاقة بين القارئ وبطل القصة حميمة، حتى لتثبت الصورة وتمثل من آن لآخر كأنها صديق قديم قد عرفنا خصاله وأحواله منذ سنوات. وقد كان يقال عن «تولستوي» الأديب الروسي إنه يمكنه أن يصف للقارئ عقل الحصان. وهذا أحسن ما يقال في التنويه بقدرة الكاتب. ولكن كلا من «ولز» و«هكسلي» يمكنه أن يصف عقل الطفل، ويجعلنا نحبه ونذكره كأنه ليس طفل القصة بل طفلنا نحن.
والحق أن المشابهة بين «ولز» و«ألدوس هكسلي» كبيرة جدا، فكلاهما موسوعي الذهن، يدرس الأدب والعلم والتاريخ بل يدرس الإكولوجية والقالبيات والهيدروبونية.
أما في الحوار والنقد، فإن أثر «برنارد شو» واضح فيه، فإنه يؤمن بالحرية ويبالغ في الإيمان بها. ثم هو أحيانا كثيرة يندفع بالحماسة من الفن إلى الدعاية. وهذا الاندفاع ليس مقصورا على «ألدوس هكسلي» فإنه يكاد يعم جميع المجددين والثائرين من الإنجليز، فإن الطبقة الجديدة من الشبان الأدباء مثل «ت. س. إليوت» أو «مدلتن موراي» يدعو إلى الشيوعية. ولكل منهما مجلة لهذه الدعاية.
وواضح أنه في أطوار الانتقال يستحيل الأدب إلى الدعاية. الأديب يأخذ في تقرير القواعد الجديدة ونقض المبادئ القديمة. وقد يفني عمره في تحقيق هذه الغاية قبل أن يستقر الجديد وينقض القديم. ولكن هذا الاستقرار نفسه إذا لم تزعزعه نزعات جديدة قد ينتهي إلى جمود. ولذلك يجب أن نقول إن في كل أدب حي بذرة من الدعاية، وخاصة في أيامنا هذه حيث تسير التطورات الاجتماعية في هرولة عجيبة.
ويتفق «ألدوس هكسلي» مع سائر المجددين والثائرين في درس السيكولوجيا الحديثة، ولا يفوته التحليل النفسي في كثير من المواقف والأحوال، فإن المرأة التي تقبل الطفل تذكر حبيبها وقبلته وعناقه، كما ترى من هذه القطعة:
ثم تذكرت الطفل فجأة، والتفتت إليه باندفاع العاطفة وقبلت خده المستدير، وقد علته حمرة الخوخ. وكانت البشرة ناعمة باردة كأنها ورقة الزهرة. وتذكرت زوجها، فتخيلته وهو يقبلها عندما يعود من عمله إلى البيت. وهذا المساء عندما تقعد هي كي تخيط، يكون هو قد قعد قبالتها يقرأ تاريخ «جيبون» عن انحطاط الدولة الرومانية بصوت عال، إنها لتعبده وهو قاعد أمامها يقرأ في نظارته ... وذكرت قراءته، وكيف ينطق ببعض الكلمات فاستعادت ذكراها وشعرت برغبة حادة لو أنه كان إلى جانبها الآن فتطوي ذراعيها على عنقه وتقبله ...
ألدوس هكسلي.
وكل هذه الخواطر إنما وردت عقب تقبيلها للطفل. ولو كان «جيمس جويس» هنا في هذا الموقف لذكر كل هذه الخواطر ثم زاد عليها حتى يفضح العقل الكامن كله.
ول «ألدوس هكسلي» مقال عن أزياء الحب يعبر إلى حد ما عن طريقته في معالجة القصص، وعن رأيه في أحرج المواقف القصصية. وهو لا يبعد كثيرا عن «برتراند روسل» وإن كان لا يصرح بكل ما يقوله هذا العالم الاجتماعي، فهو يرى أن للحب أزياء كما للملابس، ولكن أزياء الحب أغمض. والزي الشائع الآن هو نوعان يتصارعان؛ أحدهما: ذلك الحب الأمثل الذي ورثه الفتى والفتاة عن ثقافة المسيحية والقصص الخيالية. والآخر: هو ذلك الذي اكتسباه عن السيكولوجيا الحديثة. والأول يعمل لملازمة العرف والعادة، والثاني يعمل لإلغائهما. وقد ساعدت الحرب على تفشي النوع الثاني، فجاءت نظريات «فرويد» لتبرير الواقع، وليس للدعوة إليه، فإن الشبان يتكلمون الآن عن الضرر الناشئ من قمع الشهوات، وضرورة التفريج والتنفيس واكتساب الخبرة بالتجربة.
وقد كان «دوموسيه» يقول: «إني أحب وأريد أن أذوي. إني أحب وأريد أن أتألم.»
والشاب والفتاة لا يريدان التألم وإنما يريدان التمتع. ولكن المبالغة في التمتع تعود انغماسا أو تهالكا، لا يقتل الشهوات فقط، بل يتلف على المرء اللذة نفسها. والمبالغة في الحرية كالمبالغة في التقييد سواء. ولذلك يرى «ألدوس هكسلي» أن الزي الحاضر للحب سوف يزول؛ لأن الحب الذي سهل تحقيقه ليس عظيم القمة. وفي التاريخ ما يدل على أن الناس حين ترخصوا في الحب وأباحوه، واستهتروا، عادوا وقد أنفوا واستنكفوا إلى ما يشبه الزهد والانكفاف عن الشهوات. ولكنه يرى هنا الحاجة إلى إيجاد الزواجر النفسية التي تعمل للقمع وتحول دون الإباحة. وهو لا يؤمن بالزواجر الدينية التقليدية، فهو لذلك يخترع زواجر جديدة ويقول إننا يجب أن نؤمن بما يسميه «الشخصية الإنسانية» وأن ننشأ على احترامها، ونربي أبناءنا على أن يجدوا منها وفيها تلك القيود التي كان آباؤنا يجدونها في الأخلاق التي ورثوها عن المسيحية والقصص الخيالية.
وأنت إذن ترى أن العقدة التي تشغل بال «ألدوس هكسلي» هي العقدة الدينية، وأنه من هذه الناحية بشري مثل «ت. س. إليوت» زعيم البشرية في إنجلترا والولايات المتحدة. ولكن «إليوت» مع بشريته هذه رجعي تقليدي، يكتب كأنه من أبناء القرن الثامن عشر ويعمى عن أضواء القرن العشرين.
والحق الذي لا يمكن إنكاره أنه ليس في إنجلترا أديب يؤبه به إلا وللدين أكبر مكانة في ذهنه، سواء في ذلك المجدد أو الثائر والشاب أو الشيخ. وقد يعد القارئ بعض هؤلاء الأدباء كفارا أو ملحدين لأنهم يعارضون المذهب السني للدين، ولكنه لا يتمالك مع ذلك من الاعتراف بأنهم يجاهدون، ويستنبطون الأفكار والآراء كي يقنعوا أنفسهم وغيرهم بأنهم يقفون من الكون موقف الإخلاص والاجتهاد للخير العام.
الشاعر ت. س. إليوت
أكتب هذا الفصل في سنة 1948 عن هذا الشاعر الذي لم يكن بارزا في وجداني في 1933 حين خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
و«إليوت» أمريكي المولد والنشأة. ينتمي إلى إحدى الأسر الأمريكية التي تعتز بأصلها من حيث أن لها فضل السبق في الهجرة من إنجلترا إلى أمريكا قبل نحو 300 سنة. وهذه الأسر تقطن الأقاليم الشرقية من الولايات المتحدة، وتتوارث تقاليد المحافظين من حيث السياسة أو الاجتماع، كأنها تقاليد النبالة والشرف.
وقد تعلم «إليوت» في إحدى الجامعات الأمريكية ثم رحل إلى باريس المدينة الفنانة، بل عاصمة الفن الأوروبي. وهناك عرف النزعات الجديدة من الشعراء: «بودلير» و«فرلين» و«رامبو» كما عرف أيضا النزعات الأوروبية الأخرى التي لا يمكن لأحد في أية عاصمة أن يقف عليها ما لم يكن في باريس.
وفي الفترة التي تقع بين الحربين - أي بين 1919 و1930 - عم القلق أوروبا. وخاصة عندما خاض «موسوليني» في دم الديمقراطية بقتل «ماتيوتي» وغيره من الديمقراطيين الاشتراكيين. وزاد هذا القلق عقب الثورة السوداء التي قام بها «فرانكو» في إسبانيا واستعدى فيها الطائرات الإيطالية والألمانية لضرب المدن الإسبانية. وحاول الديمقراطيون والاشتراكيون أن يعقدوا جبهة في أوروبا ضد هذه الثورات السود في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، ولكنهم فشلوا. وأخذت كل من اليابان وإيطاليا وألمانيا تعربد في عصبة الأمم.
ووجد الأدباء أن المثليات والآمال والأهداف التي كانوا يتجهون إليها ويدافعون عنها قد انهارت، حتى قالت «فرجينيا وولف» الأديبة الإنجليزية أن البرج العاجي الذي كان رمز أدباء القرون الماضية الكلاسيين قد استحال إلى «البرج المائل» الذي يعيش فيه أبناء القرن الحاضر، والذي يوشك أن يسقط بهم كما يوشك أن يسقط برج بيزا في إيطاليا.
وعم التشاؤم جميع الأدباء. وكان أول المتشائمين، أو أكثرهم نعيبا، هو هذا الشاعر الأمريكي «إليوت» الذي استقر في لندن. وقد أخرج في 1925 «الأرض الخراب». وهي أحاديث النفس، نفس الشاعر الذي انكشف عنه الوهم؛ وهم الحضارة والثقافة والدين والإنسانية والشرف. وألفى نفسه، ليس في حيرة قد تسفر عن يقين، بل في يأس مظلم لا يرى في خلاله أي بصيص للرجاء. ذلك أن القيم الأخلاقية قد فسدت، بل تعفنت، ولم يعد الإنسان الإنساني قادرا على أن يعيش في شرف أو ينصب نفسه لمجد، فالناس يتمتعون برخاء المادة، ولكنهم يتمرغون في فقر الروح. وقد عمد «إليوت» بهذا اليأس إلى الهروب من الواقع المؤلم، فانطرح على أبواب الكنيسة الكاثوليكية ينشد السلام والطمأنينة لنفسه القلقة، كما فعل من قبل «بيلوك» و«تشسترتون»، فهو نافر من العصر الحاضر يحن، بل يوحم، إلى القديم. ولكنه في هذا الحنين أو الوحام يخرج من القفر إلى البلقع.
انظر إلى قوله في «الأرض الخراب»:
We are the hollow men
We are the stuffed men
Leaning together
Headpieces filled with straw, Alas
Our dried voices, when
we whisper together
Are quiet and meaningless
Between the idea and the reality
Between the motion and the act,
Falls the shadow
Between the conception and the creation
Between the emotion and the response
Falls the shadow.
نحن الرجال الفارغون
نحن الرجال المحشوون
نتساند
ورءوسنا محشوة بالقش وا أسفا
وأصواتنا الجافة، عندما
تتهامس معا
تكون هادئة وبلا معنى
بين الفكرة والحقيقة
بين الحركة والعمل
يقع الظل
بين التوهم والخلق
بين العاطفة والاستجابة
يقع الظل.
أو انظر إلى قوله:
I am tired with my own life
And the lives of those after me
I am dying my own death, and the death of those after me
Let Thy servant depart
Having seen Thy salvation
The word of the Lord came unto me, saying
O miserable cities of designing men
O wretched generation of enlightened men
Betrayed in the mazes of your proper ingenuities
Sold by the proceeds of your proper inventions
I have given you hands which you turn from Worship ...
لقد تعبت من حياتي
وحياة أولئك الذين سيعقبونني
وأنا أموت ميتتي وميتة أولئك الذين سيجيئون بعدي
خل عن عبدك يا رب كي يرحل
بعد إذ رأى خلاصك
وجاءتني كلمة الله وهي تقول:
أيتها المدن التعسة التي أنشأها رجال مدبرون
أيها الجيل التعس المؤلف من رجال مستنيرين
لقد أوقع بكم في تيه براعتكم
ولقد صرتم تباعون بما كسبتم من مخترعاتكم
أعطيتكم الأيدي التي تحولتم بها عن العبادة ...
ت. س. إليوت.
ولكن «إليوت» بهذا اليأس يبين لنا أنه يتكلم بلسان الطبقة التي نشأ منها، طبقة المحافظين الأمريكيين الذين يمارسون فضائل الاستقامة، ويتجنبون السجون؛ لأنهم أغنياء عن الجريمة بما لهم من مال وثراء. وهو يعجز عن مجابهة العصر الحديث، ولا يطيق رؤية الشعب وهو يحاول بلوغ القمة الديمقراطية. وبكلمة أخرى نقول إن «إليوت» يعمى عن رؤية القرن العشرين؛ لأنه لا يرى غير الحضارة الآلية التي تكاد تخنق البشر بقوتها وجبروتها. ولكنه ينسى أن هذه القوة أو الجبروت كان يمكن بتغيير النظام الإنتاجي أن يكونا في خدمة الإنسان.
أما من حيث الأسلوب فإن «إليوت» يشبه «جيمس جويس» في التعبير عن التتابع العاطفي؛ أي أحلام اليقظة، أو الخواطر المطلقة. ولكنه يختلف من «جويس» من حيث إن هذا رومانتي طليق لا يبالي التقاليد ، أما «إليوت» فيعد من الكلاسيين التقليدين. ونزوعه إلى الكاثوليكية يتناسق مع نزوعه إلى التقاليد. ومع ذلك نجد في «إليوت» سمة عصرية، هي أن شعره لا يعرف الطبيعة أو الريف أو الحياة الساذجة الفطرية، فهو شعر المدينة، بل شعر النادي والشارع والمقصف والمصنع. وعنده أن المجتمع الأمثل هو المجتمع المسيحي. ولكن ما هو هذا المجتمع المسيحي؟ فإن الاشتراكي في موسكو، يستطيع أن يصفه وصفا مخالفا كل المخالفة لما يصفه به الديمقراطي في لندن أو نيويورك.
وخلاصة القول إن «إليوت» يؤلف قصائده كي يندب العصر الحاضر، عصر الديمقراطية والاشتراكية، الذي لا يستطيع أن يعيش فيه لأنه يعجز عن التخلص من الأخلاق التي ورثها من طبقته في الأقاليم الشرقية للولايات المتحدة. وهو مع أنه يتكلم بلغة العصريين، فإنه يحس إحساس التقليديين، كما يفكر بعقولهم. وقد رأى حربين عالميتين فلم يخرج منهما ملهما بسخاء بشري يدعو إلى الاتحاد العالمي. ولم يبصر من خلالهما رؤية الإنسان القادم الذي لن يبالي تلك الأنانيات الصغيرة بشأن التفاوت في الثروة والتفاخر بالرياش وأبهة الألقاب. ومن هنا تشاؤمه الذي يطغى على ذهنه كما لو كان طوفانا وظلاما.
الشاعر أودين
نحن نعيش في عصر الانتقال من نظام المباراة في الإنتاج إلى نظام التعاون؛ أي من الانفرادية إلى الاشتراكية. وهذا الانتقال يجد من العراقيل والصعوبات ما رأينا أماراته في قيام الحكومات الفاشية في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبرتغال وأرجنتينا. فإن الطبقات التي انتفعت، وأثرت، وتسلطت بالمباراة، لا تستطيع أن تنظر بالرضا والارتياح إلى الانتقال إلى التعاون، حين تقوم المساواة مقام التفاوت؛ لأنها هي التي تنتفع بهذا التفاوت. ولذلك رأينا هذه الطبقات لا تبالي تحطيم دساتيرها وجحد النظم الديمقراطية كي تنشئ ديكتاتوريات تمنع التطور الديمقراطي من الوصول إلى غايته المنطقية وهي النظام الاشتراكي.
ومن هنا أصبح الأديب مكافحا؛ يكافح من أجل هذا الانتقال وأحيانا لا يكافح بقلمه فقط، بل يعمد إلى بندقيته ويغادر وطنه إلى إسبانيا مثلا حيث يقاتل إلى جنب الجمهوريين ضد الديكتاتور فرانكو.
ولكن يجب أن نعترف أن عصر الانتقال هذا الذي نعيش فيه لم يحل جميع الأدباء إلى مكافحين، فقد رأينا مثلا الشاعر «إليوت» يحاول الاستمساك بالكلاسية القديمة في الأخلاق والاجتماع والدين، مع أنه يستعمل أساليب «الانتقاليين»، فهو بمثابة الفلاح الذي يزرع خمسة أفدنة بالطرق العصرية، ويعيش في منزل يمتاز بجميع الوسائل العصرية الكهربائية في الإضاءة والطبخ والتبريد والتدفئة ثم ينعي على العصر الحديث آلاته وأدواته التي يستمتع هو نفسه بها. وكأن كل ما يقصد إليه أن يستأثر هو بها ويحرم غيره منها.
أودين.
ثم هناك غير هؤلاء التقليديين جماعة المترددين الحائرين الذين لا يجدون مراسيهم في وسط هذه الفوضى الانتقالية. ونحن نجد أحيانا في «إليوت» نفسه مثل هذه المواقف الحائرة.
ثم هناك البصراء الذين رأوا رؤية المستقبل، وفهموا القوات الجديدة، وارتفعوا إلى مستواها الإنتاجي، فأصبحوا مكافحين تغمر الأفكار الاشتراكية جميع جهودهم. ومن هؤلاء الشاعر «أودين» الذي لا يزال في بداية العقد الخامس.
وحياة هذا الشاعر توضح لنا العوامل الثقافية التي تسود وتتسلط على الأدباء المتمدنين هذه الأيام، فقد كان أبوه سيكولوجيا يتكسب بتحليل المرضى. ونشأ «أودين» في هذا الجو فتعرف لغته وتفهم هموم المرضى. وهي هموم العصر التي تنشأ من المباراة القاتلة، وما تحدث من مطامع ومحاسد ومخاوف؛ لأن الطمأنينة تكاد تكون معدومة حتى بين الأثرياء فضلا عن الفقراء.
ونجد في أشعار «أودين» كثيرا من كلمات السيكولوجيا والعقل الكامن، فهو فرويدي كما هو ماركسي. ولذلك بينما نجد يأسا مخدرا عند «إليوت» نجد أملا منعشا عند «أودين»، هو أمل الاشتراكية القادمة. ولكنه أمل ترافقه دعوة إلى الكفاح. وهو ينغمس في العلوم والآداب والفلسفات بمثل الهمة والشوق، بل اللهفة، التي ينغمس بها «ولز» أو «هكسلي». وقد غادر وطنه إنجلترا إلى الولايات المتحدة كي يدرس الحضارة الراهنة في أعلى طراز بلغته، ويعرف عيوبها وميزاتها. وهو كما قلنا اشتراكي ماركسي، وأساس اشتراكيته هو درس الحضارة الراهنة. وزواجه هنا بابنة «توماس مان» الأديب الألماني الذي فر من ألمانيا عقب تسلط النازيين عليها له معناه بشأن البيئة الثقافية التي يعيش فيها، بل معناه أيضا بشأن المستقبل الذي يرسم خارطته في أشعاره.
وأعظم ما تمتاز به أشعار «أودين» هو الإحساس العميق بأننا قادمون على مستقبل يحفل بالمشكلات، ويحتاج إلى ألوان من الكفاح السياسي والاجتماعي والأدبي. ولغته تكتظ بالتعابير العلمية والسيكولوجية. وهذا غير اللاتينية أو الفرنسية أو أي لغة أخرى؛ لأن «أودين» أوروبي قبل أن يكون إنجليزيا، وتفكيره عالمي قبل أن يكون وطنيا. بل الحق أنه ليس وطنيا في أي عاطفة من عواطفه، وهمومه، قبل كل شيء، هي هموم الإنسان «الإنساني» الذي يحس مأساة التعطل في الولايات المتحدة كما يحس الشقاء الأسود الذي يعيش فيه الهنود تحت أقدام الإنجليز. وقد قلنا إنه يشبه «ألدوس هكسلي» من حيث الانغماس الثقافي والدراسات العميقة، ولكن يجب أن نقول إنه يختلف منه كثيرا من حيث إن «هكسلي» يدعو إلى اتخاذ موقف منفصل من المشكلات البشرية، كأنه يقول بصوفية علمية للقرن العشرين، كأن الأديب يجب أن يكون راهبا يرى المجتمع ولا يشترك فيه، وقد يحكم عليه، ولكن دون أن يدخل في كفاحه. أما «أودين» فينغمس في المجتمع، وأشعاره هي أشعار السياسة والسيكولوجيا والتطور والاشتراكية وحرب الطبقات وكفاح الاشتراكيين للديكتاتوريين؛ كفاح المتعطلين للماليين والصناعيين.
وفيما يلي أبيات أظن من الأليق أن نتركها بلا ترجمة للذين يعرفون الإنجليزية وهي تدل القارئ على النفس الأودينية ومدى انبساطها وتعمقها في همومها ومعارفها:
Around me, pausing as I write,
A tiny object in the night, •••
Whichever way I look, I mark
Importunate along the dark
Horizon of immediacies •••
The flares of desperation rise
From signallers who justly plead •••
Their cause is piteous indeed
Bewildered, how can I divine
Which is my true Socratic Sign •••
Which of these calls to conscience is
For mine the casus foederis, •••
From all the tasks submitted, choose
The athlon I must not refuse, •••
A particle, I must not yield
To particles who claim the field •••
Nor trust the demagogue who raves
A quantum speaking for the waves, •••
Nor worship blindly the ornate
Grandezza of the Sovereign State.
أسهل من هذه الأشعار، هذه القطعة التالية عن «الحب»:
Love has no position
Love’s a way of living •••
One kind of relation
possible between
any things or persons •••
Given one condition,
The one sine qua non
Being mutual need.
وهذه القطعة التهكمية التالية واضحة، وهي ارتجال الشاعر أو بديهته التي يستخدم فيها ثقافته الزاخرة بالكلمات المختلفة. وهو هنا يأسى على الجو السيئ والطعام السيئ (المحفوظ في العلب):
come to our bracing dessert
Where eternity is eventful
For the weather-glass
Is set at Alas,
The thermometer at Resentful •••
Come to our well-run dessert
Where anguish arrives by cable
And the deadly sins
May be bought in tins
With instruction on the label.
ولا يزال «أودين» في بداية العقد الخامس؛ ولذلك فإن المستقبل ينفسح أمامه لتطورات ذهنية وأساليب أدبية مختلفة.
अज्ञात पृष्ठ