وأما سليمان الحلبي، فسمي بذلك لأنه حضر من جهات حلب، وهو ليس حلبي الأصل، ولكنه رومي وقع أسيرا في بعض المواقع بين الروم والعرب، وبيع كما تباع الأسرى في تلك الأيام، ولم يوفق لمن يفتديه حتى دخل في حوزة الدهقان وصار من عبيده، فأعجب الدهقان بحسن خلقه، ورأى فيه مروءة فأعتقه، فأصبح من مواليه، فأطلق سراحه وخيره بين البقاء عنده كبعض أولاده، أو الذهاب إلى بلده، ففضل البقاء عنده لأنه ألف المكان ولم يعد يعرف مصير أهله. وكان الدهقان يحبه ويثق به.
فريحانة قد وفقت في اختيارها، وقد جاء هؤلاء الثلاثة، واستعدوا للرحيل وهم لا يعرفون الغرض من ذلك. وجاءوهم بالدواب لركوبهم ، ودبروا كل شيء. وكان الفجر قد دنا، فأشار صالح بالركوب فركبوا وركب في مقدمتهم، وقال للحارس وغيره من أهل القصر: إنه عائد إليهم بعد قليل. فأطاعوا وهم يستغربون ما رأوه؛ لأنهم لم يعلموا بمقتل دهقانهم، ولا ما ينويه أبو مسلم من الفتك بهم.
سار الركب والليل يكاد ينقضي، وقد أقبل الفجر مبشرا بطلوع الشمس سلطانة النهار. ولما بعدوا عن المحلة أوقفهم صالح في خلوة وأخبرهم أنهم ذاهبون في خدمة الدهقانة جلنار إلى الحج، وأن ذهابها سري فلا ينبغي أن يعلم به أحد، فإذا سئلوا عن المكان الذي جاءوا منه، فليقولوا إنهم من مدينة بلخ، وقد خرجوا يريدون اللحاق بقافلة تقدمتهم منذ يومين قاصدة بيت الله الحرام، وأوصاهم ألا يذكروا اسم الدهقانة ولا الدهقان، وأنه سيخبرهم بالسبب بعد قليل. ثم تقدم إلى الدهقانة وقال لها: «إني راجع إلى القصر لأخبر الخدم والحراس بالواقع وأعود، فامكثوا في انتظاري.»
قالت: «سر في رعاية الله، وافعل ما تشاء.»
قال: «أعطيني رجلا من أتباعك يزكي شهادتي أو يؤيد قولي.»
فأمرت سعيدا الصقلبي أن يرافقه، فسار معه ولم يفهم القصد، ولكنه سار تلبية لأمر مولاته، فأسر له صالح حقيقة الأمر، وأوصاه أن يساعده في تلك المهمة، وساقا جواديهما نحو القصر، فلما وصلا إليه، رأيا أهله في هرج وقد استيقظوا من نومهم وعلموا بمسير مولاتهم على تلك الصورة، فدعا صالح قيم الدار وأخبره على انفراد بمقتل الدهقان، وأن أبا مسلم سيرسل من يستولي على القصر بما فيه، وأوصاه أن يتدبر الأمر، وأن الدهقان قبل أن يموت أعتق عبيده وجواريه جميعا، وأن القصر بما فيه صار ملكا حلالا لهم، إلى أن قال: «فتدبر أنت بحكمتك حتى لا يظفر ذلك القاتل بكم، وأسرع؛ لأنه لا يلبث أن يبعث بمن يقبض عليكم.»
فسأله عن الدهقانة فقال: «إنها انتقلت إلى بعض أهلها في نيسابور، وإنها هي التي بعثت إلى أهل القصر بالعتق والحرية ووهبتهم كل ما فيه.» إلى أن قال: «وهذا سعيد رسولها إليكم.»
فأيد سعيد قوله، وأكد أن الدهقانة توصيه بأهل القصر خيرا، وأن ينقذهم بحكمته وبحسن تدبيره، ويوافيها بعد ذلك إلى نيسابور؛ لأنها سوف تكون هناك بعد بضعة أيام، فصدقهما وأخذ في التدبير.
الفصل السادس والخمسون
سليمان بن كثير
अज्ञात पृष्ठ