أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - الأمويون والعباسيون
2 - دهقان مرو
3 - جلنار
4 - طارق
5 - الضحاك
6 - أبو مسلم الخراساني
7 - وصية الإمام
8 - الظل والسحاب
9 - الدهقان والدهقانة
10 - نسب أبي مسلم
11 - إبراهيم الخازن
12 - الضحاك والخازن
13 - على أحر من الجمر
14 - إبلاغ الرسالة
15 - الهدية
16 - أبو مسلم والضحاك
17 - صاحب الخبر
18 - الحارث بن سريج والكرماني
19 - الاستعداد
20 - الوساطة
21 - خدعة
22 - الوداع
23 - الدهاء المتبادل
24 - حقيقة الموقف
25 - الرحيل وإظهار الدعوة
26 - أين المحب من الخلي
27 - سياسة التقسيم
28 - الحرب
29 - العروس في بيت حميها
30 - العريس
31 - الضحاك
32 - أبو مسلم في خلوته
33 - ترقب وانتظار
34 - أمر شاق
35 - الرفض
36 - كشف المعمى
37 - القصاص ورفيقه
38 - شيبان وشبيب
39 - رد الخاتم
40 - سر جديد
41 - فتح مبين
42 - قصر الإمارة والبيعة
43 - أول الحيلة
44 - الدب الرقاص
45 - النبيذ
46 - أرسله إلى خوارزم
47 - الرحيل
48 - عريس جديد
49 - مجلس أبي مسلم
50 - الشفاعة
51 - الحديث
52 - الفرار
53 - البغتة
54 - الوسيلة
55 - الرحيل
56 - سليمان بن كثير
57 - أبو سلمة الخلال
58 - مروان بن محمد والناسك
59 - الرؤيا
60 - معسكر أبي سلمة
61 - المكاشفة
62 - الرحيل إلى الحميمة
63 - أبو جعفر المنصور
64 - اقتل ثم اقتل
65 - حاييم المنجم
66 - غدر وفتك
67 - الفشل
68 - استيقظ قلبها
69 - بنو العباس
70 - دير العذارى
71 - بيعة أبي العباس السفاح
72 - ذكرى الحبيب
73 - خلافة المنصور
74 - كشف السر
75 - المنصور وأبو مسلم
76 - من القلب إلى القلب
77 - مقتل أبي مسلم
78 - الخاتمة
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
1 - الأمويون والعباسيون
2 - دهقان مرو
3 - جلنار
4 - طارق
5 - الضحاك
6 - أبو مسلم الخراساني
7 - وصية الإمام
8 - الظل والسحاب
9 - الدهقان والدهقانة
10 - نسب أبي مسلم
11 - إبراهيم الخازن
12 - الضحاك والخازن
13 - على أحر من الجمر
14 - إبلاغ الرسالة
15 - الهدية
16 - أبو مسلم والضحاك
17 - صاحب الخبر
18 - الحارث بن سريج والكرماني
19 - الاستعداد
20 - الوساطة
21 - خدعة
22 - الوداع
23 - الدهاء المتبادل
24 - حقيقة الموقف
25 - الرحيل وإظهار الدعوة
26 - أين المحب من الخلي
27 - سياسة التقسيم
28 - الحرب
29 - العروس في بيت حميها
30 - العريس
31 - الضحاك
32 - أبو مسلم في خلوته
33 - ترقب وانتظار
34 - أمر شاق
35 - الرفض
36 - كشف المعمى
37 - القصاص ورفيقه
38 - شيبان وشبيب
39 - رد الخاتم
40 - سر جديد
41 - فتح مبين
42 - قصر الإمارة والبيعة
43 - أول الحيلة
44 - الدب الرقاص
45 - النبيذ
46 - أرسله إلى خوارزم
47 - الرحيل
48 - عريس جديد
49 - مجلس أبي مسلم
50 - الشفاعة
51 - الحديث
52 - الفرار
53 - البغتة
54 - الوسيلة
55 - الرحيل
56 - سليمان بن كثير
57 - أبو سلمة الخلال
58 - مروان بن محمد والناسك
59 - الرؤيا
60 - معسكر أبي سلمة
61 - المكاشفة
62 - الرحيل إلى الحميمة
63 - أبو جعفر المنصور
64 - اقتل ثم اقتل
65 - حاييم المنجم
66 - غدر وفتك
67 - الفشل
68 - استيقظ قلبها
69 - بنو العباس
70 - دير العذارى
71 - بيعة أبي العباس السفاح
72 - ذكرى الحبيب
73 - خلافة المنصور
74 - كشف السر
75 - المنصور وأبو مسلم
76 - من القلب إلى القلب
77 - مقتل أبي مسلم
78 - الخاتمة
أبو مسلم الخرساني
أبو مسلم الخرساني
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
إبراهيم الإمام:
صاحب الدعوة العباسية.
أبو مسلم الخراساني:
عبد الرحمن بن مسلم.
أبو العباس عبد الله بن محمد:
أول الخلفاء العباسيين.
أبو جعفر المنصور:
ثاني الخلفاء العباسيين.
نصر بن سيار:
أمير خراسان.
دهقان مرو:
أحد الأمراء الفرس.
جلنار:
ابنة دهقان مرو.
مروان بن محمد:
آخر الخلفاء الأمويين.
خالد بن برمك:
قائد عباسي.
أبو سلمة الخلال:
ممول الدعوة العباسية.
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ الطبري.
تاريخ ابن خلكان.
تاريخ التمدن الإسلامي.
معجم الأدباء، لياقوت.
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ الإصطخري.
مروج الذهب، للمسعودي.
الأحكام السلطانية.
الفصل الأول
الأمويون والعباسيون
تمتاز دولة بني أمية عن دولة الخلفاء الراشدين بأن السلطة تحولت فيها من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، وتمتاز عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة شديدة التعصب للعرب، كثيرة الاحتقار لسواهم؛ ولذلك فإن أهل الذمة وغيرهم من سكان البلاد الأصليين قاسوا من خلفاء بني أمية ومن عمالهم الأمور الصعاب، حتى الذين أسلموا منهم؛ فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وكانوا يسمونهم «الموالي»، ويعدون أنفسهم ذوي إحسان عليهم لأنهم أنقذوهم من الكفر، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعا لله. وكان بعض العرب إذا مرت به جنازة مسلم قال: «من هذا؟» فإذا قالوا: «قرشي.» قال: «وا قوماه!» وإذا قالوا: «عربي.» قال: «وا بلدتاه!» وإذا قالوا: «مولى.» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.» وكانوا يحرمون الموالي من الكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، وكانوا يسمونهم العلوج. وفي كتاب الموالي، للجاحظ، أن الحجاج لما قبض على الموالي الذين حاربوا مع ابن الأشعث أراد أن يفرقهم حتى لا يجتمعوا ، فنقش على يد كل واحد اسم البلدة التي وجهه إليها. وقد تولى ذلك النقش رجل من بني عجل، فقال الشاعر.
وأنت من نقش العجلي راحته
وفر شيخك حتى عاد بالحكم
1
فكان سكان المملكة الإسلامية غير العرب يقاسون مر العذاب من عمال بني أمية، ويودون التخلص من دولتهم. وكانوا أول المجيبين لمن يدعو إلى غيرها أو يطلب إسقاطها.
ولولا دهاء بعض خلفائها وأمرائها لما طالت مدة حكمها، ولكنها قامت بدهاء معاوية وأنصاره؛ كزياد ابن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. والناس بايعوا معاوية رهبة من سيفه، أو رغبة في عطائه، وهم يعتقدون أن أهل بيت النبي أولى بذلك الأمر. وقد تهيأت لهذه الدولة ظروف كثيرة ساعدت على بقاء الخلافة في بني أمية نيفا وتسعين سنة.
وكان أهل بيت النبي في أثناء ذلك يطلبون الخلافة لأنفسهم ولا يفلحون، وهم فئتان كبيرتان: فئة ترجع بأنسابها إلى الإمام علي ابن عم النبي؛ وهم العلويون، وفئة ترجع إلى العباس بن عبد المطلب؛ عم النبي؛ وهم العباسيون. والعلويون فئتان: فئة تطالب بالخلافة لأبناء علي من زوجته فاطمة بنت النبي؛ وهم: الحسن والحسين ومن تسلسل منهما، وفئة تطلبها لابنه محمد بن الحنفية. وكان دعاة محمد هذا يقال لهم: الكيسانية، وأما العباسيون فتسمى شيعتهم: الراوندية.
والعباسيون لم يطالبوا بالخلافة إلا في أواخر دولة بني أمية، وأما العلويون فما انفكوا من زمن معاوية وهم يطالبون بها، فيرسلون الدعاة إلى أنحاء المملكة الإسلامية يدعون الناس إليهم، وكثيرا ما اجتمع حول بعضهم ألوف من الأنصار والأشياع، ولكنهم لم يفلحوا، حتى إذا انقضى القرن الأول وأخذ شأن بني أمية في الضعف، وأخذت دولتهم في الانحلال؛ كانت دعوة الكيسانية قد وجدت صدى، وهم يدعون لأبي هاشم بن محمد بن الحنفية المذكور. وقد كثر دعاتهم في العراق وخراسان. وكان أبو هاشم قد أوصاهم أنه سيحول الدعوة إلى آل العباس، فلما علمت شيعة أبي هاشم بموته قدموا إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المذكور وبايعوه، فبعث الدعاة إلى الآفاق في السنة المائة للهجرة سرا. وكان أكثر الذين أجابوا الدعوة من الموالي غير العرب، وخاصة في خراسان؛ لبعدها عن مركز الخلافة الأموية بدمشق. وفي سنة 124ه، توفي محمد بن علي؛ صاحب الدعوة، فبايع الناس ابنه إبراهيم وكانوا يسمونه الإمام. وما زال أمر العباسيين يقوى وأمر الأمويين يضعف حتى انقضت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية سنة 132ه. وكان قائد شيعة العباسيين شابا فارسيا اسمه أبو مسلم الخراساني؛ هو بطل هذه الرواية.
الفصل الثاني
دهقان مرو
كانت بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر قبل الفتح الإسلامي مؤلفة من المدن والقرى، وكان رجال الحكومة يقيمون في المدن ويجعلون فيها كل قوتهم. وأما القرى فقد كانت في حوزة جماعة من أشراف الفرس يعرفون بالدهاقين، على نحو ما كانت عليه حال قرى أوروبا في عصر الإقطاع؛ إذ كانت البلاد في أيدي الأمراء الأشراف من الكونتية واللوردية، وكل أمير منهم يحكم مقاطعة تعرف باسمه، يحرسها جنده، ويزرعها رجاله، وهو فيهم مكان الحاكم المطلق. وكان الدهقان ورجاله يحكمون أهل القرى؛ سكان البلاد الأصليين، ويستخدمونهم استخدام الرق. وكان السكان خليطا من الشعوب الآرية يمتازون بضخامة البدن وبروز الصدر.
كذلك كان الدهاقين في خراسان وغيرها حينما فتح العرب تلك البلاد، فهم إنما فتحوا المدن وأقاموا فيها الحامية. أما القرى فأقروا فيها الدهاقين على نحو ما كانوا عليه في دولة الفرس، واستعانوا بهم في كثير من الأحوال؛ وبخاصة في جمع الخراج، بما كان لأولئك الدهاقين من النفوذ العظيم على أهل البلاد الأصليين. وكثيرا ما كانوا يتجسسون بهم على أحوال الحكام وغيرهم. وكان الدهاقين من الجهة الأخرى ينتفعون بتقربهم من الفئة الحاكمة، ويجتزئون مما كانوا يجمعونه من الخراج، فتضاعفت ثروتهم وزاد نفوذهم، على أنهم كانوا يتفاوتون ثروة ونفوذا؛ فمن صاحب القرية الصغيرة أو المزرعة إلى صاحب الرساتيق العديدة والبلاد الواسعة. وكثيرا ما كانوا يتولون الحكومة كالأمراء، لكن بني أمية كانوا يسيئون إلى أولئك الدهاقين أحيانا في جملة إساءتهم إلى غير العرب. وكانت ديانة الدهاقين المجوسية ديانة الفرس القدماء، وانقضت أيام بني أمية ولم يسلم منهم إلا القليلون.
وكان أعظم دهاقين خراسان في أوائل القرن الثاني للهجرة دهقانا كانت ضياعه أكثرها بجوار مدينة مرو؛ عاصمة خراسان في ذلك العهد؛ ولذلك غلب عليه الانتساب إلى تلك المدينة، فكان يسمى «دهقان مرو». وكان لهذا الدهقان ابنة اسمها جلنار غلبت شهرتها على شهرته بالجمال والعقل، وقد ذاع ذكرها بين الناس حتى أصبحت مضرب أمثالهم بالأنفة والإمساك عن الزواج مع كثرة الخطاب من كبار الدهاقين والأمراء. وكان إذا طلبها طالب عرض أبوها عليها أمره ورغبها فيه، فإذا أبت جاراها في الرفض.
وكان الدهقان المذكور يقيم في مزرعة له على بضعة أميال جنوبي مرو في قصر فخم تأنق في بنائه، وأنشأ حوله الحدائق غرس فيها الأشجار المثمرة، وأصناف الرياحين والأزهار، وسرح فيها الطيور الداجنة، وفي جملتها الطاووس، والديك الهندي، وأصناف الدجاج. وقد ابتنى لها أقفاصا في بعض جوانب الحديقة، وأقام حول القصر والحديقة سورا عاليا منيعا كأسوار القلاع. وخارج السور منازل رجال الحاشية والأعوان، وبينها أعشاش يقيم فيها الحراثون والخدم.
ولم يكن يقيم في القصر إلا الدهقان ونساؤه وخدمه وبنته، ولم يكن له أبناء سواها. والقصر المذكور مبني على نمط خاص يحسبه المقبل عليه هيكلا من هياكل النار التي كان الفرس يصلون فيها قبل الإسلام. والظاهر أن هذا القصر كان هيكلا لعبادة النار، فلما أسلم أصحابه حولوه إلى قصر للسكن، وأنشئوا حوله الحديقة والسور؛ ولذلك كان المقبل على القصر يرى في صدره أساطين من الرخام ضخمة، عليها نقوش فهلوية هي عبارة عن صور بعض الأبطال وبعض نصوص الأدعية أو الصلوات على اصطلاحهم. وتحيط هذه الأساطين برحبة أرضها من الرخام مرتفعة عن أرضية الحديقة وتشرف عليها، وفي سقفها نقوش ملونة تمثل بعض الخرافات القديمة عند المجوس، وفيها مواقع حربية أو حوادث دينية. وكانوا يسمون تلك الرحبة قاعة الأساطين أو القاعة الكبرى. ووراء تلك القاعة غرف كبيرة مفروشة بأثمن الأثاث من الديباج والإبريسم على النمط الفارسي.
الفصل الثالث
جلنار
وذات ليلة من ليالي رجب المقمرة من سنة 129ه، كان الدهقان جالسا في تلك القاعة بين تلك الأعمدة، وقد فرشوا المكان بالسجاد وفوقه الوسائد المزركشة بالذهب، وفي وسط القاعة شبه منضدة من خشب الصندل المرصع بالأصداف الملونة، وعلى المنضدة تمثال صغير من الذهب يشبه فارسا فارسيا عليه الدرع، وعلى رأسه الخوذة، وإلى جنبه السيف. وعينا الفارس وعينا الجواد من الحجارة الكريمة. وقد علقوا في سقف القاعة عدة مصابيح بينها مصباح كبير في وسطها، فأضاءوا المصابيح في تلك الليلة كالعادة، ولكن القمر أغناهم عن نورها.
وكان الدهقان جالسا في صدر القاعة على وسادة من الحرير، وعليه قباء من الديباج الأحمر، وعلى رأسه قلنسوة من الجلد الملون، وحول القلنسوة عمامة صغيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون الأبيض. وكان القباء مبطنا بالفرو؛ لأنهم كانوا في فصل الربيع. وكانت تلك الليلة باردة، فالتف الدهقان بقبائه وبالغ في الالتفاف حتى غطى الفرو عنقه ومعظم لحيته. وكان كبير الوجه، جاحظ العينين، ضخم الأنف، أشقر الشعر، وقد خالطه الشيب قليلا، فيحسبه الناظر إليه في الخمسين من عمره وهو فوق الستين. وبعد أن جلس هناك وحده ساعة، نهض بغتة ودخل يطلب غرفة ابنته، فبغت الخدم لقيامه وتفرقوا من بين يديه، ثم وقفوا احتراما له. وكانت جلنار قد ذهبت إلى غرفتها بعد العشاء وبعثت إلى ماشطتها الخاصة، فجاءتها وأعانتها على خلع ثيابها ونزع حليها، ثم جلست إلى جانب فراشها لتحادثها ريثما تنام وقد آن وقت النوم، ولكن جلنار احتالت في الذهاب إلى الفراش؛ لتخلو بماشطتها وتحدثها بما في نفسها.
وكانت جلنار على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، معتدلة القامة، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت ذلك البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، مع جاذبية وحلاوة يندران في البيض؛ لأن الجاذبية تغلب فى السمر. وكان لها في مقدم الذقن فحصة، وإذا ابتسمت ظهر لها إلى جانب الفم فحصتان هما الغمازتان.
فلما فرغت الماشطة من تبديل ثيابها، ألبستها قميصا من الحرير الناعم وردي اللون، وحلت شعرها وسرحته بمشط من العاج، فاسترسل إلى كتفيها، ثم ضفرته ضفيرة واحدة لئلا يضايقها أثناء النوم . وكانت الماشطة من أهل الذكاء والعقل، وأصلها سرية ابتاعها الدهقان في جملة جوار بيض من بعض تجار الرقيق الذين يتجرون بالمماليك من بلاد الترك والخز، ولكنها تمكنت بذكائها وأسلوبها من اكتساب ثقة الدهقانة جلنار حتى جعلتها ماشطتها. والماشطة من أصحاب النفوذ الأكبر في بيوت الدهاقين؛ لأن نساءهم يفضين بأسرارهن إلى الماشطة، ويعتمدن عليها في المهام العظام. فإذا كانت من أهل الذكاء والدهاء ملكت زمام القصر، وسيطرت على الدهقان والدهقانة.
وكانت ماشطة جلنار، واسمها ريحانة، قد ملكت ثقة سيدتها، وتمكنت من محبتها، ولا سيما بعد وفاة والدتها، فأصبحت ريحانة مركز آمالها وخزانة أسرارها، فلما فرغت من تبديل الثياب استلقت جلنار على فراش أنيق من ريش النعام، غطاؤه سماوي اللون، فغرقت فيه، واتكأت بذراعها اليسرى على وسادة مزركشة، وأسندت خدها على كتفها، وتغطت باللحاف إلى أسفل الكتف، وأرسلت يدها اليمنى فوقه. وقد نزعت من معصمها أكثر الحلي إلا الأساور، وانحسر الكم عن زندها فظهر بضا أبيض. فتوسدت على تلك الصورة ووجهها نحو ريحانة. وكانت ريحانة قد لفت رأسها وحول عنقها بخمار من نسيج الكشمير، ولبست دراعة مستطيلة تحتها سراويل منتفخة على نمط ملابس الفرس في تلك الأيام، وليس عليها شيء من الحلي.
جلست ريحانة إلى جانب جلنار وقد تملكتها الدهشة لما آنسته من سكوتها وانقباضها أثناء تبديل الثياب، وكانت عادتها أن تغتنم مثل تلك الساعة للممازحة والمضاحكة. فلما رأت ريحانة سكوتها جارتها في السكوت تأدبا، وصبرت نفسها حتى تبدأ هي الحديث، مع علمها ببعض ما يجول في خاطر سيدتها من الهواجس. فلما اتكأت جلنار أشارت إلى ريحانة أن تغلق باب الغرفة، ففعلت وعادت إلى مكانها، ومدت يدها إلى شعر جلنار وجعلت تلاعبه بين أناملها، ثم مرت بيدها على رأسها وهي تنظر إلى وجهها وتبتسم كأنها تستفسر منها عن سبب ذلك السكوت. فقالت جلنار باللغة الفارسية - وكانت تعرف العربية مثل معظم أهل فارس في ذلك العصر؛ لأنها لغة الفئة الحاكمة، لكنهم كانوا يتفاهمون فيما بينهم بالفارسية لغة آبائهم - فقالت جلنار : «ما قولك في أبي ...»
قالت ريحانة: «إنه يريد لك الخير.»
قالت: «صدقت، ولكني أراه شديد الرغبة في زواجي.»
فقالت ريحانة: «أتلومينه على ذلك؟ وأي أب لا يريد أن يزوج بناته؟ وأنت - من نعم المولى - في رغد وسعادة، وأبوك أكبر دهاقين خراسان، وليس له سواك، وكلما جاءك طالب رفضته، أفيلام أبوك إذا غضب.»
فتنهدت جلنار وكأنها أرادت السكوت، ولم يطاوعها قلبها فقالت وهي تتشاغل بإصلاح قميصها عند العنق: «وهل تظنين أني أكره الزواج؟ لكني أرى أن والدي لا يهتم في زواجي إلى غير مصلحته. وأنت تعلمين ذلك.»
فتجاهلت ريحانة وقالت: «لا أراه كما تقولين - يا مولاتي - لأنه إنما أراد زواجك بأكبر أمراء العرب في خراسان. ولا يخفى عليك أن هذا الأمير لا يطلب فتاة إلا نالها؛ لأنه الحاكم النافذ الكلمة، ومن تقرب منه اكتسب مثل هذا النفوذ.»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وهذا ما أقوله. إن أبي يريد تزويجي بابن الكرماني؛ أمير هذا الجند؛ ليكتسب النفوذ عنده، وليكثر دخله من جباية الخراج. ثم إن الكرماني هذا لم يتم له الأمر؛ فهو ليس الأمير الحاكم، وإنما هو يطلب الحكم لنفسه، وما أدرانا أنه سوف يناله؟!»
قالت ريحانة: «أما ظفره بالإمارة فإنني واثقة من ذلك لما علمته من قوة جنده؛ فهو الآن يحاصر مرو؛ عاصمة خراسان، وقد ضيق على أميرها نصر بن سيار حتى فر نصر من بين يديه، ولا يبعد أن يعود نصر إلى التسليم، فيصير الكرماني صاحب الأمر والنهي في خراسان، فتكونين حينئذ أميرة خراسان.»
قالت: «أراك تخلطين وتتخبطين. أأتزوج ابن الكرماني على أمل أن أباه سيغلب أمير خراسان ويقوم مقامه؟ وما أدرانا أن الخليفة في الشام سيرسل جندا ليحارب الكرماني هذا ويقهره. فكيف تكون حالنا؟»
فابتسمت ريحانة وقالت: «أما من ناحية الخليفة في الشام، فكوني على يقين من أنه لن يحرك ساكنا لاشتغاله بما حوله عما هو بعيد عنه؛ فقد علمت من خادمك الضحاك أنه لما تولى الخليفة الحالي مروان بن محمد قامت الناس عليه، حتى أهله ورجاله، وقد قضى زمنا وهو يحارب ويغالب في بلاد الشام، ولم يستطع إخضاع تلك البلاد إلا بشق الأنفس، فهو لا يطمع في استرجاع خراسان إذا تغلب عليها رجل مثل الكرماني.»
قالت جلنار: «لقد ذكرتني بذلك المضحك. إنه خفيف الروح، وأراه - برغم أنه عربي - يعرف اللغة الفارسية جيدا، ومع ما يظهر من بلهه وضحكه المتواصل، وخفة روحه، فإنه بعيد النظر، ذو دهاء، ويمكن الاعتماد عليه. ومن الغريب أنه عربي وقد دخل في خدمتنا على هذه الصورة. أين هو الآن؟ استدعيه لعلنا نستفيد شيئا من حديثه.»
الفصل الرابع
طارق
فهمت ريحانة بالنهوض، فسمعت خفق نعال أمام باب الغرفة، فعرفت للحال أن الدهقان مار من هناك، فلبثت ريثما يمر، فإذا هو قد وقف بالباب ثم فتحه ودخل وهو ملتف بالقباء، كما تقدم، فأسرعت ريحانة وهرولت نحو الباب وخرجت احتراما لسيدها. وأما جلنار فإنها جلست في الفراش وقد ظهرت البغتة على وجهها، ولكنها كانت رابطة الجأش فتجلدت ورحبت بوالدها، فأقبل حتى وقف بجانب فراشها، ثم انحنى وأمسك ذقنها بين أنامله كأنه يلاعبها؛ استعطافا لها، واسترضاء لخاطرها. أما هي فلم تجهل غرضه، فظلت صامتة حتى خاطبها قائلا: «أراك تلتمسين النوم في ساعة مبكرة يا جلنار.»
قالت: «شعرت بالتعب فأحببت أن أستريح في الفراش، وأنا لا أشعر بالنعاس.»
قال: «هلم بنا إذن إلى القاعة الكبرى؛ فإن الجلوس فيها يشرح الصدر لما تطل عليه من الأزهار والرياحين ونحن في إبان الربيع، فضلا عن نور القمر الساطع.»
فلم يسع جلنار إلا أن تنزل عند رأي والدها، فنهضت وتزملت بملاءة كبيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون العنابي غطت ثيابها، ومشت معه حتى وصلا إلى القاعة، فجلسا على وسادتين متحاذيتين وجلنار تتوقع من أبيها حديثا لا يرضيها، فلما استقر بهما الجلوس قال الدهقان: «رأيتك يا جلنار في هذا المساء على غير ما تعودته من طاعتك، فما الذي حملك على ذلك؟»
فقالت وهي مطرقة: «إني أطوع لك من بنانك يا مولاي.»
قال: «فما بالك لما ذكرت لك ما بعث به إلينا أمير العرب من خطبتك لابنه سكت وتجاهلت؟ ألا تعلمين أن مصاهرة هذا الأمير ستكون من أكبر أسباب سعادتك؟»
قالت: «وأي أمير تعني يا أبتاه؟»
قال: «أعني ابن الكرماني؛ قائد قبائل اليمنية الذي يحاصر مدينة مرو الآن، أو هو فتحها على ما بلغني. وقد فر نصر منها.»
قالت: «إني لا أفعل إلا ما تأمرني به، لكنني لا أثق بفوز هذا الأمير. وقد رأيتك لما بعث نصر بن سيار؛ أمير تلك المدينة، يطلبني منك لابنه، لم تجبه مع أنه صاحب حكومة خراسان.»
قال: «وهذا يدلك على إعزازي لك وسعيي في راحتك؛ لأن نصرا هذا لا يلبث أن يغلب على ما في يده، ويخرج من هذه البلاد مدحورا؛ لضعف حاميته، وانحطاط دولة بني أمية على الإطلاق. وقد أصبح أهل خراسان كافة ناقمين عليها بعد ما ظهر لهم من إيثارها العرب على الفرس، ومطالبتهم بالضرائب الفادحة بغير حق، حتى طلب عمالها الجزية من المسلمين على غير القواعد المرعية في الإسلام.»
قالت: «لا أجهل استبداد هذه الدولة، ولكنها لا تزال في اعتباري أقوى من رجال لا دولة لهم ولا حكومة؛ كابن الكرماني؛ فإنه أشبه برجل ثائر على حكومته، وشأنه في ذلك شأن جماعة الخوارج الذي يجتمعون على الدولة ثم يتفرقون ويقتلون، وآخرهم شيبان الذي رأيناه بالأمس محاصرا لمرو. وزد على ذلك أن ابن الكرماني ليس معه من الأحزاب إلا القبائل اليمنية من العرب، وأما سائر القبائل المضرية فهم مع نصر بن سيار - وربما كانوا في قوة اليمنية أو زادوا عليها - وهل نسيت حزب الشيعة القائم الآن في بني العباس وإمامهم إبراهيم بن محمد. ألم نكن نحن في جملة الفرس الذين عاهدوا دعاة العباسية على نصرتهم وأكثر أحزابهم من أهل خراسان؟»
قال: «صدقت، نحن عاهدنا الشيعة وساعدناهم، ولكن يظهر لي أنهم يقولون ولا يفعلون؛ فقد مضى عليهم عدة أعوام منذ دعونا إلى نصرتهم سرا، فمددناهم بالأموال مرارا، ولكنهم لا يزالون إلى الآن يتكتمون. وأما ابن الكرماني هذا، فإنه جمع الجند ولا يلبث أن يستولي على مرو، وإذا هو فتحها أصبح أمير خراسان ، ثم يفتح سواها وتصير له دولة قوية تقوم مقام دولة بني أمية. وأكبر شاهد على ذلك أنه تغلب بالأمس على الحارث بن سريج وقتله وشتت جنده، ثم انتصر على مرو وفر نصر منها، وهو لا يزال فارا؛ فابن الكرماني صاحب الأمر والنهي الآن؛ فأطيعيني وأنت الرابحة. وإذا كان الأمير صهرنا، فيكون لنا النفوذ الأعظم، وتكونين أنت أميرة خراسان كلها. ومع ذلك، فإني قد وعدته بك من قبل، وبعث إلي بالمهر مع الرسول.»
فسكتت جلنار وأطرقت، فظن أبوها أن سكوتها دليل على الموافقة، وأراد أن يثبت ذلك فصفق، فجاءه أحد الغلمان، فقال: «آتوني بالضحاك العربي.»
الفصل الخامس
الضحاك
ولم يمض قليل حتى جاء الرجل؛ وكان طويل القامة، رقيق البدن، محدودب الظهر قليلا بسبب طوله، وكان لا ينفك ضاحكا لغير سبب بما يشبه البله، وكان يعتم بعمامة كبيرة جدا مع صغر وجهه، وغور عينيه وصغرهما، وخفة شعر لحيته وشاربه، فيصير منظره مضحكا، ولا يكلمه أحد إلا أضحكه. وكان قد دخل في حوزة الدهقان على سبيل البيع فاشتراه من بعض تجار الرقيق. وقد احتفظ به؛ لأنه عربي. وكان يندر أن يباع العرب بيع الرقيق في تلك الأيام. وقد أعجبه ما كان فيه من خفة الروح، فكان كثيرا ما يدعوه ويسأله بعض الأسئلة عن العرب، فيجيبه عنها إجابة خبير، ويخلط الجد بالهزل. فلما أنس الدهقان في ابنته الانقباض في تلك الليلة أراد أن يفرج عنها فاستقدمه. فلما دخل ألقى التحية، ثم غمز عمامته فانحرفت إلى جانب رأسه، فأصبحت بكبرها وانحرافها ذات منظر غريب، والضحاك مع ذلك يضحك ويقهقه بلا سبب ظاهر.
فلما رأته جلنار ضحكت؛ لأنها كانت تستأنس به كثيرا، وكانت تتوقع أن تستخدمه في بعض مصالحها لما تحققته من جده في معرض المزاح، فقال الدهقان: «متى يثبت سلطان بني أمية في خراسان؟»
فأجاب على الفور: «متى شاب الغراب يا مولاي!»
فالتفت الدهقان إلى ابنته وابتسم كأنه يقول لها: «ألم أقل لك ذلك؟» ثم التفت إلى الضحاك وقال: «كيف تقول ذلك والأمويون لا يزالون أهل سلطان، وخليفتهم في الشام عنده الجند والأعوان، ألا تظنه ينجد هذه المدينة وينقذها من أصحاب الكرماني؟»
فقهقه الضحاك قهقهة عظيمة وقال: «مسكين نصر بن سيار! لقد بح صوته وهو يستنجد بني أمية وينذرهم بسوء المغبة، إن لم ينجدوه، وما من مجيب. وقد بلغني أنه استعان في إقناع الخليفة بالشعر، فنظم له قصيدة قال له فيها.
أرى بين الرماد وميض نار
وأخشى أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب مبدؤها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟ «أتدري بماذا أجابه الخليفة على ذلك؟»
قال الدهقان: «بماذا أجابه؟»
قال: «كتب إليه أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.» وضحك ضحكة طويلة «ولم يسعفه بشيء.»
فنظر الدهقان إلى ابنته واكتفى بتلك النظرة تأييدا لقوله. وكانت هي في الحقيقة لم تقتنع. ولم يكن تمنعها لسبب سياسي أو طمع في سلطان، ولكنها كانت ذات قلب يحب ويبغض، فإذا سلمت قيادها إلى والدها لا تستطيع أن تسلم قلبها لابن الكرماني؛ لاشتغالها بحب رجل رأت أنه يستحق محبتها، وكانت قد شاهدته في مجلس والدها مرة، فأعقبت تلك النظرة ألف حسرة، ولكنها لم تكن تجرؤ على مخاطبة أبيها؛ لأنها لم تكن تعلم ما إذا كان عند الرجل مثلما عندها، فسكتت. فأشار والدها إلى الضحاك فخرج مهرولا، فلما خلا الدهقان بابنته قال لها: «سأرد رسول الكرماني في الغد بجواب الرضا، وتوكلي على الله.» فلم تجب، فلم يهمه سكوتها؛ لاعتقاده أنه سكوت الحياء.
وكانت هي في أثناء صمتها قد شغل ذهنها سماع أجراس عن بعد لهدوء الطبيعة في تلك الليلة المقمرة، ثم سمعت نباح الكلاب وهي لا تنبح إلا على طارق، فتشاغلت عن سؤال أبيها بالإصغاء إلى رنات الأجراس، فانتبه أبوها لذلك، فقال لها: «يظهر أن قافلة تسير ليلا في ضوء القمر.» ثم أخذت أصوات الأجراس تقترب، ونباح الكلاب يشتد، والدهقان وابنته صامتان، وكل منهما في شغل. وقد فرح الدهقان بقبول ابنته؛ لاعتقاده بما سيكون من أمر الكرماني وسلطانه، وما سينال من النفوذ والكسب على يده، ولعلمه أنه إذا لم يقبل طلبه طوعا، فسيضطر لقبوله كرها.
الفصل السادس
أبو مسلم الخراساني
ولم يمض قليل حتى سمع صوت الجمال وصهيل الخيل وضوضاء الناس، ثم جاء بعض الغلمان مهرولين وهم يقولون: «إن قافلة كبيرة وقفت بجانب القرية تطلب النزول بدار الضيوف.»
فقال: «وهل هم كثيرون؟ ومن أين هم قادمون؟»
قالوا: «إنهم يزيدون على مائة نفس، ومعهم الجمال والخيل.»
فقال: «لا أظنهم يريدون الإقامة جميعا عندنا، ومع ذلك فادعوهم للنزول.»
فعاد الغلمان، وبعد قليل جاء أحدهم وهو يقول: «إن رجال القافلة يطلبون مقابلة الدهقان.»
قال: «فليدخلوا.»
فوقفت جلنار تريد الرجوع إلى غرفتها، فأمسكها أبوها وقال: «لا بأس عليك. انتظري حتى نرى من هم القادمون.»
وبعد قليل أقبل رجلان قد تزمل كل منهما بقباء أسود، وتلثم بلثام أسود، ووراءهما رجلان يحملان حزمة طويلة يسندانها من طرفيها على أكتافهما. فلما وصلا إلى مكان الدهقان في القصر، أنزلاها إلى الأرض ووقفا هناك. أما الاثنان الأولان فدخلا دخول الأمراء، وحييا الدهقان بالفارسية. فلما سمع تحيتهما أجفل؛ لأنه سمع صوت رجل يعرفه، فتقدم ذلك الرجل إلى الدهقان - ولم يلتفت إلى ابنته - وسلم. فلما دنا من المصباح صاح الدهقان: «عبد الرحمن.»
فلما سمعت جلنار اسمه اختلج قلبها في صدرها، ونظرت إلى وجهه وهو ملثم فلم تعرفه، ولكنها توسمت خيرا من قصر قامته مع طول صدره وقصر ساقيه؛ فظلت جالسة وهي تنتظر أن يبعد اللثام. فلما سمع الدهقان يرحب به نزع اللثام، فبان من تحته وجه أسمر جميل، نقي البشرة، أحور العينين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر.
1
فلما رأته جلنار علمت للحال أنه عبد الرحمن بن مسلم (وقد سمي بعد ذلك أبا مسلم الخراساني، فنسميه بهذا الاسم منذ الآن) فامتقع لونها لما أصابها من البغتة عند رؤيته على غير انتظار، مع ما في نفسها من حبه.
أما الدهقان، فحالما عرفه رحب به، ودعاه للجلوس فجلس، ثم دعا أبو مسلم رفيقه للجلوس أيضا وهو يقول له بصوت خافت وجأش رابط: «اجلس يا خالد.»
فنظر الدهقان إلى الرجل كأنه لا يعرفه، فقال أبو مسلم: «هذا صديقنا خالد بن برمك.» فبغت الدهقان وقال: «ابن صاحب النوبهار؟»
فأجاب خالد قائلا: «قد انقضت أيام النوبهار، وتخلصنا من عبادة النار؛ إذ هدانا الله بالإسلام.»
قال الدهقان: «صدقت. أهلا بكما ومرحبا.» ثم صفق فجاء بعض الغلمان فأمرهم بإعداد الطعام للضيوف، وتقديم ما تحتاج إليه القافلة من الزاد والعلف.
فاعترضه أبو مسلم بهدوء وسكينة قائلا: «لا تتعب نفسك ولا تشغل رجالك؛ فإننا لا نحتاج إلى شيء من ذلك. ونحن نشكرك لحسن وفادتك.»
فقال الدهقان: «ومن أين أنتم قادمون؟»
قال: «من الحج.» وفي ملامح وجهه ما يدل على أنه يعني غير ما يقول، ففهم الدهقان أنه يريد الكتمان كعادته من قبل؛ فقد كان أبو مسلم يفد على الدهاقين في طلب المدد من المال ونحوه انتصارا للشيعة. وكان يفعل ذلك سرا؛ خوفا من عمال بني أمية، فسكت الدهقان، فأدرك أبو مسلم ظنه فقال: «لا تظننا نريد التكتم؛ فقد انقضى زمن الأسرار، وآن لنا أن نظهر دعوتنا، فهل أنتم على عهدكم معنا؟»
فتذكر الدهقان أنه وعد الكرماني بمصاهرته؛ وبذلك يكون قد خالف العهد، وقد كان في جملة من عاهد على نصرة بني العباس، ولكنه لم يتوقع ثباتهم؛ لتكرار فشل الشيعة في نصرة أهل البيت، ومع ذلك فقد ظن في كلام أبي مسلم مبالغة، فأراد أن يتحقق منه، على أن يكتم عنه أمر الكرماني، ثم يكون بعدئذ مع الغالب فقال: «وماذا تعني بذهاب زمن الأسرار؟»
قال: «أعني أننا كنا نأتيكم سرا باسم إبراهيم الإمام، وننصركم على بني أمية ريثما يحين الوقت للظهور وإخراج دعوتنا من القول إلى الفعل بالسيف، فنبشركم أن الإمام قد أمرنا بإظهار الدعوة.»
فقال الدهقان: «هل جندتم الرجال؟»
قال: «لم نجند أحدا؛ لأننا لم نبدأ بإظهار الدعوة بعد، وأنت أول من عرف بعزمنا على ذلك، ونرجو إذا أظهرناها أن يستجيب لنا كثيرون؛ لأن أنصار شيعتنا عديدون في خراسان، ومعظم الدهاقين معنا.»
قال الدهقان: «هذا صحيح. ومن هم الذين معك في القافلة؟»
قال: «النقباء؛ وهم سبعون نقيبا اختارهم الإمام من شيعته ووجوههم لدعوة الناس إلى اتباعه وحمل السلاح في نصرته. وسنفرقهم في خراسان قريبا.»
قال الدهقان: «وكيف استطعتم المرور بهذا العدد الكبير في البلاد دون أن يشك العرب في أمركم وهم يسيئون الظن بكل فارسي؟»
الفصل السابع
وصية الإمام
فلما سمع أبو مسلم سؤاله أحب أن يفيض في وصف حالهم تثبيتا للدهقان في نصرته؛ لعلمه أنه إذا نصره هو اقتدى به دهاقين كثيرون، فقال: «أنت تعلم يا أعظم الدهاقين أن العرب يفاخروننا بالنبوة؛ لأن النبي منهم، وقد احتقرونا وأذلونا وعاملونا معاملة الرق، ولو استطاعوا ألا يبقوا منا أحدا لفعلوا، مع أن الفئة السائدة منهم الآن - وهم بنو أمية - ليسوا من أقارب النبي، بل هم أعداء أهله، وقد اضطهدوهم وقتلوهم، وبخاصة آل علي بن أبي طالب؛ ابن عمه، فإنهم ساموهم العذاب الشديد. ولا يخفى عليك أن آل بيت النبي لا يرون فرقا في الإسلام بين العربي والأعجمي، بل هم يفضلون العجم على العرب؛ ولذلك كانت شيعتهم من الفرس، كما تعلم، ثم سلم آل علي حقوق الخلافة إلى آل العباس؛ عم النبي. وكبيرهم الآن إبراهيم الإمام، فتحولت شيعة بني علي في هذه البلاد إلى نصرة بني العباس؛ فالإمام مقيم في الحميمة بالبلقاء قرب الشام يبث الدعاة ويخابر الأنصار، وقد عهد إلي في العام الماضي أن أتولى الإشراف على هذا الأمر، وكتب إلى أصحابه أن يطيعوني، وجعلني أميرا على خراسان وما أفتحه من البلاد، فاستصغرني بعض النقباء لصغر سني؛ لأني دون العشرين من العمر وهم شيوخ كبار، لكنهم أذعنوا أخيرا. وقد أوصاني الإمام يوم وداعه في العام الماضي وصية ذات بال هي أساس كل عمل عملته، أو سأعمله في سبيل هذه الدعوة.»
وكان الدهقان يسمع كلام أبي مسلم وهو مندهش من رزانته على صغر سنه، وقد أحس وهو يسمع كلامه كأنه يخاطب شيخا كبيرا، أو ملكا جليلا؛ لما كان في وجهه من الهيبة والوقار، فلما سمعه يشير إلى وصية الإمام أصاخ بسمعه ليفهم تلك الوصية جيدا. وكانت جلنار تتظاهر بالانزواء وكلها عيون وآذان لترى وتسمع. ولا تسل عن حالها في تلك الجلسة؛ وهي المرة الثانية التي قابلت فيها أبا مسلم، ولم تبق جارحة من جوارحها لم تتمثل صورة أبي مسلم فيها.
أما هو فقد كان في غفلة عما يتقد في قلب تلك الفتاة، وإنما كان همه القيام بتلك الدعوة على أكمل وجه. فلما ذكر الوصية مد يده إلى جيبه وقال: «ها أنا ذا أتلوها عليك كما تلقنتها بالعربية حرفيا.» وأخرج ورقا ملفوفا، وأخذ يقرأ والحاضرون يسمعون:
يا عبد الرحمن، إنك رجل من أهل البيت فاحتفظ بوصيتي، وانظر إلى هذا الحي من اليمن فأكرمهم وحل بين أظهرهم؛ فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر؛ فإنهم العدو القريب الدار؛ فاقتل من شككت في أمره، ومن كان في أمره شبهة، ومن وقع في نفسك منه شيء. وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل؛ فأي غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.»
1
فلما فرغ من تلاوة الرق لفه وأرجعه إلى جيبه وهو ينظر إلى الدهقان. وكان الدهقان حينما سمع تلك الوصية قد ارتعدت فرائصه من شدتها وقوتها، وسره نقمة الإمام على العرب؛ لما في نفسه منهم. ولم يكن رضاه بابن الكرماني صهرا إلا من قبيل الخوف، ولكنه كان لا يزال ضعيف الثقة بشيعة بني العباس، على أنه كتم ذلك وتظاهر بالإعجاب وقال: «إنها وصية لا يقف عليها حكيم. ويكفي من بواعث اجتماع الفرس عليها أنها تأمر بإذلال العرب وقتلهم، فلا أظن دهقانا أو أي رجل فارسي يطلع على هذه الوصية إلا كان من المتشيعين لآل العباس. ألا ترى ذلك يا خالد؟»
وكان خالد في نحو الأربعين من عمره، وهو ابن برمك (جد البرامكة؛ صاحب النوبهار) وهو بيت نار كان للفرس في مدينة بلخ - وكان برمك مجوسيا، والغالب أنه مات ولم يسلم، فخلفه ابنه خالد هذا، وهو من أكثر الرجال عقلا ودهاء وبطشا، وكان في جملة من أسلم من عظماء الفرس، وتشيع لآل العباس انتقاما من بني أمية، والتماسا لما كانوا يتوقعونه من السلطان لأنفسهم، والاجتزاء من النفوذ إذا قامت الدولة بهم. وكان برغم أنه كهل قد رضي برياسة أبي مسلم وهو شاب لا تزيد سنه على العشرين إلا قليلا. ومثل خالد كهول وشيوخ كثيرون ممن قاموا بدعوة العباسيين، وقد رضوا بأبي مسلم قائدا لهم؛ احتراما لأمر إبراهيم الإمام. وكان أبو مسلم يحترم خالدا ويقدره حق قدره، ويستشيره فى أموره؛ ولذلك فإنه حينما أراد مقابلة الدهقان اختصه بصحبته دون سائر الرفاق.
فلما خاطب الدهقان خالدا بشأن الوصية واستطلع رأيه، أجابه على الفور: «لا ريب عندي أن الفرس يتفانون في نصرة العباسيين؛ لأنهم إنما يسعون في مصلحة أنفسهم، ويجب على كل فارسي أن يقدم نفسه وماله لنصرة بيت النبي؛ لأن في نصرته رفع شأن الفرس.»
فأراد الدهقان أن يطري أبا مسلم؛ تقربا منه، وإيهاما له بأنه شديد التمسك بدعوته؛ إخفاء لما سبق من وعده بمصاهرة ابن الكرماني، فقال: «ولا غرو إذا انتصر الشيعة وفيهم مثلكما من رجال الحزم والبسالة والعقل.»
فقال خالد: «إن البسالة والقوة لا يكفيان للقيام بهذا العمل، يا حضرة الدهقان.»
فأدرك الدهقان أنه يلمح إلى المال فقال: «على كل منا أن يقدم مما عنده، وكما أننا لم نقصر في الماضي والدعوة لا تزال سرية، فلا تظننا نبخل الآن بشيء.»
فعاد أبو مسلم لإتمام حديثه فقال: «فجئت إلى خراسان وقمنا بالدعوة سرا، كما تعلم، وأنا أختلف إلى الإمام أحمل إليه ما يجتمع عندنا من المال وأتلقى أوامره، فلما كان هذا العام بعث يستقدمني إليه، فسرت ومعي النقباء الذين ذكرتهم، فاشتبه الحكام في أمرنا أثناء الطريق، فكنا إذا سألونا عن مقصدنا قلنا إلى الحج. ولما بلغنا قومس أتاني كتاب الإمام باسمي واسم سليمان بن كثير؛ وهو من كبار النقباء، ومع الكتاب راية النصر (وأشار إلى الحزمة المطروحة أمام القصر) وقد قال لي في ذلك الكتاب (وأخرج الكتاب من جيبه وقرأ): «قد بعثت إليك براية النصر ؛ فارجع من حيث لقيك كتابي وأظهر الدعوة؛ فإن الله ناصركم».»
الفصل الثامن
الظل والسحاب
فلما أشار أبو مسلم إلى الحزمة توجهت عينا الدهقان إليها، فأدرك أبو مسلم أنه يريد رؤيتها، فنادى الرجلين اللذين كانا يحملانها فأسرعا إليها وحملاها، فلم تسعها القاعة لطولها، فأدخلوها من أحد طرفيها، وظل الطرف الآخر خارجا، وكانت ملفوفة بقماش أسود ففكاه وأخرجا منه لواء أسود وراية سوداء. واللواء معقود على رمح طوله 14 ذراعا، والراية على رمح طوله 13 ذراعا، فوقف أبو مسلم احتراما للواء وقال: «إن هذا اللواء يسمى الظل، والراية تسمى السحاب، ولونهما أسود. واللون الأسود هو الشعار الذي اختاره الإمام إبراهيم لشيعته، فهم من اليوم يلبسون العمائم السود، والأقبية السوداء، وراياتهم أيضا سوداء، كما ترى.»
وكان الدهقان قد وقف حالما رأى أبا مسلم واقفا، ووقف خالد أيضا، فهمت جلنار بالوقوف فلم تساعدها ركبتاها لما غلب عليها من التأثر بعد ما شهدت من أبي مسلم وما سمعت، وأنه قائد هذا الجند، فأصبح همها الاطلاع على مكنونات قلبه من جهتها؛ لعله ينتبه لها فيرمقها بنظرة تفهم منها شيئا فيطمئن بالها، فوقفت وهي تستند إلى أحد الأعمدة، وتصدرت قليلا حتى انتبه لها خالد، فنظر إلى وجهها نظرة الإعجاب والدهشة. أما أبو مسلم فبالغ في التجاهل والإغضاء حتى كأنه لا يرى شيئا.
ولما فرغ أبو مسلم من كلامه قال الدهقان: «وما المراد باختيار السواد شعارا لبني العباس؟ ألعلهم أرادوا الإشارة إلى الحداد على قتل أهل البيت العلويين، ومنهم علي والحسين وغيرهما أم ماذا؟»
فجلس أبو مسلم وهو يشير إلى الرجلين أن يعيدا الحزمة كما كانت، وجلس خالد والدهقان، وظلت جلنار واقفة، ثم قال أبو مسلم: «إن السواد شعار أهل بيت النبي؛ لأن راية النبي كانت سوداء؛ وهي راية العقاب.»
أما الدهقان فقد وقر في نفسه ما علمه من أمر الشيعة، وخاف على نفسه من أبي مسلم إذا علم ما في ضميره، فيشك فيه، والإمام قد أوصاه إذا شك في أحد أن يقتله، فتظاهر بالتحمس وقال: «لقد أيقنت الآن بفوزكم وظهور الفرس، ولا بد من استنجاد سائر الدهاقين وترغيبهم في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزالون على المجوسية.»
فقال خالد: «إذا أسلم الدهاقين وأنجدونا بأموالهم ورجالهم فإنما ينجدون أنفسهم؛ لأنهم ينشئون دولة فارسية ترفع شأن الفرس.»
فقال الدهقان: «إني ضامن لكم إسلام معظم الدهاقين في خراسان، والأموال كثيرة.» ثم صفق فأتاه غلام، فأمره أن يستدعي خازنه.
فلما سمعه أبو مسلم يدعو خازنه أدرك أنه يريد أن يدفع إليه مالا على سبيل المساعدة، على جاري عادته في مثل هذا الحال، فأشار أبو مسلم إلى أحد الرجلين صاحبي الحزمة إشارة فهم غرضه منها، فخرج مهرولا ثم عاد ومعه رجلان قد تأبط أحدهما خريطة كبيرة كالكيس الكبير، لكنها فارغة، ورفيقه رجل قصير القامة في سمن قليل، وعليه قباء واسع، وعمامة كبيرة. وكان لقصره يكاد يجر قباءه جرا، ووراءه غلام يحمل دواة وقلما، فلما وصلوا إلى القاعة وقفوا في أحد جوانبها، فنادى أبو مسلم صاحب القباء قائلا: «تقدم يا إبراهيم واستلم من الدهقان ما جادت به نفسه في نصرة أهل البيت.»
وكان خازن الدهقان قد جاء وأسر إليه الدهقان كلاما، فرجع ثم جاء ومعه غلام يحمل أكياسا من جلد قد أثقلت كاهله حتى وضعها بين يدي الدهقان، فلما أمر أبو مسلم خازنه إبراهيم باستلام المال تقدم وأخذ في عد الأكياس وهي مختومة، وقد كتب على كل منها «ألف دينار يوسفية»، فبلغت 20 كيسا، فأشار إلى رفيقه والغلام الآخر، فتقدما وتعاونا على نقل الأكياس في الخريطة الكبرى، وتناول هو القلم والدواة وأخرج من تحت قبائه درجا كتب فيه عدد الأكياس وما تحويه من الدنانير.
وكان أبو مسلم في أثناء ذلك مطرقا كأنه يفكر في أمر يهمه، وقد زاده التفكير هيبة وشغله عما حوله. وكانت جلنار قد تعبت من الوقوف، فجلست على وسادة بجانب والدها وهي تختلس النظر إلى أبي مسلم، وهو لا ينتبه لها. وكان خالد قد أدرك ذلك منها، وفطن لما يجيش في خاطرها من أمر أبي مسلم، ولكنه كان يعلم زهد هذا الشاب البطل في النساء، وانشغال خاطره في المشروع الخطير الذي انتدب له.
فلما فرغ الخازن من تدوين المال نهض واستأذن في الانصراف، ولحظ الدهقان في أبي مسلم الرغبة في الانصراف أيضا فقال له: «إذا كنتم تريدون الذهاب للنوم، فهذه دار قد أمرنا بإعدادها لنزولكم.» وأشار إلى أحد جوانب الحديقة.
فنهض أبو مسلم، فلم يسع الحضور غير النهوض تهيبا واحتراما، وقال: «ننصرف الآن إلى النوم؛ فإن السفر قد أتعبنا هذين اليومين.» قال ذلك ومشى، فمشى الدهقان معه إلى آخر القاعة حتى ودعه، وصفق فجاء بعض الغلمان، فأمرهم أن يمشوا بين يدي الأمير بالشموع إلى المنزل المعد له، فمشوا، وعاد الدهقان إلى ابنته. وكانت واقفة بجانب العمود، ولم يبق هناك سواهما.
الفصل التاسع
الدهقان والدهقانة
وتوسم الدهقان مما شاهده من انقباضها أنها تفكر في أمر زواجها بابن الكرماني، وأنها ستحتج على والدها لما أبداه في حديثه إلى أبي مسلم في تلك الليلة، بحيث أصبح شأن الكرماني ضعيفا، فابتدرها أبوها قائلا وقد وضع يسراه على كتفها، ومشى نحو غرفتها وهي تمشي معه: «لا أظن أن هؤلاء الدعاة سيفلحون، ولا أرى أمرهم هذه المرة إلا صائرا إلى الفشل كالمرات الماضية.»
فلم يفتها غرض والدها من هذه المفاجأة بعد ما دار بينها وبينه في ذلك المساء، فقالت وهي تجاريه في المشي: «إذا كنت تعتقد أنهم سيفشلون، فما بالك تعاهدهم على القيام بنصرتهم، وتبذل الأموال لهم؟»
فضحك ووقف وقبض على لحيته بيمينه، وظلت يسراه على كتفها، وقال بصوت منخفض وهو يتلفت: «إني أفعل ذلك من قبيل الاحتياط فقط؛ لأننا إذا أظهرنا له الجفاء كنا في خطر على حياتنا وأموالنا، وخاصة بعد ما سمعنا من وصية إبراهيم الإمام؛ فإنه أمره أن يقتل كل من يشك فيه. ومع ذلك، فنحن غير واثقين ثقة تامة بفشل هؤلاء، وإن كنت أرجح الفوز للكرماني للأسباب التي ذكرتها لك قبلا. فتظاهرنا بالمسالمة أو المساعدة لا تضرنا، بل نحن نتوقع أن تنفعنا. وليس ما نؤديه لهم بالشيء الذي يذكر بالنسبة إلى ما نتوقعه من الكسب إذا كنا في جانب المنتصر من هذه الأحزاب.» وكان قد عاد إلى المسير حتى دنا من غرفة جلنار، وليس في الدار أحد من الخدم؛ لأنهم تفرقوا حالما رأوا الدهقان والدهقانة يتساران.
فلما فرغ الدهقان من كلامه قالت جلنار: «لقد أصبت يا أبتاه. إنك تجامل أبا مسلم بالأموال والوعود، وتجامل الكرماني بجلنار.» قالت ذلك وغصت بريقها، ودخلت الغرفة على عجل وألقت نفسها على الفراش، فلحقها أبوها وهو يتجاهل وقال: «يظهر أنك متعبة يا جلنار. نامي وتوكلي على الله، وأنا أعرف تعقلك وحسن تدبيرك، وأعتقد أنك إذا كنت عند الكرماني، وكنت أنا مع أبي مسلم؛ بتنا في مأمن، وأصبح الفوز مضمونا لنا في كل حال. نامي يا حبيبتي واستريحي الآن.» قال ذلك وخرج وهو يتظاهر بأنه لم يفهم مغزى كلامها.
أما هي، فلما خلت بنفسها عادت إلى هواجسها، وتصورت ما هي فيه من الارتباك، فلم تعد تدري أتطيع والدها أم تطيع قلبها، على أنها لو تحققت من أن عند أبي مسلم مثلما عندها لهان عليها إغضاب والدها، وإن كان ذلك مما لا يقدم عليه أمثالها، ولكنها لم تر من ذلك الحبيب إلا الإغضاء، فأخذت تناجي نفسها، وتتذكر ما شاهدته منه في أثناء تلك الجلسة، فلم تر في شيء من حركاته أو أقواله ما يفتح لها نافذة من الأمل، ولكن الحب كان يعترض عوامل اليأس عندها، ويهون عليها ما ظهر من بروده، فأخذت تنسب ذلك إلى انشغال خاطره بتدبير شئونه، ثم تعود إلى رشدها، فترى أنه لا عذر له، وأنه لو كان عنده بعض ما عندها لأحست به.
قضت مدة في تلك المناجاة وقد طار النوم من عينيها، واستوحشت من الوحدة، فتذكرت ماشطتها، وكانت تأنس بها كثيرا، وودت لو أنها تأتيها تلك الليلة لتشكو لها حالها، وتستشيرها في أمرها، ثم ما عتمت أن سمعت وقع خطوات بطيئة، فعلمت أنها خطوات الماشطة، فنهضت وفتحت لها، فدخلت وأغلقت الباب وراءها، فأمرتها جلنار بالجلوس وهي تقول لها: «ما الذي جاء بك يا ريحانة على غير انتظار؟»
قالت الماشطة: «علمت أنك في ارتباك فجئت لتسليتك.»
قالت: «وكيف علمت ذلك؟ ومن أنبأك به؟»
قالت وهي تحاول معانقتها وضمها إلى صدرها: «أتظنين يا مولاتي أني غافلة عن أحوالك، وما طرأ عليك من الهواجس، وخصوصا بعد قدوم هؤلاء الضيوف؟»
فقالت جلنار: «وهل شهدتهم وسمعت أقوالهم؟»
قالت: «شهدت كل شيء، وسمعت كل كلمة خلسة من وراء الستار.»
فلم تتمالك جلنار أن تقول: «هل رأيت أبا مسلم؟»
قالت: «خفضي صوتك يا مولاتي؛ لأن لهذه الجدران آذانا. نعم شاهدته، وشاهدتك أيضا.» قالت ذلك بنغمة خاصة.
فخجلت جلنار من تسرعها في إظهار عواطفها، ثم تذكرت ثقتها بريحانة فقالت: «وكيف رأيته يا ريحانة؟»
قالت: «رأيته لائقا، ولكن تمهلي ولا تتعجلي. إن في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة.»
قالت: «أراك قد أدركت مكنونات قلبي ولم يخف عليك شيء!»
قالت الماشطة: «لم يخف علي شيء، ولكنني أرى المسألة تحتاج إلى الحكمة والتؤدة.»
فلم تعد جلنار تستطيع إخفاء عواطفها، فقالت: «وما العمل يا ريحانة؟ دبريني برأيك. لقد نفد صبري، فإني لا ألبث أن أزف إلى ابن الكرماني، وأنا لا أريده ولا أحبه.»
قالت: «أتحبين أبا مسلم؟» وضحكت.
فأطرقت جلنار ولسان حالها يقول: «نعم، أحبه.»
فقالت ريحانة: «وهل هو يحبك؟»
فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وفي عينيها دمعتان تترددان بين المآقي، وأرادت الكلام فشرقت بريقها وسكتت.
فقالت ريحانة: «إنك لا تعلمين وأنا لا أعلم، فما علينا إلا التحري والاستفهام.»
قالت جلنار: «من يكشف لنا حقيقة ذلك؟»
قالت ريحانة: «ألا تعرفين الضحاك؟»
فقالت جلنار: «وهل تظنينه يستطيع خدمتنا في هذا الأمر؟»
قالت: «أظنه أقدر الناس على ذلك إذا أراد، ولا يغرنك ما يبدو من مجونه؛ فإنه داهية حازم يعتمد عليه في الأمور العظام.»
فقالت جلنار: «ومن يخاطبه في الأمر؟ إنني أخشى أن يفشي سرنا، فيطلع والدي على أمرنا، فتكون البلية الثانية شرا من الأولى.»
قالت: «كوني في سلام وطمأنينة وأنا أدبر الأمر معه. إنما نحتاج إلى بعض النقود.»
فقالت جلنار: «هل تعرفين أن للمال قيمة عندي! اطلبي من خازنتي ما تريدين ، وتصرفي كما تشائين، وأنبئيني بنتيجة سعيك.»
قالت: «ينبغي لنا أن نسعى في الأمر الليلة؛ إذ لا نضمن بقاء هؤلاء الضيوف عندنا إلى غد أو بعده.»
فنهضت جلنار من فراشها إلى صندوق صغير في أحد جوانب الغرفة أخرجت منه صرة من الحرير ودفعتها إلى ريحانة وهي تقول: «هذه خمسمائة دينار؛ استخدميها فيما تشائين ولا تبطئي، وإذا وفقت إلى ما أريد فلن أنسى تعبك.»
فتناولت ريحانة الصرة ونهضت وهي تقول: «اطمئني.» وخرجت وهي تسترق الخطى، وتركت جلنار على مثل الجمر.
الفصل العاشر
نسب أبي مسلم
لم تكد ريحانة تخرج من الغرفة حتى رأت الضحاك قادما كأنه كان على موعد معها، فلما رأته بغتت، ولكنها تجلدت وأشارت إليه أن يتبعها عن بعد، وسارت إلى غرفتها في طرف القصر مما يلي الحديقة، فدخل في أثرها، فأغلقت الباب وراءه وهي تنظر إليه وتضحك، وكان وهو داخل قد دق رأسه في عتبة الباب لطوله، فوقعت العمامة على الأرض فإذا هو حليق الرأس، فدهشت لذلك وأرادت أن تسأله عن السبب، لكنه أسرع إلى العمامة فوضعها على رأسه وتقدم إليها وهو يقول: «يظهر أنك تحبينني يا ريحانة. بارك الله فيك.» وضحك وعض على شفته السفلى، وتشاغل بإصلاح عمامته، ثم ضحك ضحكة البله وجعل يطرق بأطراف أنامله على أسنانه، فضحكت ريحانة من قوله وحركته، ثم عبست في وجهه عبوسا يخالطه الابتسام وقالت: «إني أحبك لخفة روحك وعلو همتك، وخصوصا إذا أطعتني فيما سأخاطبك بشأنه الآن. هل عندك للسر مكان؟»
فقال وهو يضحك «عندي لكل سر مكان، وللأسرار عندي منازل وطبقات، وإذا كنت تشكين في ذلك، فأخبريني فأخرج حالا.»
فضحكت وقالت: «ألا تكف عن مجونك يا رجل؟ أعرني أذنك الآن، وأصغ لما أعرضه عليك بحياة الدهقانة وحرمتها عندك.»
فتجلد الضحاك، وأظهر الجد، وتأدب في موقفه وقال: «قولي. إني طوع أمرك.»
قالت: «هل تعرف ضيوفنا الليلة؟»
قال: «أيهم تعنين؟ هل تعنين أبا مسلم الخراساني الذي لا يعرف أباه، أم خالد بن برمك المجوسي؛ صاحب النوبهار، أم خازن أبي مسلم إبراهيم اليهودي ؟»
فضحكت ريحانة من توسعه في تلك المعرفة، ولكنها استغربت قوله إن أبا مسلم لا يعرف أباه، فقالت: «وماذا تعني بقولك إن أبا مسلم لا يعرف أباه؟»
قال: «إذا كنت لا تصدقيني فاسأليه.»
قالت: «صدقتك، ولكنني أسألك عن كيفية ذلك.»
قال: «لو سألته هو عن نسبه ما عرفه. أما أنا فأخبرك أن والده فارسي؛ بعضهم يسميه مسلما، وبعضهم يسميه عثمان، وهو يزعم أن نسبه يتصل ببزرجمهر؛ الحكيم الفارسي المشهور. وهذه عادة كبار القوم عندنا؛ فمن كان منهم دنيء الأصل رفع جاهه إلى طبقات الأشراف، فإذا كان عربيا أوصل نسبه إلى أبي بكر أو عمر أو الحسين، وإذا كان فارسيا جعل نسبه من نسل بزرجمهر أو أزدشير أو كسرى أنوشروان. وأما الذي نعلمه من أمر أبي مسلم فهو أن أباه المذكور كان من أهل قرية ماخوان، التي تبعد عن مرو ثلاثة فراسخ. وكانت هذه القرية له مع عدة قرى، وكان في بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة المواشي، ثم أنه ضمن خراج رستان فريدين على عادة الدهاقين في أيام هذه الدولة (بني أمية) فإنهم يقاسمون الحكومة أموالها بنفوذهم. فلما حان وقت الوفاء عجز عن تأدية ما عليه، فقبض عليه العامل وأرسل معه من يذهب به إلى الديوان في الكوفة. وكان عنده جارية يحبها فأخذها معه وهي حامل، واحتال في الطريق وفر من الحرس نحو أذربيجان، وتوجهت معه، فمرا برجل اسمه عيسى بن معقل، فتركها عنده وذهب إلى أذربيجان حيث مات بها.
ثم ولدت الجارية صاحبنا أبا مسلم هذا، فربي في بيت عيسى المذكور وهو يحسب نفسه من أولاده. وكان عيسى هذا وأخوه إدريس في ضمان الخراج أيضا، كما تقدم، فأصابهما ما أصاب ذاك من تأخير الخراج، فقبض عليهما عامل أصبهان وشكاهما إلى أمير العراقين يومئذ خالد القسري، فبعث من حملهما إلى الكوفة وسجنهما فيها. وكانا قد أنفذا أبا مسلم قبل القبض عليهما في مهمة، فلما رجع وعلم بسجنهما جاء إلى الكوفة وجعل يتردد عليهما في السجن.
واتفق في ذلك الحين أن جماعة من النقباء دعاة بني العباس جاءوا إلى الكوفة سرا يدعون الناس إلى أهل هذا البيت، فلقوا أبا مسلم هناك فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه، وعرف هو أمرهم وانضم إليهم، وخرج معهم إلى مكة فأهدوه إلى إبراهيم الإمام هناك، فأعجب به وتوسم فيه الخير. وأقام عند الإمام يخدمه، ثم إن الدعاة عادوا مرة ثانية وطلبوا رجلا يقوم بأمر خراسان، فدفع إليهم أبا مسلم هذا وهو صغير السن، كما ترين، وأوصاه بما أوصاه.
1
فهل يعرف أباه؟»
فاستغربت ريحانة هذه الحكاية، ولكنها عادت إلى المهمة التي هي فيها، فقالت للرجل: «آمنا وصدقنا. والآن لا تخرج عما أحدثك فيه. انظر (ومدت يدها وأخرجت الصرة ودفعتها إليه) هذه هدية من مولاتك جلنار (فتناولها وهو يضحك) وأنا أريد أن أكلفك بمهمة سياسية.»
فوضع الصرة في جيبه وهو يقول: «السمع والطاعة.»
قالت: «أنت تعلم أن مولاتنا الدهقانة مخطوبة لابن الكرماني؛ أمير الجند المحاصر لمرو، وستزف إليه قريبا بإرادة والدها، ولكنني رأيت الليلة أن أجل الكرماني قصير؛ لأن هذا الخراساني على ما يظهر سيغلبه. ولقد لحظت أنا منه أنه يميل إلى مولاتنا، وأظنه يريد أن يتزوجها، ولكنه لم يصرح بذلك. فالمطلوب الآن أن تبحث عن صحة هذا الأمر بدهاء وحسن أسلوب، بدون أن يشعر أحد بك، وأخبرني. ولا بد من معرفة ذلك الليلة.»
قال: «هذا أمر هين علي. وإذا فرضنا أنه لم يحبها بعد؛ فإني أجعله يحبها. فما رأيك؟»
قالت: «إذا كان ذلك في إمكانك؛ فإن مكافأتك ستكون عظيمة جدا. وهذا سر عميق.»
فأطرق الضحاك برهة وقد بدا الجد في وجهه، ثم التفت إلى ريحانة وقال: «إني ذاهب الساعة؛ فادعي لي بالتوفيق.»
قالت: «امض. وفقك الله.»
فقال: «أمهليني ريثما أصلح من شأني أمام مرآتك.» ووقف أمام مرآة من النحاس معلقة على الحائط وحل عمامته وجعل يلفها على نظام مضحك، وعبث بشعر لحيته وشاربه حتى تشعث وانتفش، وخلع جبته وقلبها، ولبسها بقفاها، ونزع نعليه وثبتهما في منطقته وسار حافيا وهو يضحك كالأبله وخرج.
أما أبو مسلم فإنه سار مع خالد والخدم يسيرون أمامهما بالشموع بين الأشجار والرياحين حتى وصلوا إلى بيت بجانب السور قد أضيء بالمصابيح، فدخلا وقد سبقهما الخدم فدلوهما على الأسرة المعدة للنوم ورجعوا، فأسرع أبو مسلم بنزع ثيابه وسلاحه، وأخذ يتأهب للنوم وهو لا يتكلم. وكان خالد في شغل من أمر جلنار وما شهده من جمالها، وما لحظه من نظرها إلى أبي مسلم، وما كان من جمود أبي مسلم بشأنها، وكان يتوقع أن يسمع منه شيئا عنها، فإذا هو لم يفه بكلمة، فظل خالد ساكتا وأخذ في خلع ثيابه وسلاحه، ولم يستغرب سكوت أبي مسلم؛ لعلمه أنه كثير السكوت لا يتكلم إلا قليلا، ويندر أن يضحك.
الفصل الحادي عشر
إبراهيم الخازن
أما إبراهيم الخازن فإنه رجع بالأكياس إلى غرفة من ذلك المنزل بعيدة عن غرفة أبي مسلم وخالد. فلما دخل الغرفة أمر الغلمان أن يضعوا الأكياس وينصرفوا. وكان إبراهيم يهودي الأصل، وقد أسلم أبوه لا رغبة في الإسلام، ولكن لأنه رأى في الإسلام سبيلا إلى الكسب، وشب إبراهيم هذا وهو أطمع من أبيه، وتزلف وتملق حتى تقرب من النقباء رجال الدعوة. وكان محاسبا ماهرا، فجعله أبو مسلم خازنا له، وكان يقبض الأموال ويقيدها رغبة في الكسب من ذلك. ولم يكن كسبه من التلاعب في عد النقود أو سرقة شيء منها؛ لأنه لم يكن يستطيع ذلك إلا نادرا، ولكنه كان يكسب باستبدالها؛ لأن النقود كانت في ذلك الحين أنواعا كثيرة، ومنها ناقص الوزن وكامله باختلاف ضاربيها.
فالنقود التي ضربها الحجاج سنة 75ه كانت ناقصة، فلما تولى ابن هبيرة ضرب أجود منها، ولما تولى خالد القسري شدد في تجويدها، وضرب بعده يوسف بن عمر فأفرط في التشديد والتجويد، فكانت النقود الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، وسميت نقود الحجاج المكروهة.
1
فكان إبراهيم إذا قبض مالا من الدهاقين أو غيرهم من نصراء الشيعة قيدها في دفاتره بعددها، ولكنه لا يذكر صنفها، فإذا كان فيها نقود هبيرية أو خالدية أو يوسفية أبدلها بالنقود المكروهة، فيربح من ذلك شيئا كثيرا. وكان لا يخلو صندوقه الخاص من أكياس من النقود المكروهة لأجل الاستبدال عند الحاجة. فلما خلا إلى نفسه تلك الليلة، أغلق باب غرفته وأطفأ المصباح، واشتغل في إبدال تلك النقود خلسة وهو يحاذر أن يسمع رنينها.
وكان الضحاك يعرف إبراهيم هذا، ويعرف أباه من قبله، فلما كلفته ريحانة بتلك المهمة اعتزم أن يستعين بإبراهيم في تيسيرها عن طريق إغرائه بالمال؛ لعلمه بأنه يتفانى في سبيله. أما إبراهيم فلم يكن يعرف الضحاك، ولا فهم من أمره إلا أنه رجل مهذار خليع أو مجنون.
فمشى الضحاك في الحديقة والقمر قد تكبد السماء، وجعل يخطو الهوينى وهو يتطلع إلى النجوم كأنه يعدها، أو كأنه يقرأ صحيفة مكتوبة فيها، حتى دنا من غرفة إبراهيم وهو حاف، فوقف ببابها وتظاهر بالبله وأذناه مصغيتان، فتنسم حركة فأرهف سمعه، فسمع خشخشة ضعيفة. وكان أبو مسلم وخالد قد ناما، وانصرف الخدم، ولم يبق في الحديقة أحد، ولم يعد يسمع غير صوت الجمال خارج المحلة عن بعد. وظل الضحاك واقفا بباب إبراهيم حتى ظنه فرغ من عمليته، فطرح كيس النقود الذي معه على بلاطة هناك، فكان لوقعه طنين وخشخشة ظهرا قويين لهدوء الليل.
وكان إبراهيم يشتغل في إبدال النقود ويحاذر أن تسمع حركته أو احتكاك النقود، فأصبح لشدة حذره يخاف أن يكون لتنفسه صوت. وكان يتوهم كل شيء ساكتا هادئا، فلما سمع وقع كيس الضحاك على البلاط أجفل وبغت، وظل هنيهة جامدا ينصت لعله يسمع صوتا آخر، فلم يسمع، فأقبل إلى الباب ففتحه رويدا رويدا؛ خوفا من صريره، وأخرج رأسه وتلفت فرأى الضحاك على بعد بضع خطوات من غرفته واقفا مقنعسا ويداه على فخذيه، وقد ولى وجهه نحو السماء ينظر إلى غيوم تتسابق إلى القمر، فتفرس إبراهيم في المكان الذي سمع منه الخشخشة، فرأى كيسا حريريا ملونا، فحدثته نفسه أن يخرج لالتقاطه، ولكنه خشي أن ينتبه له الضحاك، ثم تذكر أنه أبله لا يفقه شيئا، وأنه لو كان ممن ينتبهون لما سقط منه الكيس على تلك الصورة، فتقدم خطوتين حتى تناول الكيس وهم بالرجوع، وإذا بذلك الأبله يقهقه بصوت عال، فارتعدت فرائص إبراهيم وانتفض انتفاض الطير حتى كاد الكيس يسقط من يده، ولكنه تجلد وتظاهر بأنه خرج من الغرفة لغرض له ونظر إلى الضحاك، فرآه يمشي نحوه وهو يخطر ويطيل خطاه كأنه يتخطى قنوات، فابتدره إبراهيم بالكلام وهو يظهر أنه خالي الذهن من كل شيء وقال: «هل أنت تذرع الأرض أم تعد نجوم السماء؟»
قال وهو ينظر إلى السماء: «بل أنا أفتش عن نقودي؛ فقد كان معي كيس وأظنه وقع هنا.» وأشار إلى القمر.
فضحك إبراهيم وتأكد من بله الرجل، واعتزم أن يخفي الكيس وقال: «يحتمل ذلك.» وتحول إلى غرفته. ولم يصل إلى الباب حتى أدركه الضحاك وقبض على رقبته بشدة ودخل به إلى الغرفة. وكان إبراهيم لقصر قامته وجبنه لو أراد الضحاك أن يقبض عليه ويرمي به من فوق السور لفعل، على أنه لو كان شجاعا ما استطاع غير السكوت خشية الفضيحة؛ لأنه لو صاح لأيقظ النائمين، وربما استيقظ أبو مسلم أو خالد أو غيرهما ممن يخشى الفضيحة على يده؛ لأن الأكياس كانت لا تزال مفتوحة، والنقود مبعثرة. وزد على ذلك أن الذنب يصغر النفس ويذلها، ويجعل السيد عبدا. ولكن إبراهيم لم يكن ليفتح باب غرفته في تلك الساعة لو لم يسمع طنين الدراهم، فلما رأى الكيس على الأرض بدا له أن يلتقطه ويرجع حالا، فلما رأى نفسه بين يدي الضحاك وقد دخل معه الغرفة ارتبك في أمره، ولكنه فضل السكوت ثم أظهر الممازحة وقال له: «هذا كيسك قد سقط لي من السماء فخذه!»
الفصل الثاني عشر
الضحاك والخازن
فوقف الضحاك وتناول الكيس بأطراف أنامله، ثم تركه فسقط على الأرض فخشخش، فأسرع إبراهيم فالتقطه وهو يقول: «أليس هذا كيسك؟»
قال وهو يضحك: «لا أعرفه إلا في النور. بالله ألا أضأت شمعة؟»
فقال: «تعال ننظر إليه في ضوء القمر.» قال ذلك وأمسكه بيده وأراد إخراجه، فإذا هو ثابت في مكانه كالشجرة المغروسة لا يتزحزح، فقال له: «إذا كنت تظن أن نقودك قليلة فأنا أزيد منها.»
فنظر إليه وهو يحني رأسه كالساجد وقال: «ولكنني لا آخذ إلا نقودا يوسفية.»
فلما سمع إبراهيم قوله خفق قلبه؛ لأن ضميره بكته وتصور أن ذلك الأبله مطلع على أسراره - والمجرم يخاف من خياله ويحسب أن عناصر الطبيعة ترقب أعماله - ولكنه عاد إلى عقله واستبعد اطلاع ذلك الأبله على سره، وقال: «هي نقود يوسفية. نعم.»
قال: «ألم تبدلها بعد؟» وضحك.
فتحقق إبراهيم من أن الضحاك مطلع على كل شيء من أمره، وربما كان قادما إليه بدسيسة، ولكنه عمد إلى المغالطة وأراد إخراجه من الغرفة ليبعده عن مكان الشبهة فلم يستطع، فقال له: «تفضل اجلس.» وهو يتوهم أنه سيخالفه فيخرج، فإذا هو قد جلس على الأرض وأمسك بيد إبراهيم وأجلسه، فجلس وهو لا يدري ماذا يعمل، وقد خشي ذلك الأبله فأطاعه؛ ليرى ما يبدو منه. والغرفة لم تكن في ظلمة حالكة؛ لأن ضوء القمر كان قد نفذ إليها من الباب، وكانت الأكياس والنقود ظاهرة لأقل تأمل، فالتفت الضحاك نحوها وقال: «هل أساعدك في جمع هذه الأكياس؟ وهل أمحو عنها لفظة «يوسفية»، وأكتب لك مكانها «حجاجية»؛ فإن ذلك أولى من ظهور الخيانة؟»
فاقشعر بدن إبراهيم عند ذلك التصريح وقال له: «قل لي بالله من أنت؟ وما غرضك؟ فإنك لست أبله كما تتظاهر. من أنت؟»
فقال له: «أنا الضحاك. ألا تعرفني؟ وهذه عمامتي، وهذه جبتي، وهذه نعالي، ثم ماذا؟»
فقال: «لا تخدعني بالمزاح. صرح لي بالحقيقة ولك مني ما تشاء.»
قال: «أنا الضاحك المبكي، وأرجو ألا تكون باكيا وأنت خازن هذه الحملة.»
قال: «قلت لك صرح وأخبرني بحقيقة أمرك وأنا طوع إرادتك.»
قال: «لا تهمك حقيقة أمري، فأنا ساتر ذنبك، ولي عندك حاجة. أتقضيها لي؟»
فسر إبراهيم بذلك السؤال وأحس بانفراج كربه وقال: «اطلب ما شئت؛ فإني فاعل ما تريد.»
قال: «هل لك دالة على أبي مسلم؟»
فأطرق إبراهيم وقد ظهر عليه الارتباك وقال: «إن أبا مسلم ليس ممن تؤخذ الدالة عليه؛ لأنه شديد غضوب يندر أن يضحك، ولا يتكلم إلا قليلا، وجلساؤه يخشون غضبه؛ لأنه يقتل لأقل شبهة، وأظنك سمعت وصية الإمام، التي تلاها على مولاك الدهقان الليلة، وهو يوصيه فيها بأن يقتل كل من يشك فيه. فمن كان هذا شأنه، فهل من سبيل إلى الدالة عليه؟ أما إذا كنت تسعى للحصول على شيء منه؛ فإني أبذل ما في وسعي للوصول إليه.»
قال: «لقد نطقت بالصواب، ولو قلت لي غير ذلك لاتهمتك وشككت فيك، وعند ذلك يحق لي أن أنفذ وصية الإمام فيك.» وضحك ثم قال: «وأريد أن أسألك سؤالا آخر: هل عندك للسر مكان؟»
قال: «بئر عميقة. لا تخف.»
قال: «لا أخاف منك؛ لأن روحك في قبضة يدي، وليس أسهل علي من أن ألقي الشك في قلب أبي مسلم. ويكفي أن أذكر له مسألة النقود اليوسفية.» ثم نهض بغتة ويده في منطقته، فأخرج منها النعلين ولبسهما ووقف، فعجب إبراهيم لعمله وخشي أن يعاوده الجنون فتحدثه نفسه أن يشكوه إلى الأمير في تلك الساعة، فنهض معه وأظهر الاهتمام به وقال: «ما بالك يا أخي؟ قل ما هو ذلك السر.»
قال: «نسيته في البيت؛ فأنا ذاهب لاستدعائه.» وضحك، فضحك إبراهيم مجاملة له، ولكنه ازداد خوفا من هذا الأبله، ولم يعلم كيف يسترضيه، فقال له: «بالله كف عن المزاح وأخبرني، وأنت القابض على حياتي؛ فلا تخف وأنا إنما أريد قضاء حاجة لك.»
فمشى الضحاك، فتبعه إبراهيم حتى خرجا من الغرفة، فلما استقبلا ضوء القمر التفت إليه الضحاك وقال: «هل يحمل أبو مسلم أهله معه إذا سافر.»
قال: «تعني هل يصحب امرأته في سفره. كلا، إنه يتركها في منزلها وحولها الأرصاد والعيون؛ لأنه شديد الغيرة عليها حتى لا يدع لها سبيلا للخروج من البيت، ولا يدع أحدا يدخل قصره غيره. وفي قصره كوى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه. وبلغني أنه يوم زفت إليه امرأته بالبرذون الذي ركبته فذبح، وأحرق السرج لئلا يركبه بعدها أحد.»
فقطع الضحاك كلامه قائلا: «تقول (لنسائه) كأنه تزوج عدة نساء.»
قال: «كلا، إنه لم يتزوج اثنتين معا قط ، وهو يكره الزواج ويعده جنونا، ومن أقواله المأثورة: «الزواج جنون، ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة.»
1
فمن كان هذا في اعتقاده كيف يهتم بالنساء؟! ولكنى أردت بنسائه: اللواتي في قصره من الجواري والمرضعات ونحوهن مما تقتضيه مظاهر الإمارة.»
فلما سمع الضحاك قوله أطرق وكأنه ثاب إلى رشده، وأدرك إبراهيم أن ذلك السؤال لم يكن عبثا، فاستأنس بهدوئه فقال له: «إن أمر هذا الرجل غريب جدا لم أسمع بمثله، ولعل هذه الخلال من أسباب نجاحه؛ لأنه ينقطع عن كل شيء للقيام بدعوته، فتراه لا يضحك ولا يمزح ولا يلهو بشيء قط.»
قال الضحاك: «وصلنا إلى السر. بلغني أنه لما شاهد مولاتي الدهقانة الليلة شغف بها، وأراد أن يتزوجها. ولأن مولاتي المذكورة مخطوبة لأمير آخر، فإذا كان أبو مسلم يريدها لنفسه، فإني قادر على تحويل الخطبة إليه. هذا سر بيني وبينك. فهمت؟»
قال إبراهيم: «لا تخف يا أخي؛ فقد أوسعتني تحذيرا. أما أنه رأى الدهقانة وأحبها، فهذا أمر بعيد. وهو لا يرفع بصره إلى النساء قط؛ لأنه غيور ويعرف قدر الغيرة. أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك، فأرجو أن تصرح لي.»
فألقى الضحاك يده على كتف إبراهيم وهو يخفض بصره؛ ليراه؛ لقصره، وقال: «أظنك تعني أن الدهقانة أحبته، وكأنها أحبت الزواج به. فهب أن هذا هو الواقع، فما قولك؟»
قال وهو يرفع بصره نحوه: «إن ذلك يحتاج إلى استرضاء أبي مسلم، واسترضاؤه ليس بالأمر السهل، وخاصة في مثل هذا الأمر؛ لأنه يكره الزواج كما أخبرتك.»
قال: «إذن أنت لا تأمل أن يقبل ذلك؟»
قال: «لست أرجح الأمل أو اليأس، ولكن الأمر يحتاج إلى روية وسعي.» قال ذلك وأمسك بمنطقة الضحاك وقال: «اسمع. إنك تجعل نفسك مهزارا وأنت أدهى مني. قد خطر ببالي سبيل أظنه يؤدي إلى المطلوب. لا يستطيع أحد أن يفاتح هذا القائد بأمر الزواج، ولا سيما الآن، ولكنني أرى أن تخاطبه بشأنها من حيث نستلفت انتباهه، فإذا قلنا له مثلا: إن الدهقانة شديدة الغيرة على أهل الشيعة، متفانية في نصرتهم، وإنها تحب أن تخدمه فيما يؤيد دعوته، وينصره على أعدائه، فمثل هذه الأقوال تستلفت أفكاره، فلعله إذا قابل الدهقانة مرة أو غير مرة بهذا الصدد، ثم رأى منها ما يدل على نصرته حقيقة لا أظنه إلا ساعيا للزواج منها. هذا ما أراه، وقد أكون مخطئا.» قال ذلك وهز منكبيه.
قال الضحاك: «لقد رأيت الصواب، ولعلك تكون واسطة في تمهيد السبيل لكي تقابله إذا اقتضى الحال. إني أقول هذا من عند نفسي، وأخشى ألا تقبل هي.»
قال: «إني أكون لك كما تشاء جهد طاقتي.»
وكانت ملامح الضحاك قد اكتسبت في أثناء هذه المحادثة صورة الجد، وكاد المجون يذهب عنها، فلما سمع قول إبراهيم عاد إلى مجونه فالتقط ذيل جبته وأدارها حول إبراهيم، فاختفى فيها لقصره، فأجفل وانسحب من تحتها، فوقعت عمامته على الأرض فالتقطها وهو يضحك، فقال له الضحاك: «والله إنك رجل لطيف ومتواضع؛ لأنك خازن الأمير، وتحتمل سفاهة خادم مهذار مثلي.»
قال: «ما أظنك مهزارا يا أخي، ولا بد لك من شأن. والآن ألا تأخذ الكيس بما فيه؟»
قال الضحاك: «ليس هو لي، وإنما سقط من القمر وأنت التقطته؛ فاحتفظ به لنفسك، وإذا وفيت لنا بوعدك، فلك عندنا من هذه الأكياس ما يغنيك عن استبدال الدرهم بالدرهم سرا حتى تخشى خادما مهزارا. هل فهمت؟ السلام عليكم.» قال ذلك وتناول نعليه بيديه، وهرول مسرعا إلى ريحانة وقد تغير الطقس، وتلبدت الغيوم بغتة، وهبت الرياح وفيها هواء الشتاء. وكانوا في أوائل الربيع والطقس يتقلب فيه على غير انتظار.
الفصل الثالث عشر
على أحر من الجمر
أما جلنار فإنها مكثت في الغرفة تنتظر في قلق، وقد اشتد اضطرابها لما تتوقعه من نتائج المهمة التي أسندت إلى ريحانة، وأصبحت إذا سمعت حركة أو خربشة خفق قلبها، وحدثتها نفسها أن تخرج من الغرفة لعلها تلهو بشيء، أو تسمع من ريحانة أو الضحاك ما يقوي قلبها، أو يطمئن خاطرها. واستغرقت في الهواجس مدة ثم انتبهت لصوت جمل في الجهة الأخرى من القصر، فاستأنست بصوته؛ لأنه من معسكر حبيبها، ثم تزايد الصوت فهمت بالخروج بهذه الحجة وهي إنما تريد الخروج ضجرا من الانتظار، فوقفت وأصغت، فلم تعد تسمع صوتا، فعادت إلى الفراش وعاد السكوت، فرجعت إلى الإصغاء والقلق، فسمعت بالباب وقع خطوات خفيفة كأنها خطوات حاف، فاستغربت ذلك، ثم ما لبثت أن سمعت نقرا خفيفا على قفل الباب، فنهضت وفتحته وقلبها يدق دقا شديدا، فإذا هي بريحانة، فانبسطت نفسها لرؤيتها. ودخلت ريحانة مسرعة وهي تتعثر بسراويلها المنتفخة، والبغتة بادية في وجهها، فابتدرتها جلنار بالسؤال عما جرى، فضمت أناملها اليمنى إشارة للانتظار، وقالت بصوت خفيض وهي تلهث وتتلفت: «تمهلي يا مولاتي.» ثم أصاخت بسمعها نحو الدار.
فسكتت جلنار وأصغت فلم تسمع شيئا، فنظرت إلى ريحانة نظرة استفهام، فأجابتها وهي تبالغ في خفض صوتها كأنها تتكلم همسا: «لقيت الضحاك وأرسلته في المهمة المعلومة، ومكثت في غرفتي قليلا ثم خرجت إليك وأنا أحاذر أن يراني أحد. وقبل دخولي في هذا الرواق، سمعت مولاي الدهقان يتنحنح على مقربة مني فذعرت وخفت أن يكون قد رآني، فوقفت هنيهة والضوء ضعيف فلم أسمع شيئا، فخلعت نعلي ومشيت حافية على أطراف أناملي حتى جئت إليك، وأنا أخاف أن يكون سيدي الدهقان في أثري، ولكن يظهر أني واهمة.» «أما جلنار، فإنها مكثت في الغرفة تنتظر في قلق، وقد اشتد اضطرابها لما تتوقعه من نتائج المهمة التي ذهبت من أجلها ريحانة ...»
فقالت: «أظنك واهمة؛ لأن والدي لا يبقى ساهرا إلى هذا الوقت. وهبي أنه رآك، فماذا يوجب القلق في رؤيتك؟ أخبريني الآن عن الضحاك ومهمته.»
فقصت عليها أهم ما دار بينها وبينه إلى أن قالت: «وأنا في انتظار رجوعه لأرى ما يكون، ولا ريب عندي أننا وضعنا ثقتنا في محلها؛ لأن هذا العربي - رغم ما يظهر من مجونه وبلهه - ذو أريحية وحماسة، ولا أظن مجونه إلا تصنعا.»
قالت: «وما الذي يدعوه إلى التظاهر بالبله وهو عربي، والعرب أهل الدولة! فلو لم يكن البله سجية فيه، مع ما تدركين من أريحيته، لكان من أكبر رجال الدولة ، وكان في غنى عن هذه الخدمة.»
فأشارت ريحانة برأسها وعينيها أن صدقت مولاتي، ثم قالت: «ومهما يكن من شأنه، فإني واثقة من حميته وصدق خدمته، وسترين، ولكن لا بد من الذهاب إلى غرفتي لأنتظره فيها كما تواعدنا.»
فقالت: «أرى أن أخرج معك فألتقي به عندك، وذلك خير من أن نلتقي في غرفتي وأسلم عاقبة.»
ففهمت ريحانة قصدها، وأومأت إيماءة الاستحسان والطاعة، ولبثت تنتظر خروجها معها، فإذا بها تنهض من الفراش. وكان على اللحاف مطرف من خز أحمر مبطن بالفرو فالتحفت به، فغطاها كلها، ولفت رأسها بشال من الكشمير موشى بالحرير، فلم يبق ظاهرا منها إلا مقدم وجهها. فمشت الماشطة أمامها، وسارتا نحو غرفتها، ولم تخرجا من ذلك الرواق حتى سمعتا هبوب الزوابع، وتنسمتا رائحة الشتاء، فانبسطت نفس جلنار لسبب لا تعلمه، وأرادت أن تخاطب ريحانة بشيء، لكنها صبرت نفسها حتى وصلتا إلى الغرفة، فدخلتا وأغلقت ريحانة الباب وأسرعت في إعداد مقعد لسيدتها، فجلست جلنار ووجهها تجاه المسرجة، ونور السراج يرقصه ما ينفذ إلى الغرفة من بقايا تلك الزوابع.
ولما جلست نزعت الشال عن رأسها، فبان وجهها وقد زاده الدفء رونقا وجمالا، فتأملتها ريحانة وهي في تلك الحالة، وابتسمت ابتسام منذهل بذلك الجمال، ولم تتمالك عن تقبيل رأسها، ثم جثت بين يديها وأخذت في إصلاح بعض ما أفسده الخمار من شعرها وهي تقول: «سبحان الخالق! كيف لا يسحر ذلك الخراساني بهذا الجمال الذي لا مثيل له في خراسان ولا ما وراء النهر؟»
فتنهدت جلنار وسكتت هنيهة، ثم تذكرت شيئا خطر لها حين سمعت هبوب الرياح، واعتزمت أن تصارح ماشطتها به، فقالت: «شعرت يا ريحانة ونحن قادمتان الآن براحة وطمأنينة لسبب لا أعلمه.»
فابتسمت الماشطة وقالت: «جعل الله كل أيامك راحة وسعادة.» ثم نهضت وهي تقول: «وأنا أيضا أحسست بنفس الشعور، وأظن أن السبب واحد؛ وهو هبوب الرياح وتوقع المطر؛ فإني كثيرا ما أكون منقبضة النفس مغمومة، فإذا أمطرت السماء انبسطت نفسي وذهب عني الغم.» ثم وقفت هنيهة تجاه المرآة لغير غرض مقصود، ثم تحولت بغتة إلى سيدتها وهي تقول: «ولكن لسرورنا سبب آخر. هل أقوله؟»
قالت: «قولي.»
قالت وهي تضحك: «لأن الزوابع يعقبها المطر الشديد، وإذا اشتدت الأمطار كثرت الأوحال وسدت الطرق، فيتأخر ضيوفنا عن السفر يوما أو بضعة أيام. وبقية الحديث عندك.»
فابتسمت جلنار بعد أن طال انقباضها وقلقها، وهمت بالكلام فسمعت ضحكة غلبت قهقهتها على صفير الرياح، فعلمت أنه الضحاك، ولكنها لم تكن تتوقع أن يجعل لقدومه قرقعة وضوضاء وهم في حال تدعو إلى التكتم، فنظرت إلى ريحانة فرأتها في مثل حيرتها وهي تقول: «صدقت يا مولاتي. يبدو أنه أبله حقيقة.»
ولبثتا بعد تلك الضحكة تتوقعان وصوله، فإذا هو يقول بصوت عال: «صدقت يا مولاي الدهقان، إن الطقس قد تغير، ولا يلبث المطر أن يتساقط؛ لأن مطر الربيع قد يكون جارفا، وأنا لا أستطيع النوم في مثل هذه الليلة.» وضحك، فلما سمعتا ذلك علمتا أن الدهقان لا يزال ساهرا، فخشيت ريحانة أن يشعر بهما، فتقدمت إلى السراج وغطته بحيث لا يبدو نوره من شقوق الباب للخارج. فلما فعلت ذلك سمعتا ضحكة أخرى أبعد من تلك وقائل يقول: «ألم أقل لمولاي أن ما ظنه نورا خارجا من الغرف إنما هو من أثر البرق؛ إذ ليس في هذا القصر ساهر سوى مولاي وأنا. أما أنا فإني ذاهب إلى مخدعي بعد أن أكون في خدمة مولاي حتى يدخل فراشه؛ لأن سائر الخدم نيام، وإذا أحب أن أؤنسه بقية هذا الليل فعلت.»
فخفق قلب جلنار عند سماعها ذلك؛ لأنها أدركت منه أن والدها أساء الظن بريحانة، وبحث عن سبب النور الخارج من غرفتها، واستحسنت أسلوب الضحاك في إنقاذها من ذلك الخطر، على أنهما مكثتا صامتتين لا تتحركان، وتكادان تمسكان عن التنفس التماسا للإصغاء. فلما مضت مدة ولم تسمعا فيها صوتا أيقنتا أن الدهقان ذهب إلى فراشه، ولا يلبث الضحاك أن يعود إليهما، فأخذت جلنار تتأهب لسماع صورة الحكم على عواطفها؛ فإما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم. ولم تكن تتوقع الإحساس بمجئ الضحاك أو سماع خطواته قبل وصوله للباب؛ لتعاظم هبوب الرياح، وحفيف الشجر، وقصف الرعد.
الفصل الرابع عشر
إبلاغ الرسالة
ولبثتا صامتتين كأن على رأسيهما الطير، حتى سمعتا قرع الباب قرعا خفيفا، فأجفلتا وأسرعت ريحانة إلى فتحه، فإذا بالضحاك يدخل مسرعا وهو في ذلك القباء المقلوب، وعمامته مشوهة، ونعلاه في منطقته، وشعر لحيته منتفش، وهيئته في غاية الغرابة. فلما وجد جلنار هناك أجفل وتأدب، وقام بإصلاح شعره، وتسوية عمامته، وهو يضحك بلا قهقهة، وأخرج النعلين من منطقته فوضعهما بالباب، ووقف متأدبا كأنه مارد لطوله. فابتسمت جلنار من منظره وحركاته، فقال لها: «اعذريني يا مولاتي على هذا المنظر؛ فإني لم أكن أحسبك هنا. والحق على هذه الملعونة.» وأشار بإحدى يديه إلى ريحانة، وباليد الأخرى إلى عمامته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك لأسلوبه في التخلص من غضب ريحانة. وأما ريحانة فغالطته وقالت: «إن الدهقانة مسرورة من همتك ونشاطك.»
فقطع كلامها بصوت منخفض وقال: «وطبعا أنت زعلانة؛ لأن العريس ليس لك.»
فقالت: «دعنا من المجون، وأخبرنا ما الذي فعلته، وأظنك لا تلتزم الجد إلا إذا حلفتك بمولاتنا الدهقانة؛ فبحياتها إلا تكلمت الجد.»
فلما سمع قولها وقف بين يدي جلنار متأدبا، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس، فقالت له ريحانة: «قص علينا ما جري.»
فأخذ في سرد ما حدث منذ خروجه من غرفتها إلى أن لقي إبراهيم الخازن، وكيف احتال عليه وأخرجه من حجرته، وما دار بينهما، حتى انتهى إلى ما تم الاتفاق عليه بينهما، ولكنه لم يذكر ما قاله الخازن عن كره أبي مسلم للنساء؛ لعلمه أن هذا يسيء إلى جلنار ويوقعها في اليأس، وهو يريد أن ترجو الظفر به، على أنه أخبرها أن أبا مسلم لا يستطيع أحد من خاصته أن يخاطبه في أمر الزواج تهيبا، وإنما إذا لقيته وخاطبته، فلا ريب أن سيحبها ويتمنى الظفر بها، وخصوصا إذا أظهرت له غيرتها على الدعوة التي يقوم بتأييدها.
وكانت جلنار ترهف السمع لذلك الحديث، فلما بلغت إلى ختامه انقبضت نفسها؛ لأنها كانت ترجو أن تعرف شيئا عن شعور أبي مسلم نحوها، فسكتت وظهر الانقباض على وجهها، فأدركت ريحانة سبب انقباضها، فأرادت إنعاش أملها فقالت: «بورك فيك يا ضحاك، ما ألطف أسلوبك! فقد فعلت ما لا سبيل إلى سواه.»
فقال: «لا أحب التملق يا ريحانة، فإني لم أعمل شيئا، ولكنني مهدت السبيل للعمل، فإذا رأت مولاتي أن أعرض عليها رأيي فيما ينبغي أن تعمله فعلت.»
فقالت جلنار: «قل يا ضحاك.»
قال: «أولا، ينبغي أن ندبر وسيلة لتجتمعي بأبي مسلم ويدور بينكما الحديث.»
فاحمر وجه جلنار خجلا إذ تصورت نفسها في خلوة مع أبي مسلم، على حين أنها قد شبت ولم تخاطب من الرجال غير والدها وخدم قصرها، ثم تذكرت أنها لا تستطيع الوصول إلى تلك الجلسة إلا بالتزلف والتذلل والنزول عن عرش أنفتها وعزة نفسها، ثم هي فوق ذلك ستخالف إرادة والدها، فضلا عن تعرضها لغضبه إذا علم بذلك الاجتماع السري. فلما تصورت ذلك غلبت عليها عزة النفس فتراجعت وهي جالسة، وهزت رأسها ولسان حالها يقول: «لا، لا أفعل ذلك.»
ففهم الضحاك ما يدور ذهنها، فرفع حاجبيه وقلب شفته السفلى، ثم قال: «لا أنكر يا مولاتي أن ذهابك للاجتماع به لا يخلو من التنازل و...»
فخشيت ريحانة أن يذكر لها أصل أبي مسلم ومنشئه، فاعترضت حديثه قائلة: «لا أرى في ذلك ضعة ولا تنازلا؛ لأنها إذا ذهبت إليه أو خاطبته فإنها تخاطب أعظم رجل في خراسان، وهو قائد رجال الشيعة مع أنه شاب، وتحت أمره شيوخ من قواد الخراسانيين وأمرائهم. ويكفي أن الإمام اختاره لهذا المنصب العظيم، وإذا نظرت إلى وجهه وهيبته علمت أن المستقبل له لا محالة.»
فلما سمعت جلنار ذلك المديح تحركت فيها عوامل الحب، فهان عليها كل عسير في سبيله، ولكنها ظلت ساكتة، وفهم الضحاك أن الغرض من ذلك الاعتراض ألا يذكر أصل أبي مسلم في حضرتها، فقال: «لا أنكر منزلة هذا البطل الشاب، وإنما أردت بالتنازل ذهاب مولاتي الدهقانة إليه وهي فتاة، إلا إذا كانت تحب (وبلع ريقه) فتلك مسألة أخرى هي أعلم بها .» قال ذلك وضحك وهو مطرق برأسه وعيناه شاخصتان نحوها.
أما جلنار فإن الاهتمام ظهر في عينيها وسكتت، وتشاغلت بإرسال ضفائر من شعرها إلى ظهرها كانت قد استرسلت إلى الأمام عند انحنائها، ثم أصلحت القرط في أذنها وهي مطرقة. وأدركت ريحانة ولحظ الضحاك أنها تتردد في أمر ذلك الاجتماع، وظلوا صامتين هنيهة كأنهم يصغون لاستماع قصف الرعد وسقوط المطر، ولو أصاخوا بسمعهم لسمعوا صوت الجمال عن بعد، ولكن تساقط المطر وهبوب الرياح أضاعا صوتها.
وأخيرا استأنفت ريحانة الحديث قائلة: «تبصري يا مولاتي في الأمر على مهل؛ فإن القوم باقون هنا بضعة أيام بسبب الأمطار.»
فظلت جلنار صامتة مطرقة، فأدرك الضحاك أنها لا تزال تتهيب أمر لقائها أبا مسلم، فقال لها: «إذا أذنت مولاتي لمملوكها أن يصرح بما في ضميره فعل.»
قالت جلنار: «قل.»
قال: «يظهر لي أنك تتهيبين أمر ذلك الاجتماع، ولا لوم عليك، ونحن نعلم أنفتك وعزة نفسك، وعندي رأي. هل أعرضه عليك؟»
فأشارت برأسها أن قل.
قال: «إن أبا مسلم - كما لا يخفى عليك - قد حصر قواه وعواطفه في أمر الدعوة التي يقوم بها، وما من سبيل يوصلنا إلى قلبه غير هذه الدعوة؛ فالذي أراه أن مولاتي إذا شق عليها لقاؤه وجها لوجه أن تبدأ الصلة بينها وبينه بشيء يدل على اشتراكها معه في هذا الأمر، ويكون ذلك فاتحة العلاقات، ثم نرى ماذا يكون.»
فانبسط وجه جلنار. وكان انبساطه جوابا كافيا للضحاك. فتناولت ريحانة طرف الحديث عنها وقالت: «لقد رأيت صوابا يا ضحاك، بورك فيك، فأفصح عن رأيك مفصلا.»
قال: «هذا رأيي واضح لا يحتمل شرحا كثيرا؛ فالمراد أن تبعث مولاتي إلى أبي مسلم بما يدل على تأييدها لدعوته، ورغبتها في رضاه، واشتراكها في أمره، ونرى ما يكون منه.»
قالت ريحانة: «أظنك تعني أن ترسل المال إليه؟»
قال: «المال وغير المال. كما تشاء.»
فقطعت جلنار حديثهما قائلة: «فهمت، ولكن ...» ونظرت في وجه ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمر واحد لا تريد التصريح به بين يدي الضحاك، فأدركت ريحانة شيئا في خاطرها فنهضت وهي تقول: «أظنك يا مولاتي تعبت من السهر.»
ففهم الضحاك مرادها، فنهض وحنى رأسه ويداه على صدره كأنه يستأذن مولاته في الذهاب، وقال: «إني رهين ما تأمرينني به ولو كان طريقي إلى مرضاتك على أسنة السيوف.» قال ذلك وخرج.
الفصل الخامس عشر
الهدية
فسرت جلنار بذلك ونهضت ومشت نحو غرفتها وهي تسترق الخطى مخافة أن يسمع وقع قدميها. أما ريحانة فإنها أطفأت السراج وسارت في أثرها حتى وصلتا إلى غرفة جلنار، فدخلتا وتوسدت جلنار فراشها وتغطت باللحاف والتفت بالمطرف؛ دفعا لما أحست به من البرد في أثناء مرورها في الرواق، وجلست ريحانة بين يديها وقد لفت رأسها وحول عنقها بالشال. فلما استقر بهما المقام قالت ريحانة: «قد فهمت اعتراضك يا مولاتي.»
قالت: «فما رأيك؟ ألا ترين أني أواجه مشكلة صعبة؟»
قالت ريحانة: «إذا كنت محقة في ظني، فالمشكلة على صعوبتها لا نعدم وسيلة لحلها.»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وكيف نستطيع الحل؟ وأراني كحجر بين مطرقتين. إن والدي من جهة قد وعد بزواجي من ابن الكرماني، وسأزف قريبا إليه، وأرى نفسي من جهة أخرى مقيدة القلب (وتنحنحت وبلعت ريقها حياء) وأنا مع ذلك لا أدري إذا كانت المحبة متبادلة! فكيف أتخلص من أمر والدي؟ وماذا يكون أمري إذا لم تكن المحبة متبادلة؟!» قالت ذلك وشرقت بريقها، واحمرت وجنتاها، أو زادتا احمرارا؛ لأن وجهها كان قد تورد من الدفء وإعمال الفكرة. ولحظت ريحانة في عينيها دمعتين تترددان بين المآقي، فتأثرت لحالها، وشعرت بخطر موقفها، فبادرت إلى التخفيف عنها فقالت: «أما ابن الكرماني فليس أمره مهما؛ لأنك لو زففت إليه من الغد، فبقاؤك عنده لا يكون إلا بانتصاره على أبي مسلم، فإذا انتصر عليه، فأبو مسلم لا يليق بك، وأما إذا كانت الغلبة لأبي مسلم، فأنت له لا محالة؛ لأنه يستولي على كل ما هو للكرماني. وإذا كنت تكرهين هذا العريس وترومين بعده؛ فلك من حكمتك وحسن أسلوبك ما يضمن بقاءك عنده مدة طويلة وأنت مصونة كأنك في بيت أبيك .»
فأدركت جلنار ما تعنيه ريحانة، وقد أخجلها، لكن سرورها بهذا الحل هون عليها ذلك التعريض، فابتسمت والانقباض ينازع الابتسام في وجهها، فعادت ريحانة إلى حديثها فقالت: «بقي علينا النظر في الوسيلة إلى أبي مسلم، والحق يقال إن هذا العربي المهزار قد رأى رأيا حسنا؛ فلا غرو إذا وقع لديك موقع الاستحسان؛ لأن زيارتك لأبي مسلم بدون علم أو مبادلة سابقة لا تخلو من الابتذال؛ فالذي أراه أن ترسلي إليه مع الضحاك مبلغا من المال على سبيل الإعانة، والضحاك يفهمه بأسلوب لطيف أنك بعثت بهذه الهدية حبا فيه وفي دعوته، ونرى ما يكون من جوابه. وإذا رأيت أن ترسلي إليه هدية خاصة تؤكد محبتك فعلت.»
فأشرق وجه جلنار لهذا الرأي، وكانت متكئة فجلست وقالت: «لقد أعجبني يا ريحانة رأيك الأخير؛ لأن إرسال الهدية الخاصة استطلاع لرأي أبي مسلم في. فما عسى أن تكون تلك الهدية؟»
قالت: «أجمل هدية تهدى للقواد السيف، فإذا بعثت إليه بسيف مرصع، وبلغه الرسول أنه هدية منك إليه؛ ازداد اعتقادا بسلامة نيتك في نصرته، وإذا كان في نفسه شيء ظهر.»
فقالت: «ومن أين آتي بهذا السيف؟»
قالت: «ذلك هين على من يبذل المال، فأعط الضحاك مالا وفوضيه أن يبتاع سيفا، فما هو إلا أن يذهب ويعود إليك بالسيف في نحو ساعة.»
ففرحت جلنار بهذا التدبير وقالت: «إني أترك تدبير هذا الأمر إليك، وأما النقود فهي عند الخازنة. خذي منها ما تريدين، واحذري أن يعلم والدي بشيء من هذا التدبير فنقع في مشكلة يصعب حلها.»
قالت: «كوني مطمئنة يا مولاتي، فلا يكون إلا الخير، إن شاء الله. والآن خففي عنك ونامي، وعلي تدبير كل شيء.»
ثم قبلت رأسها ويدها وخرجت حافية حتى عادت إلى غرفتها. ولا نظن أن جلنار نامت في تلك الليلة إلا قليلا لعظم اضطرابها.
فلندع هؤلاء في تدبيرهم، ولنرجع إلى أبي مسلم؛ فقد تركناه في دار الضيافة ومعه خالد بن برمك وقد ناما، وأبو مسلم قلما غمض جفنه وهو يفكر في مشروعه، وفيما عساه أن يحول دونه من العقبات. وكان أبو مسلم شديد الحذر، متيقظ الخاطر، سيئ الظن في المستقبل، لا يأمن كوارث الأحداث، فكان - وهو في فراشه - سابحا في بحار التأملات يفرض الممكنات، ويهيئ الأسباب، حذرا من الفشل. وبعد أن نام هزيعا من الليل أفاق على هبات الرياح، وقصف الرعد، وسقوط الأمطار، فشق عليه ذلك مخافة أن تحول الظروف دون مسيره، فلما استيقظ نهض من الفراش، وأطل من نافذة غرفته إلى ما حوله - وكان المطر قد انقطع والصبح قد تبلج - فرأى المياه قد ملأت الطرق وسالت في أخاديد الأرض، فتحول إلى غرفة خالد. ولم يكد يدخلها حتى رآه خارجا منها وقد تزمل بعباءته وتخمر بعمامته، فصاح فيه أبو مسلم: «خالد.»
فقال: «لبيك أيها الأمير.»
قال: «ما رأيك في صاحب الخبر الذي بعثناه بالأمس، هل تظنه تمكن من التجسس؟»
قال: «لا أظنه إلا فعل، وإذا أبطأ علينا فلا يؤخره إلا المطر والوحال؛ لأنه من أهل النجدة والهمة.»
قال: «إني في انتظاره على مثل الجمر؛ لنعلم حال أعدائنا في مرو، فنتدبر في حربهم.»
قال خالد: «ذلك هو الأمر الذي شغل خاطري الليلة وحرمني النوم، على أني واثق بالرجل وإخلاصه؛ لأنه يخشى غضبك، وهو يكره نصر بن سيار كرها شديدا.»
قال أبو مسلم: «ليس في معسكرنا من يحب نصرا، ولكنني أخاف أن يخدعهم الكرماني؛ لأنه من دهاة الرجال، وقد بلغني أنه أخرج نصرا من مرو وتملكها.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا حركة في داخل الدار، وإذا ببعض الغلمان قد أقبلوا وهم يحملون موقدا فيه نار قد تجمرت وضعوه في أحد جوانب الغرفة للاستدفاء، وذروا فيه شيئا من البخور، فانتشرت رائحته في الدار كلها، فاستأنس أبو مسلم بالدفء والبخور، وجلس على وسادة فوق البساط، والتف بمعطف من خز أسود، ولف عمامته على رأسه بغير نظام، وأشار إلى خالد فجلس إلى جانبه، ثم تذكر أنه لم يصل بعد، فنهض ونهض معه خالد وصليا الصبح، وجلسا وكلاهما يفكر في أمر الرجل الذي أرسلاه ليتجسس أحوال مرو قبل وصولهم إلى تلك المحلة. وكانا قد أوعزا إليه أن يوافيهما إلى هناك.
الفصل السادس عشر
أبو مسلم والضحاك
وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام فأكلا وغسلا أيديهما ولم يتكلما إلا قليلا؛ لأن أبا مسلم كان قليل الكلام جدا. وفي نحو الضحى، دخل أحد غلمان أبي مسلم وأومأ أنه ينقل رسالة، فقال أبو مسلم: «ما وراءك؟»
قال: «إن في الباب رجلا يطلب مقابلة الأمير.»
قال أبو مسلم: «ألعله من رجالنا؟»
قال: «كلا، بل هو من رجال الدهقان.»
فقال أبو مسلم: «فليدخل.»
فدخل الضحاك وهو يحمل خريطة قد أثقلت كاهله، فوضعها بجانب الموقد وأغلق الباب ودخل وهو يتأدب في مشيته حتى وقف بين يدي أبي مسلم.
فصاح به أبو مسلم: «من أنت؟ وما غرضك؟»
قال: «إني من موالي الدهقان، ولي مع الأمير شأن، إذا سمح بخلوة بثثته إياه.»
وكان الضحاك يتكلم وهو يحاول إخفاء أمارات المجون من وجهه، ولم يتم كلامه حتى نهض خالد وخرج، فأشار أبو مسلم إلى الضحاك أن يجلس، فأكب على يد أبي مسلم يقبلها وهو يقول: «قد أتيت مولاي الأمير بمهمة سرية أرجو أن يكتمها لوجه الله، وأنا رسول، وما على الرسول إلا البلاغ.»
قال: «قل ولا خوف عليك.»
فمد الضحاك يده وأخرج من تحت عباءته سيفا مرصعا دفعه إلى أبي مسلم. ولما رأى أبو مسلم السيف أجفل لأول وهلة؛ مخافة أن يكون في الأمر دسيسة أو اغتيال، فقطب وجهه ونظر في وجه الضحاك وأمارات الغضب والحذر بادية في عينيه، فضحك الضحاك ضحكة يمازجها شيء من البله وقال: «أيخاف صاحب هذا الجند من مهذار مثلي جاء بهدية؟ ومن يجرؤ على أن يقدم على الأمير بغير الطاعة والخضوع. إني أرى الموت بين شفتيك، والقضاء المبرم في عينيك، فبالله إلا تبسمت قبل أن أقع قتيلا.»
قال ذلك وهو يتظاهر بالذعر، أو هو ذعر فعلا؛ لأن أبا مسلم كان شديد الهيبة لا يستطيع أحد التفرس في وجهه.
فتكلف أبو مسلم الابتسام وهو يتناول السيف بيده، وليس في ابتسامته ما يدعو إلى الاستئناس أو السكينة . ولما تناول السيف تأمله وقلبه بين يديه، ثم نظر إلى الضحاك - وكان لا يزال واقفا - وقال: «اجلس.»
فجلس متأدبا وهو يتلفت يمينا وشمالا، فقال له أبو مسلم: «ما شأنك يا رجل؟ إني أراك عربيا.»
فتراجع الضحاك وأظهر الخوف وقال: «وهل علي بأس من وصية الإمام؟»
فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك من حركاته وهيئته - وكان يندر أن يضحك - ثم قال: «إن وصيته لا تجري على كل عربي؛ لأن الإمام نفسه عربي؛ فكن مطمئنا وقل ما شأنك.»
فنظر الضحاك نحو الباب نظر الخائف المحاذر وقال: «أتوسل إلى مولاي أولا أن يكتم ما سيدور بيني وبينه؛ فقد جئته بأمر أرجو أن ينفعه، وإذا ذاع أضرني.»
قال: «قل. لا بأس عليك. إننا كاتمون أمرك.»
قال: «اعلم يا سيدي أن مولاتي الدهقانة جلنار. هل تعرفها؟»
فوجم أبو مسلم لحظة ثم قال: «أليست هي ابنة الدهقان؛ صاحب هذه المحلة؟»
قال: «هي بعينها، أظنك تعرفها. فاعلم، يا مولاي، أنها شهدت مجلسك بالأمس، وقد سحرت بما شهدته من حميتك، وأعجبها الأمر الذي أنت قائم به، وعلمت بما دفعه أبوها، وأحبت أن تخص نفسها بمال تدفعه هي من جيبها الخاص، فبعثت بجانب منه في هذه الخريطة (وأومأ نحو الخريطة) على شرط ألا يعلم أحد بذلك، وخاصة أباها، وهي لا تلتمس في مقابل ذلك إلا رضى الأمير - أعزه الله - ثم إنها بعثت إليك بهذا السيف المرصع على سبيل التذكار، وهو قديم فيه سر عظيم، ولم يحمله أحد إلا هزم عدوه.»
فأعاد أبو مسلم نظره في السيف، وتناوله واستله من قرابه وتأمل فرنده، فإذا هو يلمع كالزجاج وفيه تموج بديع، فقال: «يظهر أنه مسموم؟»
قال: «أظنه كذلك؛ لأن مولاتي قالت لي إنه لم يصب به أحد إلا مات لساعته، ولو كان جرحه خفيفا.»
فقال: «إنها هدية ثمينة، ثم ماذا؟»
قال: «عندي كلمة أخرى أحب كتمانها حتى عن الدهقانة نفسها، فإذا عاهدني الأمير بذلك بحت له بها، وإلا لا يهمني لو قتلني بهذا السيف الساعة وأراحني من حياتي.»
فاستغرب أبو مسلم قوله وطريقة تعبيره، واستأنس بخفة روحه، فقال له: «قل ما تشاء ولا تخف.»
قال: «وهل تعدني أنك لا تغضب من جسارتي؟»
قال: «قلت لك لا تخف.»
قال: «إن مولاتي الدهقانة أجمل أهل عصرها، وما من أمير ولا دهقان إلا ويتمنى رضاها، ولكنها تمنع نفسها عن كل طالب، ولم يمل قلبها إلى أحد حتى الكرماني؛ أمير العرب المحاصرين مرو، فإنه طلبها لابنه ورضي أبوها، وأما هي فقلبها نافر منه، وقد تطيع أباها وتذهب إلى الكرماني، ولكنها إذا سارت إليه فقلبها لا يسير معها؛ لأنه متعلق برجل أعظم منه، وأعظم من كل رجل في خراسان. هل يأذن لي مولاي أن أذكر اسم ذلك الرجل؟»
فأدرك أبو مسلم أنه يشير إلى حبها إياه، ولم يكن قد فاته ذلك من قبل.
فقال: «اذكر اسمه، إلا إذا كان داخل هذه الغرفة.»
فقال: «كأنك تأمرني ألا أذكره؛ لأنه داخل هذه الغرفة، ولكنه ليس أنا.» وضحك، فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك ثم قال: «لقد أعجبني أسلوبك يا رجل؛ فإنك خفيف الروح.»
فقال: «وماذا ينفعني إعجابك، يا سيدي، وأنا أخاف أن أذكر اسمك؟»
قال: «قلت لك لا تخف، فما أنا ناقم على جسارتك؛ لأنك - على ما يظهر - لا تعرف عني كثيرا..»
قال: «أنا أعلم عن مولاي الأمير أكثر مما يظن؛ ولذلك فإني لا أقصد برسالتي هذه أن أكلفه ما لا يريده، ولكنني تعهدت لصاحبة هذه الهدية برضى أبي مسلم عنها، ويجوز أن يكون ذلك الرضى ظاهريا فقط. ثم لا أخفي عن حامل علم الإمام أن نظرة منه تشف عن رضا أو ارتياح تجعل هذه الفتاة المفتونة آلة في يده قد يستخدمها في أمور تنفعه، ولو كانت في فسطاط الكرماني نفسه، أو في قصر نصر بن سيار؛ صاحب مرو؛ إذ تكون أقدر على خدمته وهي هناك، وإن كان ما ترجوه من أبي مسلم أضغاث أحلام لا يصح منها شيء. وعهدي بالأمير لا يحتاج إلى تصريح.»
فأطرق أبو مسلم هنيهة وهو يعمل فكرته ويتدبر ما سمعه من الضحاك، فرأى قوله لا يخلو من النصيحة، ولكنه أمسك عن الخوض معه في ذلك، ثم رفع السيف من بين يديه ووضعه وراء الوسادة، ونظر نحو الباب فأدرك أنه يريد انصرافه، فوقف وهو يقول: «يأمر مولاي خازنه أن يستلم هذه الأكياس.» ومشى نحو الخريطة بقرب الموقد.
فصفق أبو مسلم فدخل حاجبه فقال: «إلي بالخازن.»
فخرج الحاجب وعاد ومعه إبراهيم الخازن، فلما دخل إبراهيم ورأى الضحاك في خلوة مع أبي مسلم أوجس خيفة، ولكنه ما لبث أن سمعه يقول: «خذ من هذا الرجل ما يعطيه لك وقيده في دفاترك.»
فتحول نحو الضحاك، ففتح الضحاك الخريطة وأخرج منها عشرة أكياس مختومة وقال له: «هذه عشرة أكياس، في كل منها ألف دينار يوسفية.» وأطال لفظ يوسفية.
فتناولها الخازن وقد فهم إشارته، ولكنه أدرك أنه يقول ذلك على سبيل المجون، فتناول الأكياس وهو يقول: «ممن هي؟»
فقال أبو مسلم: «قل هي مني، وكفى!»
فحملها إبراهيم وخرج وهو لا يصدق أنه نجا من شراك الضحاك، وبعد خروج إبراهيم عاد الضحاك نحو أبي مسلم وانحنى يقبل يديه ثم خرج.
الفصل السابع عشر
صاحب الخبر
ولبث أبو مسلم هنيهة بعد خروج الضحاك وهو مطرق يفكر فيما سمعه منه، وقد توسم في هذا الرجل غير ما يظهر من مجونه وبلهه، وقال في نفسه: «لا يخلو هذا العربي المهذار من دهاء مستور.» وفكر في أمر جلنار وتعلقها به. وكان قد لحظ ميلها إليه من قبل ولم يعبأ به، فرأى بعد ما سمعه من نصيحة الضحاك أن يغتنم شغفها به لإتمام مقاصده في مهمته. قضى ساعة في نحو ذلك وإذا بالغلام يدخل وقد علق بعنقه جرابا فيه البخور والند، وذر شيئا في الموقد، فلما رآه أبو مسلم تذكر خالدا فصاح فيه: «أين الأمير خالد؟»
فقال: «هو، يا سيدي، في الحديقة يكلم رجلا قادما من سفر.»
فقال: «ادعهما إلي معا.» وقد ترجح عنده أن القادم صاحب الخبر الذي ينتظرونه على مثل الجمر.
وما عتم أن دخل خالد وهو يبتسم ويقول : «لقد جاء صاحب الخبر يا أمير. هل يدخل؟»
قال: «يدخل حالا.» ودعا خالدا للجلوس. وكان أبو مسلم يعتقد في خالد العقل والدهاء، ويخصه بالمشورة، ولا يخفي عنه شيئا. فجلس خالد بجانب أبي مسلم، ثم دخل الرسول وهو لا يزال بملابس السفر عليه العباءة، وعلى رأسه الكوفية فوق القلنسوة. وقد تجمدت العباءة مما تعرضت له من الأمطار والعواصف خلال الليلة الماضية. فلما دخل ألقى التحية ووقف، فقال أبو مسلم: «لعلك هنا من زمن طويل؟»
قال: «منذ ساعة أو ساعتين.»
قال أبو مسلم: «وما الذي أخرك عن الدخول علينا؟»
قال: «كنت في انتظار الإذن.»
قال أبو مسلم: «ليس على صاحب الخبر من حرج، ولا ينبغي أن يؤخر إذنه.» والتفت إلى خالد كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأجاب خالد بإشارة من رأسه أن ذلك هو الصواب. ثم أمر حاجبه أن يغلق الباب ويخرج، وأشار إلى الرسول أن يجلس، فجلس متأدبا، فقال له أبو مسلم: «ما خبرك؟ وكيف فارقت مرو؟»
قال: «فارقتها والحصار شديد عليها، والأعداء محدقون بها.»
قال أبو مسلم: «أظنك تعني ابن الكرماني؟»
قال: «أعنيه وأعني شيبان الخارجي، فإنهما يقاتلان معا نصر بن سيار؛ صاحب مرو. وكل منهما يضمر السوء لصاحبه.»
فقال خالد: «وكيف ذلك وعهدي بالكرماني أنه دخل مرو وأخرج نصرا منها؟»
قال الجاسوس: «نعم يا مولاي، قد كان ذلك، ولكنه لم يدم، ولكي يتضح لكم الواقع استأذن الأمير ببعض التفصيل.»
قال أبو مسلم: «قل ولا توجز.»
قال: «لا يخفى على مولاي أن أمر بني أمية قد أخذ في الضعف منذ عدة سنين، وإنما بقي الحكم في أيديهم تهيبا من اسم الخلافة واحتراما للدين، فلما أفضت الخلافة إلى مروان بن محمد، واختلف أهله في بيعته، وانتقضوا عليه؛ تجرأ الناس على مخالفته. وبعد أن كانت الأحزاب نائمة أو ساكنة هبت عليه دفعة واحدة؛ فقام الخوارج وغيرهم ممن يطمعون في السلطة لأنفسهم، ومنهم الكرماني. وللكرماني - أيها الأمير - حديث طويل مع نصر بين سيار؛ أمير مرو. هل أقصه عليكم؟»
قال: «لا بد من ذلك ؛ لأن التفصيل يهدينا إلى مخارج الأمور ومداخلها.»
قال: «لما مات أسد بن عبد الله؛ والي خراسان، منذ عشر سنين، استشار هشام بن عبد الملك (الخليفة يومئذ) بعض خاصته فيمن يوليه مكانه، فعرض عليه بعضهم أن يولي الكرماني - وهو من رجال الدولة، وأهل النجدة والحزم - فأعرض عنه هشام وقال: «ما اسمه؟» قال: «جديع بن علي.» فقال هشام: «لا حاجة لي به.» لأنه تطير من اسمه، فعرض عليه غيره وغيره حتى استقر الأمر لنصر بن سيار؛ والي خراسان الآن. فكأن الكرماني أسر ذلك في نفسه.
فلما مات الوليد بن يزيد بن عبد الملك وخلا كرسي الخلافة، واختلف عليها بنو مروان، وحدثت الفتنة، ونهض كل ذي سلطان يسعى إلى نفسه؛ اغتنم الكرماني هذه الفرصة، وأظهر الخلاف لنصر بن سيار. ولا يخفى على مولاي أن الرجل إذا قام يطلب سلطة اعتمد على حزب من الأحزاب، والكرماني وإن كان اسمه يدل على أنه فارسي من كرمان، إلا أنه لقب بذلك لأنه ولد في كرمان، ولكنه عربي من بني أزد؛ وهم يمنية، فاستنصرهم فنصروه على ابن سيار؛ لأن رجاله كلهم مضرية من عرب الحجاز، والخلاف بين العرب اليمنية والمضرية قديم، ولا يزال شديدا، وسيكون من أكبر أسباب سقوط العرب على الإجمال.
وكان أهل خراسان أنفسهم منقسمين فيما بينهم؛ لأن بعضهم يمنية، والبعض الآخر مضرية (أو نزارية)، فلما مات الخليفة، كما قدمت لكم، نهض من هذين الحزبين من يطلب الخلافة لبعض بني مروان غير مروان بن محمد، وفي جملتهم عرب خراسان؛ فقد اختلفوا فيما بينهم لهذا السبب. فاهتم نصر بن سيار بالتوفيق بينهم، فلما أعياه ذلك منع عنهم العطاء. فلما كان في بعض الأيام - وقد وقف في المسجد يخطب - نهض الناس وطلبوا منه أعطياتهم، فصاح فيهم: «إياكم والمعصية، وعليكم بالطاعة والجماعة.» فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، وثارت الأفكار، فغضب نصر فألقى عليهم خطابا لا يزالون يتناقلونه إلى اليوم، قال في جملته: «ما لكم عندي من عطاء. كأني بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق، وكأني بكم مطروحين في الأسواق كالجزر المنحورة. إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو؛ فإياكم أن يختلف فيكم سيفان. إنكم ترشون أمرا تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم. لقد نشرتكم وطويتكم فما عندي منكم إلا عشرة، وإني وإياكم كما قيل:
استمسكوا أصحابنا بحذركم
فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده. يا أهل خراسان، إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة، ثم تمثل بقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكمو عليكم
فإني في صلاحكمو سعيت»
فعلم الكرماني بذلك الخلاف - وكان نصر قد عزله من منصب كان فيه من قبل - فشاور الكرماني أصحابه في القيام فوافقوه على أن يكاتبوا من في مرو من اليمنية ويستنجدوهم. وقد أخبرني رجل من خاصة ابن سيار أن المضرية أشاروا على نصر أن يقتل الكرماني، وقالوا له: «إن هذا الرجل يفسد عليك أمرك، فأرسل إليه فاقتله أو احبسه.» فلم يصغ لرأيهم وقال: «لا، ولكن لي أولادا ذكورا وإناثا، فأزوج بني من بناته، وبناتي من بنيه.» قالوا: «لا.» فقال: «فأبعث إليه بمائة ألف درهم، وهو بخيل؛ فلا يعطي أصحابه منها فيتفرقون عنه.» قالوا: «لا، هذه قوة له.»
وطال الجدال بينهم حتى قالوا له أخيرا: «إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لاعتنقهما.» فلما رأى نصر إلحاحهم عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم الكرماني من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال نصر: «يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته، وقلت شيخ خراسان وفارسها، فحقنت دمك؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أرتش ابنك عليا على كره من قومك؟» قال: «بلى.» قال: «فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة.» فقال الكرماني: «لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت، فليتأن الأمير؛ فلست أحب الفتنة.» ثم أمر نصر بضربه وحبسه في القهندز (قلعة مرو) سنة 126ه. وتكلمت الأزد بشأنه فقال نصر: «إني حلفت أن أحبسه ولا يناله سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه.» فاختاروا رجلا اسمه يزيد النحوي أقام معه، ولكن ذلك الحبس لم يطل وقته؛ فإن رجلا من أهل نسف فاوض أهل الكرماني على إخراجه بحيلة لطيفة. وذلك أنه أتى مجرى الماء في القهندز فوسعه، وأدخل الكرماني في السرب فخرج بكل جهد وركب فرسه والقيد في قدميه، فأصبح الكرماني بعد ذلك من ألد أعداء نصر، وندم هذا على استبقائه حيا. وتوسط الناس بينهما، وطلبوا إلى نصر أن يؤمنه ولا يحبسه فأمنه، ولكنه لم يكن يأمنه، فكان يدخل الكرماني الجامع للصلاة ومعه 1500 رجل وأكثر، فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل على نصر في المقصورة فيسلم عليه ولا يجلس، ثم ترك زيارة نصر وأظهر الخلاف، فبعث إليه نصر من يستقدمه ويعتذر إليه عن حبسه، فأبى وأظهر الجفاء، فأصبح وجوده بلية على نصر.»
الفصل الثامن عشر
الحارث بن سريج والكرماني
وكان صاحب الخبر يتكلم وأبو مسلم صامت يحدق بعينيه، ويتفرس في الرجل كأنه يستنزل الكلام من صدره، وهو يتأثر من مطاولة نصر للكرماني، وتصور نفسه في موضع نصر قبل الانتظار. فلما بلغ الرجل إلى قوله: «وإن وجود الكرماني أصبح بلية على نصر.» صاح أبو مسلم: «ذلك جزاؤه على ضعفه وتردده - قبحه الله - لماذا لم يقتله ويكفي نفسه مئونة الحذر منه؟ أطال الله بقاء الإمام، وأيد دعوته. إن في وصيته ما يغنينا عن هذه المطاولة؛ من شككت فيه فاقتله، والسلام.» قال ذلك وهو يعبث بشعرات من لحيته وخالد قد تهيب لما ظهر من تحمسه، ثم قال أبو مسلم للجاسوس: «ثم ماذا؟»
قال: «وما زال الكرماني حتى حارب نصرا وأخرجه من مرو قهرا في العام الماضي، أو الذي قبله، ولكنه أنقذه من الحارث بن سريج.»
فقطع خالد كلامه قائلا: «أنا أعرف الحارث هذا؛ فقد كان في بلاد الترك وأبلى بلاء حسنا، وكان بينه وبين نصر خلاف، فخالفه واشتد الجدال، ورضي نصر أن يحكم بعض الوجهاء، ولم يتم ذلك.» ثم التفت خالد نحو أبي مسلم وقال: «والحارث المذكور يزعم أنه صاحب الرايات السود.»
فنظر أبو مسلم إليه نظرة استغراب، ثم تكلم الرسول قائلا: «ولكن نصرا لم يصدقه، فأرسل إليه يقول: «إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك أمية؛ فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر. فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك.» فأجابه الحارث: «قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني.» فقال نصر: «فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك، فاذكر الله في عشرين ألفا من ربيعة واليمن يهلكون فيما بينكم».»
فقطع أبو مسلم كلام محدثه وقال وهو يهز رأسه: «إنهم يخشون أصحاب الرايات السود، ويسيرونهم، ويرون بلاءهم فيهم، فهؤلاء لا يترددون في حكم، ولا يصبرون على ضيم، بل يقتلون كل من يشكون فيه.» وسكت.
فعاد الرجل إلى حديثه فقال: «ولم يكن ذلك ليثني الحارث عن عزمه.» فرأى نصر أن يضرب به الكرماني فقال له: «إن كنت تزعم ما تقول فابدأ بالكرماني، فإن قتلته فأنا في طاعتك.» فلم يفعل.
وبالاختصار، فإن الحارث تطاول على نصر حتى صاروا يقرءون سيرته في أسواق مرو، وفي المساجد يدعون الناس إلى بيعته، حتى قرءوها مرة على باب نصر نفسه، فهاج الناس والتحم الفريقان. وكانت معركة هائلة، فلم ير نصر إلا أن يستنجد بالكرماني، فبعث إليه فلم يجبه. وكانت معركة معقدة؛ كل منهم يحارب الآخرين، وانتهت بفرار نصر من مرو، وتغلب الكرماني عليها. فلما رآه الحارث قد فاز بعث إليه يطلب أن يكون الأمر شورى بينهماأ فلم يقبل الكرماني، فاقتتلا، فقتل الحارث وتفرقت قواته، وصارت قبائل اليمن كلها مع الكرماني، وقد انتصروا على المضرية؛ أصحاب نصر، فاستبدوا بهم، وانتقموا منهم، وهدموا منازلهم. وكان الحارث نفسه مضريا، فلما قتل قال فيه نصر:
يا مدخل الذل على قومه
بعدا وسحقا لك من هالك
شؤمك أردى مضرا كلها
وخر من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها
تطمع في عمر ولا مالك
ولا بنو سعد إذا ألجموا
كل طمر لونه حالك
فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن صاحب مرو. وأين نصر؟»
قال: «لم تطل إقامة الكرماني في مرو؛ لأن المضرية اشتد ساعدهم بمقتل الحارث، وانضم إليهم جماعة كبيرة من رجال الحارث، فعاد نصر إلى مرو وخرج الكرماني منها وعسكر خارجها.»
فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن محاصر مرو؟»
قال: «وليس وحده.»
فقال أبو مسلم: «ومن معه؟ أظنك تعني شيبان الحروري؟»
قال: «نعم يا مولاي، وليس شيبان بالشيء القليل؛ لأنه يرى رأي الخوارج، فهو مخالف لنصر؛ لأنه من عمال مروان، والخوارج لا يعترفون بخلافة مروان. وقد اتفق مع الكرماني على قتال نصر؛ لأن الكرماني يمني ونصر مضري - كما تعلمون - فاتفق الاثنان على نصر.»
فقطع خالد كلام الرجل وخاطب أبا مسلم بالفارسية بما معناه: «ولا يخفى عليك - أيها الأمير - أن هذين لا يكرهان دعوتنا؛ لأننا ندعو إلى خلع مروان أيضا.»
فأجابه أبو مسلم: «سأذيقهم طعم الحزم والعزم، وسأريهم كيف تؤكل الكتف.»
ثم التفت إلى الرسول وقال: «فالآن مرو محاصرة بجند الكرماني وشيبان؟»
قال: «نعم يا مولاي، وهما على وفاق.»
قال أبو مسلم: «وهل تعرف عدد رجالهما؟»
قال: «لا أعرف ذلك تماما، ولكنهم يزيدون على بضعة آلاف.»
فتحرك أبو مسلم في مجلسه كأنه يتحفز للنهوض، ففهم الرسول أنه يريد خروجه، فنهض وخرج.
الفصل التاسع عشر
الاستعداد
وظل أبو مسلم وخالد في خلوة، فقال أبو مسلم: «علينا أن نحارب هؤلاء جميعا: الكرماني، وشيبان، ونصر.»
فسكت خالد ولم يجب، فأدرك أبو مسلم غرضه فقال: «كأني بك تقول وكيف نحارب هؤلاء وليس معنا من الرجال أحد. تمهل وسترى كيف يأتيك الناس مئات وألوفا. كيف حال الطقس يا ترى؟» قال ذلك ونهض ليرى الجو، فمشي معه خالد إلى الباب، فأطلا على الحديقة، فرأى الشمس مشرقة وقد صفا الجو ، وأقبل الدفء، وأخذت المياه في الجفاف، فقال أبو مسلم: «نستطيع السفر الليلة إن شئنا.»
فقال خالد: «إذا رأى الأمير أن نبيت الليلة هنا ونرحل في الصباح كان ذلك أقرب إلى الصواب.»
قال: «لا بأس من ذلك، وأرى أن نبعث إلى كبار النقباء نخبرهم بعزمنا، ونشاورهم في أمرنا، وفي الخطة التي يجب أن نعمل بها قبل الإقبال على مرو؛ لأننا في حاجة إلى الرجال والأموال كما ذكرت، وإن كنت على يقين من نجدة كل دهاقين خراسان ومن يقول بقولهم. وهم ليسوا في خصام بينهم مثل خصام العرب اليمنية والمضرية، بل هم متفقون على النقمة على العرب كافة لما يسومونهم من الظلم والذل.»
فقال خالد: «رأيك هو الصواب. ألا ترى أن نكاتب الدهاقين ونستنجد بهم، ونبث الدعاة قبل نهوضنا من هنا؛ حتى إذا نهضنا إلى مرو لا يطول انتظارنا للنجدة، ثم تتوالى علينا النجدات، بإذن الله؟»
قال أبو مسلم: «سنكاتب الدهاقين ونبث الدعاة متى خرجنا من هذا المكان، وسننزل في أقرب القرى إلينا لنقيم فيها حينا لهذا الغرض، ثم نرحل إلى سفيذنج ننزل فيها ضيوفا على صاحبنا سليمان بن كثير ونكون تجاه مرو.»
فلما سمع خالد اسم ابن كثير تذكر ما في قلب أبي مسلم من هذا الرجل مع ما يظهره من احترام له؛ لأن ابن كثير كان يدعو لأهل البيت قبل ظهور أبي مسلم، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا، ونال مقاما رفيعا. فلما بعث إبراهيم الإمام أبا مسلم إلى خراسان وعهد برياسة الدعاة إليه لم يقبله سليمان بن كثير؛ لصغر سنه، وقد كبر عليه أن يكون تحت أمره. وكان في جملة الدعاة رجل اسمه أبو داود؛ أشار على الدعاة بقبول أبي مسلم رئيسا عليهم، وحاجهم بما لا محل له هنا، فقبلوه. وكان قد بلغ أبا مسلم ما قاله ابن كثير فيه، فأسرها في نفسه وعرف فضل أبي داود، فلما سمع خالد بن برمك أبا مسلم يذكر ابن كثير تذكر هذه الحادثة، ولكنه تجاهل وأسرع إلى الجواب لئلا ينتبه أبو مسلم لما جال في خاطره؛ لأنه كان دقيق الفراسة، فقال خالد: «حسنا رأيت أيها الأمير، فلنتأهب للمسير، وفي الغد نسافر إلى أقرب القرى إلينا؛ وهي (فنين) على ما أظن.»
قال: «نعم، هي بعينها؛ فابعث إلى النقباء أن يكونوا على أهبة الرحيل في غد، ولا بد لنا قبل الرحيل من وداع دهقاننا؛ لنوصيه بمخابرة أصدقائه من الدهاقين في مرو؛ ليمدوا لنا يد المساعدة بالمال أو الرجال. والله الموفق.»
فأشار خالد إشارة الاستحسان وخرج.
وأما جلنار فقد تركناها بعد خروج ريحانة من عندها وهي مضطربة البال، فقضت تلك الليلة قلقة، وكلما تصورت ذهاب الضحاك لمقابلة أبي مسلم وتقديم الهدية إليه يخفق قلبها، فلم تنم إلا قليلا، فأصبحت منحرفة الصحة لعظم ما قاسته من القلق والاضطراب في الأمس من قلة النوم، فظلت على فراشها تتناولها الأفكار المتضاربة، وتخشى أن يبكر والدها إليها ويخاطبها في شأن خطبة ابن الكرماني وهي تحب الاطلاع على ما يكنه قلب أبي مسلم أولا. فلما تراكمت عليها الأفكار شعرت بالحاجة إلى ريحانة واستبطأتها، فصبرت نفسها ومكثت في الفراش تارة تجعل اللحاف فوق رأسها للدفء أو الاستغراق في التفكير، وتارة يضيق صدرها فتزيحه إلى أسفل كتفها وتتنهد وهي تتوقع مجيء أحد ثلاثة: إما أن يأتي والدها بخبر الكرماني، أو تأتيها ريحانة وحدها تنبئها بإرسال الهدية، أو تأتيها بالضحاك بعد الفراغ من المهمة.
الفصل العشرون
الوساطة
قضت في ذلك عدة ساعات وإذا بريحانة تقرع الباب وتدخل، فلما رأتها جلنار جلست في الفراش وتفرست في وجهها تستطلع ما يتجلى فيه من الأنباء، فلما رأتها تبتسم انشرح صدرها، ولكنها لم تتمالك عن السؤال عما فعلته، فأجابت: «قد أرسلنا الهدية وهي جميلة و...»
قالت جلنار: «هل عاد الضحاك؟»
قالت: «كلا يا مولاتي لم يعد. ألا تريدين الطعام؟»
فقالت جلنار: «لا أشعر بحاجة إليه. دعينا من الأكل وأخبريني عما تتوقعينه من أمرنا.»
قالت: «خيرا، إن شاء الله، ولكن.» وسكتت.
فانشغل خاطر جلنار وقالت: «ولكن ماذا؟»
قالت: «جئتك بأمر من والدك.»
فتصاعد الدم إلى وجهها بغتة وتسارع خفقان قلبها وقالت: «وما هو هذا الأمر؟»
قالت: «لا بأس عليك يا سيدتي. لا تخافي؛ فإني لا أدخر وسعا في كل ما يرضيك ويريحك. أما مولاي الدهقان فقد استقدمني في هذا الصباح وأسر إلي أمرا أوصاني ألا أبوح به إليك، ولكنني سأخالفه في ذلك. كوني في راحة، وسأقص عليك الخبر كما كان: بعث إلي في ساعة مبكرة، فلما وقفت أمامه مد يده إلى خاتم كان أمامه ودفعه إلي. وهو هذا (وأرتها خاتما من الذهب فيه حجر من الفيروز) وقال: «هذا هدية لك.» فتناولته وقبلت يده، ثم ذكر لي مقدار حبه لك، ورغبته في هنائك، وسعيه في سعادتك، وأنه استغرب تمنعك في مسألة ابن الكرماني إلى أن قال: «إنه نظرا لما يعلمه من دالتي عليك، عهد إلي أن أقنعك بقبوله؛ لأن الكرماني أمير، وهو صاحب الأمر والنهي و... و... إلخ».»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وماذا قلت له؟»
قالت: «طاوعته في بادئ الأمر، وأبديت إعجابي برأيه - ولا يمكنني غير ذلك - حتى إذا آنس في الموافقة قلت له: ولكني لا أرى أن تعجل عليها في الذهاب إليه، فما لا يقضى اليوم إلا بالعنف والضغط قد يقضى غدا بالرضى والقبول، فأرى ألا تخاطب مولاتي الدهقانة في هذا الشأن إلا بعد بضعة أيام ريثما أكلمها وأقنعها. قلت له ذلك يا سيدتي لنرى ما يبدو من ضيفنا.» وضحكت تخفيفا لما في قلب جلنار، فابتسمت هذه والانقباض يغشى الابتسام، ولكنها استحسنت حيلة ريحانة. ثم قالت ريحانة: «وقد جاريت سيدي الدهقان في قوله حتى أجد سبيلا لخدمتك بقدر الإمكان، وإلا فإنه فاعل ما يريد، ولا يحتاج إلى أكثر من أن يأمر؛ فلو قال لك اذهبي الآن إلى الكرماني لا أظنك إلا ذاهبة.»
فقالت جلنار: «أذهب، ولكن.»
قالت: «تذهبين مكرهة، ولا يدفعك أدبك على مخالفة والدك، فضلا عن غضبه الذي ربما حمله على إجبارك بالقوة.»
فصمتت جلنار وظلت مطرقة، وأرادت أن تعود إلى السؤال عن الضحاك، ولكن الحياء منعها من تكرار السؤال في هذا الموضوع، ولم يفت ريحانة ذلك فوقفت وهي تقول: «هلم بنا إلى المائدة، ومتى تناولت الطعام ننظر ماذا يكون.»
فنهضت، وأخذت ريحانة في تبديل ثيابها وتطييبها وتصفيف شعرها وجلنار لا تنتبه، حتى أتتها بالمرآة وهي تقول: «انظري إلى هذا المحيا وقولي سبحان الخلاق.»
فحولت جلنار وجهها عن المرآة كأنها لا تريد أن ترى صورتها وقالت: «لا تخدعيني بهذا الإطراء يا ريحانة. لو كان في وجهي جمال لما كنت في هذا الشقاء.» وغصت بريقها.
فابتدرتها ريحانة قائلة: «لا تيأسي يا مولاتي. هدئي من روعك، وهلم بنا إلى تناول الطعام.» قالت ذلك وخرجتا معا، وجلنار تنظر نحو الرواق المؤدي إلى الحديقة لعلها تجد الضحاك عائدا، فسمعت ريحانة تقول لها: «إذا كلمك مولاي الدهقان في أمر الكرماني أو ابنه فلا تبدي تمنعا.»
فأشارت جلنار بهزة من رأسها أن نعم وهي لا تزال تنظر نحو الرواق. ومع كثرة من في تلك الدار من الخدم والجواري بين ذاهب وغاد لم تنتبه لأحد منهم؛ لاتجاه جوارحها جميعا نحو جبهة واحدة، فوصلت إلى غرفة الطعام ولم تر أحدا، فجلست إلى المائدة وعليها ألوان الأطعمة الباردة والساخنة، والفاكهة، فتناولت القليل منها وهي لا تتكلم، وكلما سمعت صوتا يشبه وقع أقدام الضحاك التفتت نحو الباب، وريحانة تلاحظ حركاتها وتتألم لقلقها، وتحاول عبثا أن تشغلها بالحديث، ثم تناولت تفاحة وقدمتها إليها وهي تقول: «ما أشبه لون هذه التفاحة بلون خديك.» ودفعتها إليها، فأخذت جلنار التفاحة وقضمت قطعة منها بغير انتباه، ثم سمعت نقرا على الباب فأصاخت بسمعها والقطعة في فمها، وقد أمسكت عن المضغ ووقفت لتفتح الباب، فسبقتها ريحانة إليه وفتحته، فسمعت جلنار ضحك الضحاك ولم تر وجهه، فاصطبغ وجهها بالاحمرار وكادت تشرق بريقها، ولكنها تجلدت وأخذت في مضغ التفاحة وهي تتشاغل بذلك عما كاد يغلب عليها من القلق، ونظرت إلى الضحاك وقد دخل وهو يتأدب في مشيته، فابتدرته ريحانة قائلة: «ما وراءك؟»
فضحك وتباله وتكتف ووقف، فانتهرته ريحانة قائلة: «لا تتباله. أخبرنا عاجلا بما فعلته.»
قال: «دعيني أضحك فإني مسرور.»
فأشرق وجه جلنار واستبشرت، ونظرت إليه وهي تبتسم ولسان حالها يقول: «أخبرنا بهذه البشرى.»
فالتفت إلى جلنار وقال: «أبشرك يا مولاتي أن عند صاحبنا الخراساني أضعاف ما عندك من.» وتنحنح.
فلم تتمالك جلنار من الضحك بغتة، ثم انتبهت لما في ذلك من الخفة فأمسكت نفسها، وقالت: «بارك الله فيك. لقد أتعبناك كثيرا، ونرجو أن نكافئك. قص علينا خبرك؟»
الفصل الحادي والعشرون
خدعة
قال وهو يلتفت يمينا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد: «ذهبت إلى أبي مسلم بالهدية فقبلها وكأنه كان على موعد من مجيئي بها، ولم يشأ أن يخاطبني في حضرة رفيقه ابن برمك، فأشار إليه فخرج، فلما خلوت به سألني عنك، وتلطف في السؤال عن حالك فكدت أطير من الفرح.»
فلما سمعت جلنار قوله تسارعت ضربات قلبها وكاد السرور يخرج بها عن حدود الحشمة، وكادت ترقص طربا لو لم تتذكر أنها أمام ذلك الخادم، فتجلدت ونظرت إلى ريحانة كأنها تقول لها استزيديه بيانا، فقالت ريحانة: «ماذا قال لك؟ هل لمست فيه ميلا إلى مولاتنا؟»
قال: «قلت إني رأيت عنده أضعاف ما عندها، وقد شهدت له بسلامة الذوق؛ لأنه قدر هذا الجمال حق قدره.» قال ذلك وهو ينظر إلى الأرض مطرقا من الحياء، فخجلت جلنار وقد غفرت له جرأته في سبيل ما جاءها به من البشرى، وظلت ساكتة، فقالت ريحانة: «دعنا من التلميح وقل صريحا ما الذي قال لك؟»
قال: «قال لي، قال لي. إني لا أذكر كلامه حرفيا، ولكني فهمت منه أن قلبه تعلق بمولاتي، وكان يخشى ألا يكون عندها مثل ما عنده؛ ولهذا السبب كان يظهر الإعراض في أثناء تلك الجلسة بالأمس، لكنه أوصاني وبالغ في التحذير في إظهار ذلك لمولاي الدهقان؛ لغرض في نفسه. وهو سر عميق أزهق روحي قبل إطلاعي عليه.»
فقالت ريحانة: «وما هو ذلك السر؟»
فوجم الضحاك وقطب وجهه كأنه ندم على ما فرط منه، وتراجع نحو الباب، فابتدرته ريحانة قائلة: «ما بالك تتراجع؟ لعلك ندمت على صدق خدمتك؟»
فوقف وتشاغل بإصلاح عمامته، وقد حول وجهه إلى جلنار وجعل ذراعه بين عينيه ووجه ريحانة ، وأشار إلى جلنار بجفنيه وعض على شفته السفلى، ففهمت جلنار أنه لا يريد أن يقول ذلك لريحانة، فابتدرتها قائلة: «دعيه. إني أريد أن أسأله ذلك سرا.»
فرجعت ريحانة إلى مقعدها وسكتت، وساد الصمت المكان لحظة، ثم أدركت ريحانة أن الظرف يستدعي خروجها فخرجت.
فلما خلت جلنار بالضحاك نظرت إلى وجهه مستفهمة، فدنا منها ثم التفت إلى الباب الذي خرجت منه ريحانة؛ ليتأكد من خروجها، وقال: «إني سأبوح لك بسر عاهدني أبو مسلم أن أنقله إليك، وطلب إلي أن تعاهديه على كتمانه عن كل إنسان، فهل تعديني بذلك؟»
فقالت وقد مدت عنقها نحوه: «نعم أعاهدك. قل.»
قال: «هو يحبك يا سيدتي كثيرا، ولكنه عاهد نفسه على ألا يقرب النساء ولا يعقد عقدا حتى يفرغ من مهمته، ويخرج من حربه فائزا بعد أن يهلك أعداءه. فهمت؟»
فأطرقت وهي تفكر فيما ينطوي عليه ذلك القول من مغزى، فلم تفهم مراده تماما فقالت: «أفصح يا رجل. قل كلمة أخرى.»
قال: «أنت تعلمين أن أبا مسلم قائم بهذه الدعوة، وأعداؤه كثيرون، وأكبرهم ابن الكرماني ونصر بن سيار، ولا يضمن الفوز إلا بعد قتلهما. وقد أخبرته أن الكرماني خطبك لابنه فسر وابتهج.» قال ذلك وتشاغل بحك ذقنه وضحك.
فأطرقت وأعملت فكرتها، وقد دهشت لذلك التناقض: كيف أن أبا مسلم يحبها، وكيف أنه سر بخطبتها لابن الكرماني؟ فرفعت بصرها إلى الضحاك وفي عينيها ما يشير إلى التساؤل، فضلا عن مظاهر الاضطراب، ففهم سبب دهشتها فقال: «لم يسره أن تكوني للكرماني، بل سره أنك ذاهبة إليه وأنت تريدين أبا مسلم، وتتمنين أن ينتصر على أعدائه.»
فأدركت جلنار أن أبا مسلم يرجو منها أن تساعده على تحقيق غرضه وهي عند الكرماني، ولا يكون ذلك إلا بمساعدته على قتله وقتل ابن سيار، فأكبرت الطلب؛ لأنه لا يتم لها إلا بخيانة الكرماني بعد أن تصير زوجته، فضلا عن الإقدام على القتل، وهي لم تتعوده، فوجمت ولبثت صامتة وقد حارت في أمرها، وأعظمت أن تصرح للضحاك بما فهمته من كلامه، وأصبحت بين عاملين قويين: أحدهما يدفعها إلى مرضاة حبيبها بأية وسيلة كانت، والآخر يمنعها من الاشتراك في قتل رجل سيعد نفسه زوجها، ولا تستطيع الاشتراك في قتله إلا وهي في بيته، فشعرت للحال بأنها في شدة وقلق لا تنجو منهما إلا باعتزام أحد الأمرين: إما أن تقبل الكرماني على أمل أن تنال أبا مسلم بالاشتراك في قتله، أو تأبى ذلك الرأي فتخسر أبا مسلم.
قضت مدة وهي تتردد في الحكم بين الوجهين، فأتعبها التردد، وأحست بصداع شديد، وضاق صدرها، فلم تصبر عن الوقوف بغتة والضحاك يرقب حركاتها، ويتوقع أن يسمع منها جوابا، فلما رآها تقف علم أنها في حيرة شديدة فقال لها: «لا تتعجلي في الحكم يا سيدتي. تمهلي في التفكير؛ فإن الطلب شاق. وعلى كل حال، لا سبيل إلى أبي مسلم إلا بما ذكرته لك؛ لأن الرجل شديد التمسك بعزمه، ولا يرى العدول عنه إلى سواه.»
فأرادت أن تستزيده إيضاحا فقالت: «لم أفهم المراد تماما. لماذا لا تعيد علي قوله حرفيا؟!»
قال: «لو أردت ذلك لطال بي المقام، غير أني أقول لك ما قد فهمته منه إجمالا؛ هو يحبك، ولكنه عاهد نفسه ألا يكتب كتابا إلا بعد الفراغ من حربه وهو فائز، ولكنه لا يرجو الفوز إلا بالتغلب على هذه الرجلين. وقد يمكن التغلب عليهما بدون قتلهما، وقد لا يكون إلا بقتلهما، فإذا كنت أنت عند أحدهما كنت عونا له على ذلك إذا أردت، وإلا فالرأي لك. فكري في الأمر على مهل.»
فأحست جلنار بعجزها عن اتخاذ قرار على الفور، ورأت تأجيله ريثما تحدث ريحانة في شأنه، رغم ما وعدت به من كتمانه عنها. والإنسان إذا أعجزه الحكم في مسألة أحس بميل شديد إلى مكاشفة بعض أخصائه بها، ولا عبرة بما وعد على الكتمان. وقد يكون الإلحاح عليه في كتمان السر من بواعث ترغيبه في إفشائه، وخصوصا النساء؛ فإنهن أقل صبرا على حفظ الأسرار من الرجال بما فطرن عليه من ضعف المزاج، ولا سيما فيما يتعلق بالحب وبأسبابه. ويغلب أن يكون إفشاؤهن للسر على سبيل المسارة، فإذا عهدت إلى إحداهن بسر وأوصيتها بكتمانه، فإنها تخبر به صاحبتها سرا، وهذه تنقله بالمسارة إلى صاحبة أخرى. ولا نبرئ الرجال من مثل ذلك، وإن كانوا أصبر على الكتمان منهن، وقد قالوا: «كل سر جاوز الاثنين شاع.» والحقيقة «أن كل سر جاوز الشفتين شاع.» يقال ذلك في الأسرار على العموم، بغض النظر عن مصلحة أصحابها في إفشائها. وقد يعذر من يفشي سرا من أسراره التماسا للمشورة بعد أن يضيق صدره، ويعجز عن الحكم فيه، كما أصاب عروس هذه الرواية، فإنها اتخذت ريحانة خزانة لأسرارها منذ أعوام، وهي شديدة الثقة بإخلاصها وتعقلها، فلا لوم عليها إذا كاشفتها بما أضجرها من أمر أبي مسلم في طلبه، كما نقله إليها الضحاك.
الفصل الثاني والعشرون
الوداع
فلما ضاقت ذرعا عن أن تقطع الأمر برأي أشارت إلى الضحاك بالانصراف، ومضت إلى غرفتها لتخلو بنفسها؛ لعلها تهتدي إلى حل تلك المشكلة، فأغلقت بابها واستلقت على الفراش وقد استغرقت في الهواجس، فقضت في ذلك ساعة وهي تطوف في عالم الخيال، ثم تعود إلى حيث بدأت حتى ضاق صدرها، فأحست بحاجتها إلى ريحانة وصارت تتوقع مجيئها على مثل الجمر، ثم غلب عليها التعب والقلق وهي مستلقية على الفراش فأحست بالنعاس وشعرت بالبرد، فالتفت باللحاف ونامت، واستغرقت في النوم وقد تركت الباب مغلقا ولم توصده، فجاءت ريحانة لتتفقدها فرأتها نائمة فتركتها ومضت وهي أكثر قلقا منها لاستطلاع ما أسره إليها الضحاك. وكانت على يقين من أن سيدتها لا تكتم عنها شيئا.
وظلت نائمة حتى استيقظت على ضوضاء الخدم عند الغروب، ففتحت عينيها وهي تحسب نفسها في الصباح، فنهضت فرأت ريحانة جالسة بجانب فراشها، فمسحت عينيها وتلفتت حولها فانتبهت إلى الوقت ساعة الغروب، فلما رأت ريحانة قالت لها: «لقد أبطأت وغلب علي النوم.»
قالت: «تخلفت عنك لتستوعبي سرك، ثم جئت فرأيتك نائمة.»
فقالت جلنار: «ما هذه الضوضاء التي أسمعها؟»
قالت ريحانة: «إن الضيوف في القاعة مع مولاى الدهقان، والخدم في خدمتهم.»
فلما سمعت ذلك أجفلت وأحست بميل شديد إلى رؤية أبي مسلم، وأدركت ريحانة غرضها فقالت: «إن مولاي الدهقان سألني عنك، فأخبرته أنك نائمة، فهل تريدين الذهاب إلى القاعة؟»
قالت: «وماذا يفعلون هناك؟»
قالت ريحانة: «أظنهم جاءوا للوداع، وهم على أهبة السفر في صباح الغد.»
فوقفت ودنت من المرآة المعلقة بالحائط لتصلح من شأنها، ولم تصبر على ريحانة لتصلحها، فأسرعت هذه إلى المشط فسرحت شعرها وضفرته، وأتتها بزجاجة الطيب فتطيبت، ولبست ثوبا سماوي اللون، والتفت بشال موشى بالحرير وهي تضطرب من التأثر، وترتعد رعدة الحب، وتتظاهر بأنها إنما ترتعد من البرد، فجاءتها ريحانة بمطرف من الخز التفت به فغطى معظم ثيابها.
ومشت ريحانة بين يديها حتى دخلت القاعة من بابها السري وتنحت ريحانة، وأشرفت جلنار على الجلوس بحيث تراهم ولا يرونها، فرأت والدها جالسا على وسادة في صدر القاعة وبين يديه محجن فيه مسك، وهو يتشاغل بتفتيت المسك بين أنامله، وقد فاحت رائحته حتى تضوع المكان بها، ورأت أبا مسلم جالسا وقد بدل ثياب السفر التي رأته بها بالأمس، فجعل على رأسه قلنسوة من خز أسود، وفوق ملابسه قباء أسود، فتذكرت ما سمعته عن الشعار الأسود الخاص بأصحاب هذه الدعوة، ورأت خالدا بجانب أبي مسلم بمثل لباسه، وقد جلسا على وسادتين مثنيتين دلالة على علو منزلتهما عند صاحب الضيافة، فوقفت هنيهة وهي لا تمتلك نفسها من الرعدة، فانتبه لها والدها، فناداها وأشار إليها أن تجلس إلى بعض الأساطين، فجلست ولم تتكلم، ولكنها كانت متوجهة بكل جوارحها نحو أبي مسلم لترى ما يبدو منه بعد ما سمعته عنه، فلحظت منه التفاتا لم تعهده من قبل، فانشرح صدرها. وكانوا قد أخذوا بأطراف الحديث قبل وصولها، فخاطبهم والدها بالفارسية قائلا: «أراكم مسرعين في الرحيل عنا! لعلكم لم ترتاحوا إلى ضيافتنا!»
فقال أبو مسلم: «كلا يا حضرة الدهقان، بل نحن لا ننسى حسن وفادتكم، ونتمنى أن يكون سائر الدهاقين مثلكم.»
قال: «لا ريب عندي أنكم ستلاقون من إخواننا الدهاقين كل رعاية، وسيكونون عونا لكم في هذه الدعوة؛ لأنكم إنما تدعون إلى نصرتهم، بل أنتم تسعون في إنشاء دولة سيكون لآل خراسان نفوذ عظيم فيها، فننسى تحكم العرب في شئوننا، واستئثارهم بالأموال دوننا؛ فقد كنا قبلهم - في أوائل دولتهم - نحن أهل السطوة وأصحاب الحكومة، فما زالوا ينازعوننا عليها حتى كادوا يحكمون فينا، ولا يمر يوم لا يأتوننا فيه بضريبة.»
فقال أبو مسلم: «وأظن هذا هو السبب في بقاء معظم الدهاقين على الزردشتية أو المجوسية.»
قال الدهقان: «نعم هذا هو السبب، وأنا أعرف جماعة من هؤلاء لولا ظلم هذه الدولة واستبدادها لاعتنقوا الإسلام، على أن بعضهم هم بالإسلام ثم عدل عنه. ولا ريب عندي أنهم إذا آنسوا من حكامهم رفقا فلن يتخلف أحد منهم عن الإسلام، وأنا أضمن ذلك إذا شئتم.»
قال خالد: «يكفينا من حضرة الدهقان أن يبعث بعض أتباعه إلى من والاه من الدهاقين داعيا لأن يحسنوا الظن بدعوتنا.»
الفصل الثالث والعشرون
الدهاء المتبادل
وكان أبو مسلم في أثناء كلام خالد ينظر إلى جلنار من طرف خفي وهي تسارقه النظر، وقد كاد قلبها يطير فرحا حين رأته يبتسم لها، وأصبحت لا تبالي بما قد يحول بينها وبينه من المشاق، واستغربت ترددها في أمره في أثناء النهار. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الإنسان إذا هاجت عواطفه أصابه ضرب من الجنون لا يقدر معه عاقبة ولا يخاف خطرا. والحب سلطان مستبد إذا لم يعترضه العقل ساق صاحبه إلى أكبر الكبائر وهو لا يدري. فكم من أديب عاقل تغافل عقله في ساعة تغلبت فيها عواطفه، فارتكب أمرا جر عليه الخراب أو العار أبد الدهر! وقد كان في حل من ذلك لو استطاع أن يقاوم عواطفه ساعة أو بعض الساعة. ولو أعملت الفكرة في أكثر الجرائم التي يرتكبها البشر، ويشقون بسببها؛ لرأيتها إنما حدثت في مثل تلك الغفلة. فلا غرو إذا هان على جلنار ركوب ذلك المركب الخشن في سبيل إرضاء حبيبها. ولم يدفعها إلى التفاني في ذلك إلا ابتسامة خرقت أحشاءها، وأضاعت رشدها، وهي مع ذلك تتجلد وتتظاهر بخلو الذهن؛ مخافة أن يبدو ذلك لأحد من الحاضرين.
أما أبو مسلم فلما سمع كلام خالد قال: «نعم، يكفينا أن يحسن الدهاقين الظن في دعوتنا. وإذا رضي هؤلاء هان كل عسير، ولم يعد يهمنا جند العرب ولو كثروا، فإن دولتهم آخذة في الزوال.»
فتذكر الدهقان أن هذا التعميم يشمل جند الكرماني؛ لأن جنده من العرب، ولكنهم من عرب اليمن خلافا لجند نصر بن سيار؛ فإنهم من المضرية، فقال: «أظنك تعني عرب مضر؛ لأن عرب اليمن مخالفون لبني أمية.»
فأدرك أبو مسلم أنه يعرض بالكرماني، وتذكر ما سمعه من الضحاك عن خطبة الكرماني لجلنار، فقال: «إن اليمنية ينصرون دعوتنا، ويدعون لإبراهيم الإمام، فهم أعواننا ونحن أعوانهم، وأما إذا وقفوا في سبيلنا ودعوا لأنفسهم أو لرجل آخر، فهم أعداؤنا والسيف بيننا وبينهم.»
فاختلج قلب جلنار لهذا التصريح، وتذكرت شأنها في ذلك فامتقع لونها، فبالغت بالالتفاف بالشال، وتشاغلت بإصلاح المطرف حول منكبيها، وتنحنحت وهي تتظاهر بسعال داهمها، فأدرك أبو مسلم أنها تخاطبه، فتبسم وتشاغل بحك ذقنه، ثم قال وهو يوجه خطابه إلى الدهقان: «إذا أصبحت مرو فريسة بيننا وبين الكرماني، أو بيننا وبين شيبان، فهي للفائز منا بعد التنازع عليها.»
وكان الدهقان منذ سمع قول أبي مسلم الأول بشأن عرب اليمن يفكر في مصير ابنته إذا تزوجها ابن الكرماني، وهو يعتقد أن الكرماني أقوى وأمنع من أبي مسلم؛ لكثرة جنده واستعداده - وأبو مسلم لم يجتمع عنده من الجند أحد بعد - فعول على أن يمسك الحبل من الطرفين، فإذا انتصر الكرماني كانت ابنته عنده، ونال بالمصاهرة غرضه، وإذا غلب أبو مسلم اطمأن على حياته وأمواله بما أبداه من مسايرته. ولم يكن عازما على نصرته حقيقة، وإنما وعده بالمساعدة خداعا، فقال: «نعم، إن الكرماني مثلنا من حيث مقاومته لبني أمية، ورجاله من القبائل اليمنية، وهم أعداء عرب مضر؛ أنصار بني أمية، ولكن الكرماني عربي الأصل، وإن كان اسمه يوهم غير ذلك، فنخشى إذا فاز ألا يكون لنا في دولته مصلحة. وأما أنتم، فإنكم منا ونحن منكم، ودولتكم دولتنا. نعم ، إن الدعوة باسم خليفة عربي، ولكنه سيكون نصيرنا؛ لأننا نصرناه في دعوته. وزد على ذلك أنه أوصى بإبادة العرب من خراسان على ما سمعناه من وصيته التي بعث بها إليك.»
فلما سمعت جلنار كلام والدها استبشرت، وخيل لها أنه غير رأيه في الكرماني، واختلج قلبها فرحا، وظهر ذلك في وجهها. ولو دخلت في الحديث معهم لما خفي حالها على أبي مسلم، ولكنها كانت صامتة منزوية لا تجرؤ على الكلام؛ لئلا يبدو شيء من عواطفها فيفتضح أمرها عند والدها، فيفسد عليها تدبيرها.
وأما أبو مسلم فلم ينخدع بأقوال الدهقان كل الانخداع؛ لأنه كان أكثر دهاء منه، وهو يسيء الظن بأقرب الناس إليه، ولا يأمن أحدا على أمره، ولا يسلم سره إلى أحد، بل كان يضمر السوء لكل إنسان إذا لم ينفعه أو يؤيده، فكان يقيس الناس على ما يعلمه في نفسه. والناس مفطورون على حب الذات قلما يعملون عملا إلا وينظرون من ورائه إلى مصلحتهم الخاصة، وإن تظاهروا بغير ذلك، فلا يتحمس أحد لنصرة الوطنية إلا إذا توقع منها نفعا لنفسه، ولا ينصر الحكومة الملكية المطلقة إلا لمصلحته، ولا يسعى في قيام الجمهورية إلا لما يرجوه من المصلحة فيها.
فالإنسان لا يعمل عملا كبيرا ولا صغيرا إلا إذا توقع الانتفاع به عاجلا أو آجلا، حتى الصلاة والعبادة وكل عمل أدبي أو مادي، وإذا أنكر أحد ذلك فإنه يخدع نفسه أو أهله، أو أنه من العامة الذين يساقون سوق الأغنام في آرائهم ومذاهبهم، وإنما كلامنا عن خاصة الناس؛ قادة الفكر؛ لأن الناس من هذا القبيل فئتان: فئة قائدة، وفئة تابعة؛ والفئة الأولى هم خيرة الأنام، وأهل العقل، وأصحاب المطامع، فهؤلاء لا يقدمون على عمل إلا وهم يرجون منه النفع لأنفسهم، ولكنهم يختلفون في حدود مطامعهم؛ ففيهم من يريد النفع لنفسه ويأبى الضرر لسواه؛ وهم أهل الخير، وفئة لا يهمهم إلا الوصول إلى غرضهم ولو تخطوا إليها على جثث الناس، وفيهم من لا يبالي أن يتخطى إلى غرضه على جثث أقرب الناس إليه ، وقد يضحي بأصدقائه، وخاصة أهله في هذا السبيل.
وأمثال هؤلاء كثيرون في تلك العصور، وأكثرهم يعدون من عظماء الرجال، ومنهم أبو مسلم الخراساني هذا؛ فقد كان واسع المطامع، كبير النفس، متصلب القلب، لا يهمه إلا بلوغ غايته؛ وهي الفوز في دعوته، فإذا اعترضه ظل أخيه قتل أخاه، ولو توهم الخوف من أصدق أصدقائه بادر إلى قتله؛ عملا بنص الوصية التي أوصاه بها الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فمن كان هذا شأنه لا يحسن الظن بأحد.
فلما سمع مواعيد الدهقان تظاهر بأنه يصدقه تشجيعا له على الثبات فى قوله، وهو في الواقع لا يؤمن بصدقه، ولا سيما بعد أن علم بخطبة ابن الكرماني لجلنار؛ فكيف يزوج ابنته من رجل يثق في قرب هزيمته؟ ولم يكن أبو مسلم يجهل حقيقة حاله يومئذ، وليس عنده من الرجال إلا القليل. فلما تصور ذلك هب من مقعده كأنه انتبه لشيء نسيه، ووقف فوقف الجميع، فقال أبو مسلم للدهقان: «أستودعك الله؛ فإننا نبيت الليلة على أن نرحل في فجر الغد وأنتم نيام. فلا تنس وعودك؛ فإننا نحارب في سبيل إخواننا الخراسانيين وسائر رجال فارس.»
فقال: «كن مطمئنا. إنني سأبذلك أقصى الجهد في جمع كلمة الدهاقين على نصرتكم.»
فقال خالد: «إذا فعلت ذلك فإنك فاعله لخيرك وخير أهلك.» وقبل أن يتحول أبو مسلم من القاعة التفت إلى جلنار - وكانت ترقب كل حركة من حركاته، وتصغي لكل كلمة من أقواله - فلما وقع نظرها على نظره توهمت أنه ابتسم لها، وأنه وعدها باللقاء القريب؛ اعتمادا على رسالته إليها عن طريق الضحاك، فزاد هيامها به، وأحست وهو خارج كأنه انخلع قلبها، ولكنها عللت نفسها بما سمعته من والدها من تحقير أمر الكرماني، وإعظام أمر أبي مسلم، وحدثتها نفسها أن والدها قد غير رأيه في خطيبها.
الفصل الرابع والعشرون
حقيقة الموقف
وخرج أبو مسلم وخالد، والغلمان بالشموع بين أيديهما، حتى بلغا البيت المخصص لهما، وظلت جلنار في مكانها تنتظر الخلوة بوالدها لعله يبدي ما يطمئنها. فلما عاد من وداع الرجلين ورآها ابتسم لها، ودنا منها حتى جعل يمناه على كتفها وهو يتبع أبا مسلم بنظره ويقول: «طالما قلتم ولم تفعلوا.»
فلم يعجبها قوله؛ لأنه يدل على إنكاره أمر أبي مسلم، فتجاهلت وقالت: «ومن هؤلاء يا أبي؟»
قال: «هؤلاء أهل بيت النبي، فإنهم ما زالوا منذ تولى بنو أمية زمام الملك وهم يبثون الدعاة ويدعون الناس إلى أنفسهم، فيأتينا هؤلاء - كما أتانا أبو مسلم اليوم - فنحسن وفادتهم، وندفع إليهم المال، وننصرهم جهدنا، ثم لا نلبث أن نسمع بذهاب دعوتهم، وأن الأمويين قتلوا صاحب الدعوة أو صلبوه، فيقوم سواه وهكذا. وكانت الدعوة قبلا لأبناء بنت النبي، وأما اليوم فإنهم يدعون لأبناء عمه. ولا ريب عندي أن هذه الدعوة ساقطة لسببين مهمين؛ الأول: لأن نقل هذه الدعوة من آل أبي طالب إلى آل العباس يثير غضب الطالبيين كافة؛ وهم أصحاب هذه الدعوة، وأهل خراسان لا يعرفونها لسواهم، والسبب الثاني: أن هذا الغلام مغرور بنفسه؛ يريد أن يحارب هذه الدولة بسبعين رجلا أو مائة رجل.»
وكانت جلنار ترهف السمع لكلام والدها وتدهش له - ولو انتبه وهو واضع يده على كتفها لشعر بقشعريرة اعترتها عند سماع قوله - وخشيت أن يدرك ذلك منها، فتظاهرت بإصلاح شعرها، وتخلصت من يده وتجلدت وقالت: «سمعتك تطريه وتعده بالمساعدة وتؤمله بالنصر.»
قال وهو يضحك: «وما الذي خسرته؟! أليس ذلك أفضل من أن أعاديه أو أعترض على رأيه، وهو كما علمت شديد الوطأة لا يبالي بالعواقب، وإذا عادانا لا نكون في مأمن من أذاه. وزيدي على ذلك أني لا أقطع بفشل هذه الدعوة؛ إذ لا آمن أن ينقلب الأمر إلى عكس ما أراه، فيكون لنا عند أبي مسلم شفاعة؛ لاعتقاده بأننا على دعوته، وإذا كانت الغلبة للكرماني كنت لنا شفيعا عنده.» قال ذلك وتشاغل هنيهة بالسعال وتنحنح، ثم أتم كلامه قائلا: «أما نصر ابن سيار فإنه مغلوب في كل حال؛ لأن سلطان بني أمية ذاهب لا محالة، وستنقسم مملكتهم الواسعة إلى دول صغيرة يملكها أمراء مستقلون، كما حدث لمملكة الفرس بعد الإسكندر ؛ إذ ملكها ملوك الطوائف. وفي اعتقادي أن خراسان ستكون إحدى تلك الممالك، وسيملكها الكرماني، كما قلت لك غير مرة. والعاقل من اغتنم الفرص.» وكأنه تذكر وصية ريحانة ألا يلح على ابنته في شأن ابن الكرماني، وأن يترك أمره إليها فقال: «هلم بنا إلى المائدة؛ فقد حان وقت العشاء.»
قال ذلك ومشى وهو يجر مطرفه ويخطر في مشيته، والخدم يقفون له إذا مر بهم، وجلنار تسير في أثره، حتى وصلا غرفة المائدة، وقد أعد فيها الطعام على خوان فوق البساط وعليه أصناف الطعام والشراب والفاكهة. وكان الدهاقين أهل ترف وتأنق شأن أهل الثروة والنفوذ في تلك العصور. وكانت جلنار لا تتكلم في أثناء الطعام، وإنما تتلهى به عن غير قابلية، وأفكارها تائهة في أبي مسلم وهي تتصوره خارجا من القاعة وعليه تلك الحلة السوداء، بعد أن نظر إليها النظرة الأخيرة، فلما تذكرت أنه ذاهب في الفجر ولن تراه إلا إذا قدر لها لقاؤه - وهي تحسب ذلك بعيدا صعبا - وقفت اللقمة في حلقها، ودمعت عيناها رغم إرادتها، فأشارت إلى أحد الغلمان الواقفين للخدمة بالماء، فجاءها بكأس من الفضة فيه ماء، فشربت وهي تتظاهر بأن عينيها دمعتا من الغصة، وودت الفراغ من الطعام والذهاب إلى غرفتها للاجتماع بريحانة؛ كي تبث لها شكواها، وتتداول في أمرها. ولم تكن ريحانة تأكل معهما على مائدة واحدة، فتظاهرت جلنار بأنها تألمت من تلك الغصة وانزعجت، والتمست الذهاب إلى فراشها قبل الفراغ من المائدة؛ لأن التأنق يدعو إلى المطاولة في الطعام والشراب، فأذن لها، فأسرعت إلى غرفتها، فوجدت ريحانة في انتظارها هناك، فجلستا للمداولة.
الفصل الخامس والعشرون
الرحيل وإظهار الدعوة
فلنتركهما في حديثهما؛ لأنه يطول، ولنعد إلى ما كان من أمر أبي مسلم بعد خروجه من حضرة الدهقان، فإنه استقدم كبار النقباء إليه؛ وهم اثنا عشر كان محمد بن علي؛ والد إبراهيم الإمام، قد اختارهم في أول الدعوة نحو سنة 100ه، قبل ظهور أبي مسلم وتوليته عليهم، وأكثرهم عرب يمانية، وكلهم من خيرة القواد، من جملتهم سليمان بن كثير - وكان يومئذ في سفيذنج، كما تقدم - ومنهم أبو الحكم عيسى بن أعين، وهو في (فنين)، التي هم سائرون إليها. وكان في جملة الذين حضروا ذلك الاجتماع قحطبة بن شبيب الطائي، ولاهز بن قريظ التميمي، وأبو داود؛ الذي تقدم ذكره، ونصر بن صبيح التميمي، وشريك بن غضبى التميمي، وعبد الرحمن بن سليم.
1
وكان من جملة رجال تلك الدعوة من الفرس خالد بن برمك وأبو عون الخراساني. وكانا بين الحضور في تلك الليلة، فتناولوا العشاء مما أعده خدم الدهقان كالعادة. فلما فرغوا من الطعام قال لهم أبو مسلم: «اعلموا أننا ناهضون في صباح الغد إلى (فنين)؛ إذ ننزل فيها على أخينا أبي الحكم عيسى بن أعين النقيب، وهناك ننظر في توجيه القواد إلى الشيعة في الأطراف، فتأهبوا للنهوض باكرا، ومروا رجالكم بإعداد الأحمال اللازمة، حتى نقوم من هنا في الفجر ونصل (فنين) في الضحى.»
فتحدثوا في ذلك مليا ثم نهضوا إلى خيامهم، وأصبحوا في الفجر وقد تأهبوا للرحيل. وكانت مياه المطر قد جفت واعتدل الطقس، ولكنهم لم يستغنوا عن الالتفاف بالعباءات والفرو دفعا للبرد.
وصلوا (فنين) في الضحى وقد أشرقت الشمس فأرسلت الدفء في الحياة، فنزلوا هناك على عيسى بن أعين فنصبوا الخيام للرجال، ونزل أبو مسلم وخاصته الذين ذكرناهم في بيت عيسى المذكور في شعبان سنة 129ه. وعند وصولهم عقدوا جلسة اتفقوا فيها على إنفاذ النقباء إلى الأطراف؛ لإظهار الدعوة وجمع الرجال للحرب.
وكانت تلك الجلسة في قاعة كبيرة غصت بأصحاب اللحى من الشيوخ، وكلهم ينقادون لرأي أبي مسلم - وهو شاب كأحد أولادهم - ولكنهم كانوا لا يرون مفرا من الامتثال لأمر الإمام؛ لأنهم إنما قاموا يدعون له، ويؤمنون بصدقه، ويعملون برأيه. فلما اجتمعوا وتداولوا، أخذ أبو مسلم في توجيههم، فوجه أبا داود النقيب ومعه عمر بن أعين؛ أخو عيسى، إلى طخارستان فما دون بلخ، ووجه نصر بن صبيح وشريك بن غضبى التميميين إلى مرو الروذ (غير مرو المحاصرة) ووجه عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان ، ووجه الجهم بن عطية إلى خوارزم، وأرسل غيرهم أيضا، وأوصاهم جميعا أن يظهروا الدعوة في رمضان لخمس بقين منه، إلا إذا أعجلهم عدوهم قبل ذلك بالأذى والمكروه، فعندئذ يحل لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويجردوا السيوف، ويجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت، وأوصاهم بالصبر والثبات، فنهضوا.
وظل أبو مسلم في (فنين) إلى أول رمضان، ثم نهض بمن بقي من رجاله حتى نزل سفيذنج في اليوم الثاني من رمضان، وفيها سليمان بن كثير الخزاعي؛ المتقدم ذكره، فأشرفوا على مرو عن بعد؛ لأنها في سهل واسع مستو محاط بالجبال حتى لا يرى المقيم فيها جبلا،
2
وليس في شيء من حدودها جبل، وأرضها سبخة كثيرة الرمال.
فلما نزل أبو مسلم سفيذنج استقبله سليمان بن كثير ورحب به وبرفاقه، وأنزله هو وخالدا عنده. ونزل الباقون في الخيام، ولبثوا ينتظرون اليوم المعين لإظهار الدعوة يوم 26 رمضان؛ أي لخمس بقين منه، وهو اليوم الذي أمر قواده بإظهارها فيه. «فدعا أبو مسلم الدعاة، وبث جماعة منهم في القرية المجاورة يدعون إلى إبراهيم الإمام تحت ظل أبي مسلم الخراساني. فجاءهم في ليلة واحدة أهل ستين قرية.»
وفي اليوم الثاني من وصوله هناك، وقف هو وسليمان وخالد في مكان يشرفون منه على مرو وما حولها، فرءوها محاطة بسور من طين، وفي وسطها بناء هائل هو قهندزها؛ أي قلعتها، وهي في الكبر مثل مدينة عالية يراها القادم عن بعد، فقال أبو مسلم: «إني لأستغرب أمر هذا القهندز؛ لضخامته وكبره وعلوه.»
فقال سليمان: «وأغرب من ذلك أنهم ساقوا إليه الماء من النهر بقناة على قناطر، وقد دخلته مرة فرأيتهم قد زرعوا على سطحه البطيخ والبقل وغير ذلك، فإذا مشيت هناك توهمت أنك في بستان على قمة جبل.»
ورأى أبو مسلم خياما خارج السور برايات مختلفة الألوان والأشكال، فتذكر ما سمعه من صاحب خبره عن الكرماني وشيبان، فقال لسليمان: «هذان المعسكران للكرماني وشيبان؟»
قال: «نعم، وهما يحاربان نصر بن سيار، ورجالهما كثيرون في المعسكرين.»
فقال أبو مسلم: «كأنك تخشى من قلة عددنا. سترى أننا كثيرون بإذن الله. ألا ترى أن نبث دعاتنا في هذه القرى حول مرو؟»
قال: «تفعل حسنا أيها الأمير؛ لأن أهل هذه القرى ملوا اعتداء العرب على ما يزرعون، وهم لا يفرقون بين اليمنية والمضرية، وإنما يعرفون أن العرب يظلمونهم، وأن الفرس خير منهم، فإذا بثثنا الدعاة على هذه الصورة استجابوا لدعوتنا.»
فدعا أبو مسلم الدعاة وبث منهم في القرى المجاورة يدعون إلى إبراهيم الإمام تحت ظل أبي مسلم الخراساني، فجاءهم في ليلة واحدة أهل ستين قرية،
3
وظلوا على نحو ذلك إلى ميعاد إظهار الدعوة. وكان أبو مسلم يقبلهم سرا ثم يردهم إلى قراهم إلى أن يحين وقت إظهار الدعوة، فيدعوهم إليه بنيران يوقدها إشارة لهم بالقدوم.
وفي ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من سنة 129ه، احتفل أبو مسلم بذلك احتفالا رسميا، فجمع كبار الدعاة في ساحة من ساحات سفيذنج. وكان أول علامات الإظهار أنه عقد اللواء الذي جاءه من عند الإمام، واسمه «الظل»، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وغرسه أمام المنزل الذي يقيم فيه، وجاء برمح آخر طوله 13 ذراعا عقد عليه الراية التي سماها السحاب. فعل ذلك في مشهد موقر حضره النقباء وهو يتلو:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير .
ولما فرغ من تلاوة الآية التفت إلى النقباء وقال: «أتعلمون لماذا سمى مولانا الإمام هذه الراية السحاب؟»
قالوا: «لا.»
قال: «إشارة إلى أن السحاب يطبق الأرض. وهل تعلمون لماذا سمى هذا اللواء بالظل؟»
قالوا: «لا.»
قال: «لأن الأرض لا تخلو من الظل، وكذلك الأرض لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.»
ثم جاءوا بالملابس السوداء - ويسمونها السواد - فلبسوها رسميا، وأول من لبسها أبو مسلم، وسليمان بن كثير، وإخوة سليمان ومواليه، ومن كان قد أجاب الدعوة من أهل سفيذنج وسائر الدعاة، ثم أوقدوا النيران على حسب الاتفاق مع الشيعة الذين بايعوا، فتجمعوا إليه حين أصبحوا. وكان أول من قدم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان، ومن أهل هرمزفره جماعة. وقدم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن القاسم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل، وستة عشر فارسا، فيهم من الدعاة أبو العباس المروزي، فجعل أهل التقادم يكبرون من ناحيتهم، ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير، فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين، وحصن أبو مسلم حصن سفيذنج ورمه، وسد دروب المحلة.
الفصل السادس والعشرون
أين المحب من الخلي
فلما كان عيد الفطر، أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرا بالمعسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة. وكان بنو أمية يبدءون بالخطبة قبل الصلاة وبالآذان وبالإقامة. وأمر أبو مسلم أيضا سليمان بن كثير بست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع في السادسة، ويفتح الخطبة بالتكبير ثم يختمها بالقرآن. وكان بنو أمية يكبرون في الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات. فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام أعد لهم.
1
وكانت المائدة التي أعدها سليمان في فسطاط كبير بجانب المعسكر، فجلسوا حولها مستبشرين، وأبو مسلم في صدر المائدة ساكت يفكر كعادته، يتناول اللقمة في أثر اللقمة على مهل، وعيناه تنظران إلى ما وراء الباب من السهل الواسع الذي لا يقف البصر في آخره على غير الأفق، وحوله النقباء والأمراء، وكلهم يتهيب منظره، وفيهم من يفكر فيما يهددهم من الحرب العظيمة.
وبعد الفراغ من الطعام، وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، نهضوا لتدبير شئونهم وكل في شاغل من أمر نفسه أو أهله إلا أبا مسلم؛ فلم يكن همه إلا تدبير شئون من اجتمع إليه من الناس - وهم كثيرون بالنظر إلى قصر المدة التي اجتمعوا فيها - ولكنهم قليلون بالنسبة إلى رجال نصر في مرو، ورجال الكرماني وشيبان خارجها. وكان أبو مسلم لا يخلو إلا ومعه خالد بن برمك؛ فقد كان موضع ثقته ومستودع أسراره. فلما خرجوا من فسطاط المائدة انصرفا معا إلى جانب من المعسكر على مرتفع يشرفان منه على مرو وضواحيها، وعلى معسكرهما.
فلما رأى أبو مسلم قلة جنده بالنسبة إلى أولئك التفت إلى خالد - وهو يزيح عمامته إلى الوراء - وتبسم - وذلك نادر منه - فأقبل خالد نحوه بجوارحه كأنه يتأهب لتنفيذ أمره، فقال أبو مسلم: «ألا يخيفك قلة جندنا وكثرة عدونا؟»
فبش خالد وقال: «لا يخيفني شيء وأنت أميرنا، وإليك قيادنا. وقد استبشرت اليوم بكثرة من جاءنا من الشيعة على قصر مدة ظهورنا.»
فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «صدقت، ولكن الغلبة ليست بالكثرة، وإنما هي بالتدبير والاتحاد. نعم إن أعداءنا كثيرون، ولكنهم أحزاب متفرقة قد يفني أحدها الآخر قبل خروجنا إليهم، وربما كان لنا منهم عون عليهم. أليس اليمن مع الكرماني، ومضر مع ابن سيار، والخوارج على الاثنين؟ سأريك مصير هؤلاء جميعا.» ثم رفع نظره وهو يتكلم على سواد قادم من عرض الأفق وغبار متصاعد، فتفرس فيه واستبشر، فابتدره خالد قائلا: «أظن أن جماعة من شيعتنا قادمون لنصرتنا.»
فلم يجبه أبو مسلم وظل متفرسا هنيهة ثم قال: «لا أرى أعلاما سوداء؛ ولذلك لا أظن أن القادمين من أنصارنا.» ولبثا هنيهة أخرى فانكشف الغبار عن قبة على فيل أبيض كبير، وحول القبة بضعة فرسان يسير في ركابهم جماعة من العبيد، ووراء الفيل جمال عليها أحمال الآنية والفرش وغيرها، فاستغربا ذلك، وزادت دهشتهما حين رأيا الركب متجها نحوهما، فجعلا ينظران إليه لعلهما يتبينان شيئا من أمره، فإذا بتلك القبة مصنوعة من الديباج الأحمر وقد تدلت أستارها حتى لا يظهر شيء مما في داخلها، وحول عنق الفيل وعلى جبهته وفي مقدم صدره عقود وأوسمة مرصعة بحجارة كريمة مختلفة الألوان تتلألأ بنور الشمس، وقد كسي ظهره وجوانبه بالديباج الأصفر الزاهي. ويقود الفيل رجل طويل القامة عليه عباءة وعمامة ما لبث أبو مسلم أن عرفه حين رآه؛ وهو الضحاك، فتذكر حكاية جلنار وخطبتها إلى ابن الكرماني، وما كان من حديثه في أمرها، فأجفل لأول وهلة؛ لأنه ظنها قد زفت إليه، فإذا بالضحاك قد عهد بمقود الفيل إلى عبد كان بجانبه وأسرع نحو أبي مسلم متأدبا، حتى إذا وقف بين يديه حياه تحية الأمراء وهم بتقبيل يده، فمنعه أبو مسلم وابتدره قائلا: «ما شأنك؟»
فضحك الرجل وقال بصوت ضعيف: «لا تخف؛ ليست مزفوفة إليك.» ثم رفع صوته وقال: «أليس هذا معسكر ابن الكرماني؟!»
فصاح فيه خالد: «قبحك الله! ألا ترى الأعلام السوداء؟»
فتظاهر الضحاك بالدهشة وقال: «لقد أخطأنا الطريق. أظن أن معسكر الكرماني ذاك!» وأشار بيده إليه ثم تشاغل بحك قفاه، وظل واقفا مطرقا.
فقال خالد: «نعم.»
وأدرك أبو مسلم مما بينه وبين الضحاك في شأن جلنار أنه لم يأت إليه إلا لغرض، فمشى وتبعه الضحاك، وظل خالد في مكانه، فلما انفردا قال الضحاك: «إن هذه المسكينة مزفوفة إلى ابن الكرماني رغم إرادتها، وقد أوصتني أن أحتال لها في الدنو من معسكرك لكي تراك؛ لأن قلبها.» وتنحنح ثم قال: «وإذا أرسلت نظرك إلى القبة رأيتها تنظر إليك من خلال الستائر خلسة؛ فانظر إليها من باب العلم بالشيء.» وضحك.
فرفع أبو مسلم نظره إلى القبة، وكانت قد صارت على نحو خمسين خطوة منه، فرأى وجها مطلا من خلال الستائر، إذا شبهناه بالقمر ظلمناه؛ لأن القمر صحيفة لا ماء فيها ولا حياة. ولو كان لأبي مسلم قلب يهوى ما استخف بعواطف تلك الفتاة المستهامة، ولكنه خلق من عقل ودهاء وطمع وكبرياء، وابتعد قلبه عن محبة النساء. ولا نظن أن قلبه قد عرف نوعا من أنواع المحبة، وإنما هو قلب يهوى العلى، ويهون سفك الدماء، ولا يتحكم في نفسه إلا عقله من حيث الدهاء؛ التماسا لما يتوقعه من الظفر القريب.
أما تلك الفتاة المفتونة فقد خلقت بقلب كبير، ولم تتحرك عواطفها قبل أن تعرف أبا مسلم. والحب كله رجاء، والمحب واسع الأمل. وقد زادها الضحاك أملا بما نقله إليها من حب أبي مسلم، فاستسهلت كل صعب في سبيل مرضاته، فقبلت أمر أبيها ورضيت بالزفاف إلى ابن الكرماني تقربا من معسكر حبيبها، وعملا بإرادته، وأوصت الضحاك أن يحتال في الوقوف هناك ليعلم أبو مسلم أنها جاءت إلى الكرماني صورة، وأن قلبها مع أبي مسلم. فلما رأته ينظر إلى قبتها اختلج قلبها في صدرها، وتوهمت أنها رأت أبا مسلم يبتسم لها ويحييها، فدمعت عيناها وأرخت الستائر وتحولت إلى الداخل، وريحانة معها ولم يخف عليها شيء من أمرها.
أما الضحاك فإنه أحنى رأسه بين يدي أبي مسلم وقال: «ثق بعبدك، وكن على يقين بأني سأخدمك بما يسرك.»
الفصل السابع والعشرون
سياسة التقسيم
ثم حياه وتحول وهو يقول بصوت عال: «فنحن إذن قد أخطأنا الطريق إلى معسكر الكرماني. هلم بنا يا قوم إلى تلك الأعلام اليمنية؛ فإن الكرماني هناك.»
ولما وصل إلى الفيل تناول المقود وأشار إلى أحد العبيد فانطلق مسرعا يعدو نحو معسكر الكرماني؛ كي يخبرهم بقدوم العروس ليستقبلوها. وكان الكرماني قد كتب الكتاب في منزل الدهقان قبل ذلك اليوم ودفع المهر وأبرم الاتفاق.
أما خالد فإنه ترك أبا مسلم يخاطب الضحاك وانصرف نحو المعسكر، فرأى رجلا مسرعا نحوه وهو يقول: «أين الأمير؟»
فقال: «وما الخبر؟»
فأشار بيده نحو مرو وقال: «إن الحرب قد نشبت بين الكرماني ونصر.»
فالتفت خالد إلى مرو، فرأى الفرسان قد خرجت من المدينة ومعها أعلام بني أمية، وخرج إليهم رجال الكرماني بأعلامهم وقد تطايرت النبال واشتبك القتال. وكان أبو مسلم قد أقبل نحو خالد، ورأى مثلما رأى خالد ففرح وصاح: «لقد حانت ساعة العمل.»
فقال خالد: «هل نستعد للهجوم أيها الأمير؟»
قال: «احذر أن تفعل. إنما شأننا اليوم الصبر لنرى عاقبة هذا القتال.»
قال: «ألا نغتنم فرصة انشغال نصر بالحرب ونهجم على المدينة؟»
قال: «إذا هجمنا لا نأمن أن يتحد العدوان علينا، ولكن نصبر إلى الغد.» قال ذلك ومضى إلى منزل سليمان بن كثير، فرأى النقباء قد اجتمعوا هناك وهم يسألون عن أبي مسلم، وكلهم يرون رأي خالد بالهجوم. فلما أقبل أبو مسلم عليهم استشاروه فقبح رأيهم وأمرهم بالانتظار، فسكتوا وأطاعوا.
فلما غربت الشمس تراجع الجيشان وأمسكا عن القتال، ورجع كل منهما إلى مكانه، والنقباء يرون أن أبا مسلم قد أخطأ لتقاعده عن اغتنام تلك الفرصة، وهو لا يقول شيئا. فلما أمسى المساء طلب الخلوة بخالد وسليمان، وأمر سائر النقباء أن يبيتوا على حذر.
فلما خلا بخالد وسليمان، هم أن يكاشفهم بما في ضميره، فسمعوا طارقا يطرق الباب ففتحوا له، وإذا بفارس ومعه رجل موثق بعمامته والفارس يقول: «قد قبضنا على هذا الرجل مارا في معسكرنا وليس هو منا.» فحالما رآه أبو مسلم بنور المصباح عرفه، فصاح به: «الضحاك؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فأشار إلى الفارس فتركه وانصرف، ودخل الضحاك فحلوا وثاقه، وسأله عن أمره فقال: «هل أتكلم أم تأذن لي بخلوة؟»
فأدرك أنه يريد الخلوة، فأشار إلى خالد وسليمان فذهبا إلى غرفة أخرى، وجلس أبو مسلم على وسادة وأمره أن يجلس وقال: «قل. ما وراءك؟»
فجلس الضحاك جاثيا متأدبا وقال: «اسمح لي - يا مولاي - أن أثني على إرجائك الهجوم الليلة، وكنت خائفا أن تأمر جندك بالهجوم.»
قال: «لا تخف. ثم ماذا؟»
قال: «هل أتقدم برأي أبديه؟»
قال: «قل. بارك الله فيك. ما أسرع ما اطلعت على الخفايا!»
قال وهو لا يضحك: «قد رأيت يا مولاي أمرا هالني وخشيت عاقبته على رجالك.»
قال أبو مسلم: «وما هو؟»
قال: «وصلنا بالعروس إلى فسطاط الكرماني، فإذا هو قد ركب لمحاربة نصر بن سيار؛ صاحب مرو، وابنه علي معه؛ أعني العريس المبارك، (وضحك) فأنزلنا العروس في خبائها بين عبيدها وجواريها، وخرجت لاستطلاع الأحوال، فرأيت جند الكرماني كبيرا، وكلهم من رجال اليمن الأشداء، وفيهم العدة والنجدة، وربما زادوا عن خمسة أضعاف رجالك. ولما خرج رجال نصر لقتاله رأيتهم أيضا كثيرين، فخفت أن يغرك ذلك فتخرج برجالك للحرب وأنا لا أضمن لك الفوز؛ لعلمي أن الجندين وإن تباينت عصبيتهما بين اليمن ومضر فإنهم جميعا من العرب، فإذا رأوا الخراسانيين يحاربونهم اتحدوا عليهم.»
قال أبو مسلم: «صحيح. إيه. قل.»
قال: «فرأيت أن خيرا ما تفعله الآن أن تمكن البغضاء بين هذين الجيشين.»
فاستغرب أبو مسلم قوله، وأعجب بسداد رأيه؛ لأن هذا هو الرأي الذي كان قد عزم عليه، وقال : «ذلك هو الرأي الصواب يا رجل، وهو الذي عزمت عليه، ولكن ما هو الطريق إلى إلقاء الفتنة الليلة حتى تتم لنا الحيلة في صباح الغد؟»
قال: «أتستشيرني يا مولاي؟»
قال: «لا بأس من المشورة؛ فإنها آمن عاقبة، فإذا لم يعجبني رأيك رجعت إلى رأيي.»
فأخد الضحاك يحك جانب رأسه بإحدى يديه، ويده الأخرى على عمامته يسندها لئلا تقع، ثم ضحك وقال: «أكرم بك يا ضحاك! إن الأمير يستشيرك!» ثم عاد إلى هيئة الجد وقال: «الرأي - يا سيدي - أن تكتب كتابا نجعل عنوانه إلى شيبان الحروري؛ صاحب الجند الآخر المعسكر وراء الكرماني، وتقول في خطابك إلى شيبان المذكور ما معناه: «إن قبائل اليمن لا وفاء لهم، ولا خير فيهم؛ فلا تثقن بهم، فإني أرجو أن يمكنك الله منهم، وإذا بقيت فلن أدع لأهل اليمن شعرا ولا ظفرا.» أو نحو ذلك مما يدل على أنك تكره اليمنية، ولا ترجو خيرا منهم. وترسل هذا الكتاب مع رسول تأمره أن يجعل طريقه إلى معسكر شيبان من جهة معسكر المضرية أصحاب نصر بن سيار. فهم طبعا سيشكون في أمره، ويقبضون عليه، ويأخذون الكتاب منه فيفتحونه ويطلعون عليه، فيقوم في نفوسهم أنك معهم قلبا وقالبا، فيميلون إليك وتقوى نفسهم على اليمنية. واكتب كتابا آخرا إلى شيبان أيضا على نفس هذه الطريقة، ولكنك تطعن فيه المضرية، وتقول عنهم مثل الذي قلته عن اليمنية بذلك الكتاب، وترسل هذا الكتاب مع رسول يجعل طريقه من جهة معسكر الكرماني؛ وهم يمنية، فيشكون في أمر الرسول ويطلعون على الكتاب، فيرون أنك معهم على المضرية، وتقوى نفوسهم بك،
1
فإذا نشب القتال في الغد وأردت النزول كان الفريقان معك.» وضحك ضحكة طويلة، فلم يتمالك أبو مسلم عن مجاراته في الضحك ولو قليلا، وقد انبسطت نفسه بذلك الدهاء وقال: «إن لك لشأنا يا رجل، وما أنت ضحاك كما تتظاهر. إني فاعل كما أشرت الساعة.» ثم نهض ليأمر الكاتب بذلك، فتعلق الضحاك بذيله وقال: «وأنا؛ ماذا أعمل ؟»
قال أبو مسلم: «تأخذ هدية جزاء صدق خدمتك .»
قال: «هدية؟ إني لا ألتمس على خدمتي أجرا، ومع ذلك فإني لم أفعل شيئا أستحق عليه أجرا، ولعلي أستطيع ذلك بعد الآن. إني منصرف الساعة إلى مولاتي الدهقانة، وسأبلغها سلامك وامتنانك، ليس لأنك تحبها، ولكن لأن ذلك يسرها ويخفف ألمها من رؤية عريسها الأعور!»
قال أبو مسلم: «ومن تعني؟»
قال: «أعني علي بن الكرماني؛ فإنه نصف أعمى، فضلا عن غرابة شكله، وهو مع ذلك زوجها بعقد مكتوب، ومهر مدفوع. وسترى كم ينفعنا هذا العقد. أنا منصرف الآن بأمرك، وسآتيك بالأخبار عند الحاجة.»
ثم وقف فقبل يد أبي مسلم وخرج مهرولا.
الفصل الثامن والعشرون
الحرب
أما أبو مسلم فصفق فجاءه خالد وسليمان، وأمر بالكاتب فجاء، فأخبرهم بما عزم عليه من المخابرة على الكيفية التي تقدم بيانها، وأملى على الكاتب فكتب كتابين إلى شيبان الخارجي، وسلمهما إلى رسولين من أصحاب الخبرة البارعين في الجاسوسية، وأمر أحدهما أن يمر بمعسكر نصر بن سيار، والآخر بمعسكر الكرماني. ومتى قرئ الكتابان يرجعان بهما إليه، ولا يوصلانهما إلى شيبان، فسار الرسولان وفعلا كما أمر.
فلما اطلع الكرماني على أحد الكتابين وفيه ما فيه من نقمة أبي مسلم على قبائل مضر توهم أن أبا مسلم معه على المضرية، ولما اطلع نصر بن سيار على الكتاب الآخر توهم أن أبا مسلم معه على اليمنية، فقويت نفس كل منهما على قتال صاحبه. وكان أبو مسلم في أثناء إقامته هناك قد كتب إلى الكور بإظهار الأمر، فسود - لبس السواد - جماعة كبيرة في نسا، وأبيورد، ومرو الروذ، وكثير من قرى مرو، وأقبلوا إليه تباعا.
وفي صباح الغد عاد الجيشان إلى الحرب بقلوب قوية، وهواهما مع أبي مسلم. ولإتمام الحيلة كتب أبو مسلم إلى كل من نصر بن سيار والكرماني كتابا خاصا يقول فيه: «إن الإمام إبراهيم (صاحب الدعوة) قد أوصاني بك وبرجالك خيرا، ولست أعدو رأيه فيكم.» فازداد الفريقان رغبة فيه، ورهبة منه، وزادت نقمة كل منهما على صاحبه، فلما احتدم القتال ركب أبو مسلم بمن معه من النقباء والأتباع وأقبل على المتحاربين، فلم يتعرض لهم أحد بسوء، فنزل بمن معه بين خندق الكرماني وخندق نصر بن سيار، وهابه الفريقان. ورأى بدهائه أن يشجع الكرماني حتى يعرضه للخطر، فبعث إليه: «إني معك.» فقبل الكرماني ذلك بسرور، فانضم أبو مسلم إليه فعلا، فاشتد الكرماني به.
فلما رأى نصر ذلك أدرك حيلة أبي مسلم، فبعث إلى الكرماني يقول: «ويحك! لا تغتر؛ فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، فادخل مرو ونكتب كتابا بيننا بالصلح.» وكان غرض نصر أيضا أن يفرق بين الكرماني وبين أبي مسلم.
فلما سمع الكرماني كلامه رجع إلى صوابه، وخشي أن يكون نصر مصيبا، فدخل الكرماني فسطاطه وظل أبو مسلم في المعسكر.
ثم خرج الكرماني حتى وقف في الرحبة بين المعسكرين في مائة فارس وعليه قرطق - وهو قباء ذو طاق واحد - وأرسل إلى نصر يقول: «اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب.»
فلما رآه أبو مسلم يقول ذلك خشي أن يخفق مسعاه. وكان أبو مسلم واقفا على جواده وعليه درع كاملة تغطي جسمه وبعض الجواد، وهو لا يبالي بتساقط النبال عليه، فإنها كانت ترتد عنه خائبة. وبينما هو في تلك الحيرة أبصر رجلا ملثما طويل القامة يتقدم بسرعة الجواد الجموح نحو معسكر نصر وهو يتقي السهام بكفيه، فعرف من حركته وزيه أنه الضحاك، وما لبث أن رآه تغلغل في ذلك المعسكر، ثم رأى كوكبة من الفرسان خرجت من معسكر نصر وفي مقدمتها فارس يصيح بأعلى صوته: «أنا الرجل الموتور، أنا ابن الحارث بن سريج. جئتك يا كرماني يا ابن الفاعلة، أنت قتلت أبي وأنا أقتلك.» قال ذلك وانقض انقضاض الصاعقة، والتقت الكوكبتان واشتبكتا. واشتد أزر المضرية، ثم رأو فارسا خرج من مرو يحرض المضرية ويسوق فرسه أمامهم وقد جلله الشيب، ولكن الشيخوخة لم تغير شيئا من نشاطه وحميته. ولما ساق جواده لعبت الريح بلحيته - وهي بيضاء عريضة ملء صدره - وصاح في رجاله يستحثهم، فعلم أبو مسلم أنه نصر بن سيار، فقال في نفسه: «لو ظهر في بني أمية مثل هذا الرجل قبل أن يتمكن الفساد فيهم لما كان سقوطهم وشيكا، ولكنه لن يستطيع أمرا.» وهجم مع نصر كوكبة من الفرسان فتغلبوا على الكرماني ووجهوا إليه طعنة فخر عن دابته، فأتموا قتله، وأمر نصر بحمل الجثة وصلبها، فصلبوه ومعه سمكة!
فلما رأى أبو مسلم مصرع الكرماني تظاهر بالأسف، وتوقع فشل اليمنية، وإذا بعلي بن الكرماني قد هجم يطالب بثأر أبيه، فهجم أبو مسلم معه، ونادى رجاله فهجموا جميعا على نصر ورجاله فأرجعوهم عن مواقفهم، ثم تراجع الجيشان.
رجع أبو مسلم من المعركة وقد سره مقتل الكرماني، وأخذ في أثناء رجوعه يعمل فكرته في تدبير الحيلة لمقتل ابنه علي، ولكنه رأى أن يستعين به على نصر أولا ثم يقتله ويقتل شيبان الخارجي، فوصل معسكره واجتمع إليه النقباء، فنظر إليهم وهو يقول: «ألم يكن رأينا صوابا؟ قتلنا الكرماني ولم نسفك نقطة من دماء رجالنا. والرأي فوق شجاعة الشجعان.»
فأعجبوا بدهائه، وعظم إيمانهم بفوزه في سياسته، فازدادوا تفانيا في طاعته وقالوا: «مر بما تشاء؛ فإنك صاحب الرأي النافذ والقول الفصل.» واشتغلوا في مهامهم.
الفصل التاسع والعشرون
العروس في بيت حميها
أما جلنار فقد تركناها في القبة ذاهبة إلى معسكر الكرماني، وقبل وصولها جاءها وفد من رجال الكرماني استقبلوها وأنزلوها في خباء خاص نصبوه في مؤخر المعسكر، وأنزلوا فيه أحمال الآنية والفرش، وأدخلوا جلنار غرفة من غرفه ليس فيها من النساء سواها، ومعها بعض الجواري وريحانة. وقد زادت تعلقا بها في هذه الغربة، وأصبحت لا تصبر على فراقها لحظة. وكانت ريحانة أكثر تعلقا بها للسبب نفسه، وأحست بأنها مسئولة عنها وحدها. وقد علمت بما يهددها من الأخطار الجسام. فوطنت النفس على بذل كل ما في وسعها لراحتها وسلامتها.
فلما وصلت جلنار إلى الخباء سبقتها الجواري إلى تهيئة ما يلزم من أسباب الراحة، واشتغل الضحاك في إنزال الأحمال ومعه العبيد والخدم. ثم جاءت ريحانة إلى جلنار فأدخلتها غرفتها، وأخذت تنزع ما عليها من ثياب السفر وتلبسها ثوب البيت وهي صامتة لا تتكلم، ثم لاحت منها التفاتة إلى جلنار فرأت عينيها تدمع، فانقبضت نفسها وابتدرتها قائلة: «ما الذي يبكيك يا مولاتي؟» ولم تكد تلفظ هذه العبارة حتى اختنق صوتها وغصت بريقها، فاكتفت جلنار بما شاهدته من ريحانة ولم تجبها، فتشاغلت ريحانة بتصفيف شعر سيدتها وتجلدت وأعادت السؤال وهي تحذر أن يختنق صوتها وقالت: «ما بالك - يا مولاتي - لا تجيبين عن سؤالي؟»
فالتفتت جلنار إلى ريحانة والدمع يتلألأ في عينيها، وقالت بالفارسية: «أتسألينني عن السبب وأنت أعلم به مني؟ أين نحن الآن؟ كيف خرجت من دار أبي وقد كنت فيها في حصن حصين، وجئت إلى دار الحرب، والنبال تتساقط على فسطاطي، ثم إني لا أعرف إلى من أنا صائرة.»
فأحبت ريحانة أن تخفف عنها فقالت وهي تتظاهر بالابتسام: «أنت صائرة إلى الأمير علي بن الكرماني، وكل هذا المعسكر رهن إشارتك.»
قالت: «وأين هو علي هذا؟ إني لم أره، ولو رأيته ما عرفته. سامحك الله يا أبتاه! لقد فرطت في. بل اللوم علي؛ كيف أسلم نفسي لرجل لا أعرفه ولم أره؟ وقد وصلت إلى منزله ولم أجده.»
فقالت ريحانة: «خففي عنك يا مولاتي. إنه لا يلبث أن يأتي؛ فقد اتفق وصولنا ساعة خروج الأمير الكرماني لملاقاة جند مرو في حرب. ولا شك أن عليا ابنه معه، وسترينه عائدا وقد تلطخ صدر جواده بدم الأعداء، وفي وجهه عز النصر. وهو عز لك. إن في ذلك لذة لم تتعوديها، فإذا ذقتها مرة فإنك لن تنسي لذتها. إن لذة النصر عظيمة يا مولاتي.»
فذعرت جلنار عند سماعها كلمة الحرب وقالت بالفارسية أيضا: «هو في حرب؟ ألم تقولوا لي إنه صاحب مرو، وله الأمر والنهي، وبيده الحل والعقد.»
قالت: «قد كان كذلك على ما علمنا. فالظاهر أنه خرج منها، ولكنه لا يلبث أن يفتحها كما فتحها قبلا.»
فصاحت وقد نسيت موقفها: «لا يهمني فتحها أم لم يفتحها. إني لا أريده. أخرجوني من هذا المكان. يا ريحانة، أخرجيني إلى حيث شئت.»
فضحكت ريحانة في وجهها تخفيفا لغيظها، وأظهرت الاستخفاف بخوفها. وكانت قد فرغت من تمشيطها وتبديل ثيابها، وألبستها في ذلك اليوم ثوبا عنابي اللون، وتمنطقت عليه بمنطقة مرصعة، ولفت كتفيها بمطرف من الخز الموشى مبطن بالفرو الثمين، وقد احمر وجهها من أثر السفر، وتوردت وجنتاها، وتكسرت عيناها من البكاء، وغشيهما ذبول القلق، وتجلى في جبينها وبين عينيها هيبة الانقباض، وأحدق بفمها معنى يعبر عنه بالخوف أو الحذر، واسترسل شعرها ضفيرة واحدة على ظهرها وقد تلألأ القرطان في أذنيها، وكل منهما جوهرة واحدة تضيء في الظلام، فضلا عما في عنقها من العقود الثمينة، وما يحيط بمعصميها من الدمالج والأساور، فأصبحت ملاكا في صورة إنسان. وكانت ريحانة لا ترتوي من النظر إليها، فلما فرغت من إلباسها دعتها إلى الجلوس، فجلست وهي تقول: «وأين الضحاك يا ترى؟»
قالت: «لا يلبث أن يأتينا؛ فقد تركته يهتم بالأحمال ونحوها.» وصفقت فدخل خادم كان في جملة الخدم خارجا، فقالت له: «أين الضحاك؟»
قال: «كان حول الخباء ثم ذهب. لا أدري إلى أين.»
فأجفلت جلنار من قوله ونظرت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمره، فقالت ريحانة: «هلم بنا نطل من باب الخباء لنرى منظر هذا المعسكر؛ لعلنا نرى الضحاك.»
فنهضت ومشت على أثر ريحانة حتى أطلتا من باب الخباء، وإذا بسهم سقط بين يديهما عند الباب، فذعرت جلنار وتراجعت، ولم تذعر ريحانة؛ لأنها كثيرا ما شهدت مثل هذه المعارك، فضلا عن اضطرارها للتظاهر بالجلد تشجيعا لمولاتها، فقالت وهي تضحك: «ما الذي أجفلك يا مولاتي؟»
قالت وهي ترتعد خوفا: «يظهر أنهم يحاربون على مقربة منا. بالله ما هذا؟ ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ كيف رضيت بالمجيء؟ آه يا أبا مسلم.» وكأنها نطقت باسمه سهوا، فخجلت وتشاغلت بمسح دموعها بمنديل كان في منطقتها.
وكانت ريحانة أعلم منها بعظم المصيبة، ولكنها لم يسعها إلا التخفيف عنها، وشعرت أنها أساءت إليها إذ لم تمنعها من المجيء فقالت: «الحرب بعيدة عنا. اخرجي وانظري المعركة؛ فإنها وراء هذا المعسكر بينه وبين المدينة. وأما هذا السهم فقد أفلت وابتعد صدفة. اخرجي.» قالت ذلك وأمسكت بيدها وأخرجتها من الخباء رغم إرادتها، فأطلت على المعركة عن بعد فرأت الفرسان تجول، والنبال تتطاير، والسيوف تبرق في أيدي الفرسان، وبعضهم يحمل التروس، وبعضهم يشرعون الرماح، وأكثر القتال بين الفرسان؛ ولذلك قلما كانوا يترامون بالنبال؛ لأن النبالة أكثرهم من المشاة. فلم تستطع جلنار الصبر على ذلك المنظر فدخلت، ودخلت ريحانة في أثرها وهما صامتتان، وقد شغل خاطرهما؛ لأنهما لم يشاهدا الضحاك، حتى إذا دنا المغيب - وهي الساعة التي تنقبض فيها النفوس بلا سبب - زاد انقباض جلنار وتصورت قرب مجيء زوجها الذي لم تره عيناها، ولا أحبه قلبها، ولا ترجو أن يحبه؛ لانشغاله بسواه، فأمسكت ريحانة بيدها، فأحست هذه بارتعاشها، فقالت: «ما بالك ترتعدين يا مولاتي؟»
قالت: «إني أرتعد لقرب الساعة التي سألقى فيها ابن الكرماني أو كما تسمونه. بالله كيف أقابله؟! أحقيقة هو زوجي؟! كلا. الموت أحب إلي من قربه.» ثم قبضت على يد ريحانة بيديها جميعا وصاحت: «لا أعرف سبيلا لنجاتي إلا بك.»
قالت: «لا بأس عليك يا سيدتي. أنا أدبر كل شيء، ومن يوم إلى يوم يأتي الله بالفرج. وإنما أتوسل إليك أن تتجلدي بين يديه، ولا تظهري نفورك منه. وقد يكون لا بأس به. كيف تبغضينه قبل أن تنظري إليه؟»
فنظرت إليها جلنار بطرف عينيها ولسان حالها يقول: «ألا تعلمين ما يكنه قلبي من حب أبي مسلم؟»
فأدركت ريحانة مرادها وتبسمت وهي تقول: «كوني على يقين من أنك ستنالين بغيتك، ولكن بالصبر والحزم.»
الفصل الثلاثون
العريس
ثم سمعتا صهيل الخيل وضوضاء الناس فأجفلتا معا، ولكن ريحانة تشجعت وقالت: «يظهر أن الفرسان قد رجعوا من المعركة.» ثم خرجت حتى أطلت من باب الخباء وعادت وهي تقول: «لقد أتى الأمير على فرسه وهو مخضب بالدماء، كما قلت لك، وسيأتي إليك؛ فلا تجزعي.»
فقالت: «والضحاك لم يأتي بعد. أين هو؟ لقد تركنا في ساعة الحاجة إليه.»
قالت: «لا تلومي الغائب حتى يحضر!»
ثم جاء بعض الخدم من رجال الكرماني يحملون الشموع مغروسة في أعواد نصبوها في جوانب الخباء، فأضاء المكان وجلنار لا تستطيع الوقوف من شدة التأثر، فجلست وقد اصطكت ركبتاها، وإذا هي بالضوضاء تقترب من الخباء، ثم سمعت رجلا يتكلم قرب الباب بصوت عال يقول: «أين خباء عروسنا الدهقانة.»
فلما سمعت جلنار صوته تحققت أنه عريسها، فارتعدت فرائصها، وازداد اضطرابها، فتشاغلت بمطرفها تلف به منكبيها، ويداها ترتعشان وقد بردتا، فخرجت ريحانة لاستقباله بالباب وقالت: «أهلا بالأمير الجليل. إن مولاي الدهقان يوصيك بابنته خيرا، ويقول لك إنه قد عهد إليك بفلذة كبده؛ فكن رفيقا بها.»
فقال: «لقد أوصى حريصا. إن الدهقانة تنزل عندنا في أرفع منزلة وأعز مكان.» ومشى نحو الغرفة وهو يقول: «وأين هي؟»
فقالت: «هي جالسة في حجرتها، وقد أنهكها التعب على أثر السفر في أثناء النهار.»
فأدرك مرادها وقال: «إني إنما أطلب راحتها، ولكنني أحببت لقاءها والترحيب بها.» ودخل وقد تنسم رائحة الطيب.
وكانت جلنار جالسة وقد سمعت قوله، فسكن روعها وأطرقت وهي ترقب دخوله بجوارحها، فلما دخل حجرتها وأقبل عليها ورأى جمالها أخذت بمجامع قلبه، ولكنه هابها وقال: «مرحبا بعروسنا. لقد أتيت أهلا ونزلت سهلا، وأرجو أن يكون مقامك عندنا أمتع من مقامك في بيت أبيك.»
فرفعت جلنار بصرها إليه لترى وجهه والحياء يغالبها، فرأت شابا في نحو الثلاثين من عمره، قصير القامة، عريض المنكبين، وقد توشح بعباءة من الحرير، وتقلد السيف، وغرس الخنجر في منطقته، وعلى رأسه عمامة حمراء، وكان مستدير الوجه واللحية، دقيق الشاربين، وقد ذهبت إحدى عينيه. فلما دنا منها جلس على البساط أمامها ووضع السيف على حجره وقال: «لا بأس عليك يا جلنار، أرجو أن يذهب عنك تعب السفر الليلة، وأن يكون مجيئك فأل خير على هذا المعسكر؛ فقد وصلت والحرب قائمة بيننا وبين صاحب مرو، وعدنا من هذه المعركة ظافرين بعون الله؛ فعسى أن يأتينا الفتح على يديك وببركة مجيئك.»
وكانت جلنار مطرقة حياء وتلعثما لا تدري بماذا تجيب. وفتح على ريحانة برأي توسمت من ورائه فرجا، فأجابت عنها قائلة: «ذلك ما نرجوه أيها الأمير البطل؛ فقد قدمنا ونحن نتوقع أن يكون مقامنا في مدينة مرو؛ فعسى ألا تطول إقامتنا في هذا المعسكر.»
فتحمس علي وقال: «لو تقدم مجيئكم يسيرا لنزلتم توا في مرو، وقد كانت في قبضتنا فخرجت من أيدينا منذ أيام، ولكنها ستعود إلينا، بإذن الله.»
فأدركت جلنار غرض ريحانة من ذلك التعريض، فقالت والحياء يغالب منطقها: «فكان مجيئنا شؤما عليكم؛ فكيف تتوقعون أن يكون بركة؟ ولو كان كذلك لما كان نزولنا في غير دار الإمارة في مرو.»
قال: «عفوا أيتها الدهقانة. إن مجيئك بركة وفأل حسن، وأنا على يقين من ذلك، وسترين صدق قولي.»
قالت: «أنت صادق، ولكنا علمنا شؤم مجيئنا من النبال التى رأيناها تتساقط حولنا منذ أنيخت المطايا بنا.»
فازداد علي حماسة وأريحية، وهان عليه كل صعب في سبيل رضاها، وقال: «إنك ستبيتين غدا في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك إرضاء لخاطرها، ولم يدر أنه قيد نفسه بوعد دون الوصول إليه خرط القتاد، فلم تغفل ريحانة عن اغتنام تلك الهفوة، فنظرت إلى مولاتها وهي تظهر الإعجاب بأريحية علي وقالت: «إن الأمير يا مولاتي قد قال - وقوله عهد - إنك لا تبيتين غدا إلا في دار الإمارة.»
فقال علي وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما واستسهل الصعب: «نعم. لا تبيتين إلا في دار الإمارة.» ثم أدرك تسرعه فأراد أن يوسع على نفسه فقال: «وأعاهدك على الأقل أني لا أتمتع بهذا الوجه الجميل إلا في تلك الدار.»
فأطرقت جلنار حياء وتشاغلت بالعبث بأهداب المطرف وسكتت، فأجابت ريحانة عنها قائلة: «بورك فيك من شهم حر. والحر إذا عاهد وفى.»
فنهض وقد ثارت النخوة في رأسه وقال: «أستودعك الله، وسترين بلائي غدا؛ فاذهبي الآن إلى فراشك واستريحي.» ثم خرج وهو يجر سيفه وراءه.
فلما توارى نظرت ريحانة إلى سيدتها وهي تبتسم، وقالت لها بالفارسية: «ما قولك في هذا العهد؟»
قالت جلنار: «لا بأس به، ولكني أخشى أن يتمكن من دخول مرو غدا.»
قالت ريحانة: «لا أظنه يستطيع، وإذا تمكن من ذلك كان جديرا بك ؛ إذ لا يكون لأبي مسلم حينئذ شأن.»
فقطعت كلامها وقالت: «لا تقولي ذلك. إن أبا مسلم وهو مكبل بالأغلال أحب إلي من سواه ولو كان يتربع على عرش كسرى.»
فتأثرت ريحانة من تعلقها بأبي مسلم إلى هذا الحد وقالت: «دعي ذلك إلى تدبير العزيز الحكيم. وإن غدا لناظره قريب. ولكن غياب الضحاك قد شغل خاطري، وهو إنما جاء معنا ليكون في خدمتك. قومي الآن لنتناول الطعام ثم ننظر ماذا يكون.»
الفصل الحادي والثلاثون
الضحاك
فنهضتا إلى حجرة الطعام في ذلك الخباء - وكانت الجواري قد أعددن الطعام - فجلستا لتناوله وإذا بأحد الخدم قد دخل مهرولا وهو يقول: «إن الضحاك بالباب.»
فانبسطت نفس جلنار وزهدت الطعام لرغبتها في مقابلة الضحاك، ولم تكن ريحانة أقل رغبة منها في ذلك؛ لكي تطلعه على ما وفقتا إليه تلك الليلة، فقالت للخادم: «أدخله إلى الحجرة الوسطى، واحمل إليه الطعام وقل له: إن الدهقانة قادمة إليه عاجلا.»
وأسرعتا في الأكل ثم نهضتا إلى تلك الحجرة، فوجدتا الضحاك قد فرغ من طعامه وجلس في انتظارهما، فوقف لهما، فلما شاهدته جلنار انشرح صدرها وأحست بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلها، ثم صاحت فيه: «أين كنت يا رجل؟»
فتأدب في موقفه ويداه في منطقته، وعمامته مائلة على رأسه، وقد نبش شعر لحيته وشاربه حتى تغيرت سحنته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك، فأجابها بضحكة طويلة، فأشارت إليه أن يجلس، وجلست وأجلست ريحانة بجانبها، فجثا الضحاك على ركبتيه وقال: «لقد أذنبت بخروجي بلا استئذان، ولكن العفو أقرب للتقوى.»
فقالت ريحانة: «كيف تتركنا وحدنا وقد أوصاك الدهقان برعاية مولاتنا وألا تفارقها؟!»
قال: «نعم. أخطأت بمخالفتي وصية مولاي الدهقان، ولكنني أصبت بمجاراة مولاتي الدهقانة.» قال ذلك وأطرق في حياء.
فقالت: «دعنا من مجونك، وقل أين كنت؟»
قال: «إذا كنت لم تفهمي كلامي، فمولاتي الدهقانة قد فهمته.» ونظر إلى جلنار وقال: «إيه.»
فقالت جلنار: «لعلك ذهبت إلى أبي مسلم؟»
فقهقه ثم قطع ضحكته بغتة وقال لريحانة: «أرأيت الفرق بين من يفهم ومن لا يفهم؟ نعم يا مولاتي قد ذهبت إليه.»
فتطاولت جلنار بعنقها نحوه وقالت: «وماذا فعلت؟»
قال: «غدا تعلمين ماذا فعلت.»
فقالت ريحانة: «قل الآن، فنقول لك ماذا فعلنا نحن.»
قال: «أنا أقول لك ماذا فعلت يا ذكية؛ قد عاهدت صاحبنا ألا يتزوج إلا في دار الإمارة.»
فبغتت جلنار لاطلاعه على ذلك، والتفتت إلى ريحانة لتشاركها في الدهشة، فالتفت الضحاك إلى ريحانة وقال: «وهل من الغريب أن أعرف شيئا أنا فعلته؟»
فقالت ريحانة: «وكيف ذلك ونحن إنما جررناه إلى هذا الوعد خطوة خطوة؟!»
قال: «أنا وضعت الأساس، وقد فكرت في الأمر قبل خروجنا من بيت سيدي الدهقان، فلما وصلنا كان قصارى همي ألا ألاقي العريس، فتركتكم وذهبت إلى جانب المعركة، حتى إذا عاد الأمير علي منها بشرته بمجيء العروس، ثم ألقيت إليه كلاما أعددت به ذهنه إلى ذلك العهد.»
فأعجبتا بتيقظه وذكائه، وقالت ريحانة: «ثم إلى أين ذهبت؟»
قال: «ذهبت إلى العريس الآخر.» ورفع بصره إلى سقف الخباء وتظاهر بأنه يتفرس فيما نقش عليه من الرسوم والأشكال الملونة ولم يضحك، ثم أرسل بصره إلى جدران الحجرة فابتدرته ريحانة قائلة: «وما الذي فعلته هناك؟»
قال: «غدا تعرفينه.»
فقالت: «أقسمت عليك، وكرامة مولاتنا، أن تفصح وتترك المجون.»
فتظاهر بالجد ووجه خطابا إلى جلنار قائلا: «بحثت عن أبي مسلم في الطريق المؤدي إلى بقائه وحده في هذا الميدان.»
فقالت جلنار: «وكيف ذلك؟ قل.»
فقص عليها ما دار بينه وبين أبي مسلم مختصرا إلى أن قال: «والحق يقال إن هذا الخراساني ذكي عاقل، وبخاصة لأنه شهد لي بالذكاء!» وضحك.
فقالت ريحانة: «إن ذكاءك معروف لنا.»
قال: «أراك تمدحينني كأنك تطمعين في وقد قلت لك إني نذرت العفة ولست أفكر في الزواج!»
فقطعت جلنار كلامه وقالت: «اكفف عن ريحانة ولا تعبث بها.»
قال وهو يحك ذقنه: «كأنك تظنينها تكره ذلك، ولكنني عملا بأمرك قد عفوت عنها؛ لأنني أراها تحبك.»
فضحكت جلنار وقد انبسطت نفسها وخف ما بها، فلما رأت ريحانة سرور سيدتها شاركتها فيه، وشعرت بمقدار فضل الضحاك في كل ذلك، وقالت في نفسها: «لا بد لهذا الرجل المهذار من شأن، وإن أمره لعجيب!»
ثم التفتت ريحانة إلى سيدتها وقالت: «ألا تذهبين إلى الفراش يا مولاتي؟»
قالت: «نذهب.» ووقفت.
فوقف الضحاك وقال: «وأنا ذاهب، وربما لا أنام الليلة؛ فإذا طلبتماني في ساعة ولم تجداني فلا تحسباني فررت.»
قالت جلنار: «افعل ما بدا لك. إننا لا ننسى لك جميلا تبذله في سبيل راحتنا. إذا وفقنا إلى ما نريد كان لك ما ترضاه. انصرف إذا شئت.»
فخرج إلى المبيت في فسطاط الأعوان والحاشية. وكان الكرماني وابنه قد استأنسا به حين لاقاهما في غروب ذلك اليوم، وآنسا فيه خفة الروح، وطيبة الخلق، وخاصة علي بن الكرماني؛ فإنه ارتاح إلى رؤيته، واطمأنت نفسه إليه.
ولم تنقض تلك الليلة حتى علم أن رسول أبي مسلم مر بذلك المعسكر وقبضوا عليه، ورأى الكرماني في فسطاطه يتلو كتاب أبي مسلم ومعه ابناه علي وعثمان. وكانا لا يفارقان مجلسه، وهما عمدته في حروبه، وكان عثمان أصغر من علي. فلما تحقق الضحاك من نجاح تدبيره ذهب للنوم مع الخدم والأعوان، ولم يخاطبه أحد منهم إلا استخف روحه واستلطفه.
فلما التحم الجيشان في صباح الغد، وقف الضحاك يرصد حركاتهما، فلما رأى الكرماني قد قبل مصالحة نصر بن سيار، أسرع إلى معسكر نصر ملثما واستحث ابن الحارث أن يثأر لأبيه، فجاء وقتل الكرماني، كما تقدم.
الفصل الثاني والثلاثون
أبو مسلم في خلوته
تركنا أبا مسلم في معسكره فرحا بما أوتيه من نجاح حيلته بالكرماني، فلما تفرق عنه النقباء إلى خيامهم بعد العشاء، ظل هو في غرفته وحده يعمل فكرته في إتمام مشروعه للتفريق بين تلك الجيوش المحيطة بمرو. وكان إذا خلا إلى نفسه ربض كالأسد وأخذ في تدبير الأمور بدهاء يندر مثاله بين الناس، فإذا مل الجلوس وقف وتمشى ذهابا وإيابا كأنه نمر كاسر حبس فى قفص من حديد، وقد جاع وفريسته على مقربة منه، وهو يتحفز للوثوب عليها. ولو نظرت إلى أبي مسلم في تلك الساعة لرأيته عابسا يكاد يزمجر غضبا، ويخيل لك أنه لو أراد الابتسام لعصته غضون وجهه، ولو أمكنك الاطلاع على ما في نفسه تلك الليلة لرأيته يخوض بأفكاره في بحور من الدم، فيقضي على هذا بالقتل وذاك بالأسر؛ لا يبالي إذا حال أحد دون غرضه أن يقتله ولو كان أخاه أو أباه. وكان وهو يتنقل في تدابيره يرى شبح الضحاك نصب عينيه، ويتوقع أن يراه قادما إليه بحيلة يظنها الضحاك فتحا جديدا، وهي عند أبي مسلم قديمة. وأبو مسلم يظهر إعجابه بفطنته تشجيعا له على خدمة أخرى، والضحاك يتوهم أنه يخفي حقيقة مساعيه عن أبي مسلم، وما علم أن هذا الخراساني يقرأ كل ما يجول في خاطره، وقد يدرك ما سيأتي به إليه، أو يشير به عليه، وأنه إنما يظهر له استحسانه وإعجابه دهاء ومكرا، ولا يسايره إلا على شك، وقد أضمر سوء الظن به؛ لأن الناس أعداء بعضهم لبعض، كل منهم يترصد من صاحبه غفلة يغتاله، وبخاصة في ذلك العصر، وقد اختلفت العناصر، وتباينت المقاصد، وصدرت وصية الإمام إبراهيم بالقتل لمجرد الشك.
وبينما كان أبو مسلم غارقا في عالم الخيال وهو يتمشى وبيده قضيب يلاعبه بين أنامله إذ جاءه الحارس قائلا: «إن بالباب رجلا يطلب مقابلتك.» فأدرك أنه الضحاك، فأذن له فدخل وقد تنكر بقلنسوة من قلانس الفرس فوقها عمامة صغيرة كأنه من كهنة المجوس. فلما أقبل عليه رحب به وبش له؛ تخفيفا لرعبه، ولكن الضحاك قرأ في احمرار عينيه وتغضن جبينه ما دله على أهمية الأمر الذي يفكر فيه، فوقف متأدبا، فخاطبه أبو مسلم قائلا: «أهلا بصديقنا الضحاك.»
فأعظم الضحاك هذا التنازل من أبي مسلم، وبالغ في التأدب في موقفه وقال: «إني لا أستحق هذا الإكرام - يا مولاي - وإنما أنا عبدك وأبتغي رضاك.»
قال أبو مسلم: «ومتى كان العربي يستعبد للفارسي؟»
فوجم الضحاك لحظة ثم قال: «إن المسلمين أخوة، وإنما يفضلون بالتقوى والجهاد. وقد ذهبت الدولة التي تحسب أن للعرب مزيدا على غير العرب، وكانت عصبيتهم للعرب سببا في ذهاب سلطانهم، وكيف لا أكون عبدا لبطل خراسان؛ صاحب دعوة الإمام؟!»
فضحك أبو مسلم وهو يجلس، ثم أشار إلى الضحاك فجلس جاثيا على ركبتيه وقد أطرق وسكت، فابتدره أبو مسلم قائلا: «ما وراءك يا ضحاك؟»
قال الضحاك: «ما ورائي إلا الخير، وقد جئتك مهنئا بما أوتيت من الفوز الباهر. وإنني على استعداد لتلقي الأوامر لعلي أنفذ لك أمرا.»
قال: «إنما نحن مدينون بهذا الفوز لتدبيرك وسعيك، وإذا تم لنا النصر جعلناك في منصب يليق بأمثالك.»
قال الضحاك: «لا ألتمس إلا رضا مولاي الأمير؛ فمرني بما تشاء.»
قال: «قل ما الذي تراه الآن. لقد أعجبني سداد رأيك بالأمس.» فأطرق الضحاك هنيهة كأنه يعمل فكرته ثم قال: «ألا ترى، بعد أن قتل الكرماني، أن تتخلص من ابنه فيخلو لك الجو؟!»
قال: «وشيبان.»
فضحك الضحاك وهو يقول: «شيبان؟ وما شأن هذا الخارجي أمام سطوتك؟ إنه ليس ممن يحسب لهم حساب.»
قال: «كيف لا وهو صاحب جند وعصبية مثل الكرماني.»
قال الضحاك: «إذا قتلت ابن الكرماني، فعلي تدبير أمر شيبان.»
وكان أبو مسلم في أثناء حديثه ينظر إلى قلنسوة الضحاك وفي نفسه أن يعلم ما تحتها، وقد لحظ من وراء حافتها أن رأس الضحاك حليقا، فأومأ بقضيب إلى القلنسوة وقال: «ومن أتاك بهذه القلنسوة؟» وأظهر أنه غمزها بالقضيب سهوا فسقطت، فبان رأسه حليقا، فوثب الضحاك وقد بغت وتظاهر بالمجون، وبادر إلى القلنسوة فأعادها إلى رأسه حالا وهو يقول: «وقد انتظمت في سلك المجوسية من عهد قريب.»
فتجاهل أبو مسلم ما استطلعه من حلق رأسه وتضاحك وقال: «إن الكهانة خليقة بالفرس وليس بالعرب.»
فأصلح الضحاك قلنسوته وقد امتقع لونه من تلك المفاجأة، ولكنه صدق أن أبا مسلم إنما فعل ذلك سهوا، فقال: «إن الرجل يغير زيه في سبيل تحقيق هدفه، ولو لم ألبسها ما استطعت الوصول إلى خيمتك.»
فتظاهر أبو مسلم بتصديقه وقال: «إنك لتعجبني بجدك وهزلك! فلنعد إلى الجد. قل لي إذا أردنا التخلص من ابن الكرماني؛ فما الحيلة؟»
قال: «إن قتل هذا الرجل هين وصعب في نفس الوقت .»
قال أبو مسلم: «وما معنى ذلك؟»
فقال الضحاك : «إذا أطعتني فيما أشير به كان قتله وقتل كل من في معسكره أهون من قطع الخيط.»
قال أبو مسلم: «وكيف ذلك؟»
قال: «ألا تذكر - يا مولاي - جلستنا في منزل دهقان مرو؛ إذ قلت لك إن إظهارك الرضا لهذه الفتاة المفتونة سيكون عونا لك في تنفيذ مأربك؟»
فأدرك أبو مسلم غرضه، ولكنه تجاهل وقال: «نعم أذكر ذلك، ولكنني لم أفهم مرادك.»
قال: «مرادي أنه يكون لك بها نصير في خيمة ابن الكرماني وعلى فراشه.»
قال: «أتظنها تساعدنا على قتله؟»
قال: «نعم - يا سيدي - أنا أضمن ذلك على شرط.»
قال: «وما هو ذلك الشرط.»
قال: «ذلك شرط هين؛ ترسل إلى هذه الفتاة علامة تؤكد لها رضاك عنها، وأن قتل ابن الكرماني يرضيك، وأنا أتمم الباقي.»
قال: «وما هي العلامة التي تعنيها؟»
قال الضحاك: «علامة تعرف أنها منك.»
فنظر أبو مسلم إلى الضحاك نظرة كشف بها أسرار قلبه كما يكشف أصحاب أشعة «رونتجن» ما وراء الجوامد وقال: «لا أظنها تقنع منك بغير خاتمي.»
قال: «تلك خير علامة نحقق بها ما نهدف إليه.»
فأطرق أبو مسلم كأنه يتردد في عزمه ثم قال: «أتعلم أهمية هذا الأمر؟ أتعلم أني إذا دفعت إليك خاتمي أكون قد سلمت إليك أمري؟»
قال: «أعلم ذلك يا مولاي، ولو علمت أن الأمر يقضى بدونه لفعلته.»
فأخرج أبو مسلم الخاتم من إصبعه ودفعه إليه وهو يقول: «هذا هو. خذه وامض مسرعا، وعد إلي به الليلة؛ فإني لا أبيت بدونه.»
فوقف الضحاك إجلالا، وتناول الخاتم وقبله ووضعه على رأسه وهو يقول: «ربما لا أستطيع لقاء الدهقانة الليلة؛ فآتيك في الصباح ومعي الخاتم، بإذن الله.»
قال: «سر في حراسة الله.»
ثم استأنف الكلام قائلا: «انتظر هنا ريثما أعود إليك.» قال ذلك وخرج من باب سري في تلك الغرفة، وظل الضحاك واقفا وقلبه يفيض سرورا لما توهمه من نجاح أمره، وأصاخ بسمعه لعله يشعر بحركة أو يسمع صوتا يستدل به على شيء، فلم يسمع شيئا، ثم عاد أبو مسلم وهو يقول: «سر يا ضحاك ، وإذا وفقت في خدمتنا كافأناك، ولكن (وخفض صوته) متى استوثقت من موافقة الفتاة لك، دعها لا تتعجل الأمر، بل تنتظر منا إشارة أخرى. فهمت؟»
قال: «سمعا وطاعة.» وخرج واحتذى نعله في الخارج ومضى.
الفصل الثالث والثلاثون
ترقب وانتظار
أما ما كان من أمر جلنار، فإنها أصبحت في ذلك اليوم وقد تهيأ الجيشان للنزال، وهي تخاف أن ينتصر الكرماني، فإذا انتصر تعرقلت مساعيها وخابت آمالها، فوقفت مع ماشطتها بحيث ترى المعركة عن بعد، فرأت ضعف جند الكرماني، ثم رأته عاد إلى معسكره ثم رجع وكاد ينتصر فخافت. وأخيرا علمت بما كان من قتله، كما تقدم في وصف المعركة، ثم شاهدت ضعف عسكره وهجوم ابنه علي واتحاده مع أبي مسلم، فاستغربت ذلك ولم تستطع تفسيره، فعادت إلى خبائها مع ريحانة وقد انقبضت نفسها، وقالت لها بالفارسية: «ما الذي أراه يا ريحانة؟ أليس أبو مسلم ينصر صاحبنا؟»
قالت: «لا يغرك ما تشاهدينه. إنها حيلة من أبي مسلم، ومتى جاء الضحاك يفسر لنا كل ذلك.»
فدخلتا الخباء وهما صامتتان لا تدريان كيف تفسران ما شاهدتاه، ولكنهما صبرتا ريثما يأتي الضحاك. فلما غربت الشمس ولم يأت، انقبضت نفس جلنار ولم تستطع طعاما ولا شرابا، وريحانة تخفف عنها وتمنيها بالمواعيد، ثم سمعتا قرقعة اللجم وصهيل الأفراس بباب الخباء فأجفلتا وعلمتا أن عليا قادم برجاله، فمكثتا صامتتين، وإذا بباب الخباء قد انفتح ودخل علي وثيابه ملطخة بالدماء، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما، فخافت جلنار من منظره ولم تعلم بماذا تخاطبه في تلك الحال وقد قتل أبوه، فرأت أن تتجاهل فلبثت صامتة. أما ريحانة فتجلدت واستقبلت عليا وقالت: «أحسن الله عزاء الأمير. إن من يقتل في ساحة الوغى ويخلف مثلك لم يمت؛ لأنك آخذ بثأره.»
فأعجبه قولها وقد سرى عنه، والتفت إلى جلنار وقال: «لنا ببقاء عروسنا الدهقانة أكبر عزاء. أما والدي فسوف نأخذ بثأره من أولئك الأنذال، وما هي إلا أن تطلع الشمس ونعود إلى القتال، فلا تغرب إلا ونحن في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك وهو يصلح خوذته على رأسه، وأشار إلى جلنار أن تجلس وهو يحاول الابتسام، رغم ما جاش في صدره من الأسف على قتل والده، وكأنه تسلى عن ذلك برؤية جلنار؛ لأنه أحبها كثيرا. والحب خير ما يسري عن الإنسان، وهو أيضا أصل متاعبه؛ فلولا الحب لم تكبر النفوس، ولا اتسعت المطامع، وإذا كبرت نفس المرء فإنما يؤثر البقاء من أجل محبوبه. ولو تدبرت أحوال الناس لرأيت الحب محور معاملاتهم، وسبب ملذاتهم ومتاعبهم.
والإنسان إذا تجرد من الحب رأى الحياة من العبث، فتصغر نفسه وتنحصر مطامعه في الطعام والشراب، فيشارك الحيوان في الاقتصار على لوازم الحياة، فإذا ملأ جوفه أخلد إلى الخمول، ولا يتحرك حتى تنهضه لواعج الحب، فيطلب العلى، ويرى الحياة ثمينة فيتحمل المشاق في سبيل البقاء. والحب ريحانة النفس ومهذبها، ورافعها من حضيض الحيوانية إلى أعلى مراتب السمو، ولكنه لا تتمكن عراه إلا إذا تألفت القلوب، وتوافقت لغاتها، وتم التفاهم فيما بينها. وقد تتفاهم في لحظة بلا لسان ولا بيان، فتنفتح للمحبين أبواب النعيم والشقاء معا. وإذا لم تتفاهم القلوب بلسانها عجزت الألسنة وخابت المساعي في سبيل تآلفها؛ فلا لذة هناك ولا شقاء. وينفرد بالشقاء دون اللذة محب تقيد قلبه وظل قلب حبيبه مطلقا؛ قلبه يتكلم وقلب حبيبه أصم، مثل حال ابن الكرماني لو علم بنفور جلنار منه وتعلقها بسواه. وإنما أخر شقاءه جهله بما في ضميرها، واعتقاده بأن الحب متبادل بينهما. ولو سمع مثل تلك التعزية من فمها لذهب حزنه، ونسي مصيبته، على أنه حمل سكوت جلنار عن الحديث معه محمل الحياء، فعذرها واكتفى بما سمعه من ريحانة.
أما جلنار فلم يسعها عند سماع ما قاله علي عنها إلا أن تجيبه قائلة: «إن العزاء ببقاء مولاي الأمير، حفظه المولى وأعانه على الأخذ بالثأر.»
فلما سمع قولها انشرح صدره وقال: «إني سأثأر لأبي بما يسرك.» ثم صفق فجاءت قيمة الخباء، فأمرها أن تحسن رعاية الدهقانة وتلبي مطالبها في كل ما تحتاج إليه، ثم تحول وخرج للاهتمام بأمر الجند والاستعداد للحرب في الغد.
فلما خرج ظلت الدهقانة صامتة وقد تحرك خاطرها شفقة على ذلك الشاب لما تضمره له من الشر، ثم خشيت أن يميل قلبها إليه فتمثلت صورة أبي مسلم في ذهنها، فهاجت عواطفها وذهب رسم علي من ذهنها، ولم تتمالك عند انفرادها بريحانة أن قالت بالفارسية: «متى يأتي الضحاك لنسأله عما شاهدناه في هذا النهار؟»
قالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي، وقد أوصانا بالأمس ألا نستبطئه إذا غاب.»
قالت: «إن لهذا الرجل لشأنا؛ فقد جاء ليكون في خدمتي وأراه يقضي معظم وقته خارجا!»
فقالت ريحانة: «إذا غاب يا مولاتي، فإنما يغيب في خدمتك أيضا. هكذا فعل بالأمس؛ فلا تلومي الغائب حتى يحضر.»
فقطعت جلنار كلامها قائلة: «إني - والحق يقال - لم أر مثل إخلاص هذا العربي في خدمتنا. والغريب أنه عربي ولم يستنكف أن يكون من موالينا.»
فقالت ريحانة: «إن العرب ليسوا الآن كما كانوا من قبل؛ فقد انحلت عصبيتهم، وانقسموا فيما بينهم، ودالت دولتهم. ألا تذهبين إلى المائدة؟»
فنهضت جلنار ومشت وهي تقول: «نذهب إلى المائدة نتلهى بالطعام ريثما يعود ذلك المهذار.»
فمشت ريحانة في أثرها وهي تتمتم قائلة: «لا أظنه مهذارا.»
تناولتا الطعام وقضتا برهة تتشاغلان بالأحاديث، وكلما سمعتا وقع أقدام تظنان أن الضحاك قادم، حتى طال انتظارهما وغلب عليهما النعاس، فذهبت جلنار إلى الفراش وتوسدت، وظلت ريحانة جالسة بين يديها والنعاس يغالبها والقلق ينبهها، فانقضى هزيع من الليل ونام أهل المعسكر وساد السكوت، وسكت القصاصون والقراء ولم يأت الضحاك، ثم غلب النعاس على جلنار فنامت، وظلت ريحانة جالسة وعيناها مغمضتان من مقاومة النعاس، وقد ثقلت أجفانها وتطأطأ رأسها رغم إرادتها، ونامت نوما متعبا وهي منتبهة الحواس إذا سمعت خربشة استيقظت مذعورة؛ لشدة قلقها على غياب الضحاك.
الفصل الرابع والثلاثون
أمر شاق
وفي إحدى غمضاتها توهمت أنها تسمع ضحكة الضحاك فذعرت وفتحت عينيها، فإذا هو واقف بإزاء عمود الخباء وكأنهما عمودان، فهمت بأن تصيح فيه، ولكنها فطنت لنوم سيدتها، فخشيت أن توقظها وترعبها، فاقتربت منه وقالت بصوت منخفض : «سامحك الله على هذا الغياب.»
فمشى وهو يشير إليها بيديه أن تتبعه، فتبعته حتى خرجا من تلك الغرفة إلى غرفة أخرى ليس فيها نور. وكانت تبطئ في مشيتها، فأمسكها من يدها وشدها وهو يقول: «لا تخافي. لا بأس عليك.»
قالت: «دعني أحمل إليك السراج؛ لأرى وجهك وأسمع حديثك معا.»
فضحك وقال وقد ترك يدها: «ما أشد شوقك لرؤية هذا الوجه! حسنا، هاتي السراج.»
فعادت وهي تمشي على أطراف أصابعها حتى حملت السراج من غرفة جلنار وجاءت به إلى تلك الحجرة، فثبتته بجانب العمود وجلست، فجلس الضحاك - وكان قد أبدل القلنسوة بالعمامة التي يعرفه بها أهل ذلك المعسكر - فابتدرته قائلة: «لقد طال غيابك الليلة، ونحن في قلق، ومولاتي الدهقانة نامت منقبضة النفس على أثر ما رأته من نصرة أبي مسلم لجند الكرماني.»
فقطع الضحاك كلامها وقال: «ألم يقتل الكرماني؟ تلك هي نتيجة تأييده له، وإذا طالت مساعدته لهذا البيت أجهز على أهله واحدا بعد واحد.»
فلم تفهم ريحانة ما قاله، فقالت: «بالله لا تكلمني بالألغاز؛ أفصح.»
قال: «قبحك الله ما أقل فهمك! إلى متى أفهمك وأنت لا تفهمين. إن هذا الخراساني ما تقرب من قوم إلا أبادهم في سبيل مصلحته. لقد أظهر أنه نصير للكرماني حتى يستعين به على صاحب مرو، ولم يكن قصده أن يقتل بسرعة، ولكن الأقدار عجلت به.»
قالت: «إن مولاتنا الدهقانة في قلق شديد بسبب غيابك بعد ما علمته من مقتل الكرماني، فهل أوقظها لسماع حديثك؟»
قال: «سأوقظها بعد قليل، وإنما أريد أن أبوح إليك بأمر أرجو أن تساعديني عليه خدمة لمولاتنا.»
فقالت: «ماذا تريد؟»
قال: «إن مقتل الكرماني إنما كان بمسعاي أنا توطئة لمقتل ابنه؛ كي يرضى علينا أبو مسلم، فتنال مولاتنا ما تتمناه.»
قالت: «أنت سعيت في قتل الكرماني؟ لله ما أقدرك! والآن تريد أن تقتل ابنه! وكيف تستطيع ذلك؟»
فضحك وقال: «لا أستطيع ذلك إلا بمساعدتك.»
فبغتت وقالت: «لعلي من أهل السيف؟»
قال: «إن القتل لا يكون بكثرة الجند يا ريحانة، وإنما ينال الإنسان ما يريد بالدهاء والصبر، وأنا الآن آت من عند أبي مسلم، وقد وعدته بقتل ابن الكرماني؛ لأنه أصبح يتوقع ذلك منا منذ لقيته للمرة الأولى وخاطبته بشأن مولاتنا الدهقانة؛ إذ أخبرته بأنها ستكون عونا له في نجاح مهمته، وليس ثمة ما يسهل عليه تلك المهمة أكثر من قتل آل الكرماني؛ لينفرد هو بالقوة ويتغلب على من بقي من جنود العرب. ولا يتم له ذلك إلا بهذه الطريقة.»
فأجفلت ريحانة لذلك الطلب، وسكتت ولم تحر جوابا.
فلما رآها ساكتة وقف وقال: «دعيني أذهب إلى مولاتي جلنار؛ فإنها أعلم منك بأهمية هذا الطلب.»
فوقفت وهي تقول: «لا أظن أن الدهقانة توافق على قتل رجل يتفانى في حبها إلى حد العبادة بلا ذنب اقترفه نحوها، ولا هي تعودت القتل. امكث هنا ريثما أوقظها ثم أدعوك.» وتركته ومضت، ثم عادت ونادته فتبعها والسراج بيدها حتى دخلت غرفة جلنار؛ وكانت قد جلست في الفراش والتفت بالمطرف، فدخلت ريحانة وكانت قد أخبرتها بمجيء الضحاك، فلما دخلت سألتها عنه فنادته، فدخل ووقف متأدبا، فأمرته بالجلوس فجلس على طنفسة صغيرة عليها رسوم فارسية ملونة، وجعل ركبتيه تحته؛ وهي جلسة التأدب عندهم.
الفصل الخامس والثلاثون
الرفض
فلما استتب به المقام خاطبته جلنار قائلة: «لقد شغلت بالنا بغيابك وأنت تعلم أن والدي إنما أذن بمجيئك لتكون معي؛ لأني لم أزل أعتبر نفسي غريبة بين هؤلاء القوم، وأنت منذ أتينا إلى هذا المعسكر لم تمكث إلا قليلا، ونحن دائما على أحر من الجمر في انتظارك.» فأطرق الضحاك ولم يجب، فاستأنفت جلنار الكلام وكأنها استدركت موقفها فقالت: «لا أنكر أنك لا تغيب إلا في مهمة تهمني، وأنك من أشد الناس غيرة علي، وسعيا في راحتي، ولكنك أقلقتني في هذا المساء حتى كادت تزهق روحي.»
فابتسم الضحاك ابتسامة اعتذار، وأجاب بسكون ورزانة واحترام: «يسوءني يا مولاتي أن أسبب لك تعبا أو قلقا، ولكني أقسم برأس مولاي الدهقان أني إنما غبت في سبيل خدمتك، ومتى عرفت من أين أنا آت الآن عذرتني.»
قالت: «من أين؟»
فالتفت إلى ريحانة كأنه يستشهدها فيما قاله لها في هذا الشأن وقال: «قصصت بعض حديثي على ريحانة في أثناء نومك، ولا بأس من الإعادة: أتيت الآن من معسكر الخراسانيين بعد مداولتي مع الأمير أبي مسلم.»
فلما سمعت الاسم بدا الاحمرار في وجهها، وظهرت علامات الحب في عينيها، وغلب عليها الحياء، فأطرقت وهي تبدي عدم الاهتمام ثم قالت: «وما الذي حدث؟»
قال: «لم يحدث شيء بعد، وأخشى ألا يحدث شيء فيذهب سعينا هباء.»
قالت وقد أوجست من ذلك القول: «ما الذي تخشاه؟»
قال وهو يخفض صوته: «أخاف أن ينقلب سعينا علينا؛ فنحن إنما ركبنا هذا المركب الخشن وحملنا دهقانة مرو إلى خيمة هذا الرجل، وحملناها ما حملناها من المشقة، وعرضناها للخطر على شرط الوصول إلى ما تبتغيه من قائد جند الخراسانيين، وقد تنسمت من كلام ريحانة الآن أن الأمر سيصير إلى غير المراد.»
فالتفتت إلى ريحانة وفي عينيها أمارات الاستفهام، فأجابتها بنظرة الاستغراب، فقال الضحاك: «لا تستغربي يا مولاتي، فإني أفصح لك عن مرادي بعبارة وجيزة. قد رأيت اليوم ما كان من تأييد أبي مسلم لابن الكرماني، ولا أظنك تجهلين معنى ذلك التأييد؛ فأبو مسلم لم ينصر عدوه هذا إلا احتيالا حتى يتمكن من الفوز عليه في شيئين مهمين؛ الأول: أنت؛ وهو الأهم عنده، والثاني: فتح مرو. ولا يغرنك ما يبديه ابن الكرماني من مسايرة أبي مسلم، فهو إنما يسايره ريثما يحقق غرضه فيتزوج الدهقانة ويفتح مرو، وكل منهما لا ينال غرضه إلا بقتل صاحبه لينفرد بالغنيمتين؛ فالكرماني يدبر الوسائل لقتل أبي مسلم، وهذا يدبرها لقتل ابن الكرماني، وترجيح الفوز لأحد المتنافسين راجع إلى رأيك.»
فاستغربت جلنار هذا التفصيل، وأدركت بعض ما يهدف إليه الضحاك، وأشكل عليها البعض الآخر فقالت: «وما أثر رأيي في ذلك؟»
فقال وهو يبالغ في خفض صوته وجلنار تطاول بعنقها نحوه: «إن ابن الكرماني يترقب غفلة من أبي مسلم ليغتاله، ولا ندري متى يتأتى له ذلك، وقد أراد أبو مسلم أن يسبقه إلى اغتنام تلك الغفلة منه فيقتله، وريحانة تأبى ذلك؛ فأرجو ألا يكون رأيك من رأيها.»
فقالت: «هل ترضى ريحانة بفوز ابن الكرماني؟ لا أظن.»
قال: «لم تقل ذلك صريحا، ولكنني ذكرت لها طريقة تسهل قتل هذا الرجل وتجمعك بأبي مسلم، فعرقلت مساعي.»
فقطعت ريحانة كلامه ووجهت خطابها إلى جلنار قائلة: «ليس الأمر كذلك يا مولاتي، ولكنه جاءني برأي لا أظنك ترضين به.»
فابتدرها الضحاك قائلا: «ألا ترضى مولاتنا بقتل هذا الرجل وفوزها بأبي مسلم؟»
قالت ريحانة: «ولكنك تريد أن يكون قتله على يدها!»
فلما سمعت جلنار قولها بدا الارتباك في وجهها، ونظرت إلى الضحاك فرأته يصعد كتفيه ويقلب شفتيه ولسان حاله يقول: «ذلك لا يعنيني.»
فقالت جلنار: «أحقيقة أنت تعني ذلك؟ أتعني أن أقتل هذا الرجل؟ وكيف أقتله وهو لم يسئ إلي بشيء؟»
قال: «تفعلين كما تشائين. كأنك ألفت الإقامة هنا ونسيت وعدك.»
قالت: «لم أنس وعدي، ولا أريد تغيير عزمي، وأنت تعلم ذلك.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج الخاتم ودفعه إليها وقال: «وهل تعرفين صاحب هذا الخاتم؟»
فتناولته وقرأت ما عليه بقرب السراج، فإذا عليه اسم أبي مسلم، فاختلج قلبها في صدرها، وهاجت عواطفها، وتنسمت منه رائحة حبيبها، ونظرت إلى الضحاك وقالت: «هذا خاتمه. ما الذي جاء به إليك؟»
قال: «لم أسرقه، ولكن صاحبه دفعه إلي دليلا على صدق رسالتي، فهل تصدقين ما أقوله؟»
قالت: «وهل كذبتك في شيء قبل الآن؟»
قال: «كلا.»
قالت: «وما الذي بعثك به إلي؟»
قال: «قصصت عليك غرضه، وخلاصة ذلك أننا إن لم نقتل صاحب هذه الخيمة فهو يقتل صاحب هذا الخاتم؛ فإن أحدهما سيقتل الآخر لا محالة، فإذا لم نعمل على قتل هذا فكأننا سعينا في قتل ذاك، ولا سبيل إلى ذلك إلا بك؛ فاختاري أحد الوجهين.»
فأدركت جلنار غرضه فأعظمت الطلب، ولكنها أعظمت أن تعرض حبيبها للخطر وهي تعتقد أنه يحبها، وفي قتله ذهاب كل آمالها؛ فلبثت حائرة ساكتة، واستولى السكوت على تلك الجلسة السرية لحظة، وكل من الحضور مطرق يفكر، ثم فتحت جلنار الكلام قائلة : «قد أوقعتني في حيرة لا أعرف كيف أنجو منها. أما القتل فلا طاقة لي به، ولكنني أبذل جهدي في منع الأذى عن ذاك.»
فضحك الرجل وقال: «تمنعين الأذى؟ إذن افعلي ما بدا لك؛ فأنا غير مسئول عن تبعة ما يحدث من عاقبة هذا التردد.»
فخشيت تهديده وازدادت حيرة وعادت إلى السكوت، فقال الضحاك: «كيف تمنعين الأذى وأنت محبوسة في هذه الخيمة، ولا يمكن خروجك منها إلا بقتل صاحبها، وإذا لم نعجل بمقتله سبقنا هو إلى قتل صاحبنا، ونندم حين لا ينفعنا الندم. ومع ذلك فأنت صاحبة الشأن ونحن طوع أمرك، فإن الخسارة إنما تعود عليك؛ فافعلي ما تشائين.»
فقالت: «أقتله بيدي؟ بالله كيف أستطيع ذلك؟ تبصر في الأمر يا ضحاك، واجعل نفسك في موضعي، فما الذي تفعله؟»
قال: «أنا؟ لو كنت في مكانك لقضيت هذا الأمر بجرعة ماء أو لقمة طعام.»
فأطرقت هنيهة ثم قالت: «لا، لا أقدر على ذلك، ولكنني أبذل جهدي في منع الأذى عن ... وإذا استطعت المساعدة في ...» وسكتت، ثم قالت: «دعني أتدبر هذه المسألة وأرى ما يفتح علي به.»
فنهض الضحاك وقد اعتزم أن يقنع جلنار في جلسة أخرى، وقال لها: «ارجعي لي هذا الخاتم لأرده إلى صاحبه، وأنا علي يقين أنك ستوافقين على رأيي.»
فقالت: «وهل ترده إليه الليلة؟»
قال: «لا بد من ذلك، ولم يعطني إياه إلا على هذا الشرط.»
فتثاقلت جلنار في دفع الخاتم إليه؛ لأنها استأنست به، وتنسمت منه ريح حبيبها، ثم انتبهت لتثاقلها والضحاك واقف في انتظارها، فدفعته إليه رغم إرادتها، فتناوله وخرج، وترك الدهقانة وماشطتها في بحور من الهواجس.
الفصل السادس والثلاثون
كشف المعمى
أما هو فسار مسرعا حتى خرج من المعسكر وقد ذهب نصف الليل، وأطل القمر من وراء الجبال عن بعد، فانفرد الضحاك في مكان نزع فيه جبته، وغير قيافته، وحل عمامته، ثم تعمم تعميما خاصا ومشط لحيته وشد منطقته في وسطه، وأصلح من شأنه حتى ذهبت عنه هيئة المجون ، واتجه نحو معسكر شيبان الخارجي.
وكان معسكر الخوارج وراء معسكر الكرماني في منبسط من الأرض، والخوارج - كما لا يخفى - يذهبون إلى نزع السلطة من كل مسلم، ويرون أن الحكم لله وحده. يقولون ذلك ويطلبون السلطة لأنفسهم، فغرضهم مثل أغراض سائر طلاب الخلافة في ذلك العهد، ولو اختلفت الأسباب. وكان زعيمهم شيبان قد جاء برجاله وحاصروا مرو قبل مجيء أبي مسلم - كما تقدم - وجاء الكرماني فتنازعا على مرو.
وكان نصر بن سيار؛ صاحب مرو، من أهل الدهاء والحزم، فكان إذا خاف أحد العدوين استعان عليه بالعدو الآخر، فلم يستطع أحد منهما أن يتغلب عليه.
وكان الضحاك من أمراء الخوارج، شديد التمسك بمذهبهم، فلما تحقق من امتناع مرو على أصحابه، وبلغه سعي الكرماني في زواج ابنه من ابنة دهقان مرو منذ أشهر، رأى أن يحتال في قتل الكرماني غيلة، وخطر له أن يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الدهقان، ويحبب نفسه إلى الدهقانة حتى تستأنس به، ويكون في جملة من يحمل معها من الخدم والعبيد إلى بيت زوجها، فيتقرب من الكرماني، ويغتنم غفلته واطمئنانه ويقتله، فيشتد أزر الخوارج وينفردوا بمحاربة مرو؛ فيتم لهم النصر، فاحتال حتى بيع للدهقان في جملة مماليك بيعوا له، وبذل جهده بالتقرب من الدهقانة بواسطة ريحانة بما كان يبديه من المجون ونحوه، حتى وثقت الدهقانة به كل الثقة، وصارت تعهد بأسرارها إليه. وكان يحرض ريحانة على تحبيب ابن الكرماني إلى سيدتها.
وبينما هو يسعى في ذلك جاء أبو مسلم إلى الدهقان ونزل عنده، فاطلع الضحاك على مقاصده، وعرف قوته، فأعمل فكرته في تدبير الحيلة، ثم كلفته ريحانة مخابرة أبي مسلم بشأن زواجها به، كما تقدم، فرأى أن يستعين بأبي مسلم على قتل الكرماني وابنه بواسطة جلنار، فشجعه على الإفادة منها، ونقل إليها خبر رضاه بها من عند نفسه، وأراد أن يستخدم الدهقانة لقتل الكرماني وابنه، وغيرهما إذا اقتضت الحال، ثم يتمكن من قتل أبي مسلم إذا ساعدته الأحوال، وإلا فيكتفي بقتل ابن الكرماني فيبقى اليمنية بلا أمير، فيحضهم على الاتحاد مع شيبان؛ لأنهم من العرب، وهم بالطبع يفضلون العرب على الخراسانيين، فينصرون شيبان، فينفرد أبو مسلم برجاله الخراسانيين، وهم قليلون، فيغلبه الخوارج ويفتحون مرو لأنفسهم، ويتم لهم ما كانوا يأملونه من إخراج بني أمية من خراسان والاستقلال بها.
فلما جاء أبو مسلم إلى مرو، وعلم الضحاك أن أبا مسلم لا بد له من الاستعانة بالكرماني على شيبان ونصر، تظاهر بأنه على رأيه، وأشار عليه بالتفريق بين الأميرين، كما رأيت، وزعم أنه استنبط هذا الرأي من نفسه ليكتسب ثقة أبي مسلم؛ توصلا إلى إغرائه بقتل ابن الكرماني بواسطة جلنار. وكان في خلال إقامته عند دهقان مرو، وبعد مجيئه إلى معسكر الكرماني، يتردد سرا إلى معسكر الخوارج، ويطلع شيبان على تدابيره؛ ولذلك ظل شيبان بعد قدوم أبي مسلم إلى مرو هادئا لا يحارب؛ عملا بمشورة الضحاك بالانتظار؛ فإما أن يحارب أبو مسلم الكرماني فيفني أحدهما الآخر، فيخلو الجو لشيبان، أو أن يحتال الضحاك في قتل ابن الكرماني.
وكان شيبان قد تواطأ هو والضحاك في مساء الأمس أن يذهب الضحاك إلى أبي مسلم فيحرضه على قتل ابن الكرماني على يد جلنار، فإذا تحقق له ذلك بعث دعاة الخوارج إلى اليمنية؛ رجال الكرماني، يحرضونهم على الاتحاد معهم؛ لأنهم عرب مثلهم، ويطلعونهم على حيلة أبي مسلم في التفريق بينهم بالكتب التي أرسلها إليهم مع الرسول. وكان شيبان عازما على مهاجمة مرو في صباح الغد حالما يعلم بقتل ابن الكرماني، فبعث أمراءه في المعسكر يستحثون الرجال على التأهب، وأمر القصاصين أن يتلوا على الجيش أقوال عنترة وغيره من أشعار الجاهليين في الحماسة والفخر؛ استنهاضا للهمم، وتحريضا على العصبية العربية؛
1
تلك كانت عادة الجنود العربية في حروبها.
الفصل السابع والثلاثون
القصاص ورفيقه
وجلس شيبان في خيمته ينتظر مجيء الضحاك، فلما استبطأ مجيئه وقد مضى هزيع من الليل ضجر، وخشي أن يتغلب عليه النعاس وعلى أمرائه الساهرين معه لهذه الغاية، فأمر أحد غلمانه أن يأتيه بقصاص يتلو عليه بعض الأشعار أو القصص على سبيل التسلية، فذهب الغلام ثم عاد وهو يقول: «إنه سمع قصاصا ينشد أشعارا حماسية بصوت رخيم، ويضرب على الطنبور بأطرب الأنغام.»
فقال شيبان: «وأين هو؟»
قال الغلام: «هو بجانب فسطاط الأمير. ألا تسمع صوته؟»
فأصاخ شيبان بأذنيه، فسمع نشيدا مطربا وصوتا عاليا يدوي في ذلك الليل الهادئ تتخلله أنغام الطنبور، فأمر الغلام أن يأتي به حالا.
فخرج الغلام ثم عاد ووراءه شيخ طاعن في السن، طويل القامة، عريض المنكبين، عليه عمامة صغيرة، واسع اللحية والصدر، أبيض الشعر، وقد غطت لحيته معظم صدره، وعليه عباءة حمراء قصيرة، وبيده طنبور يضرب عليه بلباقة، ومعه رجل قصير القامة على رأسه عمامة كبيرة لها زائدتان عريضتان؛ إحداهما مرسلة إلى الوراء، والأخرى مدلاة على جبينه فوق عينيه؛ كأنه يشكو رمدا فأصبح مغمض العينين، وإذا مشي تعلق برفيقه القصاص يلتمس الطريق في أثره، وبيده دف صغير ينقر عليه نقرا جميلا.
وكان شيبان في خيمة كبيرة قائمة على عدة أعمدة، في أرضها بساط كبير قد جلس هو في صدره على وسادة، وبين يديه بضعة أمراء من خاصته، فلما رأى القصاص داخلا أمره بالجلوس والإنشاد وأجلس رفيقه، فبدأ هذا بالنقر على الدف نقرا محكما، وأخذ القصاص في الإنشاد بما يطرب الجماد، فأنشد بعض أشعار عنترة، ثم أمره شيبان أن ينشد أشعار غيره من الجاهليين، فتلا أقوال زهير وطرفة وغيرهما وهو يضرب على الطنبور بما يثير الحماس في النفس. وكلما قال بيتا حماسيا هاج الأمراء وتحمسوا واستعادوه، وطلب إليه بعضهم أن يقص أخبار حرب البسوس، ويوم ذي قار؛ الذي انتصف فيه العرب من العجم، وغيرهما من مواقع الجاهلية المشهورة، فأجابهم في كل ما يطلبون سواء كان قصة أو شعرا أو ضربا على الطنبور، ورفيقه ينقر على الدف نقرا حسنا، ويساعد القصاص فى الإنشاد وهو مطرق إلى الأرض من ألم عينيه، فطرب الجميع ونسوا ما كانوا فيه من ملل الانتظار، وتجمع رجال الحاشية والخدم في الخيمة وحولها حتى تكاثروا واختلطوا.
وبينما هم في تلك الضوضاء دخل غلام تخطى رقاب الناس حتى وقف بين يدي شيبان وأسر إليه قولا، فأشار شيبان إشارة تحرك لها كل من كان من الأمراء والحاشية، ووقفوا وعلت ضوضاؤهم وهموا بالخروج، فوقف القصاص وتعلق به رفيقه وأرادا الخروج مع الخارجين، فجاءهما أحد الغلمان وأمرهما بالانتقال من الفسطاط إلى خيمته الخاصة بجوار ذلك المكان، فخرج القصاص ورفيقه ممسك بطرف ثوبه، فرأى القصاص وهو خارج رجلا طويلا دخل الفسطاط، فتنحى له الناس واستقبله شيبان بالترحاب وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: «أهلا بالأمير شبيب.»
ولم تمض بضع دقائق حتى خرج الناس من الفسطاط إلا الأمير شيبان والأمير شبيبا، وبضعة أمراء آخرين، وتحول سائر الحاشية والأعوان إلى خيمة بالقرب من الفسطاط. وأراد القصاص أن ينصرف، فأمسكه أحد الخدم وأمره أن يدخل تلك الخيمة وينشد لبعض رجال الحاشية هناك، فدخل مع رفيقه وأخذا في الإنشاد والضرب والنقر، فبعث الأمير شيبان إليهم أن يسكتوا لئلا يشوشوا على حديثهم، على أن يستبقوا القصاص إلى ما بعد الفراغ من الحديث، ففعلوا.
الفصل الثامن والثلاثون
شيبان وشبيب
فلما خلا شيبان بشبيب ومن ظل في الفسطاط من خاصته، انطلق لسانه بالترحاب وهش له، واستدناه حتى تماست ركبتاهما، وشيبان يقول: «بورك في الأمير شبيب. أرجو أن تكون قد نجحت وآن لنا الظهور.»
قال: «النجاح لا ريب فيه، بإذن الله، وببركة الأمير شيبان.» قال ذلك وأخرج خاتم أبي مسلم ودفعه إليه.
فبغت شيبان وتناول الخاتم وتفرس فيه، فلما عرفه تبسم والتفت إلى أمير بجانبه وقال: «هذا خاتم الشاب الخراساني، فما قولكم فيمن تمكن من الحصول عليه؟»
فأجاب أحد الأمراء قائلا: «ما الذي ينفعنا من خاتمه وهو معسكر أمامنا وقد اتحد مع هؤلاء اليمنية، وقبض على زمام أميرهم الكرماني بعد أن قتل أباه؟ فإذا اتحدا على صاحب مرو غلباه ولا فائدة من مقامنا هنا.»
فضحك شبيب غير ضحكة الضحاك ووجه خطابه إلى الأمير شيبان وهو يتربع في مجلسه، ويده اليمنى على ركبة شيبان، واليسرى يحك بها ذقنه، وقال: «لم أخط خطوة إلا وأنا حاسب لها حسابا، وأظنني أحسنت التدبير، وسأوضح لكم رأيي، فإذا بدا لكم تعديله أطعتكم فيه.» ثم التفت يمينا ويسارا كأنه يتأكد من خلو المكان من الغرباء أو الخدم، فابتدره شيبان قائلا: «قل. إننا في مأمن من العيون، وليس حولنا أحد نخشى منه على إفشاء سرنا.»
فقال شبيب: «لا يهمنا هذا الخاتم إن لم نقتل به ابن الكرماني الليلة أو غدا!»
فقال شيبان وهو يظهر الإعجاب والدهشة: «الليلة؟»
قال شبيب: «كنت أتوقع قتله الليلة، ولكنه في حال لا يبقى بها إلى ما بعد الغد.»
فقال أحد الأمراء: «وكيف نقتله وهو محاط بالحرس والحاشية؟»
فاعترضه شيبان قائلا: «نقتله بالدهاء والذكاء، وإذا كنتم تعرفون دهاء الأمير شبيب فلا تستغربوا ذلك منه.» ثم التفت إلى شبيب كأنه يلتمس منه إتمام الحديث، فقال شبيب: «إذا قتل ابن الكرماني فإن رجاله يكونون معنا على أبي مسلم؛ لأنهم عرب مثلنا، وكلهم يمنية، وهم طبعا يكرهون عرب خراسان ومضر ومرو، ولم يجمع كلمتهم علينا الآن إلا أميرهم المذكور، فمتى قتل فعلي (وأشار بإصبعه إلى صدره) أن أجمع كلمتهم تحت قدم الأمير شيبان، فإذا فعلنا ذلك تكاتفنا أولا على قتل أبي مسلم وتشتيت جمعه. ولا ريب في أن نصرا؛ صاحب مرو، يساعدنا على ذلك أو يلزم الحياد على الأقل.»
فقطع شيبان الحديث بقوله: «بل هو يساعدنا؛ لأنه بعث إلي في صباح هذا اليوم يطلب محالفتي.»
فقال شبيب: «ولو لم يطلب هو نصرتنا لطلبنا نصرته، وإنما الغرض الأول أن تتخلص من ابن الكرماني، ولا تحسبن التخلص منه هينا، بل هو يستحيل على سواي؛ ولذلك حديث يطول شرحه، والأمير شيبان يعرف معظمه.»
فأجاب شيبان بإحناء رأسه وإطباق جفنه أن نعم.
فقال شبيب وهو ويوجه حديثه إلى شيبان: «لقد زهقت روحها قبل الوصول إلى الغرض المنشود؛ فالفتاة المفتونة بحب ذلك الخراساني جعلتها تعتقد أنه مفتون بها، وأنه لا سبيل لها إليه إلا بقتل خطيبها ابن الكرماني؛ وهذا أكثر تفانيا في حب هذه الفتاة من تفانيها في حب أبي مسلم، وأرجو أن يهلكوا جميعا نتيجة لهذا الحب. وقد بذلت كل ما في وسعي لتحريضها على قتل ابن الكرماني، أو مساعدتي في قتله بالسم أو نحوه؛ إرضاء لحبيبها، وهو - في الحقيقة - لا يحبها، ولكنه مالأني على إظهار الحب لتحقيق غرضه، كما خدعته باستماتتي في سبيل دعوته لتحقيق غرضي، وهو يحسب نفسه يخادعني ويسايرني ويظنني مخدوعا مغرورا، وهو المخدوع المغرور. والخلاصة أني خدعته حتى دفع إلي خاتمه علامة منه لتلك الدهقانة أنه يحبها، وأنه يريد منها أن تفتك بخطيبها. وأعترف لكم أني آنست منها مقاومة في بادئ الأمر، ولكني سأعيد الكرة في الغد، بحيث لا ينقضي اليوم إلا وقد نفذت الحيلة.»
فظهرت أمارات الإعجاب على وجوه السامعين وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، ويرقبون حركات شفتيه وعينيه لاستيعاب أقواله، فلما رأى منهم ذلك تنحنح وسكت وهو مطرق كأنه يفكر في أمر خطير، فسكتوا وأصبحوا يتوقعون منه قولا، فإذا هو يقطب حاجبيه ويرفعهما كما يفعل الحائر، ثم التفت إلى شيبان وقال: «بقي أمر لا بد من الرجوع فيه إليكم، والاعتماد عليكم.»
فتجمعت أنظارهم عليه وقال شيبان: «وما الذي تريده؟»
قال: «لا بد لنا من تمهيد السبيل لجمع كلمة هؤلاء اليمنية معنا؛ بحيث إذا قتل أميرهم انحازوا إلينا، وتم الأمر لنا.»
فقال شيبان: «وهل تفعل ذلك قبل مقتل الرجل أو بعده؟»
قال: «يجب أن نمهد السبيل قبلا؛ خوفا من الفشل، وأرى أن يكون ذلك بمخاطبة كبار الأمراء سرا. ولولا انشغالي فيما هو أهم من ذلك لما تكلفت المشقة في تبغيض أبي مسلم إلى اليمنية أكثر من إطلاعهم على حيلته في إلقاء الفتنة بينهم وبين المضرية. وهو الرأي الذي أشرت به وعرضته عليه يوم وصوله، كما تعلمون، فإذا اطلعوا على هذا السر مع ما في قلوبهم من الكره الطبيعي للفرس اتحدوا معنا لا محالة، فما قولكم؟»
فلم يتمالكوا أن صاحوا بصوت واحد: «هذا هو الرأي الصائب.»
فوقف شبيب وهو يتوكأ على كتف الأمير شيبان ويقول: «دعوني أذهب الآن.»
فصاح شيبان: «إلى أين؟»
قال: «إلى أبي مسلم.»
قال: «إلى أبي مسلم؟ ولماذا؟»
قال: «لأعيد إليه خاتمه؛ فقد وعدته بذلك، وينبغي أن أفي بالوعد لتتم لنا الحيلة، ولكي أستمهله ريثما أقتل ذلك المغرور.»
الفصل التاسع والثلاثون
رد الخاتم
فوقف شبيب ووقف سائر الأمراء، فلم يمهلهم إلا لحظة وخرج مسرعا ولم يقل شيئا، فلما خرج عادوا إلى مجلسهم وهم معجبون بتدبيره ودهائه، ولبثوا هنيهة يتداولون في ذلك الموضوع وقد انشرحت صدورهم، واطمأنت نفوسهم، وأيقنوا بنجاح مسعاهم، ثم انتبهوا لما كانوا فيه من سماع القصاص ونقره، فصفق الأمير شيبان، فدخل أحد الغلمان، فصاح فيه: «إلي بالقصاص. أين هو؟»
قال الغلام: «تركته مع رفيقه الضرير في خيمة الأعوان، وهما في الانتظار ريثما يؤذن لهما بالإنشاد.»
قال شيبان: «إلي بهما.»
فخرج الغلام ثم عاد وهو يقول: «لم أجدهما يا مولاي. يظهر أنهما ذهبا للنوم؛ لآني آنست فيهما نعاسا شديدا بعد أن أمرا بالسكوت، حتى رأيتهما ناما والناس جلوس، فتركوهما نائمين وخرجوا، فذهبت إليهما الآن فلم أجدهما. فالظاهر أنهما استبطآ الأمير في دعوتهما فانصرفا.»
فقال: «لا أظنهما ينصرفان قبل أن يأخذا المكافأة! ابحث عنهما جيدا حول هذا المكان؛ فقد أطربانا ويجب علينا أن نكرمهما.»
فخرج الغلام وعاد بعد برهة ولم يعثر عليهما، فأسف الأمير لذهابهما بغير مكافأة، وأوصى الغلام أن يتحرى شأنهما في غد لئلا ينسبا إلى الأمير البخل، ثم اختتمت الجلسة وذهب الأمراء إلى أماكن النوم، وظل الأمير شيبان وحده يدبر الوسائل للاتصال بالأمراء اليمنية في غد.
أما شبيب، فلما بعد عن معسكر الخوارج اختلى في مكان بدل فيه ثيابه حتى عاد إلى ما كان عليه من مظهر المجون، وسار توا إلى معسكر أبي مسلم، فوصل إلى المعسكر وقد مضى معظم الليل، ثم أقبل على المنزل الذي فارق أبا مسلم فيه، ولم يدهش لوجوده مستيقظا إلى تلك الساعة؛ لعلمه بسهره على مصلحته، وتيقظه في مراعاة مشروعه. ولم يلق الضحاك معارضة من أحد. فلما وقف بالباب دخل به الحارس على أبي مسلم، فإذا هو لا يزال بملابس النهار، فلما دخل احتفل أبو مسلم بدخوله وبش له وناداه قائلا: «أهلا بالضحاك. أرجو أن تكون قد وفيت بالوعد.»
فمد الضحاك يده وتقدم نحو أبي مسلم باحترام والخاتم بين إبهامه والسبابة، وقال: «هذا هو الخاتم يا مولاي؛ فقد أدى مهمته. شكرا له ولصاحبه.»
فمد أبو مسلم يده وتناول الخاتم وهو يقول: «بل الشكر لك أيها الهمام. هل أرسلت الرجل إلى خوارزم؟» وكانت عادته إذا أراد قتل رجل قال: «أرسلوه إلى خوارزم.» وهو يعني بخوارزم الموت.
قال: «لم أستطع إرساله الليلة؛ لأني وجدت الدهقانة مترددة في تنفيذ الحكم؛ لأنها لم تتعود مثل هذه الأوامر المستعجلة.» وضحك.
فسايره أبو مسلم في الضحك وقال: «لا بأس من الانتظار، ولكن هل استوثقت من قيامها بالأمر غدا أو بعد غد؟»
قال: «نعم؛ لأنها حينما شاهدت هذا الخاتم هان عليها كل صعب في سبيل مرضاة صاحبه.»
فأظهر أبو مسلم الاستحسان والإعجاب، وأشار إلى الضحاك أن يجلس وقال: «إذا وفقت إلى ما تقول وفتحنا مرو، كان لك عندنا مقام رفيع ورتبة عالية.»
فأثنى الضحاك على ذلك التلطف ولم يجلس، وقال: «إن أسمى ما تتوق إليه نفسي من الرتب أن أكون حائزا على رضا مولاي. وإذا أذنت لي بالانصراف الآن ذهبت لإتمام ما اتفقنا عليه.»
قال: «لا ينبغي أن تتعجل في الأمر على هذه الصورة لئلا يفسد علينا تدبيرنا، ولا أظن أن الدهقانة توفق إلى تنفيذ ذلك قبل جلسة أخرى تقنعها فيها بلباقة ومهارة. وهي الآن لا شك نائمة؛ فالأفضل أن تبيت الليلة عندي، فإذا طلع النهار ذهبت في هذه المهمة.»
فأظهر الطاعة وهو يفضل الذهاب لإتمام ما أبرمه مع شيبان، فوقف ولم يحر جوابا، وسكت أبو مسلم وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، فعلم الضحاك أنه يفكر في أمر هام، فظل ساكتا لعل أبا مسلم يعدل عن استبقائه عنده. وبعد برهة وقف أبو مسلم بجانب الضحاك بغتة، وألقى يده على كتفه بلطف، فاستأنس الضحاك بهذا التحبب، وأصاخ بسمعه لما سيقوله أبو مسلم، فإذا هو يتفرس في عينيه تفرس المستطلع، ثم قال بعبارة رقيقة ناعمة: «هل أنت تشعر حقيقة بمنزلتك عندي وعظم ثقتي بك؟»
وكان الضحاك قد خشي ذلك التفرس لما يعتقده من سوء قصده، ولما يعلمه من صدق فراسة أبي مسلم - ويكاد المريب يقول خذوني - فلما سمع منه ذلك التلطف سري عنه وأجاب: «كيف لا أشعر بذلك وقد سلمتني خاتمك وعهدت إلي بأسرارك؟»
قال أبو مسلم: «لا يزال عندي سر آخر. هل أكاشفك به؟»
قال الضحاك: «لك الأمر فيما تريد. أما أنا فإني طوع إرادتك.»
قال أبو مسلم: «اجلس إذن وأصغ.» قال ذلك وأجلسه ويده على كتفه، فجلس الضحاك وهو يتطاول بعنقه ليسمع ذلك السر الجديد؛ لعله يساعده على بلوغ مأربه.
الفصل الأربعون
سر جديد
فلما جلسا قال أبو مسلم بصوت منخفض: «أنت تعلم كم معي من رجال خراسان وهم طوع إرادتي، ولكنني لا أثق إلا ببعضهم، ولا أسلم سري إلى أحد منهم، وقد خطر لي في هذه الساعة خاطر أردت أن أستشيرك فيه؛ لما آنسته من إخلاصك وصدق خدمتك ودهائك، وإن كنت تتظاهر بالبله والمجون، فأنت أهل للمناصب العالية. فاعلم أن تواطؤنا على قتل ابن الكرماني لا يعلم به أحد من رجالي، حتى ولا خالد بن برمك ولا سليمان بن كثير؛ مخافة أن يطرأ ما يفسد علينا تدبيرنا، وقد خطر لي الآن أمر زادني خوفا من الفشل.»
قال الضحاك: «وما هو يا مولاي؟»
قال: «إذا نحن قتلنا ابن الكرماني، فمن يضمن لنا انصياع رجاله إلينا وهم عرب ونحن فرس؟ ألا تظنهم ينحازون إلى غيرنا؟»
فتجاهل الضحاك وقال: «وإلى من تعني يا مولاي؟ أما انحيازهم إلى نصر فأمر بعيد؛ لأنه قتل أميرهم الكبير.»
فقطع أبو مسلم كلامه قائلا: «أنا أعلم أنهم لا يحبون نصرا، ولكنهم قد ينحازون إلى جند الخوارج المعسكرين هنا. اصدقني لأنك عربي وتعرف ميول العرب؛ ألا تظن أمراء اليمنية يفضلون أولئك العرب علينا؟»
فأطرق الضحاك وقد وقع في حيرة لا يدري بماذا يجيب، واستغرب هذا السؤال، ولكنه تجلد وتظاهر بالسذاجة وقال: «أظنهم يفضلون العرب طبعا.»
قال أبو مسلم: «يخطر لي خاطر أنصحك به؛ فإما أن توافقني عليه، أو ندفنه هنا ولا يعلم به أحد.»
قال الضحاك: «إني طوع أمرك يا مولاي.»
قال: «قد علمت من أصحاب الخبر الذين بثثتهم في معسكر الخوارج منذ مجيئي إلى هذا المكان أنهم ينوون محالفة نصر بن سيار؛ صاحب مرو، على حربنا وحرب ابن الكرماني، فيخطر لي الآن أن أحالف هؤلاء الخوارج على نصر وابن الكرماني، فإذا قتلنا هذا جعلنا قيادة العرب اليمنية كافة على الأمير شيبان، بشرط أن يكون حليفنا على نصر؛ لأن الغرض الأصلي الذي قمنا من أجله بدعوة الإمام إنما هو إخراج الخلافة من بني أمية، وليس الغرض أن نفتح مرو أو غيرها من مدن خراسان. وهذا سر عميق لو علمت أن طائرا تنسم ريحه قتلتك، وأنت تعلم أني أقتل لمجرد الاتهام بأمر الإمام.»
فتوسم الضحاك من وراء هذا السر خيرا كبيرا لمشروعه الأصلي، فأقبل نحو أبي مسلم بكليته، وهش له وقال: «إني أستغرب تهديدك إياي، وسوء ظنك بي، وقد أوتيت فراسة تخترق بها الصدور، وتكشف أسرار القلوب، فإذا كنت ترتاب في صدق نيتي فاقتلني حالا!»
فابتسم أبو مسلم وقال: «قد علمت مكنونات قلبك، ولكنني أزداد اختبارا، فاعلم أننا لو فتحنا مرو في هذه الساعة، فإنما نهدف من فتحها إخراجها من سلطان بني أمية، ثم لا يهمنا من يتولاها بعدهم. وأعترف لك أني أخشى أولئك الخوارج واتحادهم مع رجال ابن الكرماني - بعد قتل الكرماني نفسه - فإذا كانوا ضدنا أتعبونا، لا سيما إذا حالفوا نصرا؛ صاحب مرو، فهل من سبيل إلى أميرهم شيبان؟ هل تعرفه أو تعرف أحدا يستطيع التوسط بيننا وبينه؛ لنبرم اتفاقا يقينا شر ما نخافه؟»
فلما سمع الضحاك قوله استبشر بالفوز وأيقن بنجاح مسعاه على أهون سبيل، فقال: «أما الأمير شيبان فإني أعرفه، وهب أني لا أعرفه فلا أعدم وسيلة في الاتصال به.»
قال: «صدقت. إن من كان في مثل تعقلك ودهائك لا يعدم وسيلة لذلك؛ لكنني أستشيرك حين أخشى أن أكون واهما في تصوري، وقد استودعتك سري وجعلتك موضع ثقتي؛ فانصحني.»
قال الضحاك: «إذا جاز لمثلي أن يبدي رأيا لصاحب دعوة الإمام إبراهيم، فإني أهنئك على هذا الرأي السديد، وبخاصة بعد أن علمت الغرض الأصلي من القيام بهذه الدعوة؛ لأن هؤلاء الخوارج لا يطمعون في أكثر من الاستيلاء على مرو، وإذا كان استيلاؤهم عليها برضاك كانوا عونا كبيرا لك في سائر الفتوح. ولا يخفى عليك أنهم يكرهون المضرية أكثر من كرههم للفرس، فإذا حالفتهم خدموك ونصروك.»
فأظهر أبو مسلم الارتياح إلى نصيحة الضحاك وقال: «فعلينا إذن أن نتصل بالأمير شيبان، ولست أثق في أحد سواك؛ فهل أعهد بهذا الأمر إليك؟»
قال الضحاك: «إذا كنت تثق في قولي فإني أطوع لك من بنانك.»
قال: «لا أثق بسواك؛ فامكث عندنا الليلة فأزودك في غد برسالة تذهب بها إلى الأمير شيبان، وأترك إلى فطنتك أسلوب إبلاغها بحيث يكون النجاح مضمونا.»
فقال الضحاك: «كن مطمئنا من هذه الناحية.»
قال: «فاذهب الآن إلى مخدعك في هذه الغرفة (وأشار إلى غرفة بالقرب من المكان)، وفي صباح غد أعد لك الكتاب.»
فأشار مطيعا وذهب إلى فراشه وهو لا يصدق ما وفق إليه من أسباب السعادة، ولم يستطع النوم من شدة الفرح إلا قبيل الفجر، فإن النعاس غلب عليه فنام. واستيقظ في الصباح فنهض وتهيأ للذهاب وهو يخشى أن يعدل أبو مسلم عن عزمه، فإذا بأحد الغلمان يدعوه إليه، فهرول حتى وقف بين يديه، فدفع إليه كتابا مختوما وقال له: «ضع هذا الكتاب في مكان سري؛ فإني لا أريد أن يطلع عليه أحد من رجالي، واذهب من هذا الطريق (وأشار إلى طريق غير الذي تعود المجيء منه)، وإذا علمت أن أحدا من رجالي اطلع عليه أو علم به فأنت تعرف جزاءك.»
الفصل الحادي والأربعون
فتح مبين
فتناول الكتاب وخبأه في جبيه وودع أبا مسلم وخرج وهو في ملابس المجون؛ الجبة والعمامة المنحرفة، والنعل في قدميه، ومشى من وراء الخيام حتى توارى عن أبي مسلم، ثم عرج ليدور من وراء المعسكر وهو يسرع في خطواته، فرأى بضعة فرسان عرف من ملابسهم أنهم من رجال أبي مسلم، فتحول ليبتعد مخافة أن يسألوه عما يحمله ، فإذا هم يركضون جيادهم نحوه، فظل مسرعا، فأسرعوا نحوه حتى أحدقوا به، وأشار أحدهم إلى رفاقه فانقضوا عليه وضايقوه، فوقف وسألهم عما يريدون، فابتدره رجل ملثم منهم قائلا: «من الرجل؟»
فتحير ولم يدر بماذا يجيب ثم قال: «إني عابر سبيل.»
فقال له: «ليس هذا سبيلا للعبور. قل لنا: من أنت؟ وما غرضك؟»
قال: «لا شأن لكم بغرضي فإني سائر في مهمة.» ولم يجسر أن يخبرهم عن مهمته.
فتحول بضعة منهم وفي أيديهم الحبال وأوثقوه وقيدوه وهم يقولون: «إما أن تخبرنا عن غرضك أو تبقى أسيرا عندنا.»
قال الضحاك: «سيروا بي إلى الإمام أبي مسلم، فتعلمون من أنا.»
قالوا: «لا نسير بك إليه ما لم تخبرنا.»
فصاح فيهم: «إذا لم تسرعوا بي إليه فإنكم نادمون.»
فقالوا: «إذا كنت رسولا فأين الكتاب الذي أنت ذاهب به؟ وإلا فأنت عدونا.»
فطال الجدال بينه وبينهم، وهو لا يجسر على أن يخبرهم بالكتاب الذي يحمله، فأطاعهم خوفا على حياته، وهو يهددهم بما سيلاقونه من غضب أبي مسلم إذا لم يطلقوا سراحه، فأجابه الفارس الملثم قائلا: «سأرسل فارسا يخبر الأمير بأمرك، فإذا أمر بإطلاق سراحك أطلقناك.»
فرضي الضحاك بذلك وأذعن لهم، فساقوه إلى خيمة على أكمة تشرف على معسكر أبي مسلم، فوقفوا به هناك حينا وهو يتوقع رجوع الرسول حالا، فشاعت عيناه وهو ينظر إلى المعسكر وقد توارى الرسول عن بصره وراء التلال والخيام، وإذا هو يرى حركة في معسكر الخراسانيين، ثم سمع قرع الطبول ونفخ الأبواق، فتطلع فرأى الخراسانيين على خيولهم وقد شرعوا الأسنة وساروا، والأعلام السود تتقدمهم يعلوها لواء الإمام ورايته (وكانا بارزين صعدا بضعة أذرع فوق سائر الأعلام) فأيقن أن الخراسانيين سائرون لمهاجمة مرو، ثم وقفوا تجاه المدينة فاستغرب وقوفهم وأرسل بصره حول مرو، فرأى أعلام ابن الكرماني تخفق بين يدي الفرسان اليمنية، وقد ركب رجال الكرماني وقرعوا طبولهم، وشرعوا أسنتهم، وأقبلوا على مرو من جانب آخر، فظن لأول وهلة أن رجال الكرماني قادمون لصد الخراسانيين، ثم ما لبث أن رآهم يسيرون نحو المدينة بعزم ثابت والسهام تتطاير فوق رءوسهم. ولم تمض ساعة حتى دخلوها من أحد جوانبها، وإذا بأبي مسلم ورجاله قد دخلوها من الجانب الآخر، فاستغرب الضحاك ذلك، وزاد استغرابه لما رأى اللواء والراية قد غرسا بباب قصر الإمارة في وسط مرو، فعلم أن أبا مسلم قد دخلها، ثم رأى حامية المدينة يخرجون منها خروج الفارين، وقد عرف من أعلامهم البيض أنهم جند بني أمية، ورأى في جملة الهاربين جماعة من الفرسان عرف من قيافتهم أنهم من كبار القوم، وإذا بأحد الفرسان الواقفين بجانبه يهتف قائلا: «هذا نصر بن سيار قد خرج هاربا.»
فالتفت الضحاك فرأى شيخا جليلا، عليه عمامة بيضاء كبيرة، وقد انبسطت لحيته البيضاء على صدره، وهو يهمز جواده طلبا للفرار، وحوله بضعة من فرسانه، فتذكر أنه يعرفه، ثم تحقق أنه نصر بن سيار ومعه أولاده وأهله - ولم يفر نصر إلا وهو لا يرى حيلة في استبقاء المدينة - فلما رأى الضحاك ذلك كله دهش ونسي أسره، وأعمل فكرته فيما كان يتوقعه من اتحاد اليمنية والخوارج على أبي مسلم، واستغرب عجلة أبي مسلم في الفتح على حين أنهما كانا على موعد من مقتل ابن الكرماني قبل الفتح، فظل الضحاك واقفا وهو مشرف على مرو كأنها بين يديه يراعي حركات الجند، فما لبث أن رأى رجال الكرماني يخرجون من مرو إلى معسكرهم ومعهم ابن الكرماني نفسه، عرفه من رايته، فاستغرب رجوعه بعد تمام الفتح، وتذكر جلنار للحال، وعلم أنها في خوف ليس على حياتها، ولكنها تخاف أن يفي ابن الكرماني بوعده ألا يتزوجها إلا بعد فتح مرو، وقد فتحت ودخلها ابن الكرماني وهان الأمر، ثم تذكر ما تواطأ هو وأبو مسلم عليه من مقتل ابن الكرماني، وضم رجاله إلى رجال شيبان، وتبادر إلى ذهنه سوء الظن في أبي مسلم، وخاف أن يكون قد خدعه بذلك الوعد، على أنه لم ير مسوغا لسوء الظن.
وهم في ذلك إذ رأوا فارسا مقبلا على عجل من جهة مرو، فعرف الضحاك أنه الرسول الذي كان قد أرسله لمخابرة أبي مسلم بشأنه عند القبض عليه، وحال وصوله ترجل عن فرسه وتقدم نحو الضحاك مهرولا وهو يقول: «لقد أخطأنا إليك وإلى الأمير.» وأخذ في حل وثاقه وهو يخاطب رفاقه الفرسان قائلا: «إن الأمير لما علم بالقبض على هذا العربي غضب غضبا شديدا؛ لأنه كان قد أنفذه في مهمة ذات بال، وهو يقول لكم أكرموه وسيروا به إليه الآن في قصر الإمارة.»
الفصل الثاني والأربعون
قصر الإمارة والبيعة
فاطمأن الضحاك وعلم أنهم قبضوا عليه خطأ، فأركبوه فرسا وساروا به إلى مرو، فدخلوها من باب بالين، فشاهدوا الناس في حركة وأكثرهم فرحون بذلك الفتح؛ لأن جمهور أهلها من الفرس وكانوا يقاسون العذاب في سلطة العرب المضرية. وكان نصر قد أراد إصلاح ما أفسده أسلافه فلم يستطع، وذهب سعيه عبثا، وخرجت مرو من يده رغم إرادته. وكان الخراسانيون قد ملوا حكومة العرب منذ تولاهم بنو أمية؛ لأنهم كانوا يسومونهم سوء العذاب؛ يولون عليهم العمال ويوصونهم بجمع المال بأي وسيلة كانت. وكان أهل مرو قبل الإسلام مجوسا وعليهم الجزية، فرغبوا في الإسلام غير مرة، وأسلم كثيرون منهم، فكان بعض العمال يعدون إسلامهم حيلة للتخلص من الجزية، فلا يرفعونها عنهم، فيطالبونهم بالجزية وهم مسلمون، فيرجعون عن الإسلام. وقد فعلوا ذلك غير مرة حتى تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز - وكان مسلما حقا - فبعث إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم. ومن أقواله من كتاب كتبه إلى الجراح؛ عامله على خراسان، وقد شكوه أنه يأخذ الجزية ممن أسلم: «انظر من صلى قبلك فضع عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام فقلت الجزية، فكتب الجراح إلى عمر بذلك، فأجابه: «إن الله بعث نبيه محمدا داعيا ولم يرسله جابيا.»
على أن هذه النعمة لم تدم على أهل خراسان؛ لقصر خلافة عمر، فلما قتلوه وولوا من خلفه عادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وأهل خراسان، وخصوصا مرو، يودون التخلص من حكومتهم؛ ولذلك كان فرحهم بأبي مسلم عظيما، وتهافتوا إليه يهنئونه ويبايعونه.
فوصل الضحاك إلى قصر الإمارة والناس قد تزاحموا عند بابه، وفيهم الدهاقين والتجار والمشائخ والعلماء والصناع وغيرهم، وقد تزاحمت الأفراس وعلت الضوضاء. فلما رأوا فرسان أبي مسلم عرفوهم من قيافتهم فوسعوا لهم، فترجلوا ودخل اثنان ومعهما الضحاك حتى قطعوا صحن الدار إلى الباب الداخلي الكبير، فرأوا الناس يتسابقون إليه والحرس يوقفونهم، وبالباب حرسي من رجال أبي مسلم، فحالما رأى الرجلين وسع لهما وأدخلهما ومعهما الضحاك.
فلما وقف الضحاك بالباب إذا هو في قاعة واسعة جلس في صدرها أبو مسلم وفوق رأسه راية سوداء، وعليه عمامة سوداء، وثياب سود، وإلى جانبه خالد بن برمك في مثل لباسه وبين يديه اثنا عشر أميرا باللباس الأسود، عرف منهم سليمان بن كثير وطلحة بن رزيق، وعلم أنهم النقباء الاثنا عشر الذين اختارهم الإمام من السبعين نقيبا الذين قاموا بالدعوة العباسية في أوائلها. فلما دخل الضحاك وقع نظر أبي مسلم عليه، فابتسم له وأشار إليه أن يدخل ويجلس على كرسي في بعض جوانب القاعة، فدخل وحده وانصرف الحرسيان، فشاهد في بعض جوانب القاعة وهو داخل ركاما من البرابط والعيدان وآنية الخمر والمزامير؛ تركها الأمويون في ذلك القصر عند فرارهم، فقال الضحاك في نفسه: «تلك آثار الترف الذي يذهب بأهله إلى الدمار.»
وكان أبو مسلم في مفاوضة مع نقبائه، ثم أشار إليهم فتنحوا وجلسوا إلى جانب إلا واحدا هو طلحة بن رزيق النقيب، فظل واقفا بين يدي أبي مسلم وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وأشار إلى صاحب الباب أن يدخل الناس لأخذ البيعة أزواجا، فدخل أولا الفقهاء والعلماء، ثم القواد والكتاب والأعيان والدهاقين وغيرهم، فرآهم الضحاك يدخل أحدهم حتى يقف بين يدي أبي مسلم فيسلم عليه بالإمارة قائلا: «السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.» ثم ينادي بأعلى صوته ويقول وطلحة يقول معه - وهو نص البيعة: «أبايعكم على كتاب الله، وسنة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله، وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طعما حتى يبتدئكم به ولاتكم.»
1
فإذا فرغ من نص البيعة وقالها معه طلحة رجع وتقدم سواه. وكانوا يتسابقون إلى ذلك وأمارات البشر على وجوههم، فتعجب الضحاك من ذلك وتنغص في سره لما رآه من ترحاب أهل مرو بالخراسانيين، وأصبح على يقين أن صاحبه شيبان لا يستطيع دخولها بعد ذلك إلا باتحاده مع أبي مسلم، وهذا لا يكون إلا بقتل ابن الكرماني.
مضى معظم النهار في أخذ البيعة ثم وقف أبو مسلم وأشار إلى طلحة أن يأخذ البيعة عنه بين يدي خالد بن برمك، وتنحى إلى بعض الغرف وأومأ إلى الضحاك فتبعه. فلما خلوا قال أبو مسلم: «لقد ساءني ما أصابك من التأخير بسبب جهل أحد رجالي، وقد كنت عازما على الانتقام منه بين يديك لو لم يتفق لنا ما يسرنا في هذا النهار على غير انتظار ... ولعلك تستغرب فتح هذه المدينة بمثل هذه السرعة على حين أنني كنت عازما على التأجيل بضعة أيام؛ ريثما نتم اتفاقنا مع الأمير شيبان كما افترقنا بالأمس، ولكن سنحت لي في هذا الصباح فرصة خفت ضياعها فاغتنمتها، وقد نجحت فيها.» قال ذلك وتنحنح وتشاغل بقبض ذقنه.
وكان الضحاك جالسا على ركبتيه احتراما لأبي مسلم، ومع ما آنسه من انعطافه وإقباله نحوه في أثناء الحديث، فإن هيبته ما زالت غالبة عليه، ولكنه كان يظهر إصغاءه واهتمامه بمراعاة حركة فمه؛ لأنه لم يكن يستطيع التفرس في عينيه لحدتهما، ولما ينبعث من نورهما الباهر وقوتهما الغالبة على الأبصار والعقول. فلما تشاغل أبو مسلم بالنحنحة أظهر الضحاك رغبته في استتمام الحديث، فقال أبو مسلم: «أما سبب هذه العجلة، فإن ابن الكرماني بعث إلي في صباح هذا اليوم بعد ذهابك مع رسول مستعجل يقول لي: «لقد آن فتح مرو فادخل أنت ورجالك من ناحية، وأدخل أنا ورجالي من ناحية أخرى، فنستلم المدينة على أهون سبيل.» فظننته يقول ذلك مخادعة، فبعثت إليه: «لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر بن سيار على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب مع أصحاب نصر، ثم أدخل أنا.» وقلت في نفسي: «إذا كان قد فعل ذلك حيلة فلا يطيعني، وإلا فليكن الخطر عليه.» فنهض برجاله وأنشب الحرب، فأرسلت أنا بعض رجالي دخلوا المدينة من ناحية أخرى، ففتح علينا، فدخلت هذا القصر وأمرت ابن الكرماني ورجاله بالخروج منها إلى معسكرهم؛ لكي نتمكن من مشروعنا الذي تعلمه.»
فذهل الضحاك لشدة ذلك الرجل ودهائه، ونسي ما كان يتكلفه من الضحك في أثناء تماجنه، ثم انتبه لذلك وخاف أن يشك أبو مسلم في شأنه فتضاحك وقال: «إن المشروع - يا مولاي - عظيم الأهمية، فهل أنت مصر عليه؟»
قال: «أين كتابي إلى شيبان؟»
فمد يده واستخرجه ودفعه إليه، فقال أبو مسلم: «إني لا أزال مصرا على ذلك، وربما زاد إصراري الآن بعد فتح مرو على يد ابن الكرماني؛ لأنه ارتفع في عيني نفسه، فربما توهم له الفضل علينا، فتحدثه نفسه أن يغلبنا؛ ولذلك فإني لا آمنه، ولا بد من قتله؛ لئلا يكون حجر عثرة لنا. وقتله هين عليك بواسطة تلك الفتاة المفتونة. فإذا قتلته خلسة سعينا في ضم رجاله إلى رجال الأمير شيبان، ثم أسلم إليه قيادة هذه المدينة وأمضي في عملي، إلا إذا كنت لا تثق بهذا الحروري وتخاف أن يخوننا إذا سلمنا الأمر إليه.»
قال: «لا خوف منه؛ فإذا عاهد وفى، وخصوصا بعد أن ملكت ناصية الأمر وبايعك الناس.»
فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «وهل لحظت أن البيعة لأهل بيت النبي عامة، وليست لبني العباس؛ لأن الناس لم يعرفوا لبني العباس الحق في الخلافة بعد، وإنما هم يعرفونه لآل أبي طالب؛ ولذلك جعلنا البيعة مشتركة، فمن فاز من الرهطين كانت الخلافة لهم. فلا أظن ذلك يؤخر الأمير شيبان عن القبول بمحالفتنا.»
قال: «كلا يا مولاي.»
فقال: «فعلينا إذن أن نبدأ بقتل ذلك الأعور كما وعدتني، ولا تظن أحدا ينال من المقام في أمرنا ما ستناله أنت، وسأطلع الإمام على فضلك.»
قال: «إني لم أفعل غير ما يجب علي، ولا أتوقع منك جزاء غير رضاك.»
قال: «هل تقتله الليلة؟»
قال: «أبذل جهدي في ذلك.»
قال: «أنت تعلم طبعا أن قتله يجب أن يكون سرا، فلا يدري رجاله إلا أنه مات موتا طبيعيا.»
قال: «كن مطمئنا يا مولاي.» قال ذلك ونهض وحيا أبا مسلم متأدبا وهم بالخروج، فوقف أبو مسلم لوداعه وقال له: «عرج بإبراهيم الخازن لعله ينفعك في هذه المهمة.» فلما سمع اسمه تذكر الليلة التي لقيه بها في بيت الدهقان، وهو يعلم مكره وضعف ذمامه، فقال: «أين هو؟» فأشار إلى مكانه في غرفة أخرى، فسار الضحاك إليه على أن يتعاونا في الأمر.
الفصل الثالث والأربعون
أول الحيلة
فلنرجع إلى جلنار، فقد تركناها مع ريحانة - بعد ذهاب الضحاك في مساء الأمس - وهي جالسة في فراشها ملتفة بالمطرف، غارقة في لجج الهواجس، فلما خرج الضحاك ظلت برهة ساكتة مطرقة تفكر بما سمعته منه، وكلما تصورت إقدامها على قتل خطيبها ترتعد فرائصها، ويقشعر بدنها. وكانت ريحانة تلاحظ اضطرابها ولا تلومها؛ لعلمها بعظم ذلك الأمر على فتاة لم تتعود مثله. وبعد أن تعبت من التفكير توسدت الفراش تلتمس الرقاد، فظلت ريحانة جالسة بقربها حتى تحققت أنها نامت فذهبت إلى الرقاد.
وما أفاقت جلنار في الصباح إلا على قرع الطبول ونفخ الأبواق فذعرت ونادت ريحانة فاستفهمت عما تسمعه، فقالت: «رأيت الجند يتأهبون للهجوم على مرو.» فخفق قلبها وتوكأت على ريحانة حتى أطلت من باب الخباء فشاهدت مثل ما شاهدته المرة الماضية. وكانت قد ألفت هذا المنظر فلم يكن خوفها مثله في تلك المرة. ثم ما لبثت أن رأت خطيبها يسوق جواده نحوها وهو مدجج بالسلاح، وسيفه مجرد بيده، فلما رأته مقبلا توارت حياء، فناداها فأطلت فصاح والسيف مشهر بيمينه: «أبشري أيتها الدهقانة، إننا فاتحون مرو اليوم، وسنبيت الليلة في قصر الإمارة، إن شاء الله.»
فخجلت من قوله وساءتها تلك البشارة فتراجعت واستترت وراء ريحانة، فأجابته ريحانة عنها قائلة: «نصرك الله على أعدائك وبلغك مرادك.»
فاكتفى علي بذلك وهجم ورجاله في أثره، فلما بعدوا قالت ريحانة لسيدتها بالفارسية: «إني أرى الخراسانيين أيضا هاجمين.» فأطربها ذكر الخراسانيين ؛ لأن أبا مسلم فيهم، وتقدمت بحيث ترى ذلك الجند، فإذا هم يزحفون على مرو من الجهة الأخرى، فقالت: «إذا فتحوا مرو فإنما يفتحونها ببسالة أبي مسلم. أين هو يا ترى؟»
فتطاولت ريحانة وجعلت تتفرس في الفرسان حتى وقع بصرها على الراية واللواء وهما يناطحان السحاب بارتفاعهما فقالت: «ينبغي أن يكون أبو مسلم هناك.» فحدقت جلنار ببصرها في تلك الناحية فرأت أبا مسلم، وقد عرفته من طوله ولون فرسه ولباسه الأسود، فتهلل وجهها فرحا برؤيته، ولكنها ما لبثت أن أوجست خيفة عليه من النبال المتساقطة وسلمت أمرها إلى الله.
ثم رأت عليا دخل مرو من تلك الناحية، ودخل أبو مسلم من الناحية الأخرى، فتحققت فوزهم فلم تدر أتفرح بذلك الفتح أم تحزن؛ لأنها تذكرت وعد ابن الكرماني أنه لا يتزوج بها إلا إذا فتح المدينة، وتذكرت قول ريحانة أنه لا يستطيع فتحها، فالتفتت إليها وقالت: «كم قلت إنه لا يقوى على فتح هذه المدينة، وها قد فتحها. ويلاه! لقد دنا أوان الخطر.» قالت ذلك ورجعت إلى غرفتها وجلست على الفراش وغلب عليها البكاء، وتبعتها ريحانة وأخذت تخفف عنها عبثا، فقالت جلنار: «أين هو الضحاك يا ترى؟ لعله يقدر على تخفيف ما بنا.»
فقالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي وعنده الدواء الناجع لهذه المصيبة.»
فأدركت جلنار تعريضها بقتل ابن الكرماني، فقالت: «ولكنه دواء أمر من العلقم، ولا يمكني شربه. كيف أقتل رجلا يحبني وإن كنت لا أحبه؟»
وآن وقت الغداء فتناولتاه وهما تتوقعان أن يبعث علي إليهما بالانتقال إلى قصر الإمارة، وإذا هما تسمعان دبدبة وصهيلا وضوضاء، ثم علمتا أن جند الكرماني رجع عن مرو بعد فتحها، وظلت لأبي مسلم وحده، ولم تفهما السر في ذلك، فمكثنا تنتظران ما يكون وجلنار خائفة من ذلك الفتح، ثم نهضتا معا، وجلنار لم تعد تصبر عن ريحانة لاستئناسها بها في تلك الشدة، حتى جلستا في غرفة الرقاد وجلنار تشكو وتتخوف. فلما رأت ريحانة قلقها قالت: «لا أدري لماذا تكرهين ابن الكرماني وهو يستهلك في هواك ، ويجل مقامك ويحترمك، وخصوصا بعد الذي أوتيه من النصر بفتح هذه المدينة، وقد انتقم لأبيه؟!»
فأسرعت جلنار ووضعت يدها على فم ريحانة كأنها تمنعها من الكلام اشمئزازا من الحديث، واكتفت بذلك جوابا، فأدركت ريحانة أنها لا تود الخوض في هذا الموضوع، فسكتت وقد أخذتها الحيرة لا تدري كيف تنقذ سيدتها من ذلك المشكل، فتركتها في الغرفة وخرجت لتستطلع حال المعسكر بعد فتح مرو، فوجدت الخيام لا تزال في أماكنها، وقد أعيدت الخيول إلى مرابطها، وغرست الأعلام في مغارسها، وتطلعت إلى فسطاط الأمير علي فإذا هو لا يزال كما كان، والراية منصوبة ببابه وقد تزاحم وفود المهنئين والمنشدين، وسرها عود ابن الكرماني؛ لأنها كانت تظنه يبقى مع أبي مسلم في قصر الإمارة، فاطمأن بالها من هذا القبيل. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فالتفتت نحو مرو، فرأت جماعات من الباعة خرجوا منها، وفيهم من يحمل فاكهة أو طعاما أو ألعابا ليتكسبوا ببيعها في ذلك المعسكر، بعد أن زال الحصار عن المدينة وكفت الحرب، وشاهدت في جملة الخارجين رجلا طويلا قادما نحو الخباء، فما لبثت أن عرفت أنه الضحاك، فاستبشرت بقدومه وأرادت أن تسرع إلى سيدتها، فأشار إليها أن تقف فوقفت، حتى إذا دنا منها أومأ إليها فدخلت معه الخباء بحيث لا يراهما أحد، فقالت: «ما وراءك؟»
قال: «هل من حيلة لنا في النجاة من ابن الكرماني غير قتله وقد فتح مرو وحق له الزواج؟ إلا إذا كانت مولاتنا تفضل الاقتران به. وهذا يرجع إلى خاطرها.»
قالت: «قد عرفت في هذه الساعة أنها لا تستطيع ذكر الاقتران به.»
قال: «فإذن؟»
قالت: «ولا تتصور الإقدام على قتله.»
قال: «وأنت أيضا جبانة مثلها؟»
قالت: «أتريد أن أقدم أنا على قتله؟ وكيف أقتله؟»
فضحك وتماجن وقال: «وهل القتل صياغة أو تطريز؟ ليس أهون منه على الإنسان، ولا يخيل لك أن المراد قتله بالمبارزة أو المطاعنة، وإنما هي حسوة أو لقمة وقضي الأمر.»
فسكتت ريحانة ولم تدر بماذا تجيبه، ولكنها صعدت كتفيها كأنها تقول: «لا يعنيني .»
فقال الضحاك والاهتمام باد في وجهه: «لا ينبغي لنا أن نطاوع مولاتنا الدهقانة في ضعفها؛ فإنها لا تعلم شيئا من أمور هذه الدنيا، وهي مع ذلك تريد الوصول إلى أبي مسلم، والوصول إليه لا يكون إلا بالخلاص من ابن الكرماني، وقد أتيتها بخاتمه شهادة على إرادته، فهي الآن أحوج من أبي مسلم إلى قتله؛ لأنه خطيبها، وكنا قيدناه بعهده ألا يقربها إلا بعد فتح مرو، وقد فتحت وهو الذي فتحها، وتوافد عليه الشعراء والمهنئون، وبلغ قمة مجده؛ فهل من سبيل إلى دفعه بغير الموت؟ ولا يتم لنا ذلك إلا بقتله سرا.» ثم سكت وحك ذقنه بسبابته، ثم حك وراء أذنه وقال: «طيب. أنا لا أكلفك ولا أكلف الدهقانة أن تتوليا هذا الأمر مباشرة؛ فأنا أدبر الحيلة، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بوجودكما، وأنا أسقيه ذلك الكأس بأسلوب لطيف، والأحسن ألا تطلعي الدهقانة على هذا العزم. إنما أطلب إليك أن تسهلي الوصول إليه بحيث لا يعلم أحد من العالمين بقصدي. إيه؟»
فظلت ساكتة ولم تعلم بماذا تجيبه، ولكنها كانت في كل حال أصبر على هذا الأمر من جلنار وقد عاشرت الدنيا طويلا، على أنها ما زالت مرتبكة لا تدري هل توافق الضحاك بغير استئذان سيدتها. فلما رآها الضحاك ساكتة علم أنها مرتبكة فقال لها: «قد فهمت ما يجول في خاطرك. لا تخافي سيجري كل شيء ولا يشعر به أحد؛ فاكتمي هذا الأمر عن الدهقانة، وسترين كيف أعمل عملي بلباقة وخفة.» قال ذلك وتحول وهو يقول: «سأعود إليكم قريبا، واحذري أن تبيحي بذلك إلى أحد.»
فعادت ريحانة إلى سيدتها وهي تفكر في ماذا عسى أن تكون حيلة الضحاك وأسلوبه، فدخلت على سيدتها فسألتها عما كانت تعمله، فأخبرتها بما شاهدته من بقاء معسكر ابن الكرماني على حاله بمرابطه وفساطيطه وسائر أحواله، وأن عليا في فسطاطه كالعادة، وحدثتها نفسها أن تبيح لها بما قاله الضحاك، فتمالكت وسكتت لترى ما يكون.
الفصل الرابع والأربعون
الدب الرقاص
أما ابن الكرماني، فبعد أن فتحت مرو عاد إلى معسكره بإشارة أبي مسلم، وعاد معه الأمراء اليمنية وقد سرهم الفتح بعد أن أبلوا بلاء حسنا، وعاد ابن الكرماني توا إلى فسطاطه؛ ليبدل ثيابه ويستقبل المهنئين. وكان في خاطره أن يذهب حالا إلى جلنار ليريها نفسه عائدا من ذلك الفتح، ويخبرها أنه انتقم لوالده كما وعدها بالأمس، ولكنه أجل ذهابه إلى ما بعد استقبال المهنئين والمنشدين في فسطاطه؛ لئلا يتبعوه إلى هناك، فجلس في صدر الخيمة وجلس أمراؤه بين يديه وهم يطنبون ببسالته، وكل منهم يذكر ما لاقاه في أثناء المعركة من الوقائع الغريبة، ثم أذن للشعراء فدخلوا وأنشد كل منهم ما جادت به قريحته، فإذا فرغ أحدهم من الإنشاد يشير الأمير إلى كاتبه أن يدفع إليه الجائزة على جاري العادة. وفيهم من ينشد قصيدته على الأنغام الموقعة على الطنبور أو العود أو الدف. قضوا في ذلك بقية يومهم إلى قبل الغروب، وقد طربوا جميعا إلا عليا؛ فقد نغصه غياب جلنار عن تلك الجلسة، وود لو أنها هناك لتسمع ما قيل فيه من المدائح.
وهو في ذلك إذ سمع ضجيجا يتخلله دف ينقرون عليه نقرا خاصا بالرقص، ثم دخل غلام يستأذن الأمير في راقص مضحك معه دب غريب الشكل. وكان الغلام يستأذن الأمير ولا يتمالك عن الضحك. كان أخرجه الإعجاب عن حد الاحتشام في حضرة الأمراء، فقال الأمير: «يدخل.»
فدخل رجل طويل القامة عرف الأمراء كلهم أنه الضحاك؛ خادم الدهقانة، وكانوا يستخفون دمه ويضحكون من مجرد رؤيته، فلما دخل ألقى التحية وتماجن، فلم يتمالك الأمير عن الضحك وصاح فيه: «ويلك! أي متى صرت رقاصا؟»
قال: «حالما فتح مولاي الأمير مرو؛ عاصمة خراسان؛ فقد نذرت منذ صرت من أتباعه أن أرقص يوم الفتح، وقد جئت لأفي نذري.»
فضحك الأمير وقد سره أن يسمع ذلك الإطناب من رجل ينتمي إلى الدهقانة؛ لأنه إنما يهمه إعجابها هي؛ فكم من بطل خاض المعامع، واستقبل النبال، وعرض نفسه لأشد الأهوال؛ التماسا لابتسامة حبيب يحبه! تلك هي لذة النصر في أعلى درجاتها. وأراد علي أن يسأل عن الدهقانة فاحتشم بين يدي الأمراء، ولكنه استأنس بالضحاك كثيرا وقال له: «هل أنت الرقاص حقيقة؟»
قال: «كلا يا مولاي، ولكن معي دبا يرقص رقصا غريبا.»
قال: «أين هو؟»
قال: «هو بالباب.» وصاح: «أدخل يا مبارك.»
فتوجهت أنظار الجميع نحو الباب، فسمعوا خشخشة الجلاجل والأجراس، ثم دخل الغلام وهو يقود رجلا بحبل في عنقه، وعلى الرجل جلد دب يكسو صدره وظهره وساقيه إلى القدمين، ويغطي ساعديه إلى الكتفين، وقد ستر وجهه بوجه دب حتى لا يشك الناظر إليه أنه دب حقيقي، وشد برجليه ويديه أجراسا، وجعل حول عنقه جلاجل.
فلما دخل الغلام سلم المقود إلى الضحاك، فتناوله وجر ذلك الدب بعنف، فدخل وأخذ في الرقص وهو يزمجر ويثب كما يفعل الدب تماما، فلم يبق أحد من الجلوس إلا أغرب في الضحك، والضحاك يتفنن في أساليب المجون. فلما تمكن الطرب من الأمير احتال الضحاك في الدنو منه وقال بحيث لا يسمعه سواه: «إن هذا المجلس لا ينقصه غير الدهقانة.»
فلم يتمالك الأمير عند سماعه ذلك أن صاح: «يا ضحاك، خذ هذا الدب وأرقصه في الخباء وأنا قادم إليكم.» قال ذلك ووقف وقد استخفه السرور، وهاجت عواطفه، وأسكره النصر، فوقف سائر الأمراء احتراما له، فمشى حتى خرج من الفسطاط والضحاك يسير بالدب أمامه، وقد أقبل الظلام ولم يجسر أحد من رجال ابن الكرماني أن يتبعه إلى الخباء، فمشى وحده وقد التف بعباءة من حرير وعلى رأسه عمامة صغيرة مزركشة زركشة جميلة، وسار هو يتبختر بمشيته تيها حتى إذا أقبل على الخباء تنحى الضحاك ودبه لمرور الأمير، فدخل وهو يقول: «أين عروسنا الدهقانة؟»
فتقدمت ريحانة وجلنار إلى جانبها وعليها مطرفها، وقد غطت رأسها بخمار من نسيج كشمير وردي اللون، وعيناها تتلألآن من خلال الخمار، والحياء يغالبها ويزيدها رونقا، فلما وقع بصره عليها حياها بالانحناء وهو يقول: «لقد جئتك ضاحكا لأني انتقمت لأبي، وغلبت صاحب مرو على مدينته، ففر فرار الأنذال، وسوف أقتله، بإذن الله.»
فأجابته ريحانة وهي تبتسم قائلة: «لقد كنا على يقين من فوز الأمير على عدوه؛ لما نعلمه من بسالته وشدة بطشه، فنحمد الله على فوزه.»
ثم أشار الأمير إلى الدهقانة بالجلوس وهو يقول: «وغدا ندخل قصر الإمارة حسب الوعد.»
الفصل الخامس والأربعون
النبيذ
فجلست جلنار وهي مطرقة ولم تتكلم، فكان سكوتها أفصح من الكلام، وظلت ريحانة واقفة فجلس الأمير وأشار إليها أن تجلس، فتنحت وأرادت الجلوس في بعض جوانب الغرفة، فأمرها أن تجلس بالقرب من سيدتها، ثم صفق ونادى الضحاك فدخل وهو يقود الدب وراءه، فلما رأت ريحانة الدب لم تتمالك عن الضحك؛ لغرابة منظره، فوقف الضحاك والدب إلى جانبه، فأمره علي أن يرقصه، فجره بالمقود فلم ينتقل من مكانه، فصاح فيه: «أرقص ولا تخجلنا بين يدي الأمير.» فلم يتحرك.
فضحك الضحاك حتى كاد يستلقي، ولما فرغ من ضحكه التفت إلى الدب وهو يقول له: «كأنك تستحيي أن ترقص أمام النساء.»
فلم يبق أحد هناك لم يغرب في الضحك، وخصوصا ابن الكرماني، فإنه قهقه قهقهة عظيمة، فتظاهر الضحاك بالغضب من الدب، وشده ثانية فظل واقفا كأنه صخر، فتقدم نحوه ووضع أذنه على فمه كأنه يتلقى أوامره سرا، وصبر هنيهة ثم تراجع وهو يضحك ويقول: «لم أكن أعلم أن الدب يشرب الخمر قبل الآن.»
فالتفت ابن الكرماني إلى الضحاك وقال: «يظهر أنه تعود المسكر من عشرة رجال بني أمية في مرو؛ فقد رأينا في قصورهم مئات من آنية الخمر على أنواعها، وأما نحن فلا نشرب غير النبيذ، فاسأله هل يريد نبيذا؟»
فعاد الضحاك إلى مسارة الدب، ثم عاد عنه وقال: «لقد رضي بالنبيذ. أليس ذلك غريبا؟ وأغرب منه أنه لم يطلب النبيذ إلا وهو في الخباء.» وضحك.
فقال ابن الكرماني: «يظهر أن دبك ألطف ذوقا منك، وليس النبيذ محرما، وخصوصا في مثل هذا المجلس. هات النبيذ يا غلام.»
ولم تمض هنيهة حتى جاء الغلمان وهم يحملون مائدة عليها أصناف من نبيذ التمر والتفاح وغيرهما في أباريق الرصاص، وحولها الأقداح من الزجاج الصافي الملون، وأوعز ابن الكرماني إلى الساقي أن يدير الأقداح على الحضور، فجاء غلام ممنطق بمئزر من حرير وتناول قدحا أراق فيه نبيذا وقدمه إلى الأمير، فتناوله وقدمه إلى الدهقانة فاعتذرت عن شربه، فعزم عليها فشربت بعضه وأعادته إليه، فشربه وأمر الساقي أن يصب ويسقي الضحاك ودبه، ففعل. ولما تقدم بالقدح نحو الدب أعرض الدب عنه، فتقدم الضحاك وهو يقول: «لقد بالغ دبنا بالدلال الليلة. هات القدح.» فأخذه من الساقي وقدمه إلى الدب، فتناوله بكفه الغليظة وشربه، وأعاد القدح إلى المائدة بيده وهو يخطو بخطوات الدب المعروفة والجميع يضحكون، ثم عاد إلى مكانه وأخذ في الرقص من تلقاء نفسه، وأجاد وأبدع والضحاك يطاوعه في تنقله كأنه يرقص معه، ثم وقف الدب بغتة فقال الضحاك: «لا ينبغي لنا أن نغفل عن مراد صاحبنا.» وأسرع إلى قدح ملأه نبيذا وقدمه إليه فتراجع ولم يمد يده، فصاح الضحاك فيه: «ما الذي تريده؟ لقد أتعبتنا بدلالك.»
فتقدم الدب نحو المائدة ومد يده إلى الإبريق فقبض عليه، وجعل يصب في الأقداح حتى ملأها والناس ينظرون إليه، وقلوبهم تدق خوفا على المائدة وما فوقها من «لياقة» الدب، فإذا هو قد ملأ الأقداح ولم يخطئ بواحد منها، ثم أخذها قدحا قدحا وقدمها إلى الحضور، فشربوا وهم مسرورون وشرب هو أيضا، واستحسنوا لياقة هذا الساقي، فصاروا يطلبون منه أن يسقيهم فسقاهم مرارا وجلنار لا تشرب إلا قليلا، ثم أمسكت عن الشرب فظل الشرب قاصرا على الأمير والضحاك والدب، فانقضى هزيع من الليل وهم في ذلك، وقد أخذ الطرب من الأمير مأخذا عظيما. وعند ذلك تظاهر الدب بالسكر وأفلت من يد الضحاك، وخرج من الخباء والقدح بيده، فتبعه الضحاك وتظاهر بمغاضبته وأرجعه إلى الخباء والقدح لا يزال في يده، وتقدم نحو الأمير فدفعه إليه وأخذ في الرقص، فتناول الأمير القدح وشربه كالعادة، ثم صب الدب قدحا وقدمه إلى الضحاك فتناوله وشربه، ثم صاح فيه: «ويلك! لقد أكثرت من الشرب وأصبحت خائفا على نفسي منك، وأخاف ألا يكون الأمير متعودا الشرب الكثير فيضره؛ لأني مع تعودي النبيذ أعواما أراني أشعر بدوار شديد.» قال ذلك وتظاهر بالسقوط إلى الأرض ، وأن الدوار غلب عليه، وأحس بالميل إلى القيء، فتنحى وخرج من الخباء وتقايأ، ثم تقيقأ كل ما في جوفه عنوة والأمير يضحك منه ويقول: «إني لا أشعر بالدوار مطلقا.»
وكان الضحاك قد ترك المقود عند خروجه، فأفلت الدب وخرج من الخباء وطلب الفرار، فازداد الأمير ضحكا وقهقهة، ثم دخل الضحاك دخول المبغوت وصاح: «أين ذلك الدب الملعون؟ يظهر أنه فر. فوالله لأدركنه وأذيقه العذاب.» قال ذلك وقهقه وأشار إلى ريحانة إشارة خفية وخرج.
فأدركت ريحانة أن الضحاك قد أنفذ حيلته وسقى الأمير سما، فنهضت وتظاهرت بالدوار وقالت للأمير: «أرى مولاتي الدهقانة قد تأذت من الشرب أيضا.» وأمسكتها بيدها وهي تقول: «الأفضل لها أن تذهب إلى الفراش. هل يأمر لها مولاي بالانصراف؟»
فنهض وهو مشعر بالدوار أيضا، ولكنه تجلد وتظاهر بالقوة ووقف وهو يقول: «فلننصرف جميعا.»
وصفق فجاءه الغلمان وأسندوه وخرجوا به من الخباء يطلبون فسطاطه، وذهبت ريحانة بالدهقانة إلى غرفة الرقاد، واشتغل الخدم في نقل آنية النبيذ من الخباء، فلم تمض ساعة حتى خلا الخباء من الأمير وغلمانه.
فلما خلت ريحانة بسيدتها ظهر عليها الاضطراب، فاستغربت جلنار ذلك منها فقالت وهي تتوسد الفراش: «ما لي أراك مضطربة يا ريحانة؟»
قالت بالفارسية وهي ترتعد من التأثر وتحاول خفض صوتها: «أظنهم سموه يا مولاتي.»
فبغتت جلنار وجلست وهي تقول: «سموه؛ قتلوه؟»
قالت: «نعم. ألم تري الدب خرج بحيلة السكر إلى خارج الخباء ثم عاد والقدح في يده؟»
قالت: «بلى.»
قالت: «أظنه خرج ليضع السم في ذلك القدح. وفي صباح الغد يظهر فعله ونسمع بموت ابن الكرماني.»
فاقشعر بدن جلنار وصارت ترتجف من البغتة والخوف، ووقعت في حيرة، فابتدرتها ريحانة قائلة: «لا ينبغي أن تستسلمي إلى الضعف؛ فإن هذا أوان التعقل والدهاء، وقد قضي الأمر الذي كنا نخافه.»
فارتبكت جلنار في أمرها، وأعظمت الجريمة، على أنها كانت (وهي في معظم الاضطراب) تشعر بفرح داخلي عميق لتخلصها من ابن الكرماني وتقربها من حبيبها.
فأخذت ريحانة تخفف عنها وتمنيها بقرب الاجتماع بحبيبها حتى سكن روعها ، وتظاهرت بالرقاد ولكنها لم تستطع نوما.
1
الفصل السادس والأربعون
أرسله إلى خوارزم
أما أبو مسلم، فكان ساهرا في قصر الإمارة ينتظر نتيجة ما دبره على ابن الكرماني والضحاك معا بواسطة إبراهيم الخازن؛ فقد رأيت أنه أوعز إلى الضحاك أن يستعين بإبراهيم المذكور على قتل ابن الكرماني، فسار إليه واتفقا على أن يلبس إبراهيم جلد دب ليتمكن من دس السم في القدح، على ما تقدم، ولكن أبا مسلم أوصى إبراهيم أن يقتل الضحاك أيضا بالسم. وكان قد كلفه قبلا كشف حقيقة الضحاك ليلة ذهابه إلى شيبان، فرافق ذلك القصاص، وحمل الطنبور، وتظاهر بالرمد، وأسدل طرف العمامة على عينيه لئلا يفطن له أحد. ولما كان شيبان وشبيب يتساران كان إبراهيم وراء خيمة شيبان يتظاهر بالنعاس، وقد سمع كل ما دار بينهما ونقله إلى أبي مسلم في تلك الليلة. فلما عاد الضحاك ليلتئذ خادعه أبو مسلم برغبته في محالفة شيبان ريثما يتمكن من قتل ابن الكرماني على يده ثم يقتله. ولما وصاه باصطحاب إبراهيم تلك الليلة أمر إبراهيم بقتله، كما تقدم، فسقاه السم في قدحه كما فعل بابن الكرماني، ولكن الضحاك ساقه طول أجله إلى استفراغ معدته، وهو إنما فعل ذلك لتنطلي حيلته على ابن الكرماني، ويدفع التهمة عنه، فنفعه ذلك؛ إذ أخرج السم من جوفه قبل أن يؤثر في معدته. أما إبراهيم فظن أنه قام بمهمته وأمات الاثنين، فهرول مسرعا وطرح عنه جلد الدب وجاء أبا مسلم ليبشره بذلك، فوجده ساهرا في انتظاره، فأخبره بما كان، فسر أبو مسلم وأثنى عليه ووعده خيرا.
وأما الضحاك فقد كان متفقا مع إبراهيم على دس السم في قدح ابن الكرماني، وأن يخرجا فيلتقيان في طرف المعسكر، ثم يذهبان معا إلى أبي مسلم، فلما رأى إبراهيم أفلت ظنه فعل ذلك عمدا على أن ينتظره في الموعد، فأسرع في أثره، فشعر في أثناء الطريق بطعم غريب في فيه، وأحس بانحطاط في قواه، فنسب ذلك إلى تأثير الشرب، وخطر له أنه ربما أصابه شيء من السم غلطا، فعول على الاستفهام من إبراهيم، فوصل في الموعد فلم يجده، فساء الظن فيه، ووقف هناك وأطرق مفكرا فيما مر به في هذين اليومين، فانتبه لنفسه، فترجح عنده أن أبا مسلم خدعه وسايره حتى نال مراده بقتل ابن الكرماني، ثم أراد قتله هو ليتخلص منه، لكنه لم ير سببا يدعو إلى ذلك؛ لزعمه أن أبا مسلم لا يعلم أنه من أمراء الخوارج، فرأى أن يذهب إلى أبي مسلم ويلاقيه على حذر، فسار إلى قصر الإمارة، حتى إذا أقبل على باب القاعة سأل الحارس عن الأمير، فقيل له إنه في غرفته، فأراد أن يستأذن في الدخول عليه ثم توقف ليعمل فكرته. وكان الحارس قد عرفه من الأمس، ورأى ما كان من احتفاء أبي مسلم به، فجلس الضحاك إليه وأخذ يضاحكه ويسايره حتى اطمأن إليه، فسأله عن الأمير ومن عنده، قال: «عنده خازنه اليهودي.»
قال: «وهل هو يهودي حتى الآن؟»
قال: «يتظاهر بالإسلام والإسلام بريء منه؛ فإن هؤلاء اليهود قد فرحوا بالإسلام لأنه نجاهم من ظلم الأكاسرة والقياصرة، وأكسبهم الأموال من دولة العرب؛ لأنهم يعدون أنفسهم من أقاربهم.»
قال: «وهل إبراهيم مع أبي مسلم الآن أم خرج من عنده؟»
قال: «أظنه لا يزال عنده؛ إذ لم يمض على دخوله زمن طويل.»
قال: «فإذن هو مشغول الآن.»
قال: «وهل تريد مقابلته؟»
قال: «كلا، ولكنني لما جئت لمقابلته في أثناء النهار، فبعد أن جلست في القاعة حينا دخل بي إلى غرفة أخرى، ثم أخرجني من باب آخر، كما علمت، وقد نسيت في القاعة كتابا كان معي، فوضعته قرب مجلسي، ولما نهضت نسيته؛ فهل تظنه لا يزال مكانه؟»
قال: «ينبغي أن يبقى هناك. هل أبحث لك عنه؟»
قال: «لا يجوز لك وأنت حارس أن تترك هذا الباب. أما إذا أذنت لي دخلت وبحثت عنه لحظة ثم أعود؛ لأني أعلم بمكانه منك.»
قال: «تفضل، واحذر أن تحدث صوتا يشعر به الأمير؛ لئلا يغضب.»
قال: «كن مطمئنا.» وخلع نعليه فتأبطهما ودخل القاعة وهي مظلمة، فمشى وهو يتلمس الحائط نحو الغرفة التي علم أن أبا مسلم فيها مع إبراهيم، فلما دنا من بابها سمع أبا مسلم يقول: «هل أنت على يقين من إرسالهما إلى خوارزم.»
قال إبراهيم: «قد أرسلتهما حسب أمر الأمير، وأظنهما الآن في عالم الأموات.»
قال: «أخشى أن تكون أخطأت الرسالة ونسيت ذلك الحروري الذي يزعم أنه يخادعنا - عليه لعنة الله - بقي علي أن أعهد إليك بأمر يهمني ولك منه نفع كبير، وكسب كثير.»
وكان الضحاك واقفا بالباب يمسك أنفاسه؛ لئلا يسمع صوت تنفسه، ويوشك لعظم اضطرابه أن يسمع دقات قلبه في أذنه، فتجلد، وأحس بارتعاش قدميه فقعد القرفصاء، وأصاخ بسمعه فإذا إبراهيم يقول: «يأمر مولاي بما يريد.»
فقال: «بقي علي أن أتخلص من شيبان؛ أمير الخوارج، فإذا قتلناه تبعثر جند العرب وخلصت الدولة لنا.»
قال: «رأيك هو الصواب. هل تريد أن أرسله إلى خوارزم كما أرسلت ابن الكرماني وشبيبا الملعون؟»
قال: «أخاف ألا تنطلي عليه الحيلة؛ إذ ليس لنا في داره فتاة مثل الدهقانة تهون علينا العمل، والأحسن أن نستقدم شيبان إلينا بحيلة المحالفة أو المخابرة ونقتله، ويخلو لنا الجو.»
قال: «ذلك هين علي إذ شئت فعلته.»
وساد السكون لحظة، فخاف الضحاك أن يكون أبو مسلم عازما على الخروج، فأصاخ بأذنيه فلم يسمع حركة، فعلم أنه يفكر، ثم سمعه يقول: «امض الآن، وسأخبرك ماذا ينبغي أن تفعل.»
فعلم الضحاك أنهما سيخرجان، فهرول القهقرى وودع الحاجب وهو يثني عليه - وما صدق أنه نجا - وسار مسرعا حتى خرج من مرو، ومشى نحو معسكر الخوارج وهو يلعن ذلك اليهودي الذي كان سببا في فشله، فمر في طريقه بمعسكر ابن الكرماني، فخطر بباله خاطر انشرح له صدره؛ لما توهمه فيه من السداد؛ ذلك أنه قال في نفسه: «لأذهبن إلى أمراء اليمنية أصحاب الكرماني وأطلعهم على مكيدة أبي مسلم، وأنه قتل أميرهم غيلة، وأحرضهم على الاتحاد معنا.» فلما خطر له ذلك اختلج قلبه فرحا، فبدل ثيابه وأسرع يطلب فسطاط أمير من اليمنية كان يعرفه ، فلما وصل الفسطاط اعترضه أحد الخفراء، فسأله عن الأمير، فقال: «إنه دخل مرو منذ ساعة.»
قال: «ولماذا؟»
قال: «لأن أبا مسلم دعا أمراء اليمنية جميعهم إليه.»
قال: «وهل ذهبوا جميعا؟»
قال: «نعم.»
فبهت الضحاك لذلك الدهاء، وتحقق أن أبا مسلم بعث إليهم ليكونوا في قبضته، فإذا أصبح الصباح وعلموا بموت ابن الكرماني كان هو في مأمن من عصيانهم، فأحس بعظم دهاء ذلك الخراساني وسهره على مصلحته، ووقف برهة يفكر في ماذا يجب أن يفعله، فلم ير له حيلة غير الفرار بالخوارج ريثما يجد سبيلا للانتقام، فأسرع نحو معسكرهم وهو يخاف أن يكون أبو مسلم قد دبر عليهم حيلة، وقد غلب على وهمه أن هذا الرجل قادر على كل شيء، فسار إلى شيبان حتى إذا أقبل على فسطاطه دخل عليه وقص عليه ما وقع، وقال له: «لم يبق لنا فائدة من البقاء هنا؛ فانصرف برجالك إلى مكان نتربص فيه ريثما ندبر حيلة أخرى.»
فتردد شيبان في الأمر مدة، ثم اقتنع بوجوب التنحي فأمر بالإقلاع، وطلب من الضحاك أن يصحبه، فقال: «دعني أتدبر الأمر؛ فإني غير تارك هذا الخراساني حتى أنتقم منه شر انتقام.» قال ذلك وخرج، وأخذ شيبان في الاستعداد للرحيل.
الفصل السابع والأربعون
الرحيل
أما جلنار فقد تركناها في غرفتها تحاول الرقاد ولا تستطيعه؛ لهول ما شاهدته تلك الليلة من الأمر العظيم، وريحانة إلى جانبها تخفف عنها، وتفكر في الورطة التي وقعتا فيها، وتبحث عن حيلة تنجوان بها من ذلك المعسكر قبل أن يصبح الأمراء ويعلموا بموت ابن الكرماني فلا تدري كيف تتخلص منهم، فتذكرت الضحاك، فقالت لسيدتها: «الآن وقت الضحاك - قبحه الله - إنه لا يغيب عنا إلا في وقت الحاجة إليه.»
فقالت جلنار «وأين هو يا ترى؟ لا أظنه يتركنا الليلة وهو يعلم حالنا وما نحن فيه، ولا بد من مجيئه عاجلا.»
فقالت ريحانة: «وإذا لم يأت؟»
قالت: «إذا لم يأت. ألا ترين أن نحتال في الذهاب إلى أبي مسلم في مرو؟»
فأطرقت ريحانة هنيهة ثم قالت: «وما قولك بالرجوع إلى بيت سيدي الدهقان فنقص عليه ما وقع، وهو لا شك إذا علم بفوز أبي مسلم وموت ابن الكرماني يرضى به بعلا لك، فتزفين إليه مكرمة معززة.»
فشق على جلنار أن تعود إلى بيت والدها وتبعد عن مقر حبيبها، فقالت: «ولماذا ذلك؟ ألسنا على مقربة من مرو؟ وقد كان أبو مسلم يؤجل أمرنا حتى يقتل ابن الكرماني ويفتح مرو، وقد تم له ما أراد؛ فهل تظنين عنده سببا آخر يدعو إلى التأخير؟»
قالت: «لا أعلم يا سيدتي، ولكن لو كان هذا هو قصده وهو يعلم بمقتل ابن الكرماني؛ لوجب أن يرسل إليك من يحملك إليه الآن.» قالت ذلك وأطرقت.
فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وتفرست في وجهها؛ لعلها تفهم شيئا مستترا وراء تلك العبارة، فرأت ريحانة مطرقة وفي وجهها ملامح الارتياب، فقالت لها: «وماذا تعنين بذلك؟»
قالت: «لا أعني شيئا، ولكني أقول ما يجول في خاطري، وأنت تعلمين أني أرغب الناس في حفظ كرامتك. وعلى كل حال، فإن زفاف الفتاة من بيت أبيها أحفظ لكرامتها، غير أني لا أشك في مقاصد أبي مسلم في شأنك، ولكنني أحسبه مشتغلا الآن بتدبير شئونه بعد هذا الفتح؛ فذهابك إلى بيت أبيك والانتظار ريثما يفرغ أبو مسلم من مهام الدولة لا يقلل شيئا من حبه لك، أو رغبته فيك.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعتا نحنحة في وسط الخباء فأجفلتا، ثم عرفتا أنها نحنحة الضحاك، فهرولت ريحانة وهي تتعثر في أذيالها من البغتة والفرح، وظلت جلنار جالسة في الفراش وقلبها يكاد يطير من شدة الخفقان، ثم رأت ريحانة عائدة ورجل يتبعها بقيافة غير قيافة الضحاك وقد تنكر في ثوب آخر - هو عبارة عن قلنسوة طويلة بدون عمامة، وجبة سوداء طويلة مثل زي أهل خراسان، وقد قص لحيته وأطراف حاجبيه وقطبهما، فذهبت من وجهه أمارات المجون وأبطل التضاحك بحيث لا يراه أحد إلا أنكره. فلما عرفته جلنار هشت له - كما تهش لأقرب الناس إليها - وابتسمت وهي تقول: «لقد صدق ظني. إنك لا تتركنا في هذه الحالة. ما الذي أصاب ذلك الرجل؟ هل تظنه يموت؟»
قال: «أظنه قد مات؛ لأني رأيت أهل فسطاطه في هرج واضطراب.»
قالت: «فما العمل الآن؟»
قال: «أرى أن ترجعي إلى بيت سيدي الدهقان.»
فلما سمعت ريحانة قوله التفتت إلى سيدتها ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك ذلك؟»
فقالت جلنار: «وكيف نذهب؟»
قال: «نذهب بأخف ما عندنا وأنا أدبر ذلك، ولكني أتوسل إليك منذ الآن أن تكتمي أمري عن كل إنسان.»
فاستغربت طلبه وقالت: «وماذا تعني؟»
قال: «أعني أني رهين إشارتك، ولا أزال عبدك وخادمك بكل ما تأمرين، ولكنني لا أحب أن يعلم أحد في الدنيا أني لا أزال حيا، ولا تسأليني عن السبب الآن. أما اسمي الجديد فهو صالح.»
فقالت: «سأفعل ذلك. فما العمل يا صالح؟»
قال: «سأعد كل شيء حتى نتمكن من الرحيل في الصباح باكرا والناس في شاغل عنا.»
قالت: «ألا ترى أن ننتظر إلى غد لعل أبا مسلم يبعث بمن يحملنا إليه؟»
قال: «الأمر راجع إليك؛ إذا شئت بقينا، ولكنني لا أرى أبا مسلم يبعث إليك غدا ولا بعد غد.»
فلم تستغرب قوله؛ لأنها سمعت مثله من ريحانة، ولكنه لم يعجبها فقالت: «وكيف لا يبعث إلي وأنت قلت لي إنه إنما أجل اجتماعنا ريثما يفرغ من الحرب، ويقتل هذا المسكين على يدنا؛ فأطعناه؟! فهل من سبب آخر للتأجيل؟»
فقال: «لا، ولكن أبا مسلم اليوم في شغل عظيم من أمر هؤلاء اليمنية بعد مقتل أميرهم، فإذا لم يتدبر أمرهم خشي عصيانهم أو انحيازهم إلى الخوارج. ومهما يكن من الأمر، فإن الذهاب إلى بيت أبيك أحفظ لكرامتك، وليس ثمة ما يمنع أبا مسلم من أن يطلبك من مولاي الدهقان، فتزفين إليه معززة مكرمة.»
فلم تر جلنار بدا من طاعته، فأذعنت وأشارت إليه أن يفعل ما يشاء.
فقال: «مري الخدم أن يطيعوني ولا تقولي لهم إني الضحاك.»
فأشارت إلى ريحانة أن تفعل ما قاله، فخرجت ريحانة وقالت لقيمة الخباء: «إن هذا الرجل بعث به مولانا الدهقان الليلة ليرجع بنا إليه في الصباح؛ فاعملوا بإشارته.» فأخذ الضحاك في تدبير ما يلزم استعدادا للمسير.
الفصل الثامن والأربعون
عريس جديد
أما الدهقان، فقد عرف أنه زوج ابنته بابن الكرماني طمعا في الكسب على يده؛ ليقينه بقوة الكرماني وكثرة رجاله، ولاستخفافه بأبي مسلم؛ لقلة رجاله وصغر سنه، وأضمر في نفسه أنه إذا انقلبت الآية ورجحت كفة أبي مسلم تقرب إليه بالأموال والرجال، فكان لا يغفل عن استطلاع أحوال الجنود المعسكرة حول مرو - وكانت الأخبار تأتيه تباعا، وكلها تدل على نجاح الخراسانيين وتغلبهم - حتى إذا جاءه الخبر بدخول أبي مسلم مرو، بمساعدة ابن الكرماني مع بقاء هذا في معسكره، تحقق من فوز الخراسانيين، ولبث يتوقع فرصة يتقرب بها من أبي مسلم وهو يظنه غير عالم بزفاف جلنار إلى ابن الكرماني، فلما وصله نبأ دخول أبي مسلم إلى مرو بعث إليه بالهدايا والأموال، وكتب إليه يهنئه بالنصر، وأنه بذل جهده في جمع كلمة الدهاقين على نصرته.
كل ذلك وهو لا يعلم بموت ابن الكرماني، ثم جاءه الخبر بمجيء ابنته، فخرج لاستقبالها وقبلها، ورحب بها وبالغ في الترحاب وهو يعجب لمجيئها. ولما سألها عن سبب مجيئها لم تتماسك عن البكاء، فأجابت ريحانة أنها ستخبره عن السبب في خلوة، فأخرج من في حضرته من الناس فقالت ريحانة: «إن مولاتي الدهقانة تبكي حرقة على سوء حظها.»
قال: «ولماذا؟ ماذا جرى؟»
قالت: «إن خطيبها توفي في هذا الصباح فجأة.»
قال: «علي بن الكرماني مات؟»
قالت: «نعم يا سيدي. مات فجأة على غير انتظار.»
فأطرق وهو يحك ذقنه، وأعمل فكرته وقد تأكد من انتصار الخراسانيين وفشل العرب، فذهبت بقية آماله، ونظر إلى جلنار فإذا هي مطرقة تبكي، فظنها تبكي على عريسها، وهي إنما تبكي شوقا لحبيبها، وخوفا من ضياع آمالها؛ لأنها كانت تتوقع أن ترى منه اهتماما بأمرها، ولم تكن تنتظر انشغاله عنها إلى هذا الحد، فلما رآها الدهقان تبكي حن لها وقال: «لا تبكي يا جلنار ولا بأس عليك.» ثم وجه خطابه إلى ريحانة وقال: «سمعتك تسمين ابن الكرماني خطيبا ، وأنت تعلمين أننا عقدنا له عليها وزففناها إليه .»
قالت: «نعم، ولكنه لم يتزوجها بعد.» وقصت له ما كان من اشتراطه على نفسه فتح مرو قبل الاقتران، وأنه مات في الغد بغتة.
فلما علم بذلك تبدد إحساسه بالفشل والندم، ورأى في عودة جلنار إليه على تلك الصورة بابا جديدا للتقرب إلى أبي مسلم؛ لاعتقاده أن أبا مسلم يرغب في مصاهرته، فنظر إلى جلنار وهو يبتسم ليزيل عنها اضطرابها وقال: «لا بأس عليك يا بنتاه، إني سأعوض عليك من ابن الكرماني من هو خير منه، وأقرب إلينا وطنا ولغة ومشربا.»
فأدركت جلنار أنه يشير إلى أبي مسلم فانشرح صدرها، وعادت آمالها إلى الانتعاش؛ لأن أباها صار عونا لها في الوصول إلى حبيبها، وأمنت من الجهة الأخرى أنها إن تزوجت أبا مسلم بغير علمه فقد يغضب، ويعد عملها خروجا عن طاعته. فلما سمعت قوله قالت: «إنك تعزيتي الوحيدة يا والدي، ومن كانت لها أب مثلك لا بأس عليها، وأنت تعلم أني طوع إرادتك في كل ما تريد.»
فأشار إليها أن تذهب إلى غرفتها للراحة من تعب السفر، فنهضت وريحانة تسير بجانبها، فإذا بوالدها يقول: «وأين الضحاك؟ إني لا أراه معكم.»
قالت ريحانة: «لا ندري ماذا أصابه، فقد ذهب بالأمس ونحن في معسكر الكرماني ثم لم نره.»
قال: «لقد رأيت معكم رجلا عليه القلنسوة والجبة؛ فمن هو هذا؟»
قالت: «هو رجل من أهل مرو اسمه صالح جاءنا به ابن الكرماني يوم الفتح وأضافه إلى الخدم بدلا من الضحاك، ولا بأس به.»
وأخذ الدهقان يفكر في السبيل المؤدي إلى نيل الحظوة في عيني أبي مسلم، بعد أن أصبح له الأمر والنهي في خراسان، فصمم بعد طول تفكير أن يهديه الهدايا ويزوجه ابنته، ولكنه رأى أن ينتظر جوابه على تهنئته التي أرسلها إليه يوم الفتح.
لبث في الانتظار يومين، وفي اليوم الثالث جاءه رسول أبي مسلم ومعه كتاب يثني فيه عليه ويستقدمه إليه ليقيم بين يديه، فلما تلا الكتاب لم يتمالك أن أسرع إلى جلنار وأطلعها عليه، فكان سرورها أعظم من سروره، ولكنها أحبت أن تثق من أمر مسيرها معه فقالت: «وهل أنت عازم على السفر إلى مرو؟»
قال الدهقان: «وهل أستطيع غير ذلك؟»
قالت جلنار: «ومتى تذهب؟»
قال الدهقان: «ربما ذهبت غدا.»
قالت جلنار: «ألا تحمل إليه الهدايا والأموال؟»
قال: «لا بد من ذلك؛ لأن الرجل أصبح ملك خراسان، وأظن أن دعوته ناجحة لا محالة، فيجب أن نبذل كل جهدنا في التقرب منه. وأرجو أن تساعديني على ذلك.»
قالت جلنار: «إذا كنت أستطيع مساعدة فإني فتاتك ورهن إشارتك.»
قال: «وأبو مسلم إذا أطعتني فيه لم يبق شك في فوزنا على يده؛ لأن النصر قد تقرر له. وقد أخبرني الرسول حامل الكتاب أن الخوارج أجلوا عن مرو، ورجال الكرماني الذين بقوا أحياء بعد موت قائدهم انضموا إلى جند أبي مسلم، وهو الآن زعيم القوم وأمير مرو، ولا يلبث أن تذعن له سائر بلاد خراسان وما وراءها؛ لأن رجاله لم ينفكوا وهو محاصر مرو يفتحون البلاد، ويضمون إليهم العباد، يبايعون لأهل البيت ويلبسون السواد؛ فالتقرب منه مفيد، ولا أظنك تخالفينني فيه؟»
فأدركت أنه يشير إلى أمر زواجها به، فقالت وقد أشرق وجهها سرورا، رغم ما تكلفته من السذاجة: «إذا كنت لم أخالفك في ابن الكرماني وهو بعيد عنا جنسا ولغة، فكيف برجل خراساني وهو كما وصفته؟! فإذا أمرتني أطعتك.»
قال: «بورك فيك من ابنة مطيعة حكيمة.» وضمها إلى صدره وقبلها ثم قال: «سأذهب إليه في الغد، وسأغتنم أول فرصة لمخاطبته في شأنك. ثم أبعث إليك فتأتي في موكب يليق بمقامنا.»
فعلمت أنه لا ينوي اصطحابها، فرضيت بما أراده، وانتعشت آمالها، فأظهرت الارتياح إلى رأيه، ولكنها كانت تفضل الذهاب معه فقالت: «وماذا يحدث لو أنني سرت معك فأدخل مرو وأتفرج على مناظرها ريثما يتم لك ما تريد؟»
فأطرق لحظة ثم قال: «لا بأس من ذهابك معي، فأنزلك عند صديق لي من دهاقين مرو أعرف أنه يقيم في قصره بجوار دار الإمارة.»
ففرحت جلنار بذلك وظهر الفرح على وجهها ، فأمر الدهقان خازنه أن يعد الأموال ليحملها معه إلى مرو، وأن يعدوا الهدايا من الرقيق والثياب وغير ذلك.
الفصل التاسع والأربعون
مجلس أبي مسلم
وفي صباح اليوم التالي، ركب في كوكبة من الفرسان، وجعل الهدايا في حملة تسير في أثره ومعها هودج جلنار وريحانة، ومشى صالح مع الخدم. وفي الضحى وصل الموكب إلى مرو يتقدمه رسول أبي مسلم، فدخلوا المدينة وساروا حتى أقبلوا على دار الإمارة، فأمر الدهقان أن ينزلوا جلنار في قصر صديقه بقرب تلك الدار، فأنزلوها، وترجل هو ورجال حاشيته يمشون بين يديه وعليهم الملابس الفاخرة، وبمناطقهم السيوف المحلاة بالذهب كأنهم بين يدي ملك، فمشوا على هذه الصورة في فناء الدار، والناس يوسعون لهم، حتى أقبلوا إلى باب القصر وعليه الحراس، فاستأذنوا للدهقان بالدخول، فأذن له أن يدخل وحده، وأن ينصرف رجال حاشيته إلى دار الضيوف، فدخل الدهقان وعليه قلنسوة حولها عمامة موشاة بالذهب، وقد تزمل بجبة من الخز فوقها مطرف من الحرير المزركش يساوي مالا كثيرا. وكان قد نزع سيفه وسلمه إلى أحد الخدم السائرين بين يديه.
دخل القصر ومشى في الصحن الداخلي حتى وصل إلى القاعة التي ينعقد فيها مجلس أبي مسلم ومعه نقباؤه وقواده، فدخل الدهقان القاعة وفي صدرها أبو مسلم على كرسي، وإلى جانبه خالد بن برمك وسليمان بن كثير وجماعة من النقباء، فلما أقبل على أبي مسلم رحب به فحياه وتقدم، فأمر له بالجلوس بين يديه، فجلس متصدرا وأعاد التحية، فقال له أبو مسلم بالفارسية: «نشكرك على هداياك أيها الدهقان.»
قال: «إني لم أهد شيئا، وإنما قدمت ما يجب علي؛ لأن المصلحة واحدة.»
قال أبو مسلم: «بل أنت تفضلت، ولا ننسى ضيافتك يوم نزلنا عندك.»
فانشرح صدر الدهقان لذلك الثناء وقال: «كل ذلك واجب، وقد فعلته لأن الدعوة التي قمتم بها ينبغي على كل خراساني أو فارسي أن ينصرها؛ لأنها هي نقمة الفرس على العرب.»
فنظر أبو مسلم إلى خالد فرآه ينظر إليه، ثم حولا نظرهما إلى الدهقان فإذا هو يزداد تصدرا ويده في لحيته يمشطها بأنامله، فقال له أبو مسلم : «هل كنت تعلم بذلك قبل الآن؟»
فاستغرب الدهقان هذا السؤال وأوجس منه خيفة؛ لعلمه أن أبا مسلم قليل الكلام، كثير المعاني، فقال: «كيف لم أكن أعرفه؟ ألا تذكر مجلسنا تلك الليلة يوم تلوت علينا وصية الإمام، وتعاقدنا على نصرة هذه الدعوة؛ لأنها دعوة يجب على كل فارسي نصرتها؟»
قال أبو مسلم: «أتذكر نص تلك الوصية؟»
قال: «أذكر فحواها.»
قال أبو مسلم: «وما فحواها؟»
فتعجب الدهقان من تدقيقه، وازداد خوفا مما وراء ذلك، ولكنه تظاهر بالاستخفاف وقال: «أذكر أنه يوصيك ألا تبقي في خراسان لسانا عربيا، وأن تقتل كل من شككت فيه.»
فنظر أبو مسلم إلى الدهقان نظر المتفرس، فلم يطق الدهقان صبرا على تلك النظرة خوفا من عواقبها فأطرق، فقال له أبو مسلم: «وهل عملت بهذه الوصية؟ هل سعيت معنا على العرب أعدائنا؟» قال ذلك بنغمة المرتاب وتجاهل العارف.
فتجلد الدهقان وقال: «كيف لا وأنا لم أدخر وسعا في بذل الأموال واستنهاض الدهاقين لنصرة هذه الدعوة؟!» وكان الدهقان يظن أن أبا مسلم لا يعلم بزفاف جلنار على ابن الكرماني، كما تقدم.
فقال أبو مسلم: «أمن نصرة العجم على العرب أن تزف ابنتك إلى ابن الكرماني ومعها الهدايا من الرقيق والمال؟»
فوقع الرعب في قلب الدهقان ولم يعلم بماذا يجيب، وبدت البغتة في وجهه، ورقصت لحيته، وارتعشت أنامله، ولكنه تجلد وقال وهو يضحك: «إن زفاف ابنتي إلى ذلك العربي إنما كان قبل الاجتماع المذكور.»
فقال: «ألا تذكر أن الفتاة كانت في بيتك ليلة ذلك الاجتماع وقد جالستنا؟»
فارتبك الدهقان في أمره وأخذ يتشاغل بإصلاح قلنسوته ومطرفه، ويبلع ريقه ويتنحنح وقد امتقع لونه، ولم يسعه السكوت فقال: «أعني أننا عقدنا قبل تلك الليلة، ورأيت من الفتاة رغبة إلى ابن الكرماني، فسايرتها فيما ترضاه؛ لأنها وحيدتي.»
فقال أبو مسلم: «أصحيح ما تقوله.»
قال: «هذا هو الصحيح ورأس الأمير.»
فقال أبو مسلم: «وإذا كنت كاذبا؟»
فلما سمع الدهقان ذلك زاد رعدة حتى صار ينتفض، والتفت إلى من حوله من القواد والنقباء لعله يجد بينهم من ينصره، فرآهم مطرقين لا يستطيع أحد منهم أن يتفوه بكلمة، فلم ير بدا من الجواب؛ لأن السكوت إقرار بالكذب - ولم يكن يخطر له أن أبا مسلم مطلع على سر ابنته - فقال: «حاشا لي أن أكذب بين يدي الأمير.»
فقال أبو مسلم: «إن العقد لم يتم إلا بعد زيارتنا، وابنتك لم تكن راضية بذلك العربي، وإنما أنت رضيته لها؛ استخفافا منك بدعوتنا، وتزلفا إلى العرب، وقد جادلتك هي في شأنه في الليلة التي كنا فيها عندك وأنت عازم على زواجها منه.»
فلم يبق أحد من الحضور حتى خالد بن برمك إلا وقد دهش لاطلاع أبي مسلم على هذه التفاصيل مع اشتغاله بمهام القيادة العامة، وتدبير شئون تلك الدعوة، وجعلوا يتلفتون بعضهم إلى بعض والدهقان يكاد يموت خوفا، وقد جمد الدم في عروقه، وود لو خسفت الأرض وابتلعته في تلك اللحظة ولم يحر جوابا.
وساد الصمت على تلك الجلسة هنيهة والجميع هادئون لا يتحركون كأن على رءوسهم الطير، لو داهم أحدهم السعال لبلع ريقه تسكينا لما يحتك في أعلى الصدر، ثم قطع أبو مسلم السكوت وقال وقد وجه خطابه إلى النقباء: «فما قولكم في هذا الخراساني الذي سمع وصية الإمام بإبادة العرب فنصرهم وصاهرهم، ثم يقول إنه ينصرنا؟»
فلم يجب أحد منهم بكلمة؛ لعلمهم أنه لا يستشيرهم، وإنما هو يهدد الدهقان، ثم قال له: «فأنت إذن لم تحفظ وصية الإمام، فبدلا من أن تنصر الخراسانيين نصرت العرب، وقد نصرتهم وهم أعداؤنا. أما أنا فلا يمكنني إلا حفظ تلك الوصية، وخاصة آخر فقرة منها. أتعلم ما هي؟»
فأدرك الجميع مراد أبي مسلم حتى الدهقان نفسه، وفهموا أنه يشير إلى قول الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فنظر الدهقان إلى أبي مسلم نظر المستغيث، فقال أبو مسلم: «إن طاعة الإمام أولى من طاعة كل إنسان، وهو أوصاني أن أقتل كل من أشك فيه، وقد شككت فيك؛ فلا يمكنني سوى قتلك.» ثم نظر نحو الباب فدخل أربعة ، على كل منهم درع من الجلد إلى أسفل الركبة عليها رشاش من الدم، وعلى رأسه قلنسوة طويلة ذات شعبتين عليها شيء من آثار الدماء، وحول الدرع منطقة من جلد علق فيها سيف.
فلما دخلوا علم الدهقان أنهم الجلادون، وسمع أبا مسلم يقول لهم: «خذوا هذا الخائن إلى خوارزم.»
فعلم الدهقان أنه يأمر بقتله، فنهض وترامى على قدمي أبي مسلم، وجعل يتضرع ويتوسل وهو يبكي ويقول: «اصفح يا مولاي عن ذنبي فأعطيك كل ما أملك.»
فأجابه أبو مسلم وهو ينظر إلى سقف القاعة، وقال بصوت ضعيف: «إن مالك لنا، سواء قتلت أو بقيت حيا.» فلما لم ير الدهقان إصغاء من أبي مسلم تحول إلى خالد بن برمك وترامى عند قدميه واستشفعه، فرق خالد له، ولم يكن أحد يجرؤ على مراجعة أبي مسلم في شيء غيره، فهمس في أذنه كلاما، فقال أبو مسلم: «قد أجلنا قتله الآن. خذوه إلى السجن لننظر في أمره.»
فتقدم الأربعة وساقوا الدهقان بين أيديهم حتى خرجوا من باب سري يؤدي إلى غرفة مظلمة جعلوه فيها ولا سبيل لأحد إليه.
الفصل الخمسون
الشفاعة
أما جلنار فإنها نزلت في قصر ذلك الدهقان بجوار دار الإمارة وقد استأنست بقرب الحبيب، فأنزلها صاحب القصر بين نسائه، فلقيت عندهن كل إكرام وترحيب، وخاصة من الدهقانة صاحبة المنزل؛ لأنها كانت تعرفها وتعرف والدتها قبلها، على أن جلنار كانت لا تستأنس بأحد؛ لاشتغال خاطرها بأبي مسلم وما عسى أن يدور بينه وبين والدها بشأنها، وكانت تنتهز الفرص لتخلو بريحانة وتحدثها فيما يهمها من الشئون ريثما يعود والدها من تلك الزيارة. وحان موعد الظهر وأهل البيت ينتظرون مجيء الدهقان ليتناولوا الطعام معا، فلما أبطأ ظنوه تناول طعامه على مائدة الأمير، فتناولوا طعامهم. وكانت جلنار أكثرهم قلقا على غيابه، ليس خوفا على حياته؛ لأن ذلك لم يخطر ببالها، بل حبا في معرفة ما يدور من الحديث بصددها.
قضت بقية ذلك النهار وهي على مثل الجمر، وريحانة تعدها وتمنيها حتى أمسى المساء، فلاحظت على أهل القصر تغيرا ، ورأتهم يجتمعون ويتسارون، وإذا رأوها تظاهروا بالمجاملة والمحاسنة ، فاشتغل خاطرها وشكت ذلك إلى ريحانة، فقالت لها: «وأنا لاحظت ذلك عليهم.»
فقالت جلنار: «لا بد من أمر حدث لوالدي.»
وما أتمت كلامها حتى جاء أحد الخدم يقول لجلنار: «إن أحد خدمكم بالباب.»
فنهضت ريحانة وتبعتها جلنار حتى أقبلتا على الباب، فإذا هناك صالح (أي الضحاك) وفي وجهه أثر البغتة، فقالت ريحانة: «ما وراءك؟»
قال: «أدخلاني إلى مكان لا يسمعني فيه أحد سواكما.»
فدخلتا به إلى غرفة وأقفلتا الباب، فجلس وجلنار في قلق، وقلبها يخفق خفقانا شديدا حتى بدأ صالح بالكلام فقال لها: «هل سمعت بما حدث اليوم في مجلس أبي مسلم؟»
قالت: «كلا.»
فقص عليها ما دار بين أبي مسلم ووالدها كأنه كان حاضرا، حتى بلغ إلى أمر أبي مسلم بقتل والدها، فاقشعر بدنها وامتقع لونها، ثم أخبرها بتوسط خالد بالعفو عنه، وأنهم أجلوا قتله وحبسوه. فلما سمعت ذلك استغربته وظنت نفسها في حلم وقالت: «حكم على والدي بالقتل. ولماذا؟»
قال: «لأنه زوجك إلى ابن الكرماني ورغب في مصاهرته وهو عربي. وكان مولاي الدهقان يتظاهر بتأييده لحزبه الفارسي، وأبو مسلم يقتل على الشك كما لا يخفى عليك.»
فأطرقت ثم التفتت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها، فرأتها أشد حيرة منها، فنظرت إلى صالح وقالت: «هذا وقت المروءة وصدق الخدمة.» وترقرق الدمع في عينيها.
فوقف صالح وقال: «إني رهن أمرك يا مولاتي، والذي أراه.» وسكت، فازدادت جلنار قلقا لتردده فقالت: «قل ما الذي تراه؟»
قال: «لا أرى أحدا يقدر على التوسط في ذلك سواك.»
فجاء قوله موافقا لما في خاطرها؛ لأنها طالما تمنت مقابلة ذلك الحبيب، وقد جرى ما جرى بينه وبينها ولم يتخاطبا ولا تشاكيا مع اعتقادها أنه يحبها. وكانت عند سماعها بالحكم على والدها قد عزمت على الذهاب بنفسها لمخاطبته في شأنه؛ إذ لا بد من أن يتشعب الحديث إلى التشاكي، فيطمئن خاطرها، وتثق من حبه، فلما أشار صالح بذهابها انبسطت نفسها، وبان البشر على وجهها، ووقفت بغتة بدون إرادتها، فقال لها صالح: «أتذهبين الآن؟»
قالت: «لا بد من ذلك؛ لأن الفرصة قصيرة، وأخشى أن يتسرع الأمير بقتل والدي قبل غد.»
فقال: «حسنا تفعلين، وأنا أستأذن لك بالدخول على يد الحاجب؛ فقد عرفته، وهو الذي قص علي الحديث اليوم. انهضي غير مأمورة وتخمري ريثما أعود إليك بالإذن.» وخرج.
فتحولت جلنار إلى مكان هناك يصلح أهل القصر شعورهن فيه، وأصلحت من شأنها إصلاحا بسيطا، والتفت بالمطرف المزركش، ولفت رأسها بشال موشى، فقالت ريحانة: «هل أذهب معك يا مولاتي؟»
قالت: «لا أظن أن ذهابك يجدي؛ فربما لا يأذن لنا بالدخول معا وأنا أحب أن أخاطبه على انفراد.»
ثم جاء صالح وهو يقول: «قومي يا مولاتي. لقد أذن الأمير بمقابلتك.»
فنهضت جلنار وقد اشتد خفقان قلبها، وتصاعد الدم إلى وجهها، ومشت مع صالح والليل قد أسدل ستاره، فخرجت من باب القصر، ولم تمش بضع خطوات قليلة حتى أطلت على باب القاعة وصالح يمشي بجانبها، فلما دخلت إلى هناك قال: «لا يخلو دخولك على هذا الأمير من باعث على الحذر، فكوني على يقين - إذا شعرت بضيق - إني آتيك كما تأتي المردة، ولكن احذري أن تناديني باسمي القديم.»
فأوجست من هذا التحذير خوفا، ولكنها شغلت عن التفكير به لما هاج في خاطرها من مقابلة أبي مسلم، وهي أول مرة ستخاطبه في خلوة، مع ما في قلبها من لواعج الحب وعوامل الإعجاب به. فأوصلها صالح إلى الباب وأشار إلى الحاجب، فوقف لها وأدخلها القاعة وقد أزاح لها ستر الباب بيده، فرأت قاعة كبيرة في أحد أركانها شمعدان عليه شموع منيرة. وفي صدر القاعة رجل متكئ على وسادة وعليه ثياب الإمارة كأنه في مجلس الحكم، فسبقها الحاجب حتى وقف بين يدي الرجل وقال: «قد أتت الفتاة التي استأذنت في الدخول على الأمير.»
فقال أبو مسلم: «أين هي؟» وأشار بيده إلى الحاجب، فخرج ومشت جلنار وهي تخطو الهوينى وقدماها لا تساعدانها على السرعة لما داهمها من الرعشة؛ لدخولها وحدها على أبي مسلم، والرجال الأشداء يرتعدون في حضرته، فكيف بفتاة مفتونة وقد قاست الصعاب في سبيل الحصول على رضاه؟! والفتاة ترتعد بين يدي حبيبها وهو مندفع إليها، فكيف بمن يخشى الناس غضبه، وإذا شك قتل؟!
الفصل الحادي والخمسون
الحديث
وكان أبو مسلم متكئا على وسادة، فلما أقبلت جلنار جلس وقد ارتدى الجبة السوداء والعمامة السوداء وقال باللغة العربية: «أهلا بالدهقانة.»
فأجابته بالفارسية: «لست دهقانة، وإنما أنا جاريتك.»
فأشار إليها أن تجلس، فجلست على وسادة بين يديه وقد أحست بالخلوة المطلقة مع رجل تحبه، وتعتقد أنه يحبها، فغلب عليها الحياء تمازجه رعشة الحب، ثم تذكرت والدها وأنها أتت من أجله، فلبثت تنتظر ما يقوله أبو مسلم، فقال لها بالفارسية: «أراكم لا تحبون من الفرس إلا لغتهم، وأما فيما خلا ذلك فأنتم عرب!»
فأدركت أنه يعرض بالسبب الذي حكم على والدها من أجله، فرفعت بصرها إليه فلم تستطع التفرس في وجهه، وأحست كأن سهاما تنطلق من عينيه إلى عينيها، وكأن نورا باهرا يسطع من حدقتيه فيبهر الناظر إليهما، فقالت وهي تنظر في البساط: «وكيف نكون عربا وقد بذلنا النفس والنفيس في سبيل الفرس؟! على أننا لو أردنا أن نكون عربا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا!»
قال: «وأنت أيضا تتعمدين خداعي؟»
فلما سمعت ما في كلامه من الجفاء رأت غير ما غرسه الضحاك في ذهنها من حبه لها، على أنها حملت ذلك منه على شدة غضبه من والدها، فقالت: «حاشا لله أن أخادعك، وما أنت ممن يخدعون؛ لأنك تخترق أعماق القلوب بعينيك، وتكشف غوامض الأسرار بذكائك، فكيف تتجرأ فتاة حقيرة مثلي على خداعك؟! ولكنني أقول لك الواقع.»
فقطع أبو مسلم كلامها وقال: «الواقع أن أباك قد خدعنا، فأظهر التقرب منا والنصرة لنا، على حين أنه كان يخابر ابن الكرماني؛ ليصاهره، وقد زف ابنته إليه. هل تنكرين ذلك؟»
فلم تستطع جلنار ردا على هذا القول، فرأت أن تأتيه من باب العطف بالحب فقالت: «لا ريب أن والدي ارتكب خطأ كبيرا بزفافي إلى ذلك العربي، ولو علم ما في قلبي (قالت ذلك وتنهدت) لما رضي به، ومع ذلك فإن ذلك العربي المسكين لم ينل من آماله غير الفشل.»
فقال: «يكفي أن أباك خادعنا وأوجب الشك، فحل لنا قتله عملا بوصية الإمام صاحب هذه الدعوة.»
فصاحت: «العفو يا مولاي. اعف عن والدي وإن كان ذنبه كبيرا، اعف عنه؛ لأن تلك المصاهرة كانت سببا في تعجيل أمر العرب بمقتل أميرهم، وهب أن والدي فعل ذلك رغبة عن أبي مسلم، فإن في هذا القلب (وأشارت إلى صدرها) من الحب له ما لو تفرق في عشيرة لكان كل منهم عاشقا.» وشعرت بعد الفراغ من قولها أنها تسرعت، ولكنها لم تستطع صبرا وقد أرادت أن تستطلع ما في قلبه ليطمئن بالها.»
أما هو فلما سمع تصريحها بحبه دهش له وظنه تهورا، فأغضى عنه وقال: «إني أشكرك على حبك أيتها الدهقانة، ولا أنكر أنك خدمت مصلحة الخراسانيين، غير أن ذلك لا يبرئ والدك من ذنبه.»
فاستغربت جوابه الجاف على خطابها الحار وقالت: «ألا تزال تذكر ذنب والدي في جانب اندفاعي في حبك؟»
قال: «لا تقولي حبي، بل قولي حب دعوتي ومصلحة خراسان.»
فزاد استغرابها لتنصله من الحب إلى هذا الحد، وشعرت أنها تتكلم في واد وهو في واد آخر فقالت: «بل في حبك أيها الأمير.»
قال: «وما الباعث إلى ذلك والحب في مثل هذه الحال ينتهي بالزواج؟ وأنا لا مأرب لي في النساء على الإطلاق، بل أنا أعتبر الزواج جنونا، وقد تزوجت امرأة. ويكفي للإنسان أن يجن في زمانه مرة واحدة. واعلمي - يا جلنار - أني لو كنت ممن يتفرغون للنساء ما استطعت القيام بالدعوة التي أنا قائم بها.»
1
وكانت جلنار تسمع كلامه وقلبها يكاد يتمزق من الغيظ وخيبة الأمل، ولكنها تجلدت وقالت وصوتها يرتجف: «ألم تكن تحبني من قبل؟»
قال: «لم أحبك، ولا أحببت سواك من النساء، ولا أريد أن أحب امرأة ما.»
قالت: «ألم تقل لرسولي أنك أحببتني عندما رأيتني، وأنك تؤجل الزواج إلى ما بعد الفراغ من الحرب؟»
قال: «أظنك تعنين ذلك المهزار المنافق؟ لقد قتلته جزاء خيانته. وهل تصدقين قوله؟»
فتذكرت جلنار وصية الضحاك أنه لا يريد أن يعلم أحد ببقائه حيا، فسكتت عن ذكره، ولكنها ظلت مقتنعة بصدقه لاختبارها إياه من قبل، ولأنها رأت غيرته عليها وتفانيه في خدمتها، فترجح عندها غدر أبي مسلم، وأنه استخدمها واستخدم الضحاك في تنفيذ غرضه لقتل ابن الكرماني ثم قتل الضحاك، فخشيت إذا جادلته أن يغضب ويأمر بقتلها، وليس أهون عليه من القتل، فاستجمعت رشدها وعمدت إلى الملاينة ريثما تنقذ والدها، فقالت: «لا تغضب أيها الأمير، فإني لم أحبك من أجل الزواج، ولكنني أحببت مناقبك وسجاياك.»
فأدرك أبو مسلم أنها تخدعه خوفا من غضبه، فخدعها وقال لها: «وأنا أحببت مناقبك وشكرت غيرتك ونصرتك.»
فلما سمعت تلك المجاملة منه وتحققت أنه لا يحبها أخذت تشعر بانقلاب حبها إلى بغض، ولكنها لم تر بدا من استعطافه لإنقاذ والدها، فقالت: «فأتوسل إليك أن تعفو عن ذنب والدي وأن تبقيه.»
قال: «ذنب والدك لا يغتفر؛ لأنه يعد خيانة.»
فقالت: «هب أنه خيانة، فاجعله في مقابل خيانتي ابن الكرماني في سبيل نصرتك وهو زوجي.»
قال: «إنك لم تقتليه في سبيل دعوتي، بل قتلته رغبة في زواجي!»
قالت: «وهل تعد ذلك ذنبا لي؟ وعلى كل حال فقد ساعدتكم على قتل الرجل مع أنه زوجي؛ أفلا تكافئني على قتله بالعفو عن والدي؟»
قال: «أتعدين ذلك فضيلة فيك، وهي خيانة، ثم تتوقعين أن أتزوجك؟ ومن يضمن لي أنك لا تقتلينني؟ أما والدك فلا تتعبي نفسك في أمره، ولو أردت أن أطاوعك في العفو عنه فلا سبيل إلى ذلك وقد سبق السيف العذل.»
فنهضت ثم جثت بين يديه وهمت بتقبيل ركبتيه، وذرفت الدمع وهي تقول: «أستحلفك بالإمام إبراهيم؛ صاحب هذه الدعوة، أن تعفو عن والدي؛ لأني أصبحت بعد جفائك لا سبيل لي سواه.» قالت ذلك وصوتها يتقطع وتكاد تشرق بدموعها.
فدفعها بيده وحول وجهه عنها وهو يقول: «قلت لك قد سبق السيف العذل، ولا سبيل إلى إبقاء والدك على قيد الحياة.»
فأجفلت وتراجعت وقالت: «ماذا تعني لا سبيل إلى إبقائه على قيد الحياة؟ هل قتلته؟»
قال: «نعم.»
فصاحت : «قتلته. لا لم تقتله؛ لأنك أجلت النظر في أمره إلى الغد. بالله ألا رثيت لحالي؟ ألا أشفقت على شبابي وأبقيت على والدي؟ أنا مسكينة.» وأغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها.
ولم يكن ذلك ليغير شيئا من قلب ذلك الرجل الشديد، ولم يجبها على بكائها إلا بقوله: «قلت لك أنه قد سبق السيف العذل، وإذا كنت لا تصدقين فإنني أريك أباك رأي العين.» ثم صفق فدخل غلام فقال له: «ائتني بالدهقان.»
فلما سمعته يقول ذلك انتعشت آمالها، وتوهمت أنه لا يزال حيا فتابعت الغلام بنظرها، فرأته دخل دهليزا في جانب القاعة ثم عاد وفي يده وعاء كبير فوقه غطاء، وتقدم به حتى وضعه بين يديها، وكشف الغطاء فرأت رأس أبيها في قاع الوعاء وقد جمد الدم حوله، وتلطخت لحيته وشاربه، واشتبك شعر رأسه وتلوث بالدم، وعيناه لا تزالان مفتوحتين. واتفق اتجاههما نحوها كأنهما تنظران إليها. فلما وقع نظرها عليه لم تتمالك أن صاحت: «وا والداه!» والتفتت إلى أبي مسلم وقد غاب رشدها ولم تعد تفقه ما تقول، ولطمت خديها وصاحت: «قتلته يا ظالم. ويلاه والداه!» وأخذت في البكاء حتى دوت القاعة بصوت نواحها.
فقال لها أبو مسلم: «اسكتي أو أرسلك إلى خوارزم حالا.»
فأدركت أنه يهددها بالقتل، ولكنها لم تكن تبالي بالموت لفرط حزنها فقالت: «أرسلني إلى حيث شئت. لم يبق للحياة عندي قيمة بعد خيانة حبيبي وقتل والدي.» وعادت إلى البكاء بصوت عال.
فصاح أبو مسلم بالحاجب فجاءه، فقال: «خذ هذه الفتاة إلى سجن النساء. ولولا خوفي أن يقال أني قتلت امرأة لقتلتها.»
الفصل الثاني والخمسون
الفرار
فمشت جلنار مع الحاجب وهي تصيح: «وا والداه!» وتبكي، حتى إذا دنت من باب القاعة سمعت الحاجب يكلمها همسا وهو يقول: «لا تخافي يا سيدتي لا بأس عليك.»
فعرفت أنه صوت صالح، فنظرت في ثيابه فإذا هي ثياب الحاجب، فاستغربت وصوله إلى تلك الحيلة، ولكنها كانت لا تزال في شغل من أمر والدها، ولا تزال صورة رأسه الملطخ بالدم نصب عينيها. فلما خرج بها من الباب، رأت في الدهليز شبحا نائما وبقربه ثياب، فالتقط صالح الثياب بخفة ودفعها إلى جلنار وقال لها: «البسي.» فإذا هي جبته وقلنسوته، فلبستها بسرعة ومرا في الدهليز وليس فيه أحد حتى بلغا إلى الباب الخارجي، فخرجا ولم يعترضهما الحراس؛ لاعتقادهم أنهما الحاجب وأحد الخدم، فلما خرجا من دار الإمارة مشى بها صالح فنزلا في حجرة يصعد إليها بسلم وقد قطعا الطريق ولم يفه أحدهما بكلمة.
فلما نزلا الخان ودخلا تلك الحجرة أخذ صالح في تخفيف الأمر على جلنار فقال لها: «ألم ألمح لك غير مرة أنه خائن غادر. قد سمعته ينكر ما قاله لي عن حبه لك وافتتانه بجمالك، ولكن أنى لي أن أكذبه وهو صاحب السيف، ولا شفقة عنده ولا عهد له، ولم أكن أعلم أنه فعل ذلك خداعا حتى يستخدمنا في قتل ذلك الرجل المسكين ثم يقتلنا. وقد أراد قتلي معه، فأوصى الرجل الذي أرسله معي لقتل ابن الكرماني أن يدس السم في قدحي أيضا، ولو لم تساعدني الأقدار ويغلب علي القيء سريعا لكنت الآن في عالم الأموات، وهو يعتقد أني قتلت، وقد قال لك ذلك الليلة، على أنني لم أكن أظنه يتعمد أذاك أو أذى مولاي الدهقان. ولو علمت أنه سيرتكب هذه الجريمة وينكر حبك لمنعتك من الذهاب إليه، وإن كنت لا أظنك تقبلين مشورتي بالامتناع عن زيارته؛ لما غرس في قلبك من الحب له وحسن الظن به، ومع ذلك فقد أوجست خيفة وهيئت ما يلزم للفرار بك عند الحاجة، فأغريت الحاجب حتى أسكرته، ولبست ثيابه، وتزييت بزيه؛ لأتمكن من إنقاذك، وقد وفقت إلى ذلك بعون الله.»
وكانت جلنار تسمع كلامه كأنها في حلم لما مر بها تلك الليلة من الغرائب. رأت رأس أبيها في وعاء وقد تلطخ بالدماء، وسمعت جفاء حبيبها فانقطع رجاؤها في الحب، وذهبت آمالها أدراج الرياح، فاستغرقت في التأمل وصالح جالس بين يديها، ثم قال لها: «أتأذنين لي أن أذهب لاستقدام ريحانة ؟»
فانتبهت وقالت: «لا بد من ذلك. اذهب حفظك الله.»
فقال لها: «أعطني جبتي وقلنسوتي.»
فخلعتهما، فلبسهما وهو يقول: «امكثي في هذه الحجرة ولا تخرجي منها حتى أعود.» وخرج وأغلق الباب وراءه.
فجلست وقد خلت بنفسها في تلك الحجرة الحقيرة، فتلفتت فلم تجد حولها إلا جدرانا عارية عليها رفوف من الخشب قد سمرت فيها، وعلى الأرض حصير بال فوقه فراش قذر، والمكان موحش يزيده رهبة ضعف نور المصباح. وتصورت قصر والدها وما كانت فيه من النعيم، وما كانت قد بنته من قصور الآمال، وكيف ضاعت تلك النعم وتهدمت تلك القصور فى ساعة، فقتل والدها، وخانها حبيبها، وخرجت هاربة تائهة لا تعرف مقرها. وفكرت في أسباب ذلك الشقاء، فلم تجد اللوم يقع على غير أبي مسلم، وتصورت ما كان له من الحب في قلبها، وكيف قابلها بالجفاء وهددها بالقتل بعد أن فتك بوالدها، فانقلب حبها إلى بغض شديد، وأصبحت لا تستطيع تصوره. تلك هي العادة في مثل هذا الحال، فإن المحب إذا رأى من حبيبه غدرا أو خيانة انقلب حبه بغضا شديدا، وأصبح من أشد الناس كراهية له، فكيف بجلنار وقد انتهرها حبيبها وخانها وقتل والدها؟! وإن كان في الحقيقة لم يخن حبها؛ لأنه لم يعاهدها، ولا أظهر لها الحب، ولكنها كانت تعتقد ذلك بناء على شهادة الضحاك. وإن كنا لا نبرئ أبا مسلم من الشدة والقسوة، ولعل عذره أنه كان يكره النساء، ويعد الزواج جنونا، بل هو لا يعرف عواطف المحبين؛ لأنه لم يكن يحب ولا يشعر بالحب؛ وذلك نادر في الناس - والحمد لله - لأن الحب يدمث الأخلاق، ويلطف الطباع، وهو أبو الشفقة وشقيق الحنان، ولولاه لأكل الناس بعضهم بعضا؛ لأن الذي لا يحب لا يرحم ولا يشفق، فيذهب الضعفاء ضياعا لتسلط القوة الحيوانية. وإنما تصلح هذه الخصلة في رجل الحرب، وخاصة في ذلك العصر؛ عصر الشدة والبطش. وقد كانت في أبي مسلم بأعلى درجاتها؛ لأن كان لا يبالي أن يقتل أباه أو أخاه إذا وقف في سبيل مقاصده، فلما علم بتلاعب الدهقان بادر إلى قتله؛ ليتخلص مما قد يخطر له من الخيانة ونحوها. ولو كان في صدر أبي مسلم قلب يحب ما أصم أذنه عن استغاثة جلنار، ولا خطر له أن يكافئها على حبها له بعرض رأس والدها في وعاء بين يديها.
قضت جلنار في مثل هذه الهواجس حينا، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها، ثم انتبهت لوحدتها في تلك الحجرة لا تسمع إلا شخير الخيل أو صهيلها وضرب الأرض بالحوافر، وقد غلبت رائحة الدواب على كل طيب - وكفى برائحة الخان مثلا للقذارة والنتن - وتذكرت بيت أبيها ومقتل والدها فغلب عليها الحزن، فعادت إلى البكاء ولم تر ما يفرج كربها سواه، فبكت حتى بلت ثيابها وهي تحذر أن يعلو صوتها لئلا يسمعها أحد فيأتي إليها وهي منفردة على هذه الصورة، فتعاظم أمرها عندها. والمصيبة العظمى تظهر ساعة وقوعها صغيرة في عيني صاحبها، ثم تنجلي له فتتعاظم عنده حتى تبدو كما هي، فإذا طال صبره عليها تصاغرت حتى تزول. وكذلك جلنار، فإنها لم تدرك عظم مصيبتها لأول وهلة، فلما خلت بنفسها وأطلقت العنان لتصوراتها أخذت مصيبتها تنجلي لها وتتعاظم عندها، وأبو مسلم السبب الرئيسي في كل ذلك. وكانت إلى تلك الساعة إذا ذكرته أحست بشيء من العطف هو بقية الحب الصادق، على أن ذلك الشعور لم يكن يمكث إلا كلمح البصر ثم يزول ويخلفه الغضب وحب الانتقام.
الفصل الثالث والخمسون
البغتة
على أن جلنار تعبت من تلك الهواجس، مع ما كانت فيه، على أثر تلك الصدمة، فغلب عليها النعاس، فأغمضت عينيها لحظات قليلة رأت في أثنائها حلما طويلا ظهر فيه أبو مسلم بصورة الحبيب، كما شاهدته للمرة الأولى في بيت والدها، وأنه جاملها ولاطفها فتشاكيا وتعاتبا، وتذكرت وهو يلاطفها ما كان من جفائه بقتل والدها وخيانة عهدها، فتوهمت أن ذلك الجفاء كان في الحلم، وأنها عادت إلى اليقظة فرأت حبيبها على عهده، ثم ما لبثت أن استيقظت فرأت حلمها يقظة ويقظتها حلما، ولكن شبح أبي مسلم كان لا يزال مرسوما أمامها بصورة الحبيب، فجعلت تخاطبه وتعاتبه قائلة: «أهذه شروط المحبة عندك يا قاسي القلب؟ تقتل أبي وتخون عهدي، ثم تهددني بالقتل حتى أقنع بالفرار؟!»
وبينما هي تناجي نفسها على تلك الصورة إذ سمعت خشخشة وصوتا، ورأت شيئا يمر من بين يديها مرور السهم، فأجفلت ووقفت رغم إرادتها، ونظرت فإذا هو جرذ دخل الحجرة من ثقب في الحائط تحت الباب، وانصرف إلى ثقب تحت بعض الجدران، فوقف شعرها وأصبحت تخشى الجلوس على ذلك الحصير، فوقفت - وكان لوقوفها حركة عظيمة؛ لأنها أفزعت جرذا كان كامنا وراء الفرش، فنفر وكان لعدوه على الحصير خشخشة عظيمة شغلت جلنار عن هواجسها ومصائبها، وأصبح همها تجنب الجرذان وغيرها؛ مخافة أن تمس يدها أو قدمها - وحدثتها نفسها أن تخرج من الحجرة، ولكنها لم تتجرأ على ذلك لأنها لا تعرف أحدا في الخان، فاستبطأت صالحا وخشيت أن يكون لذلك سبب يبعث على القلق، فضاقت الدنيا في عينيها، وإذا هي بنحنحة صالح في فناء الدار، فخفق قلبها سرورا وتهيأت للقائه، وأصغت لتسمع وقع قدميه على السلم، وتتبع وصوله إلى تلك الحجرة، فلم تسمع شيئا فاستغربت ذلك، وتوهمت أنها سمعت هتاف بعض الأرواح من الجان، فاقشعر بدنها، وجمد الدم في عروقها، وظلت واقفة في مكانها لا تجرؤ على المشي ولا على الجلوس، وقد حبست تنفسها مبالغة في الإصغاء، فمضت بضع دقائق وهي لا تسمع غير صوت حوافر الدواب وأصوات شخيرها، ثم سمعت صوتا لم تظن أنه صوت صالح وهو يقول: «هيئ كل شيء ريثما أعود.» ثم سمعت خفق نعاله على السلم فاطمأن خاطرها وأسرعت نحو الباب وفتحته، فرأت صالحا وحده والبغتة ظاهرة على وجهه، فقالت: «أين ريحانة؟»
قال: «هي هنا. هيا بنا نسرع بالخروج من هذه المدينة قبل إغلاق أبوابها علينا، وهذه الخيول معدة في فناء الخان.» قال ذلك وأخذ يبحث عن جبة الحاجب وقلنسوته - وكان قد تركهما هناك عند ذهابه - فخلع قلنسوته وجبته ولبس تلك بأسرع من لمح البصر ثم مشي بين يدي جلنار.
فتبعته على السلم وهي تتعثر بأذيالها من البغتة، فضلا عن اختلال الدرجات وليس فيها درجة مثل الأخرى، ولما وصلا إلى فناء الخان رأت جلنار ثلاثة جياد مسرجة، وريحانة واقفة بجانب واحد منها، فقال صالح: «اركبي يا مولاتي هذا الجواد.» وأشار إلى ريحانة فركبت جوادا، وركب هو جواده، وأشار إلى صاحب الخان فأمر رجلا أن يسير في ركابهم ليعود بالخيول، فساق صالح فرسه أولا وهو يقول لجلنار: «اثبتي على فرسك يا مولاتي وأتبعينا.» وأوصى الرجل أن يبقى إلى جانبها ليساعدها عند الحاجة.
مشى الركب على هذه الصورة وكلهم سكوت، وجلنار تصبر نفسها عن استطلاع السبب الذي أوجب هذه العجلة. وبعد قليل، وصلوا إلى باب المدينة، فوجدوه موصدا على جاري العادة من إيصاده عند الغروب، فصاح صالح بالبواب صيحة رجل له سلطان: «ما بال بابك لا يزال مغلقا؟ لعلك كنت نائما عندما جاءتك الأوامر بفتحه منذ ساعة؟»
فلما رآه البواب يخاطبه بهذه الجرأة، وعليه ثياب الحجاب صدقه وخشي شكواه؛ لأنه - حقا - كان عند العشاء غائبا - وقد ذهب لتناول الطعام في منزله - ولم يخطر له أن الأمير سيرسل من يأمر بفتح الباب. فلما هدده صالح ظن أن الأمر جاءه في أثناء غيابه، فخشي الشكوى؛ لعلمه بشدة أبي مسلم، فهم بالاعتذار، فقطع صالح كلامه قائلا: «لا بأس الآن. أسرع وافتح الباب؛ مهمتنا عاجلة جدا، ولا وقت لنا لاستماع الأعذار.»
فأسرع الرجل وفتح الباب، وحين أصبحوا خارج المدينة ساقوا خيولهم وصالح دليلهم، وكلما قطع مسافة تفقد جلنار وريحانة والليل مظلم، ولكنه كان خبيرا بتلك الجهات يعرف الطرق السهلة والصعبة، والجهات المأهولة وغير المأهولة، فلما بعدوا عن مرو أمسك عنان جواده حتى حاذى جواد جلنار وسألها: «هل أحسست بالتعب؟» فقالت: «نعم، تعبت ولكنني لم أفهم سبب هذه العجلة.»
قال: «سأخبرك عند وصولنا إلى القصر.»
قالت: «وأي قصر؟»
قال: «قصر مولاي الدهقان؛ فإننا على مقربة منه.»
فاطمأن بالها لقربها من بيت أبيها، وبعد قليل أطلوا على القصر، فأسرع حتى بلغ الباب فطرقه وصاح بالبواب: «افتح؛ إن الدهقانة قادمة.» فبغت البواب ولم يصدق، ولكنه سمع صوتها وهي تناديه ففتح لهم، فدخلوا بالجياد وترجلوا في الحديقة، ومد صالح يده وأعطى الغلام كيسا وأمره بالرجوع، فركب أحد الأفراس وساق الفرسين ورجع إلى مرو.
وكان أهل القصر نياما، فأمرت الدهقانة البواب ألا يوقظ أحدا منهم إلى الصباح، ودخلت وصالح وريحانة معها إلى قاعة والدها وهي على مثل الجمر لاستطلاع الخبر، فلما دخلوا قالت: «قل ما وراءك يا صالح؛ لقد شغلت بالي!»
قال: «إن الذي ستسمعينه أعظم من ذلك؛ إذ لا ينبغي لنا أن نبيت هنا؛ ولذلك اسمحي لي أن آمر بإعداد الخيول من مرابط والدك للسفر بأسرع ما يمكن.»
قالت: «افعل.» وهو يعرف مرابط الخيل فأيقظ الخدم وأمرهم أن يعدوا ثلاثة من جياد الخيل السهلة القياد، وعاد إلى القاعة وجلنار وريحانة في انتظاره على مثل الجمر، فلما دخل جلس جاثيا وقال: «اعلمي يا مولاتي أني لما رجعت لإحضار ريحانة مررت بدار الإمارة، فرأيت الناس في هرج ومرج، ثم علمت أن أبا مسلم علم بفرارك فأمر بالبحث عنك في غرف الدار وما يجاورها، وأنهم إذ لم يجدوك بعثوا من يأمر بوابي المدينة بمنع الناس من المرور إلا من عرفوه أو أتاهم بجواز، فهرولت مسرعا إلى قصر صاحبكم الدهقان وناديت ريحانة، وأتيت بها من طرق خفية حتى وصلت إلى الخان، فتنحنحت حتى تشعري بمجيئي، ثم أمرت صاحب الخان بإسراج الأفراس وذهبت لإحضارك، فركبنا وجئنا إلى هنا كما ترين.»
فأعجبت بدهائه وغيرته وقالت: «وما هو الباعث على سرعة خروجنا من هذا القصر؟»
قال: «السبب - يا سيدتي - أن أبا مسلم سيبعث في صباح الغد من يستولي على هذا القصر ومن فيه، وقد سمعته يقول ذلك وهو يهدد المرحوم والدك بالقتل، وخصوصا بعد أن يعلم بفرارك ولا يجدك بمرو؛ فلا بد أن يبحث عنك في هذا القصر. وهل في وسعك الوقوف في وجهه وهو صاحب السلطان، وليس في قلبه شفقة ولا حنان؟»
فزادت مصيبتها بذلك الخبر ضخامة؛ لأنها كانت تظن نفسها إذا يئست من الدنيا أوت إلى بيت أبيها، فتقيم فيه وتعيش كما يعيش الملوك، وتتناسى مقتل والدها بالزواج من أحد الدهاقين، فلما سمعت كلام صالح غصت بريقها، ولم تتمالك عن البكاء وقالت: «ألا يكفي هذا الظالم قتل والدي وخيانة عهدي حتى يضع يده على أموالنا وضياعنا؟!»
قالت ذلك واستغرقت في البكاء، وشاركتها ريحانة في ذلك، فقال صالح: «إن البكاء لا ينفعنا - يا مولاتي - بل هو يزيد المصيبة ضخامة، وليست هذه الحطام مما يطمع فيه بعد ذهاب صاحبها. دعي أبا مسلم يفعل ما يريد. سينال جزاءه، بإذن الله؛ سوف ننتقم منه انتقاما ينسيك كل هذا العذاب.»
فلما سمعت الوعد بالانتقام ارتاحت نفسها إليها - ولا يشفي قلب الموتور إلا الانتقام - وقد سرها أن صالحا بدأ يذكر الانتقام ووعدها به فقالت: «أتنتقم لي منه؟»
قال: «أنتقم لي ولك. ألم يأمر بقتلي؟ ولولا يد القدر لذهبت مع ابن الكرماني في ساعة واحدة، ولكن الله أبقاني لأنتقم لك.»
فقطعت جلنار كلامه وقالت: «إن الأقدار دبرت ذلك - لحسن حظي - لأني لولاك ما عرفت كيف يكون مصيري. والآن ما العمل؟»
قال: «ينبغي لنا قبل كل شيء أن نحمل ما في هذا القصر مما خف حمله وغلا ثمنه. اعهدي إلي بذلك وأنا أهتم بتدبيره.»
فالتفتت جلنار إلى ريحانة وقالت: «ريحانة تعرف كل شيء.»
فقال لها: «أخبريني عن أماكن النقود والحلي، واذهبي وآتيني بها، وأنا باق هنا في انتظارك.»
فنهضت ونظرت إلى جلنار، فقالت لها: «لا تتركي شيئا من الحلي ولا النقود، ولا تنسي ثيابي، واختاري منها أحسنها، وأمري الخازن أن يعطيك مفتاح خزانة والدي؛ لعله أبقى فيها شيئا لم يحمله إلى ذلك الخائن.»
فقالت ريحانة: «إن هذه الأموال تحتاج إلى دابة أو دابتين لحملها.»
قالت: «مري الخدم أن يعدوا بغلين مع التي أمرتهم بإعدادها.»
الفصل الرابع والخمسون
الوسيلة
فخرجت ريحانة، وظل صالح مع جلنار فقال لها: «أريد منك - يا مولاتي - أن تتحلي بأخلاق الرجال، وتخلعي عنك ضعف النساء؛ فإننا مقبلون على عمل عظيم يتطلب الصبر والدهاء، فإذا كنت لا تصبرين على التعب أو لا تريدين الانتقام؛ فأخبريني منذ الآن ولا تتعبي نفسك بالأسفار.»
فقالت: «إذا كنت لا أريد الانتقام؛ فما الحيلة وأنا لا أستطيع الإقامة في هذه الديار؟ وكيف لا أحب الانتقام من رجل سلبني أهلي ومالي، وأخرجني من بيت أبي طريدة شريدة، وخان عهدي وهددني بالقتل؟ فإذا كنت أنت تريد الانتقام لأنه أراد قتلك، فكيف بي وأنا موتورة بقتل والدي؟! ولا تحسب خيانة العهد أخف وقعا في نفسي من اليتم. ولا لوم علي إذا أردت قتله وأنا فتاة؛ فهو الذي علمني قتل الرجال، وأنت تعلم كم ترددت يوم أن اقترح علينا قتل ابن الكرماني! وكم استفظعت تلك الجريمة! ثم ارتكبتها التماسا لقربه، وتضحية لحبه، فكافأني بالخيانة والغدر؛ فلا غرو إذا انقلبت عاقبة سعيه عليه.»
قال: «إذا كنت مصممة على ذلك، فأنا طوع إرادتك في كل ما ترين، وسنتباحث في الطرق اللازمة، وأما الآن فلا بد لنا من معرفة الخطة التي يجب أن نسلكها في العمل؛ لأننا لا نستطيع أن نتغلب على هذا الرجل بالسيف وهو صاحب القوة، ولا نستطيع ذلك بالدهاء والبطش وهو أدهى الناس وأشدهم بطشا؛ فلا بد من حيلة نحتالها عليه.»
فأحست جلنار بقصر باعها في هذا الشأن، وظهر الارتباك في وجهها.
فابتسم صالح وقال: «لا تيأسي يا مولاتي، ولا تظني أني أسألك لقلة الوسائل عندي، ولكنني أستطلع رأيك.»
فانبسطت نفسها وقالت: «كيف أعرف الوسائل وأنا لم أخرج من بيت والدي قبل تلك المرة المشئومة؟! فدبر أنت ما تراه وأنا أسير معك.»
قال: «ذلك ما كنت أرجوه من تعقلك وحزمك؛ فاعلمي - يا مولاتي - أننا لا نقدر على الكيد لأبي مسلم إلا في الشام عند الأمويين؛ فهم أعداؤه الألداء، وهم الذين ينتقمون لنا منه.»
قالت: «وكيف ينتقمون لنا؟ هل يجردون عسكرا لمحاربته؟ وهب أنهم يفعلون ذلك، فهل تضمن أنهم يفلحون والرجل محصن في مرو؟»
قال: «لا أعني أن يجردوا لذلك جيشا؛ لأنهم كما قلت لا يفعلون ذلك من أجلنا، وإذا فعلوه لا يفلحون، ولكنني أهديهم إلى جذر الشجرة، فإذا قطعوه سقطت الشجرة ميتة.»
فلم تفهم جلنار ماذا يعني فقالت: «وأية شجرة تقصد؟»
قال: «أعني صاحب هذه الدعوة الذي قام أبو مسلم وأصحابه يدعون الناس إليها باسمه.»
قالت: «أظنك تعني إبراهيم الإمام؟»
قال: «إياه أعني.»
قالت: «وكيف تصل إلى ذلك الجذر؟ وأين هو؟»
قال: «هو في جهات الشام؛ في مكان لا يعرفه إلا نفر قليلون.»
قالت: «وهل تعرفه أنت؟ وأين هو؟»
قال: «نعم، إنه في الحميمة في أرض البلقاء بالشام.»
قالت: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟ وما قصته؟»
فقال: «إن الوقت قصير لا يأذن لي بسرد القصة مطولة، ولكنني أقول باختصار: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما مات لم يوص بالخلافة إلى أحد، فاختلف أصحابه عليها، وكانوا فئتين: المهاجرين والأنصار؛ فالمهاجرون هم الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة يوم هاجر فرارا من ظلم أهلها، والأنصار هم الذين نصروه لما جاء المدينة. وبعد جدال طويل أقروا على أن الحق في الخلافة للمهاجرين، فتولاها واحد منهم، ثم الثاني، والثالث بالانتخاب فيما بينهم، ولم يكونوا يعرفون توريث الملك، كما كان الفرس يفعلون، ولكن أهل النبي الأقربين كانوا يرون التوريث، ويعدون خروج الخلافة من بين أيديهم حيفا وظلما.
وأقرب الأقربين من النبي عمه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب، فبعد الخلفاء الثلاثة تولاها علي ابن عمه، لكنها لم تستمر في نسله، فأخذها منهم بنو أمية بالدهاء والعصبية، وتوارثوها نحو مائة سنة إلى مروان بن محمد الذي يحاربه أبو مسلم الآن. وكان أولاد العباس في أثناء هذه المدة يسعون في إرجاع الخلافة لهم، وهم الذين يعبرون عنهم بأهل البيت، وكل منهم يطلبها لنفسه. «آل علي يريدونها لأنفسهم، وآل العباس يزعمون أنهم أحق بها من سواهم. ثم إن آل علي الذين يطالبون بالخلافة فئتان: إحداهما نسل ولده من امرأته فاطمة بنت النبي، والثانية نسل ابنه من امرأة أخرى، واسمه محمد بن الحنفية. وكان كل من هؤلاء أيضا يطلبها لنفسه، فاتفق أن ابن محمد بن الحنفية هذا، واسمه هاشم، جاء دمشق وافدا على سليمان بن عبد الملك الأموي، فرأى سليمان منه فصاحة وقوة فخافه، فأوعز إلى رجل سمه بلبن ، فأحس أبو هشام بقرب الوفاة وهو راجع إلى المدينة، فخاف أن يموت قبل أن يعهد بالخلافة لأحد من أهله، ولم يكن أحد منهم معه لكي يبايع له، فعرج إلى بلد في البلقاء يقال لها الحميمة. كان بنو العباس يقيمون فيها، ويدعون الناس إلى أنفسهم سرا، وكان صاحب الدعوة منهم يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فنزل عنده أبو هشام وأوصى إليه، وكان معه جماعة من شيعته سلمهم إليه، وأوصاه بهم، ثم مات، فأخذ محمد المذكور في بث الدعاة، ثم مات وخلف أولادا كثيرين من جملتهم إبراهيم الذي يسمونه الإمام، فأقام إبراهيم بعد أبيه بالأمر واستكثر من بث الدعاة إلى الأطراف، وخصوصا خراسان؛ لأن الشيعة كانوا أشد وثوقا بأهل خراسان من غيرهم.»
فقطعت جلنار كلامه وقالت: «لماذا لم يسعوا في غير هذه البلاد؟»
قال: «لأن أهل الشام ومصر متفقون مع بني أمية وفيهما أهل الدولة، وأما الحجاز فأهله قليلون لا يستطيعون القيام بالدعوة، وأما أهل البصرة والكوفة فكان أهل البيت مذعورين منهم؛ لأنهم خانوهم غير مرة. وفضلا عن ذلك، فإن أهل خراسان كانوا ناقمين على بني أمية؛ لاحتقارهم إياهم، وعسفهم فيهم، كما تعلمين، فرأوا منهم أذنا صاغية. وكان أهل خراسان من قبل يبايعون لآل علي ضد بني أمية، ووفق إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم هذا، فبعثه قائدا لدعاته ونقبائه، فتمكن بدهائه وشدته وقسوته من فتح مرو كما رأيت، وهو يتظاهر بالمبايعة لأهل البيت على العموم - أي أهل بيت النبي - فالناس يبايعون الآن لإبراهيم الإمام باسم أهل بيت النبي، على أن يتناوبها العباسيون والعلويون، ولكنني لا أظن العباسيين إلا سيخرجونها من أيديهم. والخلاصة أن إبراهيم الإمام هو مركز الدائرة التي تدور عليها هذه الدعوة، وهو مقيم في الحميمة، ولا يعلم به مروان بن محمد؛ صاحب دولة بني أمية. فالذي أراه أن نسعى في كشف هذا السر لمروان، فيبعث من يقبض عليه بسهولة، ومتى حبسه أو قتله ذهبت مساعي أبي مسلم هباء ، فيشتد أمر بني أمية. وهذا أشد انتقام نقدر عليه.»
فلما سمعت جلنار قوله أحست بارتياح لرأيه وقالت: «إنه رأي صواب. والآن ماذا نعمل؟»
قال: «لا بد لنا من مغادرة هذا المكان سريعا بما خف حمله، وغلا ثمنه، ثم نسافر إلى العراق فالشام ونسعى في الأمر.»
فقالت: «ولمن نترك هذا القصر وهذه الجنات؟»
قال: «نتركها لذلك الظالم الذي بيده السلطة الآن وهو يطلب حياتنا، فإذا نجونا بها غلبناه، ولا يغنيه البنيان ولا الأشجار شيئا عما سندبره لهلاكه، بإذن الله.»
الفصل الخامس والخمسون
الرحيل
وبينما هما في الحديث جاءت ريحانة مسرعة وهي تقول: «قد أعددت ما يلزم وجمعت كل الحلي والنقود والثياب، وهي كثيرة تحتاج إلى عدة بغال لحملها، وأوصيت الخادم أن يعد الأفراس والبغال.»
فقال صالح: «هلم بنا يا مولاتي.»
فنهضت وخرجت من القاعة حتى أطلت على الحديقة فسمعت صهيل الأفراس، ورأت البغال وعليها الأحمال، وتصورت أنها خارجة من البيت الذي ولدت فيه، وربيت بين أشجاره وجدرانه في عز ونعيم، وحولها الجواري والحشم كأنها سلطانة في مملكة، فكيف تخرج منه هاربة إلى دار غريبة لم تطأها قدمها من قبل، وفي مشروع عظيم يعجز عنه كبار الرجال، فغلب عليها ضعف النساء فدمعت عيناها. وكان صالح يرقب حركاتها ويخشى ضعفها، فلما لاحظ ذلك عليها ابتدرها قائلا: «لا بد لنا من السرعة قبل أن يدركنا ذلك الظالم برجاله ويقبض علينا جميعا فينال منا ما يريد، وتذهب مساعينا هباء، فاختاري من خدمك اثنين أو ثلاثة تثقين بهم يكونون معنا لخدمتك، أو لمهام أخرى.»
فلما سمعت تهديده هان عليها الخروج، وقنعت بالنجاة، والتفتت إلى ريحانة وقالت: «من ترين أن نصطحب من الخدم الأمناء؟»
فأجابتها على الفور: «نصطحب سعيدا الصقلبي؛ فإنه أمين ويقظ، فيكون في خدمتك خاصة، ونأخذ معنا أبا العينين؛ لأن أصله من العراق ويعرف عادات البلاد وطرقها، فيكون عونا لنا ودليلا، وهو إلى ذلك نشط أمين. وإذا شئت خادما ثالثا، فسليمان الحلبي لا بأس به؛ لأن أصله من الشام.»
فاستصوبت جلنار رأيها وقالت لها: «ابعثي إليهم وأتينا بهم سريعا.»
فذهبت ريحانة كما أمرتها ، ووقفت جلنار في انتظارها وهي تفكر في أمرها، ومصير ذلك القصر وأهله، فقالت في نفسها: «إن أهل هذا القصر لا يزالون سعداء؛ لأنهم لم يعلموا بما أصاب مولاهم، ولا بما يهددهم من الخطر في الغد.» ثم نظرت إلى صالح وقالت له: «هل تترك أهل هذا القصر معرضين للقتل والأسر ونحن نعلم بما يهددهم؟ ألا ترى أن نخبرهم بما أصاب والدي ونحذرهم؟»
قال: «لا بد من ذلك، ولكن بعد خروجنا ونجاتنا بما معنا.»
فعلمت أنه لم يفته شيء من التدبير فسكتت، ثم جاءت ريحانة وجاء الخدم الثلاثة: سعيد الصقلبي؛ أصله من سبي الأندلس لما فتحها موسى بن نصير سنة 92ه؛ إذ جمع من السبي كثيرا، وفيهم الغلمان والنساء. وكان سعيد يومئذ في الخامسة من عمره، فوقع في نصيب أحد الجند فباعه لأحد النخاسين الذين يتجرون بالخصيان البيض، فخصاه وضمه إلى من كان عنده وسماه سعيدا، ثم انتقل سعيد بالبيع إلى دهقان مرو، وعاش في منزله مدة طويلة، وكان يتكلم العربية والفارسية، ونسي لغة بلده. وقد سموه صقلبيا لبياضه. وكان طويل القامة، طويل الساقين، صغير العينين، صوته كصوت النساء، ووجهه قليل الشعر.
وأما أبو العينين، فقد لقب بذلك لكبر عينيه وجحوظهما، وأصله من أنباط العراق، دخل في خدمة الدهقان منذ صغر سنه بلا شراء، وانقطع إليه وهو يعد نفسه من رقيقه.
وأما سليمان الحلبي، فسمي بذلك لأنه حضر من جهات حلب، وهو ليس حلبي الأصل، ولكنه رومي وقع أسيرا في بعض المواقع بين الروم والعرب، وبيع كما تباع الأسرى في تلك الأيام، ولم يوفق لمن يفتديه حتى دخل في حوزة الدهقان وصار من عبيده، فأعجب الدهقان بحسن خلقه، ورأى فيه مروءة فأعتقه، فأصبح من مواليه، فأطلق سراحه وخيره بين البقاء عنده كبعض أولاده، أو الذهاب إلى بلده، ففضل البقاء عنده لأنه ألف المكان ولم يعد يعرف مصير أهله. وكان الدهقان يحبه ويثق به.
فريحانة قد وفقت في اختيارها، وقد جاء هؤلاء الثلاثة، واستعدوا للرحيل وهم لا يعرفون الغرض من ذلك. وجاءوهم بالدواب لركوبهم ، ودبروا كل شيء. وكان الفجر قد دنا، فأشار صالح بالركوب فركبوا وركب في مقدمتهم، وقال للحارس وغيره من أهل القصر: إنه عائد إليهم بعد قليل. فأطاعوا وهم يستغربون ما رأوه؛ لأنهم لم يعلموا بمقتل دهقانهم، ولا ما ينويه أبو مسلم من الفتك بهم.
سار الركب والليل يكاد ينقضي، وقد أقبل الفجر مبشرا بطلوع الشمس سلطانة النهار. ولما بعدوا عن المحلة أوقفهم صالح في خلوة وأخبرهم أنهم ذاهبون في خدمة الدهقانة جلنار إلى الحج، وأن ذهابها سري فلا ينبغي أن يعلم به أحد، فإذا سئلوا عن المكان الذي جاءوا منه، فليقولوا إنهم من مدينة بلخ، وقد خرجوا يريدون اللحاق بقافلة تقدمتهم منذ يومين قاصدة بيت الله الحرام، وأوصاهم ألا يذكروا اسم الدهقانة ولا الدهقان، وأنه سيخبرهم بالسبب بعد قليل. ثم تقدم إلى الدهقانة وقال لها: «إني راجع إلى القصر لأخبر الخدم والحراس بالواقع وأعود، فامكثوا في انتظاري.»
قالت: «سر في رعاية الله، وافعل ما تشاء.»
قال: «أعطيني رجلا من أتباعك يزكي شهادتي أو يؤيد قولي.»
فأمرت سعيدا الصقلبي أن يرافقه، فسار معه ولم يفهم القصد، ولكنه سار تلبية لأمر مولاته، فأسر له صالح حقيقة الأمر، وأوصاه أن يساعده في تلك المهمة، وساقا جواديهما نحو القصر، فلما وصلا إليه، رأيا أهله في هرج وقد استيقظوا من نومهم وعلموا بمسير مولاتهم على تلك الصورة، فدعا صالح قيم الدار وأخبره على انفراد بمقتل الدهقان، وأن أبا مسلم سيرسل من يستولي على القصر بما فيه، وأوصاه أن يتدبر الأمر، وأن الدهقان قبل أن يموت أعتق عبيده وجواريه جميعا، وأن القصر بما فيه صار ملكا حلالا لهم، إلى أن قال: «فتدبر أنت بحكمتك حتى لا يظفر ذلك القاتل بكم، وأسرع؛ لأنه لا يلبث أن يبعث بمن يقبض عليكم.»
فسأله عن الدهقانة فقال: «إنها انتقلت إلى بعض أهلها في نيسابور، وإنها هي التي بعثت إلى أهل القصر بالعتق والحرية ووهبتهم كل ما فيه.» إلى أن قال: «وهذا سعيد رسولها إليكم.»
فأيد سعيد قوله، وأكد أن الدهقانة توصيه بأهل القصر خيرا، وأن ينقذهم بحكمته وبحسن تدبيره، ويوافيها بعد ذلك إلى نيسابور؛ لأنها سوف تكون هناك بعد بضعة أيام، فصدقهما وأخذ في التدبير.
الفصل السادس والخمسون
سليمان بن كثير
أما صالح فإنه عاد مع سعيد إلى الدهقانة وخدمها - وكانوا في انتظارهما - ثم أخذوا في السير حتى انتصف النهار، وقد بعدوا عن مرو، فترجلوا ونصبوا خيامهم بجانب عين ماء في ظل الأشجار، ومكثوا للاستراحة، فاغتنم صالح تلك الفرصة وذهب إلى الدهقانة - وعندها ريحانة - وقال لها: «ينبغي أن نطلع خدمك الخصوصيين على الحقيقة، ونكتم الأمر عن الخدم الآخرين الذين هم في خدمة الدواب؛ كالسياس ونحوهم.»
قالت: «افعل ما تراه؛ فإني لا أدري ماذا أعمل.»
فخشي ضعفها فقال لها: «أراك قد ضجرت ونحن لا نزال في أول الطريق!»
قالت: «لم أضجر، ولكنني لا أزال أحسب نفسي في حلم من هول ما رأيته بالأمس، وأنا لم أذق نوما.»
قال: «نحن هنا في مأمن؛ فنامي واستريحي؛ لأن سفرنا طويل، وأما أنا فلا أنام حتى أدبر الأمر الآخر.»
قالت: «وأي أمر تعني؟»
قال: «أتظنين صالحا يغفل عن فرصة يغتنمها في سبيل ذلك؟» ثم حك لحيته وأصلح قلنسوته وقال: «نحن ساعون في قطع الشجرة من جذرها، ولكنني سأدبر حيلة ألقي بها الشقاق بين فروعها؛ أي بين أبي مسلم ونقبائه.»
قالت: «وكيف ذلك؟ وأي النقباء تعني؟»
قال: «أتعرفين سليمان بن كثير؟»
قالت: «أنت أخبرتني أنه كبير النقباء، وأنه قديم في هذه الدعوة.»
قال: «هو أقدم من أبي مسلم فيها، ولكنه كان يدعو أهل خراسان لولد علي بن أبي طالب، وكان هو زعيم هذه الدعوة، فلما توفي صاحب الدعوة العلوية وتحولت إلى بني العباس كما ذكرت لك، أرسل الإمام إبراهيم أبا مسلم من قبله وجعله رئيسا على سائر النقباء، وفي جملتهم سليمان بن كثير، وهو شيخ جليل، وأبو مسلم - كما تعلمين - شاب، فشق ذلك على سليمان في بادئ الأمر، ولم يقبل أن يكون تحت قيادته، ثم قبل رغم إرادته ، على أن أبا مسلم غير صورة الدعوة فجعلها باسم «آل محمد»؛ أي أهل النبي، وهو اسم يشمل العباسيين والعلويين؛ لأن الأولين من نسل العباس عم النبي، والآخرين من نسل علي ابن عمه. والذي أراه أن أبا مسلم فعل ذلك استعدادا لنقل الدعوة إلى آل العباس، وإنى أعلم أن سليمان بن كثير لا يريد ذلك، بل هو يفضل بقاءها لآل علي؛ لأن هذا هو مشروعه الأصلي وبه فخره. وفي نيتي أن أكتب إلى سليمان كتابا أستحثه فيه على حفظ البيعة لأولاد علي، وأبين له طمع أبي مسلم ونحو ذلك مما يهيج الضغائن بين هذين الرجلين، وهما دعامة الدعوة، فإذا اختلفا اختل نظامها.»
فأعجبت جلنار بسهره على هذا الأمر، وتجددت قواها وآمالها، وازدادت تسليما له وقالت: «بورك فيك. افعل ما تراه موافقا. وهل بعد هذا السهر والاهتمام من حاجة إلى اهتمامي، ومع ذلك فإن السهر والتعب قد أثرا في كثيرا وأنا لم أتعود ذلك.»
فنهض وحيا ووجه كلامه إلى ريحانة قائلا: «وأنت أيضا في حاجة للنوم، على ما أظن؛ فاذهبي إلى فراشك ودعي مولاتنا، وإني ذاهب إلى شأني.» قال ذلك ومضى إلى خلوة وقد أعد ورقا ومدادا، وكتب كتابا هذا نصه:
من دهقان يخاف أن يذكر اسمه إلى سليمان بن كثير
أما بعد، فإنك جئتنا منذ بضع سنين تدعونا إلى بيعة أهل النبي؛ لأنهم أقرب للتقوى والعدل - ولا يكون آل النبي إلا كذلك - فأطعنا وبايعناك؛ لنتخلص من ظلم بني أمية؛ لأنهم يكلفوننا دفع الأموال بغير حق، ويعاملون غير العرب باحتقار، فحمدنا الله على قرب نجاتنا من ذلك الظلم على يدك وأنت شيخ عاقل حكيم، ثم ما لبثنا أن رأينا الأمر قد تحول وأصبحت أنت وسائر النقباء في قبضة غلام لا يعرف له أصل ولا نسب، فاستبد بكم وتطاول عليكم، ونحن نحسب طاعتكم له عن حكمة أو حسن سياسة؛ لأن المسلمين إنما يفضلون بالتقوى، ثم علمنا أنه لا يمتاز عنكم إلا بسفك الدماء والقسوة وحب الأثرة، وأنه إنما يستخدمكم لمطامعه، ولا يبالي أن يقتل أيا كان التماسا للسلطة، فيستخدم الناس لغرضه ثم يقتلهم، كما فعل بالكرماني وكما فعل بدهقان مرو، بعد أن بذل ما بذله من المال، فقتله شر قتلة.
وهو يزعم أنه يفعل ذلك بأمر الإمام، وأي إمام يأمر بالقتل على الشك؟ فقد عرفنا الأئمة يحاسبون أنفسهم على حشرة يقتلونها، فكيف بقتل الناس؟! بل كيف بقتل كبار المسلمين الذين نصروا الدين بأموالهم وأنفسهم، ولا سيما الدهاقين الذين هم عمدكم في هذه النهضة؟ لأن خراسان في قبضتهم، وقد نصروكم وأيدوا دعوتكم. فكيف يقتلهم هذا الظالم بلا سبب غير الشك؟ فأصبح سائر الدهاقين في خراسان مهددين بالقتل، وأنا منهم؛ ولذلك لم أجرؤ على ذكر اسمي، على أن الخطر يشمل كل من ينصر هذا الغلام من النقباء، وأنت في مقدمتهم؛ فلا بد من أن يأتي يوم يقتلك فيه وهو لا يحتاج في تحليل قتلك إلى أكثر من الشك فيك - وما أسرع الشك إلى قلب الإنسان - ولا جناح على أحد سواك؛ لأنك جررت البلاء على نفسك بيدك. كنت رئيسا على أهل الهدى تدعو الناس إلى بيعة خليفة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يقتل المسلمين ولا يظلمهم، فجعلت نفسك عبدا لغلام يزعم أن إمامه أمره بقتل الناس على الشك. وأراه يتلاعب بكم جميعا، فبعد أن كانت البيعة باسم أبناء علي جعلها باسم أهل البيت إجمالا تمهيدا لإخراجها من العلويين لبني العباس؛ ليستقل بها صاحبه ومولاه الإمام إبراهيم، وتذهب مساعي العلويين ونقبائهم هباء منثورا، فإذا كنتم لا تزال فيكم بقية عقل وحمية، فاستدركوا الأمر قبل استفحاله، وأرجعوا البيعة لأصحابها الأتقياء، واعلموا أنكم إذا فعلتم ذلك، كان كل الدهاقين في خراسان وسائر أهل فارس من أنصاركم؛ فبادر يا ابن كثير إلى استدراك ما فات، وأرجع البيعة لأصحابها، وأنقذ المسلمين من أناس يقتلون على الشك لا يستثنون مسلما ولو كان نصيرا أو نقيبا أو إماما، وإلا فإن العاقبة تعود عليك، وأنت أول من تقع النقمة على رأسه. وهذا إنذار لك ولسائر النقباء الذين استسلموا لذلك الغلام، والسلام.
ولما فرغ من كتابة الكتاب لفه وجعله في أنبوب من القصب الفارسي وأقفل عليه، وحمل الأنبوب وخرج إلى خيمة الخدم، فلقي سعيدا في الطريق عائدا من خيمة جلنار، فناداه فوقف، فقال صالح: «كيف فارقت الدهقانة؟»
قال سعيد: «تركتها مستغرقة في النوم من شدة التعب.»
قال صالح: «عندي كتاب أريد إرساله إلى مرو، فهل تثق بأحد من أولئك السياس نبعثه في هذه المهمة على أن يحفظ ذلك سرا؟»
قال سعيد: «عندنا سائس أبكم سريع الفهم.»
قال: «إن البكم يلزم في هذه المهمة، ولكن الأبكم يكون أصم أيضا؛ فكيف يفهم مرادنا؟»
قال سعيد: «إن هذا الأبكم غير أصم؛ فهو يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام؛ لقد أصيب بالبكم نتيجة عقدة لسانه.»
قال صالح: «وهل اختبرت أمانته؟»
قال سعيد: «أنا على يقين من أمانته.»
قال صالح: «أين هو؟»
فصاح سعيد مناديا أحد السياس وأشار إليه فأتى نحوه، وإذا هو قصير القامة، أسمر اللون، ممتلئ الجسم ودلائل الصحة بادية في استدارة وجهه، وغلظ عنقه، واتساع صدره، وكان جذعه عاريا إلى الحقوين، فبان الشعر كثيفا على صدره وكتفيه، وذراعاه مستديرتان ممتلئتان، وكذلك ساقاه وقدماه. وليس عليه من الكساء إلا سراويل قصيرة تغطي فخذيه إلى أعلى الركبة، فوقف وأشار برأسه إشارة التحية، فقال له صالح: «أتعرف مرو؟»
فأشار برأسه أن: «نعم.»
قال: «أتعرف أميرا اسمه سليمان بن كثير؟»
فأشار بيديه وأصابعه أنه عرفه منذ نزل أبو مسلم عند الدهقان المرة الأخيرة، وتحقق صالح من إشارات أخرى أنه عرف الرجل حقيقة، فقال له: «خذ هذه القصبة (وأخرج له الأنبوب) وامض سريعا إلى مرو، واذهب توا إلى دار الإمارة، فتجد الرجل هناك؛ فادفع إليه هذه القصبة وأسرع راجعا، وإذا سألك سائل لا تجبه. والأفضل أن تدفعها إليه وتنجو بنفسك سريعا، وتعود إلينا فتجدنا في انتظارك هنا أو في المحطة التالية. خذ الدابة واركب عليها إلى مرو.»
فضحك السائس وأشار إلى قدميه الغليظتين وقبض يده بشدة كما يعبر الخرس عن القوة؛ يريد أن يقول إن قدميه أسرع من الدابة، فربت صالح على كتفه تحببا وثناء، فلامست أنامله الجلد فابتلت من العرق .
أما السائس فتناول القصبة وأشار برأسه إشارة الوداع، وتحول نحو مرو مسرعا سرعة الغزال، وصالح وسعيد ينظران إليه ويعجبان من سرعته حتى توارى عن أبصارهما، فتحولا للاستراحة، فمضى صالح إلى خيمته واستلقى وأخذ يفكر فيما ينبغي له من السعي في مشروعه.
الفصل السابع والخمسون
أبو سلمة الخلال
وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وتذكر أنهم لا يزالون على مقربة من مرو بحيث تكاد تمسهم يد أبي مسلم، وتصور أن أبا مسلم علم بمكانهم، فبعث من يتبعهم، فاقشعر بدنه لاعتقاده في دهاء ذلك الرجل، وقدرته العجيبة على كشف المخبآت، وشدة بطشه، فإذا عثر عليهم لا يبقي على أحد منهم. ويا لها من خيبة! ولكنه رأى نفسه عاجزا عن مواصلة السير في تلك الساعة؛ نظرا لما تشكوه جلنار من التعب بعد الجهد الذي بذلته، وشدة حاجتها إلى النوم، فعزم على السفر حالما تستيقظ ولو في نصف الليل.
وبينما هو في تلك الهواجس سمع أجراسا تدق عن بعد، فاختلج قلبه ونهض مذعورا؛ لعلمه أنها أجراس قافلة مارة من هناك، وأصاخ بسمعه ليتبين جهة المسير، فأدرك أنها قادمة من الشمال فترجح عنده أنها من القوافل التي تتردد بين العراق وخراسان، فخرج من خيمته لعله يراها عن بعد من جهة الصوت، ولكنه لم ير القافلة؛ لأنها كانت لا تزال متوارية وراء التلال، فأسرع إلى ثيابه وتنكر بملابس حاجب أبي مسلم وقلنسوته، وأصلح من شأنه وذهب إلى سعيد وأبي العينين وسليمان وأخبرهم بمجيء القافلة، وأنه عازم على استطلاع الأخبار منها، وأوصاهم أن يكونوا على حذر لئلا تبدر منهم كلمة أو إشارة تدل على حقيقة أمرهم.
ثم ركب فرسا وساقه نحو الجهة التي سمع منها دق الأجراس، وبعد قليل أطل على القافلة فإذا هي سرب من الجمال يقودها حمار عليه شيخ كأنه الدليل، وإلى جانبي القافلة فرسان مدججون بالسلاح لحراسة القافلة، فعلم أنهم يحملون أموالا لأبي مسلم، فضلا عن المئونة ونحوها، فوقف يعترض القافلة كأنه صاحب الأمر والنهي ، فأسرع إليه أحد الفرسان، فابتدره صالح قائلا: «لماذا هذا التباطؤ في المسير؟»
فلما سمعه الفارس يخاطبه بسلطان، ورأى عليه ثياب حجاب أبي مسلم، ظنه قادما من عنده لاستعجالهم فقال: «أتعدون مسيرنا بطيئا وقد جئنا من الكوفة إلى مرو في عشرين يوما ومعنا هذه الأثقال. هل أنت قادم لاستعجالنا؟»
قال: «إني ذاهب ببشارة لشيعتنا في الكوفة، ولكنني سمعت الأمير يذكر إبطاءكم، فأسرعوا حفظكم الله.»
فلما سمع الفارس قوله إنه ذاهب ببشارة تشوق للاطلاع على البشارة فقال: «وما هي تلك البشارة؟»
قال: «ألم تعلموها بعد؟ ألم تروا نصر بن سيار؛ صاحب مرو، تائها في هذه الأودية؟»
قال الفارس: «كلا. وهل فتحتم مرو؟»
قال: «فتحناها منذ بضعة أيام وأعلام الحق تخفق الآن فوق دار الإمارة، ولو عجلتم قليلا لشهدتم الفتح واشتركتم في الغنيمة. كيف فارقتم شيعتنا في الكوفة؟»
قال الفارس: «هم في خير، وستشتد عزيمتهم بخبر الفتح، ولا سيما أبو سلمة، رعاه الله.»
قال صالح: «وكيف أبو سلمة؟»
قال: «هو عمدتنا وذخرنا، وهذه الأموال كلها من عنده، وهو - كما تعلم - لا يدخر وسعا في نصرة هذه الدعوة، والحق يقال إن هذه الدعوة إنما تقوم بسيف أبي مسلم ومال أبي سلمة الخلال.»
1
فتذكر صالح حال أبي سلمة هذا، وأنه من كبار الأغنياء، وقد بذل ماله في سبيل نصرة الشيعة، وأنه كان قبل ظهور أبي مسلم يفعل ذلك في نصرة شيعة علي، كما كان يفعل سليمان بن كثير، فلما تحولت الدعوة إلى العباسيين ورأسها أبو مسلم أذعن كما أذعن ابن كثير، وصار يبذل أمواله في نصرتهم. ومرت القافلة وهما واقفان يتكلمان، وصالح ينظر إلى الأحمال فإذا هي كثيرة، وفيها صناديق الأموال، فلما خطر له أمر أبي سلمة الخلال تظاهر بالإسراع، وودع الفارس وأوصاه بالإسراع وقال له: «واصلوا السير إلى مرو، ولا تقفوا في هذه المحطة؛ فتصلوا إلى مرو في العشاء.»
فأشار الفارس إشارة الطاعة وافترقا، فأظهر صالح أنه يسير نحو الكوفة حتى إذا توارت القافلة عن بصره، رجع الهوينى في أثرها بحيث يرى أطرافها، ولا يراه أحد من أهلها، فرآها عند وصولها إلى المحطة لم تقف إلا قليلا ثم أقلعت، فسره ذلك وسار إلى خيمة الدهقانة فرآها لا تزال جالسة عندها، فسأل الخدم عن القافلة فقالوا: «أنهم مشوا مسرعين ولم يقولوا شيئا.» فذهب إلى خيمته وبدل ثيابه وهو يفكر في أبي سلمة الخلال والسبيل إلى تحويله عن نصرة أبي مسلم، وإذا بسعيد الصقلبي قد جاءه مسرعا وناداه بلهفة فقال له: «ما وراءك؟»
قال: «أدرك مولاتي الدهقانة، فإنها استيقظت من نومها وهي تبكي وتنتحب، ولا نعلم ما بها.»
فعلم أنها تبكي لأنها يتيمة وغريبة، وقد أخذت تحس بمصيبتها وتتبين ضخامتها، فأسرع إلى خيمتها فلقي ريحانة بالباب وهي تشير إليه أن يسرع، فدخل الخيمة فرأى جلنار جالسة في الفراش، وشعرها مرسل على كتفيها، وقد احمرت عيناها، وتكسرت أهدابها من كثرة البكاء، فلما أطل صالح صاحت به: «آه يا صالح، بل يا ضحاك؛ لأني هكذا كنت أناديك في أيام سعادتي، وأنا الآن يتيمة مقهورة شاردة هاربة.»
فجثا صالح عند فراشها وقال: «ما الذي جرى يا مولاتي؟ هل حدث شيء جديد؟»
قالت وهي لا تستطيع أن تمسك نفسها عن البكاء: «آه يا صالح! كنت نائمة فرأيت في منامي أن ذلك القاسي جاءني وفي يده خنجر، وكأنه يهم بقتلي، فصحت فيه: ويلك يا ظالم! أهذا جزاء المحبة؟! ووبخته وعنفته وعاتبته عتابا شديدا وهو واقف لا يتكلم، وكان غيظي يتعاظم عليه، وحنقي يشتد، وأشعر رغم ذلك بشيء يتحرك في قلبي وينعطف نحوه، وكأن بين ناظريه وعروق قلبي رباط لا أدري ما هو، فقلت له: لا يغرنك ضعف هذا القلب؛ فإني سأغلبه وأغلبك، وأنتقم لقتل والدي شر انتقام.»
فقطع صالح كلامها بلهجة المجون وقال: «احذري أن تذكري اسمي، أو تخبريه إني مشجعك على هذا الانتقام؛ لئلا يرسلني إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك كما كان يفعل في أيام مجونه.
فلم يسع جلنار إلا الضحك رغم ما بها، ثم أمسكت نفسها ونظرت إليه شزرا، فابتدرها قائلا: «لا ذنب لي في ذلك، فإنك ناديتني باسمي القديم وتمنيت أن أتسمى به، فتقمصت شخصيته؛ لأن الضحك على كل حال خير من البكاء. ومع ذلك لم أكن أحسبك تهتمين بأضغاث الأحلام، وتستسلمين للضعف النسائي. وقد طلبت إليك منذ أول خطوة خطوناها أن تخلعي عنك هذا الضعف، وتتخلقي بأخلاق الرجال؛ لأن الأمر الذي نحن بسبيله يحتاج إلى دهاء وتعقل وسعة صدر.»
قالت: «لا أزال غير قادرة على فكر أو عمل.»
قال: «لا أكلفك أن تقومي بعمل؛ فقد شرعت في العمل منذ الآن، فكتبت كتابا إلى سليمان بن كثير (وأخبرها فحواه)، وإنما أطلب إليك الصبر والدعاء وأنا ضامن أنك ستنسين كل هذه المتاعب. اصبري؛ إن الله مع الصابرين.»
فأحست جلنار بثقل أزيح عن صدرها وقالت: «صدقت؛ لا حيلة لي غير الصبر.» ثم مسحت عينيها والتفتت إلى ريحانة، فرأتها تذرف الدموع بلا بكاء ولا شهيق حتى كادت تختنق من ضيق صدرها، وحبس عواطفها. فلما رأت مولاتها تنظر إليها ووجهها منبسط، ابتسمت والدمع ملء عينيها وقالت: «تجلدي يا مولاتي. ولا بد من الصبر، والفرج قريب، بإذن الله.»
فرأى صالح أن من الحكمة أن يشغلهما عن ذلك الحديث النسائي فقال: «أخبريني يا مولاتي: هل تعرفين أبا سلمة الخلال؟»
فظلت جلنار صامتة مطرقة كأنها تستحث ذاكرتها وهي تتذكر أنها سمعت هذا الاسم قبل الآن، فبادرت ريحانة إلى الجواب قائلة: «أظن مولاتي لا تذكره، ولكنني أعرف هذا الاسم جيدا؛ فإنه لرجل فارسي من أكبر أرباب الثروة في العراق وفارس، وكان بينه وبين مولاي - رحمه الله - علاقات قديمة، وكثيرا ما كان يزوره وينزل في داره أياما، وكانت مولاتي الدهقانة لا تزال صغيرة.»
فابتسم صالح وبدا السرور في وجهه وقال: «إن هذا الرجل من أكبر دعائم هذه الدعوة؛ فهو يؤيدها بماله كما يؤيدها أبو مسلم بسيفه ودهائه، وحكايته مع أبي مسلم مثل حكاية ابن كثير، فإن أبا سلمة كان مع ابن كثير يدعوان للعلويين، ثم أطاع أبو مسلم في الدعوة الجديدة رغم إرادته، فإذا استطعنا تحويل أبي سلمة عن تأييد هذا المشروع، غلت أيديهم عن العمل، ولا سيما بعد القبض على إبراهيم نزيل الحميمة.»
فقالت جلنار : «تذكرت هذا الاسم الآن، وأذكر أيضا أنه جاءنا مرة ومعه الهدايا والأحمال، وفيها الحلي والجواهر. وكان والدي - رحمه الله - يحبه.»
فقالت ريحانة: «وأنا أعرف امرأة من نسائه أصلها من مرو، بينها وبين والدة مولاتي الدهقانة - رحمها الله - قرابة، وسيدي الدهقان والدك زوجه إياها، وكنت واسطة بينهما.»
فقال صالح: «لقد هان الأمر الآن. فالذي أراه أن نحمل مولاتنا إلى الكوفة ننزلها في مكان تقيم فيه في أمان ريثما أذهب لقضاء المهمة الأولى في الشام، ثم آتيكم إلى الكوفة ظافرا غانما.» ثم التفت إلى الدهقانة كأنه يستطلع رأيها، فرآها صامتة وفي وجهها ملامح الاستسلام، فقال لها: «كوني مطمئنة؛ فإني لا أتركك حتى أتحقق من راحتك وسلامتك، وأترك عندك ريحانة وسعيدا وأبا العينين، واصطحب الحلبي فقط؛ لأنه يعرف الشام؛ لعلي أحتاج إليه في شيء. والآن لا بد لنا من الإسراع في الرحيل؛ لئلا يعرف أبو مسلم مكاننا، فيذهب كل سعينا هباء، ولا غرابة في اطلاعه على سرنا وهو يكاد يطلع على خفايا القلوب.»
فتنهدت جلنار ولم تجب، فأدرك صالح أنها تتأسف على خيبة أملها في أبي مسلم، لكنه تجاهل ووقف لتدبير أمر السفر إلى الكوفة.
الفصل الثامن والخمسون
مروان بن محمد والناسك
فلنتركهم في تدبير شئونهم، ولنذهب بالقارئ إلى دمشق الفيحاء؛ دار الخلافة الأموية؛ فإن الأمويين اغتصبوا الخلافة من أهل البيت، كما تقدم، ونقلوا عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق؛ لأن أهل الحجاز متفقون مع علي وأولاده، ودمشق من المدن العظمى التي كان لها شأن كبير في التاريخ القديم، فجعلها الأمويون مقرا للخلافة، ومركزا لقوة المسلمين، حتى حدثتهم أنفسهم أن ينقلوا منبر النبي
صلى الله عليه وسلم
من المدينة إليها؛ ليضيفوا إلى عصبيتهم العربية أعظم أثر إسلامي يفاخرهم به أعداؤهم المقيمون في الحجاز، فلم يتيسر لهم ذلك، واكتفوا بالعصبية، فحكموا المسلمين نحو مائة سنة، وامتد سلطانهم إلى معظم العالم المعمور في ذلك الوقت. وفي أيامهم بلغ العرب أسمى درجات العز.
والدولة الأموية أقوى دول العرب وأشدها بطشا، وهي وحدها (بعد الخلفاء الراشدين) دولة عربية خالية من شوائب العجمة؛ لأن أمراءها عرب، وعمالها عرب، وكتابها عرب، وهي التي نقلت دواوين الحكومة إلى اللغة العربية، ونصرت العصبية العربية، لكنها بالغت في ذلك واحتقرت غير العرب، واستبدت بالفرس وغيرهم ممن دان لسلطانها حتى نقموا منها وساعدوا أهل البيت على حربها؛ لإخراج البلاد من أيديها.
وكان على رأس الخلافة في عصر روايتنا هذه مروان بن محمد؛ وهو من أحسن الخلفاء، وأكثرهم حمية وحزما وغيرة على الإصلاح، ولكنه جاء متأخرا وقد تمكن الفساد من جسم الدولة الأموية، وتغلغل الفساد إلى أعضائها الحيوية، حتى انقسمت على نفسها، وقام من بني أمية غير واحد ادعوا الخلافة لأنفسهم، فتمكن مروان ببسالته وعقله من التغلب عليهم. وكان الخلفاء الذين تقدموه قد انغمسوا في الترف واللهو، وأكثرهم شربوا الخمر واستكثروا من النساء. فلما تولى مروان الخلافة ورأى حالها من الاضطراب عزم على الحزم والتعفف، فحرم الخمر على مجالسه، وابتعد عن النساء،
1
واهتم بشئونه اهتمام الرجال.
ولكن ذلك لم ينفعه شيئا؛ لأن الدعوة العباسية كانت قد استفحلت في أيامه، ورسخت أقدامها في خراسان، وانتشر دعاتها في أنحاء فارس والعراق، فارتبك في أمره وبذل غاية جهده في دفع أعدائه، وكانت ثقته بنصر بن سيار عظيمة. ونصر شيخ جليل بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وقد حنكته الأيام، وفي طبعه ميل إلى الإصلاح. فألقى إليه مقاليد خراسان، وأوصاه بحمايتها وحفظها من الشيعة، ولم يكن يخطر له الخوف عليها؛ لعلمه بقلة الشيعة وتسترهم، حتى جاءه الخبر بسقوط مرو وفرار نصر بن سيار منها بأهله وأولاده، فأسقط في يده، وأيقن بخروج خراسان وما وراءها من سلطانه، وأصبح خائفا على سائر مملكته.
وكان مروان في تلك السنة قد بلغ الثالثة والستين من عمره، وأمه كردية الأصل. وذلك نادر في الخلفاء على عهد بني أمية؛ لمحافظتهم على العصبية العربية، خلافا لما صارت إليه الحال في أيام بني العباس، فإن معظم خلفائهم من الهجناء. والهجين أبوه عربي وأمه غير عربية. وكان مروان قوي البدن شجاعا، فلقبوه بالحمار. وكان ربع القامة، أبيض اللون ، أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها،
2
وشيبه أكبر من سنه؛ لهول ما لاقاه من الأمور العظام، وبخاصة بعد أن جاءه النبأ بسقوط مرو وفرار نصر، فإنه ما فتئ يجمع رجاله وقواده ويشاورهم في أمره، ويتداول معهم فيما صارت إليه حال الدولة من الاضطراب. وقد أخذ في إعداد الجنود وهم أن ينهض بنفسه؛ لأنه رأى أنه من الحزم ألا يثق بأحد من رجاله في مثل تلك الحال، فكان يقضي نهاره مشاورا، ومعظم ليله مفكرا، وربما مضى الليل وهو يضرب في أرجاء غرفته منفردا عن الأهل والجواري والسراري.
فاتفق في إحدى الليالي وهو ساهر على تلك الصورة وقد جاءه الخبر باستفحال أمر الشيعة، أن جاءه الحاجب مهرولا، فظنه جاءه برسول أو رسالة. وكان من عادتهم ألا يردوا عن باب الخليفة صاحب خبر في أية ساعة جاء، ولو في نصف الليل أو بعده. فلما دخل الحاجب على مروان صاح فيه: «ما وراءك؟»
قال: «إن بالباب رجلا غريب الشكل يطلب أن يخاطب أمير المؤمنين.»
قال مروان: «لعله صاحب خبر، أو رسول، أو من هو؟»
قال: «كلا، ولست أدري من هو، ولما أردت تأجيل أمره إلى غد قال: إنه يريد مخاطبة أمير المؤمنين في شأن لا يجوز تأجيله لحظة.»
فاهتم مروان بالأمر وقال: «أدخله.»
وكان مروان جالسا على سريره فنهض والتف بالعباءة وتمشى في الغرفة، وظله يتنقل شمالا أو يمينا حسب موقعه من المشمعة القائمة في جانب الغرفة. ولم تمض لحظات قليلة حتى عاد الحاجب وهو يقول: «الرجل بالباب يا مولاي.»
قال: «ليدخل.»
فدخل رجل طويل القامة حاسر الرأس، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته وتلبد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، وهو حافي القدمين، عاري الساقين والزندين، والقذارة ظاهرة على يديه وأنامله، وفي وجهه ولحيته، وعلى قميصه، وعلى كل شيء فيه، مع بله يظهر من خلال قذارته. وحين رآه مروان ابتدره بالسؤال عما في نفسه، فقال بلغة التهديد: «ألا تدعوني للجلوس ؟ كأنك تخاف على الطنافس من جلدي! أو غرك ما رأيته من زهدي. إن أولياء الله لا يلبسون الحرير والديباج، ولا يهتمون بالمشط والطيب.»
فلما سمع مروان كلامه هابه، ولم يكن شديد الاعتقاد بالولاية؛ لأنه كان قد تعلم من الجعد بن أدهم مذهبه في خلق القرآن والقدر
3
وغير ذلك، ولكن شدة افتقار المرء إلى الشيء تهون عليه تصديق المستحيل، وتساعده على التصديق رغبته في الحصول على ذلك الشيء، فكان مروان في حاجة إلى من يشير عليه أو يرشده إلى الصواب، فاحتمل جسارة ذلك الرجل ورحب به وأمره بالجلوس، فجلس على طنفسة، وجلس مروان على وسادة تجاهه وأصاخ بسمعه، فرأى الرجل يتمتم بكلام لم يظهر منه لمروان إلا حركة الشفتين، فظنه يصلي فصبر نفسه وهو على أحر من الجمر، فطال جلوس الرجل وطالت صلاته ومروان صابر حتى كاد يضجر، وإذا بالشيخ قد مسح وجهه بيديه واعتدل في مجلسه وقال: «اعلم يا مروان أني جئتك برسالة من عالم الغيب جاءتني في المنام الليلة، وقد أوصاني صاحب الرؤيا أن أبادر بإبلاغك إياها حالا، وأوصيك وصية؛ فهل أنت مصدق لما أقوله لك؟»
قال مروان: «نعم. قل.»
الفصل التاسع والخمسون
الرؤيا
قال الشيخ: «بدأت رؤياي بصوت أيقظني وإذا برجل ينادي: «الحميمة، الحميمة، الحميمة!» فقلت: «وما الحميمة؟» قال: «في الحميمة أصل الشر ومنبع العداوة.» فقلت: «وأية عداوة؟» فزجرني الصوت وقال: «اذهب إلى إمامكم مروان بن محمد في هذه الساعة، وقل له إن عدوه الأكبر إبراهيم في الحميمة، وهو أصل متاعبه، فإذا قبض عليه وقتله فقد قطع رأس الحية؛ فاذهب إليه حالا.» وأردت أن أستزيده بيانا فاستيقظت من منامي وجئت إليك فبلغت الرسالة، وها أنا ذا راجع إلى مغارتي.» قال ذلك وهم بالنهوض، فأقعده مروان وسأله عما يظنه من أمر هذه الرؤيا، فقال: «نحن لا نفسر الرؤيا، وإنما ننقلها كما أتتنا؛ فعليك الآن أن تسأل عن الحميمة، فإذا كانت بلدا فابعث إليه من يبحث عن رجل اسمه إبراهيم.»
ففطن مروان للحال أن هذا الاسم هو اسم صاحب الدعوة العباسية، ولم يكن يعرف مكانه، فأدرك أن المراد بالرؤيا التنبيه إلى مكان صاحب تلك الدعوة للقبض عليه، وآمن بولاية الشيخ لأنها وافقت غرضه. والإنسان وإن أنكر السحر وكذب أقوال السحرة، فإنه إذا رأى في أقوال أحدهم قولا يوافق ما في نفسه مال إلى تصديق السحر، حتى الطبيب إذا لم يطمئن أهل المريض ويؤكد لهم شفاء مريضهم اتهموه بالجهل بلا برهان، وإنما يدفعهم إلى تلك التهمة كرههم لما يعتقده. وتذكر مروان أنه يعرف بلدا بالبلقاء اسمها الحميمة، فعزم على إرسال جند يبحثون عن رجل اسمه إبراهيم؛ فإذا كان من نسل العباس كان هو المراد، فيقبضون عليه ويزجون به في السجن. أما الشيخ فظل متحفزا للخروج، فقال له مروان: «امكث أيها الشيخ عندنا على الرحب والسعة.»
فقال الشيخ وهو ينفض يديه: «أعوذ بالله من هذا الشر! أتريد يا مروان أن تحجب عني وجه الخالق، وتفصل بيني وبين أهل الغيب؟»
فقال مروان: «أخبرني إذن ما هو اسمك، وأين مقامك؛ حتى أبعث إليك عند الحاجة.»
قال: «لا أقدر على ذلك الآن، ولا حاجة لك بي؛ إذ لا أقدر على شيء غير ما أراه في الرؤيا أو أسمعه من الهاتف، فلو سألتني سؤالا من عندك فلا جواب عندي، فإذا شئت أن تنتفع بي دعني أنصرف إلى مغارتي ولا تسألني عن اسمي، فإذا أتتني رؤيا أخرى أو خطر لي شيء يقال؛ أتيتك على عجل. وأرجو أن تأمر حاجبك ألا يؤخرني عنك، واحذر أن تطلع أحدا على أمري؛ فإن حفظ هذا السر يحفظ خدمتي لك.»
فرأى مروان في كلام الرجل قوة، وكان يود إبقاءه عنده، فلما سمع عذره لم يشأ أن يرغمه على البقاء، فقال له: «فاصبر إذن لنأمر لك بالجائزة.»
فصاح: «الجائزة! الجائزة! ولماذا؟ إننا لا نأكل من طعامكم، ولا نشرب من شرابكم، ولا نمس أموالكم. هكذا أمرنا، فأطلق سراحي يا مروان أو اقتلني، فإني بين يديك، ولا أرى سببا لتأخيري سوى أنك تريد نفسي فخذها.» قال ذلك بلهجة شديدة، فاستغرب مروان غضبه بلا سبب، وقال في نفسه: «يظهر أن هذه أخلاق الأولياء وأهل الصلاح .»
فأخذ يخفف من غضب الشيخ ويسايره وقال له: «افعل ما بدا لك. وإذا شئت أرسلت من يحرسك حتى تصل مكانك.»
فقال الشيخ والغضب باد على وجهه وفي صوته: «الذي أريد منك يا ابن الكردية أن تطلق سراحي قبل أن تزهق روحي.»
فحمل مروان قوله هذا أيضا على البله؛ لاعتزال أولئك الزهاد عن الناس، وانقطاعهم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار في مغارة لا يرون فيها أنيسا ولا يعاشرون غير الدواب، فقال له: «اذهب في حراسة الله، واعلم أن بابنا لا يغلق عنك ليلا ولا نهارا، فإذا رأيت رؤيا فتقدم بها إلينا.» وأمر الحاجب أن يطلق سبيله، وأوصاه ألا يذكر خبره لأحد. فخرج مهرولا وخطواته واسعة وهو ينظر إلى السماء، وعاد مروان إلى مجلسه وقد اشتغل خاطره بما سمعه من قول ذلك الناسك، ولم يتمالك أن بعث إلى أحد الخاصة من أهل ثقته، وزعم أنه رأى رؤيا دلته على محل الإمام إبراهيم، وروى له ما قال الشيخ، فقال الرجل: «لا ريب إنها رؤيا صحيحة؛ لأن الحميمة في البلقاء، وفيها أناس من الشيعة، فابعث إليها من يقبض على الرجل الذي اسمه إبراهيم، فإنه الإمام المطلوب.»
فكتب مروان إلى عامله على البلقاء أن يذهب إلى الحميمة، فيقبض على رجل من العباسيين اسمه إبراهيم، وذكر له صفته.
الفصل الستون
معسكر أبي سلمة
وأما الناسك، وهو صالح أو الضحاك، فكان قد رافق جلنار ورفاقها إلى الكوفة وسأل عن منزل أبي سلمة الخلال، فأخبروه أن له معسكرا خاصا في محلة حمام أعين خارج الكوفة، وهو هناك بحاشيته ورجال بطانته كأنه دولة قائمة بنفسها، وأهل الكوفة يراعون خاطره ويخشون نفوذه، وبخاصة بعد قيامه بالدعوة العلوية، فإنه كان يبذل الأموال الطائلة في سبيلها، فلما تحولت إلى العباسيين وقام بها أبو مسلم لم ير بدا من مسايرته، فظل على البذل والعطاء وفي خاطره شيء لم يبح به لأحد؛ خوفا على نفسه من غائلة القتل، ولا سيما بعد أن بلغته وصية الإمام : «من اتهمته فاقتله.» وكأنه كان يتوقع فشل أبي مسلم في دعوة إبراهيم، فيعود هو إلى الدعوة العلوية؛ إذ تكون السبل قد مهدت لها على أهون سبيل. على أن تظاهره بدعوة بني العباس لم يكن ليخفي ما في نفسه على دهاة القواد والشيعة من أهل الكوفة، ولكنهم كانوا يسايرونه أيضا ليستدروا أمواله في سبيل نصرتهم.
فلما وصل صالح بمن معه إلى الكوفة وعلم أن أبا سلمة معسكر في حمام أعين جاء بهم إليه، وحطوا رحالهم ونصبوا خيامهم خارج المحلة يظهرون الإقامة مؤقتا للاستراحة، وذهب صالح وريحانة حتى أتيا المعسكر فطلبا مقابلة أبي سلمة، فأدخلوهما إلى فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر ببابه الحراس، ومظاهر الثروة بادية على رياشه وأساطينه. وكان صالح بملابس أهل خراسان فدخل وحيا، ولم يكن في مجلس أبي سلمة وقتئذ أحد سواه، فرحب به وسأله عن غرضه، فاغتنم تلك الخلوة وقال: «هل يعيرني مولاي إصغاء قليلا؟»
فال: «نعم.»
قال صالح: «برفقتي جارية، فهل تأذن بدخولها؟»
قال أبو سلمة: «تدخل.» وصفق، فجاء غلام فأمره أن يدخل الجارية الواقفة بالباب، فدخلت ريحانة وقد غطت وجهها بالخمار على عادة النساء عندهم، ووقفت متأدبة فدعاها للجلوس فأبت، ولكنها قالت: «أيذكر مولاي أنه رأى هذا الوجه؟» وكشفت عن وجهها.
فلما وقع نظره عليها تذكرها وقال: «ريحانة؟»
قالت: «نعم يا مولاي.»
قال أبو سلمة: «وأين مولاك الدهقان؟ هل تركته؟»
قالت ريحانة وصوتها مختنق: «لا يا سيدي، بل هو تركنا.» ولم تتمالك أن تمسك نفسها عن البكاء.
فلم يستغرب أبو سلمة بكاءها؛ لظنه أن مولاها طردها، فهي تبكي على فراقه، فقال لها: «وكيف تركك؟»
فسكتت ولم تجب.
فأجابه صالح قائلا: «إذا أراد مولاي أن نقص عليه الخبر، فليأمر أن تذهب جاريته إلى دار النساء، ويأذن بذهاب الدهقانة جلنار؛ ابنة صديقك دهقان مرو، معها؛ لأنها مقيمة خارج هذا المعسكر.»
فبغت أبو سلمة وقال: «جلنار أيضا هنا! وأين والدها؟»
قال صالح: «إذا أمرت بدخولها دار النساء قصصت عليك خبرها.»
قال أبو سلمة: «لتدخل حالا؛ فإن شيرين (يقصد امرأته ) تفرح كثيرا لرؤيتها.»
ثم نهض هو وأشار إلى صالح أن يلاقيه من الخارج، ودخل من باب سري في الفسطاط إلى دار بجانبه، ثم خرج من باب الدار وبين يديه الخدم، فلقيه صالح وريحانة هناك، فأشار أبو سلمة إلى ريحانة قائلا: «ادخلي على مولاتك شيرين.» والتفت إلى صالح وقال: «هؤلاء هم الخدم، فمرهم بالذهاب إلى الدهقانة لينقلوها بما معها إلى هذه الدار.»
فأثنى صالح عليه ومشى والخدم في أثره إلى خيمة جلنار وأخبرها بما فعله، وطلب منها أن تسير معه إلى الدار، وأن يبقى الخدم هناك حتى ينقلوا الأمتعة.
فمشت وصالح يشجعها ويمنيها بتحقيق بغيتها على يد أبي سلمة حتى دخل بها الدار، فاستقبلتها الجواري وذهبن بها إلى خالتها، فلما رأتها شيرين ألقت بنفسها عليها وراحت تقبلها وتستنشق ريحها؛ لأنها كانت تحبها كأولادها، فأهاجت تلك القبلات ما في خاطرها من أمر والدها وفرارها، فغلب عليها البكاء ولم تعد تستطيع أن تمسك نفسها حتى خافوا عليها، فجاءت ريحانة وشاركتها البكاء، ولكنها جعلت تخفف عنها بعبارات استدلت منها شيرين على وقوع الفتاة في مصيبة اليتم، فأجلستها إلى جانبها وجعلت تمسح دموعها وتقبلها. وكان أبو سلمة قد سمع الضوضاء وهو مع صالح في غرفة الرجال فتركه ودخل دار النساء، فرأى جلنار على تلك الحال فتأثر قلبه من بكائها، وقد توردت وجنتاها، واحمرت عيناها، وتكسرت أهدابهما، فنادى ريحانة فأتته أيضا وهي تبكي، فسألها عن سبب بكائها، فقالت: «ستسمع ذلك من صالح؛ فإنه هو سبب بقائنا أحياء، ولولاه لكنا مع الأموات.»
فرجع أبو سلمة إلى صالح وعلامات التأثر بادية على وجهه، فأدرك صالح أنه قد آن أن يكاشفه بالأمر، ولكنه كان يخشى أن يكون ظنه في أبي سلمة في غير محله من حيث رغبته في العلويين ونقمته على أبي مسلم، فعزم على استطلاع سره بالحيلة، فلما أقبل أبو سلمة عليه وسأله عن سبب ما شاهده من بكاء تلك الفتاة، قال: «إنها تبكي والدها.»
قال أبو سلمة: «تبكي والدها الدهقان! وما الذي أصابه؟»
قال صالح: «قتلوه.»
قال أبو سلمة: «ومن الذي قتله؟»
قال صالح وهو يتظاهر بالتهيب: «قتله، قتله قائد رجالكم وصاحب دعوتكم.»
قال أبو سلمة: «أبو مسلم؟!»
قال صالح: «نعم يا سيدي.»
فهز رأسه وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله. ولماذا قتله؟»
قال صالح: «قتله لأنه نصره بالمال والرجال، ولأنه بذل كل ما في وسعه لنصرته.»
فضحك أبو سلمة ضحكة يمازجها غضب شديد وقال: «كيف يقتله لهذا السبب؟ قل الحقيقة.»
قال صالح: «هذه هي الحقيقة يا سيدي. إنه كان يعطيه الأموال بغير حساب، وقد خاطب سائر الدهاقين في خراسان لينصروه.»
فقال أبو سلمة: «لا يعقل أن يكون على هذه الصورة ويقتله بلا سبب.»
فاعتدل صالح في مجلسه وتأدب في جلسته حسب عادتهم في الجلوس وقال: «هل تدهش لذلك من رجل يقتل على الشك؟ ألم تسمع بوصية الإمام إبراهيم؟»
فأمسك أبو سلمة لحيته بيده وحك ذقنه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» وكأن في خاطره شيئا يضمره أو يخشى إظهاره، فتظاهر صالح بالحزن والبكاء وقال بصوت ضعيف: «أتستغرب ذلك من رجل يقتل على التهمة عملا بوصية إمام يدعون باسمه ليلا ونهارا، وقد عهدنا الأئمة من قبل يحاسبون أنفسهم على نملة إن قتلوها بغير حق!»
فلم يتمالك أبو سلمة أن قال: «أولئك أئمة الهدى أبناء بنت النبي
صلى الله عليه وسلم ، أولئك أبناء الإمام علي، كرم الله وجهه.» قال ذلك وغص بريقه.
الفصل الحادي والستون
المكاشفة
فاغتنم صالح تلك الفرصة وقال: «فلماذا حولتم الدعوة إذن إلى هؤلاء وأنتم أصحاب هذا الأمر، أم هي لا تزال في الحقيقة لأبناء الإمام علي وإنما تظهرون البيعة لإبراهيم تمويها؟»
فسكت أبو سلمة ولم يجبه، وكان الجواب يحشرج في صدره، ولا يأمن التصريح به، فابتدره صالح قائلا: «يظهر لي أن أولئك الناس خدعوك وتملقوك طمعا في أموالك، وأنا أعلم يقينا أنك غير راض عن إمامهم هذا، ولكنك لا ترى أن تفسد عليهم أمرهم؛ لأن تظاهرك ضدهم يؤذيهم.»
فلم يعد أبو سلمة يستطيع صبرا عن الكلام فقال: «كلا، ولكنني أعلم أنني لو قلت ما في نفسي لم أجد من ينصرني، ولا أدري كيف تغيروا جميعا وقبلوا هذا الإمام؛ وهو صاحب هذه الوصية؟»
ففرح صالح بهذا التصريح وقال: «وماذا عسى أن يكون من أمر هذا الإمام وهو كأحد الناس، وأنتم جعلتم له هذه المنزلة، وجمعتم له قلوب أهل فارس وخراسان.»
وكان أبو سلمة جالسا يصغي لكلام صالح، فلما سمع قوله هذا هب من مجلسه بغتة، وجعل يضرب في الغرفة ذهابا وإيابا، ومطرفه يجر وراءه، وصالح يرقب حركاته وتقلبات عواطفه، فأدرك أنه يكتم كرهه لهذه الدعوة، فنهض معه ووقف في أحد جوانب الغرفة وأطرق تهيبا مما جاش في خاطر أبي سلمة. ثم وقف أبو سلمة أمام صالح وهو يصلح قلنسوته الموشاة وقال: «قد جمعنا له قلوب أهل خراسان وفارس، ومكناه من سيوفهم وأيديهم وألسنتهم، فأصبح هو المالك ولا حيلة لنا.»
فقال صالح: «الحيلة سهلة يا مولاي.»
فضحك مستهزئا وقال: «كيف تستسهل ما لا سبيل إليه؟ إن مئات الألوف من الفرس وغيرهم يدعون باسم إبراهيم الإمام، فكيف نستطيع تغيير قلوبهم؟»
فقال صالح: «قلت لمولاي إن ذلك هين علي، فهل تصغي لقولي؟ وهل أنا في خطر على حياتي؟»
قال أبو سلمة: «قل ما بدا لك ولا تخف؛ إنك في أمان.»
قال صالح: «ما قولك في قطع الشجرة من جذرها، ومحاكمة الرجل بقانونه؟»
وكان أبو سلمة يخاطب صالحا وهو يتمشى، فلما سمع قوله وقف وأطرق وسبابته بين شفتيه ينقر بها قواطعه، ويده الأخرى في منطقته، ثم رفع بصره إلى صالح وقال: «ماذا تعني يا صالح؟»
فقال صالح: «أعني أن نقتل ذلك الرجل.»
فقال أبو سلمة: «ومن الذي يجرؤ على قتله؟»
فقال صالح: «علي تدبير ذلك. أنا أقتله ولا يشعر بي أحد. فهل إذا فعلت ذلك يهون عليك تحويل هذه الدعوة ومقاومة أبي مسلم. إنه بدونك لا يستطيع عملا، ولا سيما إذا علم الناس بمقتل صاحب الوصية؛ فلا شك عندي أنهم سيفرحون لقتله، وأول من يفرح هذه المسكينة التي قتل أبو مسلم أباها، ونهب قصره، وجعلها شريدة طريدة . وأخشى أن يصل خبرها إلى أبي مسلم فيبعث إليها ؛ لأنه يفتش عنها لكي يقتلها. فتأمل واعتبر هذه المعاملة. ولا غرو؛ فإن هذه هي قاعدة العمل عند أبي مسلم، يتقرب إلى الرجل وهو في حاجة إليه، فإذا فرغ من حاجته قتله، فيجب أن يكون كل منكم ساهرا على حياته. أقول ذلك بكامل الحرية ولك الخيار.»
فأدرك أبو سلمة أنه يعرض بالخطر على حياته هو، فتجاهل وعاد إلى إتمام الحديث فقال: «وهل أنت واثق من قدرتك على ما وعدت به؟»
قال صالح: «لك علي ذلك في مدة لا تتجاوز مسافة الطريق وبضعة أيام. أليس صاحبكم في الحميمة؟»
فقال أبو سلمة: «بلى.»
قال صالح: «لا تمضي أربعة أسابيع أو نحوها حتى يقضى عليه، وسأذهب في هذه المهمة وأترك عندك مولاتي الدهقانة وخدمها، وربما أخذت معي واحدا منهم، فأوصيك بها خيرا.»
قال أبو سلمة: «لا توصيني ببنت دهقان مرو؛ فإنه كان صديقي، فضلا عن صلة النسب بيننا، فإن شيرين خالة جلنار، وقد احتضنتها احتضان الوالدة لولدها؛ فكن مطمئنا لهذا الأمر.»
وكان أبو سلمة قد استبشر بما سمعه من صالح، وتوسم في الرجل قوة وعزما، وجاء كلامه مطابقا لما في خاطره، فعزم على استخدامه لتحقيق مصلحته، فأظهر له الارتياح وأثنى عليه، ولم يعلم أن صالحا إنما فعل ذلك خدمة لمصلحته هو، لا يهمه من تلك الأحزاب غير الخوارج، وإنما يهمه فضلا عن ذلك أن ينتقم لنفسه من أبي مسلم؛ لأنه تعمد قتله بالسم، وأبو مسلم يحسبه في عداد الأموات.
فلما بلغ بهما الحديث إلى هذا الحد، أشار أبو سلمة إلى صالح أن ينزل للاستراحة في دار الضيوف على أن يعود إلى الكلام في هذا الموضوع، فمضى ليقضي بقية يومه في الراحة وتدبير بعض الشئون، وسار إلى ريحانة فاجتمع بها وأطلعها على ما دار بينه وبين أبي سلمة، وأفهمها أمورا تقولها لجلنار، وأوصاها بالبقاء هناك ريثما يعود من مهمته إلى الشام، وأنه سيصطحب معه سليمان الحلبي؛ لأنه يعرف تلك البلاد، ثم دعا سعيدا وأبا العينين فأوصاهما بكتمان كل شيء عن أهل الدار فوق وصيته لأبي سلمة بذلك. وفي اليوم التالي استأذن أبا سلمة في الذهاب، فعرض عليه مالا، فأبى وقال: «إني أقوم بهذا الأمر خدمة لمصلحة المسلمين لا أطلب عليها أجرا.»
الفصل الثاني والستون
الرحيل إلى الحميمة
فركب صالح جملا سريعا، وكذلك سليمان، وحملا ما يحتاجان إليه من الطعام والماء، وأسرعا نحو الشام. وكان صالح في أثناء تلك المدة يبحث عن أحوال شيبان ورجال الخوارج سرا بالاستفهام وغيره. وقد تقدم أن شيبان نزح عن مرو بعد أن أيقن بوقوعها في يدي أبي مسلم. فلما استتب الأمر لأبي مسلم هناك بعث إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فأجابه شيبان: «أنا أدعوك إلى بيعتي.» فكتب إليه أبو مسلم: «إن لم تدخل في أمرنا؛ فارحل عن منزلك الذي أنت فيه.» فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل، فخشي بأسه أبو مسلم، فبعث إليه رسلا لمخابرته فسجن الرسل، فبعث إليه جندا حاربوه وغلبوه، فهرب إلى بلد آخر وآخر حتى دخل المدينة فقتل فيها وذهب أمر الخوارج.
1
وقد وصل خبر مقتل شيبان إلى صالح وهو سائر في طريقه إلى الشام، فشق ذلك عليه وكاد يذهب بنشاطه وسعيه، ولكنه تذكر إساءة أبي مسلم إليه، ورأى أنه مطالب أيضا بالانتقام لشيبان وسائر الخوارج؛ وهم يرون السلطة لا تجوز لأحد، فإذا تمكن من إفساد أمر بني العباس فقد خدم المبدأ الأصلي عندهم، وعلى هذا يحل له قتل كل ذي سلطان يدعي الخلافة، ومهما أكثر من قتل هؤلاء، فذلك معدود عنده من الحسنات! ووجد نفسه بين جماعات، كل منهم يدعي الخلافة لنفسه: الأمويون والعباسيون والعلويون، وكلهم في اعتبار الخوارج لا يليقون للخلافة؛ فأيهم استطاع قتله أو أفسد أمره فقد خدم به مصلحة أصحابه. «وما زال صالح يواصل السير هو وسليمان حتى وصلا إلى دمشق، فنزلا خارجها ... وقضى صالح أياما وهو يدرس أحوالها.»
وما زالا سائرين مسرعين حتى وصلا إلى دمشق فنزلا خارجها، وقضى صالح أياما وهو يدرس أحوالها، وترك سليمان هناك وسار إلى الحميمة، فتحقق من وجود بني العباس وفيهم إبراهيم الإمام، ثم عاد واحتال الحيلة التي ذكرناها لتنطلي حيلته على مروان بغير أن يعرفه، أو يبحث عن قبيلته أو اسمه أو غير ذلك، فلما خرج من عند مروان في تلك الليلة سار توا إلى خارج المدينة؛ حيث التقى بسليمان الحلبي، وبدل ثيابه فلبس العمامة والجبة مثل سائر أهل الشام وتظاهر بالتقوى، وأمر سليمان أن يسير في أثره كأنه خادم له، وأوصاه وصايا تنفعه في المهمة التي يهمان بالقيام بها. وذلك أنه قصد البلقاء مسرعا حتى وصل إلى الحميمة على جمله، وسليمان على جمل آخر في أثره، فلما وصل إلى الحميمة نزل في خان وتظاهر بالتقوى والولاية، وأشاع خادمه سليمان أنهما قادمان من الحجاز في مهمة لرجل سيكون له شأن عظيم اسمه إبراهيم، فلما سمع أهل الحميمة ذلك خشي الذين يعرفون صاحب الدعوة من صالح؛ لئلا يكون قادما بدسيسة، فأنكروا وجود هذا الاسم. وكان بعضهم يجتمعون إليه في الخان يتجسسون ما في نفسه بغير أن يخبروه عن منزل الإمام، فكان صالح يتظاهر بالبله ويقول: «تكبدت مشقة السفر من الحجاز إلى الشام لأرى الإمام وتمنعونني عنه، وأنا إنما جئت لأنبئه بهاتف أخبرني أن حياته في خطر قريب حتى يحترس.» ولم يقل صالح ذلك إلا حينما تحقق قرب وصول رجال مروان بحيث لم يعد في إمكانهم الفرار من أيديهم، فلما بلغ الإمام قوله أرسل إليه أخاه أبا العباس متنكرا كأنه أحد أهل المحلة، فقدم إلى الخان وسمع أقوال صالح من فمه، فلم يهتم بها؛ إذ لم يثبت عندهم أنه من أهل الكرامة.
ولم يمض على ذلك يومان حتى جاءت جنود مروان بغتة، فأحاطوا بالمحلة حتى دلهم بعض أهلها على دار بني العباس، وهم كثيرون، فقاوموا الجند حتى كادت تكون مذبحة، فقال رئيس تلك الشرذمة: «إن أمير المؤمنين يطلب أحدكم الذى يسمى إبراهيم، ولا خوف عليه ولا بأس عليكم جميعا، فسلموه إلينا بلا قتال. أما إذا اضطررتمونا للقتال، حل لنا أخذكم جميعا.»
فتذكر أبو العباس كلام صالح وتبين له صدقه، ولكن لم يعد عندهم حيلة للنجاة، فتشاوروا فيما بينهم سرا، فاستقر رأيهم على تسليم الإمام إبراهيم فسلموه. وكان إخوته ثلاثة: أبا العباس، وأبا جعفر المنصور، وعبد الوهاب، فتحقق إبراهيم أنه مقتول، فأوصى بالخلافة بعده إلى أبي العباس، وأمرهم أن ينتقلوا إلى الكوفة وفيها شيعتهم.
الفصل الثالث والستون
أبو جعفر المنصور
وكان صالح قد علم بالقبض على إبراهيم ففرح لنجاح مسعاه، وتربص إلى الغد ليسرع إلى أبي سلمة ليخبره بما حدث، فلما أمسى المساء جلس للعشاء وهو لا يزال بملابس أهل الشام، وقد تنكر وصبغ لحيته بالحناء وجعدها بعد أن حشاها بالشعر؛ لتذهب خفتها، وتظاهر بالبله، وجلس بعد العشاء في حجرته يتوقع أن يأتيه بعض أهل الإمام للاستشارة، بعد أن تحققوا من صدق نبوءته، وإذا بخادمه سليمان قد دخل وهو يقول: «إن بالباب رجلا شريفا يطلب مقابلتك.» فتظاهر بعدم رغبته في المقابلات في تلك الساعة؛ لانشغاله بالصلاة، ثم أذن للقادم، فدخل عليه شاب أسمر اللون، نحيف البدن، عليه قباء أصفر وعمامة سوداء، والهيبة تتجلى في وجهه مع صغر سنه.
فلما دخل علم صالح أنه أبو جعفر المنصور - وكان قد عرفه من قبل، والمنصور لا يعلم - فقال صالح في نفسه: «إنما جاء الرجل لأمر هام.» فأعمل فكرته لإتمام الحيلة، فوقف له ورحب به قائلا: «مرحبا بصاحب القباء الأصفر.»
فلما سمع المنصور قوله بغت وتحقق من كرامته واطلاعه على الغيب، فأسرع إليه واستأذنه في الجلوس، فجلسا وصالح يبتسم كأنه يضمر شيئا، فقال له المنصور: «لقد جئتك في مهمة سرية؛ لأني تحققت من كرامتك، فهل أبوح لك بما في نفسي؟»
قال: «سواء عندي أبحت أم كتمت، فإني عالم بما في نفسك؛ فإذا أحببت أن أطلعك على ما في ضميرك فعلت، وإذا شئت أن تقول فإني سامع.»
فازداد المنصور إعجابا بالرجل وقال: «قد تحققت من صدق كرامتك من أول كلمة سمعتها منك، وإنما أطلب إليك أن تخرج خادمك لنخلو برهة.»
فأشار صالح إلى الخادم فخرج، وأخذ صالح يعبث بلحيته وهو مطرق يجيل عينيه في جوانب الحجرة كأنه يفتش عن ضائع، ثم تمتم ليوهم جليسه أنه يصلي، فابتدره المنصور قائلا: «أتعلم لماذا جئتك؟»
وكان صالح يعلم أن هؤلاء لا يهجسون بغير الخلافة، وكل منهم يطمع فيها لنفسه، فقال له: «جئتني لأمر يتعلق بالخلافة.»
قال: «نعم. لذلك جئتك؛ فاصغ لي وأشر علي، ولكن أخبرني قبل كل شيء هل أنت تستطلع الغيب بالولاية أو بالتنجيم؟» وكان المنصور شديد الاعتقاد بالتنجيم وصدق المنجمين.
فقال صالح: «بكليهما؛ لأني أمارس التنجيم الروحاني فأطلع على المخبآت بمراقبة النجوم، ولكنني لا أستخدم الأسطرلاب. تفضل قل ما تريد فإني سامع.»
قال: «قد عرفت صدقك من إنذارك إيانا في صباح هذا اليوم، ولم يسعدنا الحظ بالاطلاع على الحقيقة إلا بعد فوات الفرصة، فأخذوا أخي الإمام إبراهيم أسيرا، ولا ندري ماذا يكون مصيره، غير أننا لا نرجو بقاءه. وقد أنبأنا هو بذلك، وأوصانا وصية تتعلق بالبيعة.»
فقطع صالح كلامه وقال: «البيعة لك.» لعلمه أن تلك البشارة أفضل ما يتقرب به الناس من هؤلاء الأشراف.
فقال: «وما أدراك أنها لي؟ فقد بويع بها أخي أبو العباس الليلة.»
قال صالح: «بل هي لك، إن لم يكن عاجلا فآجلا.» قال ذلك خداعا للمنصور؛ لعلمه أن قوله يجتذب قلبه نحوه، وما ضره لو لم تصح نبوءته وقد أجل وقوعها لوقت لم يحدده؟!
وكان المنصور من أهل الذكاء والدهاء، ولكنه سبق إلى اعتقاده صدق صالح من أول نبوءة، وتوسم الولاية في وجهه بما شاهده من بلاهته، فقال له: «إنما جئتك لهذه الغاية، وقد تحققت من صدقك منذ ناديتني بصاحب القباء الأصفر.»
ولم يكن صالح قد قال ذلك لغرض، ولكن اتفق أن لهذه العبارة حكاية أخذ المنصور يقصها عليه؛ فقال وهو يشير إلى قبائه: «إن هذا القباء يشهد بصدقك؛ فقد اجتمع بنو هاشم منذ مدة في المدينة وأنا معهم للنظر في أمر البيعة لمن تكون بعد ذهاب دولة بني أمية، وكان الإمام جعفر الصادق حاضرا فقال: «لا ينال الخلافة إلا صاحب القباء الأصفر.» وكنت لابسا هذا القباء، فوعدت نفسي بهذا الأمر، ورتبت العمال من تلك الساعة.»
1
ففرح صالح لهذه المصادفة وأخذ يستخدم دهاءه لإتمام الحيلة فقال: «ألم أقل لك ذلك؟»
قال: «نعم، ولكن الواقع خلاف ما ذكرت؛ فقد بايعوا قبلي لأخي إبراهيم، ولما ساقوه اليوم إلى السجن بايع لأخي أبي العباس، وأوصانا أن نذهب إلى شيعتنا في الكوفة.»
فقطع صالح كلامه كأنه لا يريد أن يسمع قوله وقال: «لا، لا، بل أنت الخليفة. هذا الذي أعرفه ولو بويع بها كل أهلك، فإنها صائرة إليك. أبشر بها من الآن، وسترى ونرى إن شاء الله.» قال ذلك ووقف كأنه يريد أن يصرف جليسه، فلم يعبأ المنصور بتدلله؛ لعلمه أن أهل الكرامة يغلب فيهم غرابة الطباع، فوقف وهو يقول: «ما بالك؟»
قال صالح: «لقد آن وقت رجوعي إلى بيتي.»
فقال المنصور: «ألا تمكث معنا فنذهب سويا إلى الكوفة، فإذا صح قولك كافأناك؟»
فقال صالح: «يا حبذا ذلك! ولكنني مضطر للذهاب إلى المدينة بجوار قبر الرسول، وأما الكوفة فلا أعرفها، ولا أريد الذهاب إليها.»
قال المنصور: «أتشير علينا بالذهاب إليها؟»
قال صالح: «كيف لا وفيها أبو سلمة؟»
فاستغرب معرفته اسم أبي سلمة بعد أن قال إنه لا يعرف الكوفة، فقال له: «أما من سبيل إلى استبقائك معنا؟»
قال صالح: «إن بقائي أو ذهابي ليس بإرادتي؛ فقد كنت مقيما في المدينة، ولا أعرف هذا البلد من قبل، فسمعت الهاتف يأمرني بالمجيء بهذه المهمة، ووصف لي البلد فجئت كما علمت، ولكنكم لم تصدقوني فأصابكم ما رأيت، وربما يأتيني هاتف آخر بأمر يتعلق بك فآتيك حيثما تكون. أما الآن فأطلب إليك أن تأذن في انصرافي.»
وكان المنصور مع اعتقاده بالولاية والتنجيم صاحب دهاء ومكر، فلما رأى صالحا يبالغ في التباعد عنه بعد أن طلب إليه البقاء معه، تحقق أن الرجل لا غرض له غير الصدق؛ إذ لو كان من أهل النفاق لاغتنم تلك الفرصة للبقاء معه، ولا سيما بعد اعتقاده أنه سيكون خليفة، فغلب في ظنه صدقه، وود لو يرافقه ليستعين به في الاطلاع على المخبآت؛ لأن المنصور شديد الاعتقاد في التنجيم ، كثير الاعتماد على المنجمين،
2
فلما لم ير حيلة في إبقائه قال له: «ما اسمك؟ وأين مقامك؟ حتى إذا وفقت إلى الخلافة قربتك واستعنت بعلمك؟»
فقال صالح: «لا تفيدك معرفة اسمي ولا مكاني. دعني أنصرف الآن وسآتيك عند الحاجة، وربما جئت عاجلا؛ لأني أشعر بظلمة تحدق بخلافتك إذا انقشعت ظهرت الحقيقة. أما الآن فإني منصرف.» قال ذلك ونادى غلامه، فقال المنصور: «إذا كنت مصمما على الذهاب فأستودعك الله.» وخرج.
الفصل الرابع والستون
اقتل ثم اقتل
وكان صالح لما علم بعزم أبي العباس وإخوته على الذهاب إلى أبي سلمة أحب أن يستعجل إليه؛ ليخبره بما كان فيدبر حيلة لإتمام ما ينويانه على آل العباس، فأصلح لحيته وبدل ثيابه، فرجع إلى حاله الأول، وأمر خادمه سليمان أن يهيئ الجملين، وأغلق باب الحجرة على نفسه، ومكث يدبر بعض الأشياء، فلما فرغ سليمان من إعداد الجملين ذهب إلى صاحب الخان، فدفع إليه أجرة الحجرة وثمن العلف، ولبث ينتظر خروج صالح وهو منذهل من دهائه واحتياله حتى أصبح لا يجرؤ على مخاطبته، فطال انتظاره وقد أمسى المساء وهو لا يعلم ما يعمله مولاه داخل الحجرة، ثم خشي أن يكون احتباسه لسوء أصابه، فتقدم نحو الحجرة وهو يخطو خطوا خفيفا، ويتطاول بعنقه، ويصيخ بأذنيه؛ لعله يسمع حركة أو صوتا يستدل به على شيء، فوصل إلى الباب فرأى من بعض شقوقه نورا ضعيفا، ولكنه لم يسمع صوتا فوقف يتسمع وهو يتردد بين أن يقرع الباب أو ينتظر وهو صامت، فإذا هو بالنور قد انطفأ، وسمع وقع أقدام فعلم أن صالحا خارج، ثم ما لبث أن رأى الباب قد فتح وأطل منه رجل طويل القامة، حاسر الرأس، حافي القدمين، عاري الزندين، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته، وتلبد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، والقذارة ظاهرة على كل شيء فيه، فبغت سليمان لأول وهلة، ثم تذكر أنه رآه في هذه الصورة منذ بضعة أيام.
أما صالح فإنه أسرع إلى عباءته والتف بها، وغطى رأسه ولحيته، وأشار إلى سليمان فخرج معه إلى الجملين، فركبا وخرجا من الخان حتى أمسيا خارج المحلة وهما صامتان لا ينطق أحدهما بكلمة، ثم قال صالح: «يا سليمان، أتعلم إلى أين نحن ذاهبان؟»
قال سليمان: «أظننا ذاهبين إلى دمشق.»
قال صالح: «نعم، إننا ذاهبان إليها كالمرة الماضية، فتبقى أنت في انتظاري خارج المدينة ريثما أعود إليك.»
فقال سليمان: «سمعا وطاعة.»
وساقا الجملين طول ذلك الليل واليوم التالي وما بعده من غير أن يستريحا إلا قليلا، وما زالا حتى اخترقا الغوطة وأشرفا على دمشق نحو الغروب، فإذا بغبار يتطاير قرب باب المدينة فوقفا، وقال صالح: «أسرع يا سليمان وأتني بخبر هذا الغبار؛ فإني في انتظارك هنا، واحذر أن يعلم أحد بحقيقة حالنا.»
فهز سليمان رأسه استنكارا لذلك التحذير، واتجه بجمله نحو المدينة. وظل صالح في انتظاره وهو على جمله، وقد التف بالعباءة. ولم تمض برهة حتى رآه عائدا، فلما أقبل عليه قال: «ماذا رأيت؟»
فقال سليمان: «رأيت معسكر الخليفة مروان بن محمد.»
فقال صالح: «والخليفة معهم؟»
فقال سليمان: «نعم.»
فقال صالح: «هل علمت سبب خروجهم؟»
فقال سليمان: «علمت أنهم عسكروا هنا تأهبا للسفر في صباح الغد.»
فقال صالح: «إلى أين؟»
فقال سليمان: «أظنهم ذاهبين إلى حرب في بلاد بعيدة؛ لكثرة ما أعدوه من الأحمال والأثقال.»
فأطرق صالح وقد أدرك أن مروان خارج لقتال شيعة العباسيين في العراق، بعد أن تحقق من استفحال أمرهم على أثر دخولهم مرو، وزحفهم نحو العراق، فترجل وأشار إلى سليمان فنزل وجلس في ظل شجرة والليل قد أسدل نقابه، وقدم سليمان طعاما كان قد حمله من الخان، فأكلا حتى إذا فرغا من الطعام قال صالح: «إني ذاهب في مهمة إلى هذا المعسكر، فامكث أنت هنا ريثما أعود إليك، وأطعم الجملين، وكن مستعدا للرحيل.»
فقال سليمان: «سمعا وطاعة.»
ونهض صالح فخلع العباءة، فظهر بزيه الجديد، وشعره المجعد، وقميصه القصير وقذارته، ثم تمرغ في تراب ناعم هناك حتى كساه الغبار كأنه قادم من سفر طويل، ومشى نحو خيمة الخليفة.
وكان مروان في شغل مما بلغه من أمر الشيعة واستفحالها في فارس والعراق حتى خشي على سلطانه، وقد أجل سفره حتى جاءه الخبر بالقبض على الإمام إبراهيم في صباح ذلك اليوم، فأمر أن يحبسوه في حران، وخرج بجيشه ليبيتوا تلك الليلة في الغوطة ثم يبكرون في صباح الغد. فلما فرغ من العشاء صرف أمراءه وجلس في فسطاطه يدبر شئونه، وكان مشتغل الخاطر كثير القلق لما أحاط به من المشاغل، فلم يستطع نوما. وبينما هو في ذلك إذ جاءه الحاجب يخبره بمجيء الناسك المعروف، فبغت مروان لأول وهلة، ثم شعر براحة واطمئنان عند ذكر اسمه وقال: «ليدخل حالا.»
وما لبث أن دخل صالح في الحالة التي ذكرناها، فرحب به مروان ولم يجرؤ أن يدعوه للجلوس، فابتدره صالح قائلا: «لقد كابدت مشقة كبرى وسفرا طويلا حتى تمكنت من الوصول إليك قبل سفرك.»
فقال مروان: «لعلك جئتني ببشرى جديدة؟»
فقال صالح: «ليست هي بشرى جديدة يا ابن محمد، ولكنني علمت أنهم قبضوا على ذلك الرجل، وأنك حبسته في حران، فإذا أبقيت عليه فإنك لم تفعل شيئا. اقتل، ثم اقتل، ثم اقتل.»
فأطرق مروان ولم يستغرب الرأي ثم قال: «طب نفسا واعلم أنه مقتول.»
فلما سمع قوله تحول يريد الخروج، فأراد أن يدعوه للجلوس، فتذكر ما كان من إنكاره ذلك في المرة الماضية، فلبث صامتا وهو يرى صالحا يسير نحو باب الفسطاط في خطوات طويلة، ورأسه متجه نحو السقف حتى خرج من الباب، ولم يلتفت إلى الوراء.
فعاد مروان إلى هواجسه وقد اطمأن خاطره من بعض الوجوه، وارتاح إلى رأي الناسك، ومال إلى الاعتقاد في كرامته، مع أنه كان من أهل الشكوك في الدين، ولكن الإنسان مفطور على الضعف وحب الذات، فإذا رأى حادثا وافق غرضه - وإن كان مخالفا لاعتقاده - يغلب عليه ضعفه فيصدق المستحيل.
الفصل الخامس والستون
حاييم المنجم
رجع صالح وقد تحقق أن إبراهيم مقتول بعد قليل، وأخذ يفكر في أمر إخوته وذهابهم إلى الكوفة، وما يكون من أمر أبي سلمة، حتى إذا عاد إلى خادمه سليمان وجده في انتظاره وقد أعد الجملين، فركبا وسارا مسرعين. وقبل خروجهما من الغوطة، ترجل صالح عند بحيرة هناك اغتسل فيها، وأصلح شعره، ولبس ثيابه، وتلثم بالكوفية، والتف بالعباءة، وسار يطلب العراق وهو يكاد يواصل السير ليلا ونهارا حتى لا يسبقه العباسيون إلى أبي سلمة. وبعد مسيرة أيام، أشرف في الصباح على الكوفة فأطل على حمام أعين، فرأى قصورها وحدائقها وفساطيطها، وتذكر المهمة التي جاء من أجلها، فأيقن أنه فائز بتحقيق هدفه في إخفاق أمر العباسيين؛ لمقتل إبراهيم ومجيء إخوته وسائر أهله إلى أبي سلمة، فيهون عليه إغراؤه بقتلهم أو حبسهم، فتذهب دولتهم، ويقوى الشيعة على أبي مسلم فيفشل، ويسهل عليه الانتقام منه.
فاستراح في ظل شجرة هنيهة، ثم ركب مسرعا إلى حمام أعين، وأمر سليمان أن يذهب إلى جلنار ليخبرها بمجيئه، وسار توا إلى منزل أبي سلمة وهو لا يزال ملثما بالكوفية وملتفا بالعباءة، فلما وصل إلى الباب ترجل وأراد الدخول، فاعترضه الحراس ومنعوه من التقدم، فاستخف باعتراضهم وقال لهم: «أخبروه أني رسول أحمل إليه كتابا.»
فقال أحدهم: «لا يستطيع أحد أن يخاطبه في شيء الآن.»
فقال صالح: «ولكنني رسول جئت بخبر هام لا ينبغي تأجيله.»
قال: «مهما يكن من أمر رسالتك، فنحن مأمورون بمنع أي إنسان من الدخول عليه؛ لانشغاله بمقابلة سرية.»
فاضطرب خاطر صالح بتلك المقابلة مع هذا التشديد في منع الداخلين عليه، ولم ير بدا من الطاعة، فتحول إلى مقعد بجانب الباب وحل عقال كوفيته تخفيفا من وطأة الحر، وجلس يفكر فيما سمعه، ثم سمع تصفيقا ورأى الحراس على أثره في حركة واهتمام، وقد دخل أحدهم ثم عاد يتقدمه رجل قصير القامة، غريب الملبس، عليه عمامة كبيرة جدا، وقد كحل عينيه بكحل كثير، وأرسل سالفيه على صدغيه، وجعل لحيته شطرين، أرسل كل شطر منهما إلى جانب من صدره، وعليه جبة من الخز واسعة، وبيده عكاز يتوكأ عليه، ووراءه غلام، وقد علق على إحدى كتفيه جرابا مزركشا، وحمل أسطرلابا كبيرا، وتأبط كتابا ضخما، فلما رآه صالح اختلج قلبه في صدره من البغتة؛ لأنه يشبه صاحبه إبراهيم اليهودي خازن أبي مسلم، فتفرس فيه وقد دهش، وكاد الدم يجمد في عروقه؛ إذ تحقق أنه إبراهيم بعينه، وندم على حل لثامه مخافة أن يراه فيعرفه وينكشف أمره.
أما إبراهيم فإنه خرج وهو يمشي الخيلاء يضرب الأرض بعكازه ويلتفت يمينا وشمالا، والحرس وقوف بين يديه هيبة واحتراما، فوقع بصره على صالح، فتفرس فيه حينا وقد امتقع لونه عند رؤيته، ولكنه تجاهل وظل سائرا إلى بغلة عليها عدة موشاة بالديباج أسرع بعض الغلمان في تقديمها إليه، وساعده غلامه في الوثوب على ظهرها، ولم تكن إلا لحظة حتى ركبها وسار.
وظل صالح واقفا وقد تولته الدهشة، ثم انتبه لحاله وقال في نفسه: «ما الذي جاء بهذا الخبيث إلى هنا؟ لا بد أنه قادم بدسيسة؟» ثم التفت إلى الحاجب وقال: «هل تظن مولانا يأذن بدخولي عليه الآن؟»
فدخل الحاجب ثم عاد فدعا صالحا، فدخل حتى أقبل على أبي سلمة في قاعة كبيرة - كان جالسا وحده على وسادة في صدرها - وقد ظهر الاهتمام على وجهه، فلما رأى صالحا مقبلا ابتسم له، ورحب به، ودعاه للجلوس إلى جانبه، فهم أولا بتقبيل يده احتراما ثم جلس، فابتدره بالسؤال عن حاله وسلامته، فأجابه بالدعاء، فقال أبو سلمة: «أرجو أن تكون قد فزت في مهمتك ليتم سرورنا في هذا اليوم.»
فقال صالح: «لقد نجحت في مهمتي أحسن نجاح بفضل بركتك ودعائك، فهل نحن في مأمن من الرقباء؟»
فقال أبو سلمة: «نحن في مأمن. قل ما بدا لك.»
فقال صالح: «أتقدم إلى مولاي بسؤال أرجو ألا يضجر منه.»
فقال أبو سلمة: «اسأل؛ فإنك مطاع.»
فقال صالح: «العفو يا مولاي. إنك أنت الآمر الناهي، ولكنني رأيتك منبسط الوجه على غير ما تعودته من ظهور الاهتمام والقلق في محياك منذ تشرفت بالمثول بين يديك في المرة الماضية، فهل من خبر جديد يدعو إلى السرور؟»
فضحك أبو سلمة وقال: «ليس ثمة خبر جديد، ولكن عرافا باهرا جاءني في هذا الصباح رأيت منه العجائب ، وتحققت أنه من أمهر العرافين إلى حد بعيد.»
فقال صالح: «أظنه الرجل الذي خرج من عندك الساعة؟»
فقال أبو سلمة: «هل رأيته خارجا؟ نعم هو هذا بعينه. إنه العراف حاييم؛ من يهود حران، وله مهارة عجيبة في علم التنجيم.»
فقال صالح: «وكيف عرفت ذلك؟»
فقال أبو سلمة: «عرفته مما شاهدته من كشفه الأسرار؛ فقد أخبرني عن أمور خفية لم يكن يعلمها أحد غيري، حتى ذكر لي مجيئك إلي، وتلا علي بعض ما حدثتني به.»
فلما سمع صالح قوله أجفل، وتحقق أن ذلك اليهودي قادم للبحث عنه، ولكنه استغرب اطلاعه على وجوده هناك، وعلى ما دار بينه وبين أبي سلمة، وخشي أن يبدو ذلك في وجهه، فتجاهل وأظهر الاستخفاف وقال وهو يضحك: «وما الذي قاله لك؟»
قال أبو سلمة: «أخبرني قبل كل شيء عما يكنه ضميري من أمر هؤلاء العباسيين وتعديهم على الخلافة، فأنكرت ذلك عليه لئلا يكون قادما بدسيسة من أحدهم، فاستخف بإنكاري وظل على قوله، وبرهن على صدقه بأقوال لم يكن أحد يعلم بها سواي، وبعضها لم يطلع عليه أحد سواك، ومن جملة ذلك أنه ذكر مجيئك إلينا ومعك ابنتنا جلنار، وقص ما أصابها من الأذى على يد أبي مسلم، ورأيته ناقما على هذا الخائن؛ لغدره بها، مع أنه لم يعرف الفتاة ولا أبا مسلم ولا رآهما، وأنك أخبرتني أن حديث جلنار ووالدها المسكين لم يطلع عليه أحد، وقد أوصيتني بحفظه مكتوما. وكان لا يقول شيئا إلا بعد مراجعة كتابه، واستعمال أسطرلابه. فلما رأيت منه صدق هذه الأقوال وثقت به، وسألته عما يراه من مستقبل هذه الأحداث، فطمأنني وبشرني.»
فلم يتمالك صالح عن قطع كلام أبي سلمة قائلا: «هل أخبرته عن المهمة التي ذهبت بها إلى الشام؟»
فقال أبو سلمة: «لم يترك لي بابا لأخبره عن شيء، بل هو كان يخبرني عما في نفسي حتى قال لي: إن المهمة التي سار بها صاحبك (يعني أنت) لا ريب في نجاحها.»
فاستعاذ صالح بالله وأيقن أن إبراهيم إنما أتى بدسيسة من أبي مسلم للبحث عنه وعن جلنار، ولكنه استغرب اطلاعه على تلك التفاصيل، فانقبضت نفسه، وأسقط في يده، ونسي فرحه بقتل الإمام إبراهيم، وأطرق مبهوتا ولم يحر جوابا، فأنكر أبو سلمة حاله فقال له: «ما لي أراك صامتا لا تتكلم؟ أخبرني عما فعلته في سفرك.»
فقال صالح بصوت ضعيف يكاد يكون مختنقا: «ما الفائدة من نجاحي في مهمتي بعد ما سمعته منك؟»
فبغت أبو سلمة ولم يفهم مراده فقال: «وما الذي سمعته مني؟ إنه ليزيدنا سرورا ويطمئننا على حسن العاقبة.»
فقال صالح وقد ترقرقت الدموع في عينيه من شدة الغيظ: «كلا يا مولاي، وإنما هو يذهب بمساعينا أدراج الرياح، ويجعل حياتنا في خطر.»
فازداد أبو سلمة دهشة لما سمعه ولم يفهمه، وصاح في صالح: «ولماذا؟ قل يا صالح؛ فقد شغلت خاطري بما لم أفهم.»
فقال صالح: «إن العراف الذي ذكرته يا سيدي سينقل كلامك إلى أبي مسلم، وربما زاد من عنده ما يضاعف ذنوبنا، وأنت تعلم عاقبة الشكوك عند ذلك الرجل.»
فتطاول أبو سلمة بعنقه، وحملق بعينيه، وتحفز كأنه يهم بالوثوب وقال: «إلى أبي مسلم؟ وما شأنه مع يهودي من أهل حران؟ أظنك واهما؟»
فقال صالح: «لست واهما - يا مولاي - فإني أعرف الرجل معرفة جيدة، وهو من أتباع أبي مسلم، بل هو من أكبر ثقاته، ومن أمضى أدوات القتل عنده.»
فقال أبو سلمة وقد تلعثم لسانه من شدة التأثر: «أفصح؛ لقد شغلت بالي.»
فقال صالح: «قد عرفت هذا اليهودي خازنا عند أبي مسلم، وعلمت من دهائه ومكره ما أكد لي أن أبا مسلم يعول عليه في التجسس على الأمراء بالاحتيال. لا ريب عندي في ذلك مطلقا.»
فقال أبو سلمة: «وما العمل الآن؟»
فقال صالح: «لا بد من القبض عليه أو قتله حتى لا يستطيع إبلاغ خبرنا إلى أبى مسلم.»
فقال أبو سلمة: «نعم الرأي ما رأيت.» ثم صفق فدخل حاجبه، فقال له: «هل تعلم المكان الذي سار إليه العراف الحراني؟»
فقال الحاجب : «كلا يا مولاي، ولكنني رأيته ركب نحو الكوفة، وقد ساق بغلته بسرعة كبيرة.»
فنظر أبو سلمة إلى صالح كأنه يستطلع رأيه، فقال صالح: «أظنه نازلا في بعض الحانات هناك، أو في بعض منازل اليهود أو معابدهم.»
فالتفت أبو سلمة إلى الحاجب وقال: «ادع لي أبا ضرغام العيار.»
فخرج الحاجب وقد استغرب صالح طلب أبي سلمة فقال له: «وهل تنوي إرسال العيار في طلب اليهودي؟»
فقال أبو سلمة: «نعم، فإن هذا العيار وجماعة تحت أمره من نخبة العيارين قد ادخرتهم لمثل هذه المهمة؛ لسرعة حركاتهم واطلاعهم على خفايا الناس.» ولم يتم كلامه حتى عاد الحاجب ووراءه رجل عاري الصدر والظهر، مكشوف الرأس، حافي القدمين، وليس عليه من الثياب إلا سراويل قصيرة من الخيش المتين كالجلد، وقد علق بكتفه مخلاة مملوءة بالحصى، وفي يده اليمنى مقلاع، وفي يده اليسرى قطعة من الخبز، وهو يمضغ كأنه دعي وهو على المائدة فنهض وبقية الطعام في يده، فوقف بين يدي أبي سلمة بغير احترام كأنه واقف مع بعض رفاقه على ضفة الفرات، فابتسم له أبو سلمة وقال: «هل تعرف الكوفة يا أبا ضرغام؟»
فضحك أبو ضرغام وقال: «وكيف لا أعرفها؟!»
فقال له أبو سلمة: «أرأيت العراف الذي جاءنا في هذا الصباح وخرج من عندنا الآن؟»
قال أبو ضرغام: «هل تعني اليهودي المكحل صاحب العكاز؟ لقد رأيته خارجا ووراءه غلامه، وقد أعجبني الجراب الذي كان يحمله؛ فإنه يصلح لحمل الحصى!»
قال أبو سلمة: «هل تستطيع أن تأتيني به ولك جرابه، وملء جرابه مما تشتهي. لقد ذهب الرجل إلى الكوفة، وهو إما في بعض الحانات أو عند بعض اليهود.»
فقال أبو ضرغام: «إني أسوقه إليك كما تساق الغنم للذبح؛ فاذبح، أو ضح، أو اعف؛ فإنك صاحب الشأن، ولكن هب أني لم أستطع إحضاره حيا، فماذا أفعل؟»
فقال أبو سلمة: «أحب أن أراه وأخاطبه؛ فالأفضل أن يكون حيا. وهل يعسر عليك ذلك؟»
فهز العيار رأسه وضحك ثم قال: «يعسر علي؟! كلا، فإني أحضره إليك ولو كان في الجحيم . وهب أنه طار في الهواء، فإني أرسل إليه حجرا بهذا المقلاع أصيب ما شئت من مقاتله فيسقط، فآتيك به صيدا حلالا.» قال ذلك وأشار إلى المقلاع الذي بيده.
فضحك أبو سلمة وقال: «فاذهب سريعا، واحذر أن يفوتك، واذكر أن جرابه لك وفيه ما شئت من مال أو تحف.»
فمشى أبو ضرغام وهو يقول: «لا يهمني ملؤه من المال، وإنما يهمني أن أملأه من الحصى الملساء المناسبة لمقلاعي.»
الفصل السادس والستون
غدر وفتك
فلما خرج العيار، عاد أبو سلمة إلى مخاطبة صالح وقد انشرح صدره بعد ذلك الانقباض؛ لأنه لم يخامره شك في نجاح أبي ضرغام، فقال: «لا يلبث هذا اليهودي أن يأتيك صاغرا؛ فافعل به ما تشاء. أخبرني الآن عما فعلته في الشام؟»
وكان صالح قد اطمأن خاطره أيضا وسري عنه، فقص على أبي سلمة حديث سفره من أوله إلى آخره، فأعجب بدهائه ومكره غاية الإعجاب، وعادت إليه آماله باسترجاع ما كاد يذهب من أمر العلويين، وقال: «هل أنت واثق من مقتل إمامهم إبراهيم؟»
قال صالح: «لا شك أنه قتل الآن، ولكن البيعة انتقلت إلى أخيه أبي العباس، فيهمنا أن نقضي على بقية أهله، فتذهب البيعة ولا يبقى من يبايعونه من العباسيين، فتفضي الخلافة طبعا إلى العلويين. وهذا محمد بن عبد الله الحسني مقيم في المدينة، وقد بايعه سائر بني هاشم من العباسيين والعلويين، على أن يكون هو خليفة المسلمين بعد ذهاب دولة بني أمية. وهذه البيعة ثابتة ولا ريب فيها.»
1
فقطع أبو سلمة كلامه وقال: «لا شك عندي في صحة هذه البيعة، وأنا على يقين أن العباس هذا وأخاه المنصور وسائر بني هاشم بايعوا محمدا المذكور، ولكنهم ينكرون هذه البيعة الآن، ولولا ذلك لما كان ثمة باعث على هذا الاختلاف.»
فقال صالح: «مهما يكن من الأمر، فإن العباس وأخوته وأعمامه وسائر أهله قادمون إليك بعد قليل، وسينزلون عندك فيكونون في قبضتك، فأرسلهم إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك.
فلم يفهم أبو سلمة مراده فقال: «ولماذا نرسلهم إلى هناك؟»
فقال صالح : «إنما أعني أن تقتلهم. وهذا تعبير تعلمناه من كبير القتلة ورئيس أهل الغدر أبي مسلم، فإنه يكني بخوارزم عن القتل، فإذا قال خذوا فلانا إلى خوارزم، علموا أنه يريد قتله.»
فضحك أبو سلمة لهذا التعبير ثم قال: «وهل تعني أن أقتل آل العباس؟»
فقال صالح: «سواء عنيته أو لم أعنه، فإن الأمر لا يتم للعلويين إلا بقتل هؤلاء، وإذا لم تقتلوهم قتلوكم.»
فأطرق أبو سلمة وهو ينظر في بساط بين يديه عليه رسوم بعض ملوك الفرس، وصالح صامت يرقب ما يبدو منه، ويرجو أن يوافقه على قتلهم؛ لاعتقاده أنها فرصة ثمينة إذا لم يغتنموها ذهب أمرهم ضياعا، مع علمه أن أبا مسلم لو سنحت له فرصة مثل هذه لاغتنمها، ولا يبالي بمن يقتل في سبيل غرضه.
ظل أبو سلمة مطرقا حينا، ثم رفع بصره إلى صالح وقال وهو يشير بسبابته إشارة النفي: «لا، لا، لا أقدم على هذا العمل الفظيع، فإني إذا أقدمت عليه ارتكبت منكرين كبيرين؛ الأول: أني أقتل جماعة من أبناء عم النبي لا ذنب لهم، والثاني: أني لا أراعي الشرف وأغدر بجيراني، بل هم ضيوفي، فكيف أقتلهم؟! كلا.»
فهز صالح كتفيه وقلب شفته السفلى، وأشار بعينيه وحاجبيه إشارة التبرؤ كأنه يقول: «افعل ما بدا لك؛ إن هذا الأمر لا يعنيني.» ثم تحفز للقيام وهو يقول: «لا أنكر عليك فظاعة هذا العمل، ولكن الدول لا تقوم إلا بمثل ذلك، وهذه وصية الإمام، لو عاملناهم بمقتضاها لجاز لنا قتلهم، فهو يقول: «من شككت فيه فاقتله.» وكم قتلوا من الناس الأبرياء ولا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في طريق تلك المطامع عرضا وهم لا يعلمون!
وأنا على يقين أن أبا مسلم لو كان في مكانك لم يضع هذه الفرصة؛ لأن الفوز مضمون؛ فالناس قد بايعوا آل محمد، وأكثرهم يعتقدون أن البيعة لأبناء علي، ولكن أبا مسلم يموه عليهم ويدعوهم إلى بيعة آل العباس، فإذا لم يبق أحد منهم فالبيعة تنحصر بالطبع في آل علي. وهذا محمد بن عبد الله في المدينة وبيعته في أعناق أولئك العباسيين، وأبو مسلم نفسه متى علم بموت أبناء العباس لا يرى بدا من مبايعة أبناء علي، وإلا فإن حروبه وفتوحه تذهب هباء، ولا يقدر هو أن ينتفع بها؛ لعلمه أن الناس لا يخضعون إلا لخليفة قرشي.»
وكان أبو سلمة قد نهض أيضا وهو يسمع كلام صالح ولا يستطيع دفعه، فقال: «لا أخفي عليك أن حجتك في هذا البحث قوية، ولكني لا أستطيع ارتكاب هذين المنكرين، ولا أقدر أن أتصور سيفا مسلولا لقتل جماعة من أبناء عم النبي. ويكفي ما دبرناه لقتل أحدهم.»
فضحك صالح وقال: «كأنك فهمت أني أريد قتلهم بالسيف جهارا كما يقتل المجرمون؟ كلا، وإنما نقتلهم بلا ضوضاء ولا بكاء، ولا يشعر أحد بفعلك. نقتلهم بالسم في اللبن أو العسل كما كان يفعل بنو أمية بأعدائهم، وإذا أكبرت أن تقتل كل القادمين عليك من بني العباس، فاقتل إخوة إبراهيم الإمام الذين يخشى نقل البيعة إليهم؛ وهم ثلاثة، أو اقتل أبا العباس الذي انتقلت البيعة إليه على الأقل، وإذا شق عليك ذلك بنفسك، فاعهد به إلي؛ فأنا أقضيه لك على أسهل السبل.»
وكانا يتكلمان وهما واقفان، وظن صالح هذه المرة أنه تغلب على رأي أبي سلمة، ولكنه ما لبث أن رآه ينكر ذلك ويستعظمه إلى أن قال: «لا أراني قادرا على ارتكاب هذه الجريمة، سواء على يدك أو يد سواك؛ فالقاتل في جميع الأحوال هو أنا، والذنب يكون ذنبي، فإذا كان عندك حيلة غير هذه فاذكرها.»
قال: «لا أرى فرصة سانحة مثل هذه، فإذا لم تغتنمها ذهب سعيك في نصرة العلويين عبثا؛ لأن أهل الفتك والغدر لا ينبغي أن يعاملوا بغير ذلك، وإلا فهم الفائزون، ولا أظنك تجهل أن عليا وأولاده وأحفاده إنما فشلوا فيما يطلبونه من أمر الخلافة لأنهم لا يستعينون في تأييد حقوقهم بغير الحق والتقوى والعدل والأريحية، وبنو أمية يطلبونها بالدهاء والفتك. وكم من فرصة مثل هذه سنحت لدعاة العلويين فعدوا اغتنامها منكرا، فذهبت هباء، وأضاعوا بذلك حقوقهم، وبعكس ذلك الأمويون ، فإنهم كانوا ينقبون عن مثل هذه الفرص، ويبذلون في سبيلها المال والرجال. فإذا أطعتني نلت ما تبتغيه وأقمت الدولة العلوية، ولم يضع أمر العلويين هذه المرة كما أضاعوه من قبل بضعف رأيهم وجبنهم، وأنت بعد ذلك مخير، وإذا خالفتني أطعتك.»
فقال أبو سلمة: «لي أسوة بالإمام علي وأهله، وأنا لا أطمع في أن أكون أحسن منهم حزما وأصوب رأيا.»
فلم ير صالح حيلة في إقناعه، فسكت وعمد إلى تغيير الحديث، وتذكر أمر إبراهيم اليهودي الخازن فعاد إليه وقال: «وهل تظن أن العيار عثر على العراف؟»
فقال أبو سلمة: «إذا كان العراف المذكور على سطح الأرض، فإنه لن يستطيع الفرار من يدي العيارين.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «هل علمت شيئا عن أبي ضرغام؟»
فقال الحاجب: «علمت أنه حينما خرج من حضرتك أشار إلى رجاله فتبعوه، وكل منهم في مثل ملبسه وسلاحه، وتلا عليهم ما أمرته به، وفرقهم في أطراف المدينة، وذهب هو إلى وسطها، ولم يعد بعد.»
فهز رأسه أن «فهمت»، وهي إشارة الإذن بالانصراف عندهم، فخرج الحاجب. وتذكر صالح جلنار فرأى أنه أبطأ عليها بعد أن بعث خادمه ليخبرها بمجيئه، فاستأذن في الانصراف، فدعاه أبو سلمة إلى البقاء ريثما يعود العيارون، فقال: «سأكون - بفضل مولاي - في أحد منازله؛ لأني لم أر جلنار بعد، ولا بد أن تكون في انتظاري على مثل الجمر.»
فقال أبو سلمة: «صدقت، وقد كنت أحسب أنك لقيتها قبل مجيئك إلي؛ فاذهب إليها وطمئنها وعزها على يتمها وشقائها.»
قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيه، فخرج صالح من بين يديه وقد لاحظ إجهاشه بالبكاء، فقال في نفسه: «إن من كان فيه حنان النساء وضعف الغلمان لا يصلح لإقامة الدول، وإنما تقام الدول بالدهاء والحزم والفتك.»
الفصل السابع والستون
الفشل
وظل سائرا حتى وصل إلى دار النساء - وهي على مقربة من قصر أبي سلمة - فالتقى بسليمان، وكان واقفا بالباب ينتظر مجيئه، فسأله عن جلنار فقال: «هي في خير، ولكنها قلقة لطول غيابك، وكانت تتوقع سرعة مجيئك إليها .»
فقال صالح: «إنما تأخرت لأمر هام. أين هي الآن ؟»
قال سليمان: «هي في هذه القاعة ومعها ريحانة.» وأشار إلى قاعة داخلية.
فقال صالح: «ادع لي أحد الخصيان.»
فذهب وعاد بخصي أبيض، فوقف بين يديه متأدبا، فقال له صالح: «أخبر ضيفتكم الخراسانية أني أريد مقابلتها.» ولم يذكر اسمها لرغبته في كتمان أمرها لأسباب تقدم بيانها. ولم يكن أحد يعلم بحقيقتها غير أبي سلمة وزوجته وبعض الجواري. فذهب الخصي ثم عاد ودعاه إلى قاعة تؤدي على الخارج بباب خاص لمثل هذه المقابلة، فدخل صالح واستقبلته جلنار باسمة - وكانت لم تبتسم منذ أن انتابتها تلك المصائب - فانشرح صدر صالح برؤيتها. ولعله أظهر الانشراح لأنه يضمر أمورا هي أكبر شأنا عنده مما يظهره من رغبته في قيام الدعوة العلوية وسقوط العباسيين والأمويين، ولو خيروه لاختار ذهابهم جميعا؛ لأن الخوارج لا يرون الحكم لأحد من هؤلاء، وهو من كبار أمراء الخوارج، كما علمت، ولكن الأحوال ساقته إلى الاهتمام بشأن هذه الفتاة والانتقام لها من أبي مسلم، بل هو انتقام لنفسه؛ لأن أبا مسلم تعمد قتله، على أنه لا يبالي أن يضحي بجلنار في سبيل ذلك.
فلما دخل صالح إلى القاعة حيا تحية مشتاق، فابتدرته ريحانة بالترحاب والسؤال عن حاله إلى أن قالت: «لقد شغلت بالنا بتأخرك إلى الآن. وقد أخبرنا سليمان أنك أتيت منذ عدة ساعات.» قالت ذلك وفي صوتها نغمة العتاب.
فقال صالح: «كان ينبغي لي أن أسرع بالمثول بين يدي مولاتنا الدهقانة على عجل، ولكنني أحببت أن أفاوض أبا سلمة في بعض الشئون الهامة لتدبير ما يساعدنا على إتمام ما نبتغي.»
فقالت جلنار: «قد بلغني من سليمان ما بذلته من المشقة والجهد في سبيل غرضنا، وأنك جعلت مروان الأموي يقبض على إبراهيم الإمام ويحبسه، إلى غير ذلك؛ فبورك فيك، وكنت أحب أن أسمع تفصيل هذا الخبر منك.»
فأشار برأسه إشارة الطاعة وقال: «إن سليمان لم يعرف من أعمالي إلا بعض ظواهرها. هل أخبرك بأننا قتلنا ذلك الإمام؟»
قالت جلنار: «كلا. هل قتلتموه؟»
فقال صالح: «نعم.» وقص عليها قصة سفره وما دبره من الحيل وانتحله من الأسباب حتى نجح في مهمته، فأحست بانفراج كربتها كأنها انتقمت لوالدها، وشعرت بعظم دينها لصالح حتى غدت لا تعرف كيف تبدي شكرها له؛ لاعتقادها أنه يفعل ذلك في سبيل مصلحتها. وقد سره ما بدا من سرورها، وساءه تذكر ما لا يزال يضمره من أمر إبراهيم الخازن واطلاعه على مقرهم هناك. فإذا لم يقبض العيار عليه تمكن من الرجوع إلى خراسان، وكانت المصيبة كبيرة عليها وعلى أبي سلمة. ولما تذكر خراسان خطر بباله ابن كثير، وتذكر الرسالة التي بعث بها إليه مع ذلك السائس الأبكم، والتفت إلى ريحانة وقال لها: «ألم يعد ذلك السائس من مهمته؟»
فضحكت ريحانة وقالت: «عاد منذ بضعة أيام.»
فاستغرب ضحكها، ورأى جلنار تضحك معها، كأنهما تكتمان خبرا مضحكا، فقال لها: «ما بالك تضحكين؟ ألم يبلغ رسولنا الرسالة كما يجب؟»
قالت ريحانة: «لا أضحك على ذلك، فإنه بلغها كما ينبغي، ولكنني تذكرت حاييم العراف الذي جاء معه.»
فخفق قلبه عند سماع ذلك الاسم واضطربت جوارحه وقال: «أي عراف؟ ومن هو حاييم هذا؟»
قالت ريحانة: «هو عراف يهودي من أهل حران التقى به سائسنا أثناء رجوعه من مهمته.»
فعلم صالح أنها تعني إبراهيم الخازن، فخشي أن يكون قد اطلع منها على شيء، فقال: «وما الذي أضحكك من هذا العراف؟»
قالت ريحانة: «أضحكني منه أنه خفيف الروح، كثير المجون، فضلا عن مهارته في استطلاع الخفايا بالتنجيم. إني لا أنسى حركاته في استخدام الأسطرلاب؛ فقد أضحكنا كثيرا، ولولا السائس لم يتيسر لنا الاجتماع به. وقد كان لمولاتي الدهقانة تسلية كبرى في أثناء انتظارها رجوعك. ومع خفة روحه، فإنه نادر المثال في استطلاع الخفايا، وقد رأينا منه المعجزات.»
فازداد خوف صالح وقال لها: «ما الذي كشفه لكم من الخفايا؟»
قالت ريحانة: «كشف لنا عن أشياء كثيرة، وأغرب ما في مهارته أنه كان يطلعنا على أسرارنا بالإشارة، ولا ينطق لفظا.»
فتحقق صالح أن ذلك العراف لم يكشف لهم سرا، ولكنه ساقهم إلى كشف أسرارهم بالإشارات المبهمة على عادة أولئك المشعوذين في مثل هذه الحال، فإنهم يستخدمون إشارات تنطبق على عدة معان، فإذا كان السائل يعتقد صدق العراف فسر إشارته وأولها حتى توافق ما في نفسه، فيبوح بسره وهو يحسب أن المنجم قد كشفه بمهارته، فأيقن صالح أن ذلك اليهودي اطلع على أخبارهم بالتنجيم على هذه الصورة، فاستعاذ بالله وهز رأسه، وظهر الارتباك في عينيه، فظنته ريحانة لم يصدقها فقالت: «يظهر أنك لم تصدقني، فاسأل مولاتي كيف قص عليها حديث والدها ومقتله، وفرارها معك إلى هنا حتى ذهابك إلى الشام.»
فلم يتمالك صالح أن صفق تصفيق الخاسر، ووثب من مجلسه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
فبهتت جلنار وريحانة ولم تفهما سبب وثوبه وبغتته، فقالت جلنار: «ما بالك يا صالح؟ لماذا فعلت ذلك؟»
فوقف بين يديها والغيظ يكاد يتقطر من شفتيه وقال: «لم يبق لنا مقام هنا؛ فقد افتضح أمرنا. خدعكم ذلك اليهودي الخبيث واستطلع أسراركم. لعنك الله يا إبراهيم، ولعن الساعة التي رأيتك فيها.»
فابتدرته ريحانة قائلة: «ليس هو إبراهيم، وإنما هو حاييم.»
فقال صالح: «بل هو إبراهيم اليهودي؛ خازن أبي مسلم الذي سقاني السم كما سقى ابن الكرماني وهو يرقص بجلد الدب. هذا هو بعينه، وقد رأيته في هذا الصباح خارجا من عند أبي سلمة، بعد أن كشف له عن سره أيضا، ولولاكما لم يستطع ذلك؛ لأنكما ساعدتماه على استطلاع حقيقة خبري، فساعده ذلك على خداع أبي سلمة حتى توهم فيه القدرة على معرفة الغيب، فباح له بأسراره.»
قال ذلك وهو يخطر في الغرفة جيئة وذهابا، وجلنار وريحانة تتشاوران كأنهما تندمان على الثقة بذلك العراف، وقد تولتهما الدهشة وجمد الدم في عروقهما، وغلب الخوف على جلنار حتى ترقرقت الدموع في عينيها، وساءها أن تكون هى السبب في كشف ذلك السر، فتتحمل تبعة ما يترتب على كشفه من الأذى - وليس على الإنسان أثقل وطأة من تلك التبعة ولو تحملها من نفسه على نفسه - فلما رآها صالح في ذلك الاضطراب، أراد أن يخفف عنها فقال: «ولكنني سأدبر تدبيرا حسنا وأقتله أفظع قتلة، وكل آت قريب.»
فقالت ريحانة: «وكيف تقتله؟»
قال صالح: «قد أطلعت أبا سلمة على حقيقة أمره فأنفذ بعض العيارين للقبض عليه حيا أو ميتا.»
الفصل الثامن والستون
استيقظ قلبها
فلما قال صالح ذلك لاحظ أن جلنار تنظر إلى ريحانة نظرة استحثاث كأنها تدعوها إلى التصريح بشيء تخجل هي من ذكره، فاستغرب ذلك منها وقد كان يتوقع فرحها بما ترجوه من القبض على العراف أو قتله، فنظر إلى ريحانة وقال: «ما بالي أراكما تترددان؟ هل أخطأت في رأيي في سرعة القبض على هذا الخبيث؟»
فقالت ريحانة: «كلا، فإنك فعلت الواجب، ولكن.» ونظرت إلى مولاتها فإذا هي مطرقة خجلا، فرفعت عينيها إلى صالح وقالت: «ولكن ألا يمكن تأجيل قتله يوما؟»
فاستغرب صالح هذا الاقتراح وقال: «وما معنى هذا التأجيل؟»
فالتفتت إلى مولاتها وسكتت، فازداد صالح استغرابا ووجه كلامه إلى جلنار وقال: «ما الذي تكتمانه عني؟ لعلكما تسيئان الظن بي؟»
فقال ريحانة: «حاشا لنا أن نسيء الظن بك بعد ما رأيناه من جهادك في سبيل مصلحتنا، ولكن مولاتي تود تأجيل مقتل العراف لأنه شغل بالها بكلمة قالها، ووعد بتفصيلها في غد.»
فقال صالح: «وأية كلمة؟ هل يجوز أن أعرفها؟»
قالت ريحانة: «نعم، بل يجب أن تعرفها؛ وذلك أنه لما جاءنا المرة الأخيرة وعرض ذكر أبي مسلم في حديثه نظر إلى مولاتي نظرة اهتمام وقال لها: «سآتيك غدا بخبر يسر قلبك؛ لمجيئه على غير انتظار منك، وأنا إنما أتيت هذه البلاد من أجله، ولا أحب أن يعرفه أحد.» وأحببنا أن نستزيده بيانا فأتاه خادم أبي سلمة يستدعيه إليه عاجلا، فمضى.»
فلما سمع صالح قولها، ورأى تعلق آمال جلنار بما سيقوله اليهودي لها عن أبي مسلم، ارتبك في أمره، ولم يفهم القصد منه، ولكنه خشي أن يكون أبو مسلم قد ندم على مجافاته جلنار، فأحب أن يسترضيها، فبعث بإبراهيم متنكرا لهذه الغاية. ولعله أوصاه أن يفعل ذلك خفية، وربما كان في جملة مهمته أن يستطلع مساعيه، ويتجسس أحوال العلويين ونحو ذلك. مرت هذه الخواطر في ذهنه وهو ساكت، وجلنار تنظر إليه خلسة وهي تخشى أن يجيب بالنفي، وهي تود الانتظار؛ لأنها ما برحت منذ سمعت وعد إبراهيم وهي تنتظر ساعة الموعد، وقد تحرك قلبها، وتحولت مجاري آمالها.
أما صالح فرأى من الدهاء أن يجزم بكذب إبراهيم، ويشكك في حسن نيته؛ مخافة أن يكون وراء أقواله ما يعرقل مساعيه أو يعرضه للخطر، فقال: «إني لأستغرب من مولاتي الدهقانة مع ما أعلمه من عقلها وذكائها أن تعلق أهمية على كلمة قالها هذا المنافق، وهو لا يريد بها غير التمويه ليستطلع ما بقي من أسرارنا، أو يوقعنا في الفخ. ألا تعلمين دهاء هؤلاء القوم؟ وكم غدروا بالناس على هذه الصورة؟!»
فقالت ريحانة: «صدقت، ولكننا إذا سمعنا قوله فليس من الضروري أن نعمل به. وعلى كل حال فنحن لا نخطو خطوة إلا برأيك وتدبيرك، فإذا أمكن استبقاء الرجل يوما أو يومين كان في استبقائه وسيلة لذهاب قلق مولاتي باطلاعها على ما وعدت نفسها به.»
فقال صالح: «لا بأس من استبقائه، ولكن لا حيلة لنا في ذلك وقد ذهب العيارون للبحث عنه، والقبض عليه حيا أو ميتا، فإذا جاءوا به حيا بعثنا به إلى الدهقانة، وأما إذا قتلوه فلا سبيل إلى إحيائه، على أني لا أراه إلا منافقا يريد التمويه. وإذا أطعتماني وجاءكما فانبذاه وابصقا في وجهه. ومع ذلك، فافعلا ما بدا لكما.» قال ذلك وفي صوته وملامح وجهه أمارات العتاب، فأدركت ريحانة أنه استاء من إلحاحها، وقد سبق إلى ذهنها حسن الظن به، ورأت أن مجاراته في رأيه قد تخفف قلق سيدتها فقالت: «وأنا أرى مثل رأيك، فإن هذا الرجل لا يأتي على يده غير الأذى، والأحسن أن نحذره ونسعى في القبض عليه وقتله؛ لنتخلص من شره.»
فلما سمعت جلنار اتفاق ريحانة وصالح في الرأي وافقتهما، وقد اقتنع عقلها بصواب رأيهما، ولكن قلبها ظل يتحرك فعمدت إلى السيطرة عليه بالتعقل فقالت: «دعوا المقادير تفعل ما تشاء. فإذا جاءنا حيا سألناه ونظرنا فيما يقوله ، وإذا قتل فلا حيلة لنا فيه. وعلى كل حال فأنا لا أظنه يستطيع الفرار إذا أراده؛ لأن هؤلاء العيارين صنف من الأبالسة لا يفلت منهم طائر ولا هارب.»
وعاد صالح إلى هواجسه، وأراد أن يعرف كيف جاء إبراهيم إلى الكوفة؛ لعله يستطيع بذلك معرفة الغرض الذي يهدف إليه، فقال لريحانة: «كأني سمعتك تذكرين السائس الأبكم مع هذا اليهودي.»
قالت ريحانة: «نعم، قلت لك إنه جاء به معه في عودته من مرو.»
فقال صالح: «وأين هو؟ أحب أن أراه.»
فخرجت ريحانة مسرعة ثم عادت والسائس معها وهو على حاله الذي وصفناه به قبلا، فلما دخل حيا ووقف، فسأله صالح عما تم له في سفره، فأشار بيديه وعينيه أنه وصل إلى مرو ودفع الكتاب إلى سليمان بن كثير، فسأله كيف عرف منزله، فأجاب بأن رجلا يعرفه من قبل دله عليه، فسأله عن شكل ذلك الرجل، وأين عرفه، فأشار أنه قصير القامة، وأنه عرفه للمرة الأولى في بيت مولاه الدهقان يوم نزل أبو مسلم عندهم، فترجح عند صالح أنه إبراهيم بعينه، وأنه لما رأى ذلك السائس يسأل عن ابن كثير، وتذكر أن شاهده في منزل الدهقان، ظنه قادما بمهمة من الدهقانة أو منه، فخشي صالح أن يكون قد اطلع على فحوى الكتاب، فيقع ابن كثير في هوة الشك فيتعرض للقتل، فسأله كيف دفعت الكتاب إلى صاحبه، فأشار أنه دفعه إليه سرا، وكان منفردا في حجرته، فقال: «وماذا فعلت بعد ذلك؟» فأشار إلى خروجه من مرو في صباح اليوم التالي، فلاقاه في أثناء الطريق عراف يهودي صحبه إلى الكوفة ومعه خادمه، وكان يسايره ويركبه أحيانا على بغلته، ويطعمه من طعامه، ونحو ذلك، حتى وصل إلى الكوفة.
فتحقق صالح عند ذلك أنه إبراهيم، وأنه قادم في مهمة سرية من عند أبي مسلم، نبهه إليها مجيء ذلك السائس الجاهل بالكتاب إلى ابن كثير، وأيقن أنه إذا نجا وأبلغ إلى أبي مسلم خبرهم فإنه سيقتلهم ويقتل أبي سلمة لا محالة، فأصبح همه البحث عما أفضت إليه مساعي العيارين في القبض عليه، وقد نفر من رؤية السائس وندم على إنفاذه بتلك الرسالة، فأشار إليه أن يخرج، فلما خرج تقدم صالح إلى جلنار وخاطبها بصوت منخفض كأنه يحاذر أن تسمعه جدران الغرفة وقال: «يظهر أننا أخطأنا في الاعتماد على الخدم والأعوان في شئوننا، فينبغي لنا ألا نثق بأحد، واعلمي يا مولاتي أن العيارين إذا لم يظفروا بذلك اليهودي، فإننا نكون معرضين لخطر شديد.»
فبغتت جلنار، وبدت البغتة في عينيها وقالت: «وكيف ذلك؟»
فقال صالح: «ذلك لأن إبراهيم هذا إنما جاء في مهمة سرية للبحث عنا وعن مقاصدنا، وقد نجح في مهمته نجاحا تاما، فعرف كل شيء عنا وعن هذا المسكين أبي سلمة، وعرف أننا سعينا في مقتل الإمام إبراهيم، فإذا نجا من العيارين ووصل إلى أبي مسلم، فإنه لا يدخر وسعا في السعي في قتلنا، وهو اليوم في ذروة سلطانه، ولا عبرة فيما موه به عليك من الوعد.»
فلم تستطع واحدة منهما أن تعارض هذا الرأي؛ لأنه صحيح لا ريب فيه، فارتبكتا وشعرت جلنار بقلق وخوف وقالت: «لم يكن لنا ملجأ فيما مضى سواك، وأنت اليوم ملجأنا وعوننا؛ فأشر علينا بما تراه.»
فقال صالح: «أرى أولا، وقبل كل شيء، أن نستغني عمن معنا من الخدم، فإذا انتقلنا في مكان كنا وحدنا فقط - أي نحن الثلاثة - فالآن أنا ذاهب للاستفهام عن العيارين وما فعلوه، فإذا تحققت من فشهم عدت إليكما وأخبرتكما بما ينبغي عمله، وإنما أتوسل إليكما أن تكتما ما دار بيننا، وأرغب منك يا ريحانة أن تجمعي ما خف حمله وغلا ثمنه من الأموال، وتهيئي كل شيء حتى نكون على أهبة السفر في أية لحظة أردنا. هل فهمت؟»
ثم نهض وودعهما وخرج، ودخلتا تتأهبان للرحيل وهما مضطربتان، ولا سيما جلنار، فقد أصبحت كلما تذكرت ذلك اليهودي ترتعد فرائصها وتتألم من انطلاء حيلته عليها حتى كشف أسرارها، ثم تتذكر ذهاب العيارين في أثره فيطمئن خاطرها، وريحانة مشتغلة عنها بتدبير الثياب والحلي ، وانتقاء ما خف حمله.
الفصل التاسع والستون
بنو العباس
أما صالح، فإنه خرج يلتمس قصر أبي سلمة ليسأله عما فعله أبو ضرغام ورفاقه، وقد عزم على أنه إذا رآهم قد أتوا به حيا أن يحرض أبا سلمة على قتله حالا، ويخفي ذلك عن جلنار. وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل. وقبل وصوله إلى القصر سمع ضوضاء وقرقعة وصليلا وراء بعض البيوت مما يلي طريق الشام، فالتفت إليها فرأى قافلة من الجمال يقودها حمار عليه عبد أسود، وحول القافلة بغال بسروج، عليها رجال بملابس حسنة كلهم ملتفون بالعباءات، ويكاد يزيد عددهم على العشرين غير المشاة في ركابهم من الخدم والعبيد، وفي مؤخرة القافلة بغال عليها الهوادج لحمل النساء والأطفال، ويتقدم الجميع فارس بملابس أهل الكوفة يظهر من شكله أنه خرج من الكوفة للقائهم، فتفرس في الرجل فعرف أنه من حرس أبي سلمة.
وقد فكر صالح قليلا فبدا له أنهم بنو العباس القادمون من الحميمة بعد القبض على إبراهيم الإمام، فتقدم حتى وقف بحيث يراهم وهم يمرون - والناس لا يهتمون بهم؛ لأنهم لا يعرفونهم، وقد تعودوا أمثال هذه القافلة من الضيوف ينزلون في دور لأبي سلمة خاصة بالضيوف - فأخذ صالح يتفرس في الراكبين على البغال فرأى المنصور بينهم، فتحقق أنهم بنو العباس، وتذكر ما دار بينه وبين أبي سلمة بشأنهم في هذا الصباح. وقد وقع نظر المنصور على صالح، ولكنه لم يعرفه ولا فطن له؛ لاختلاف سحنته عما كانت عليه يوم أن قابله. وكان صالح يتوسم في المنصور قوة ودهاء، ويتوقع له الخلافة بعد أبي العباس إذا ثبتت الخلافة في العباسيين. ولما بشره بالخلافة يوم مقابلته في الحميمة لم يقل ذلك عن روية ونظر، وإنما قاله لمجرد استرضائه؛ لعلمه أن كل واحد من أبناء الخلفاء وأخوتهم يعتقد أنه أحق بالخلافة، وقد يوفق إليها غير أهلها، فقال له ذلك كي يسره، فإذا صدق قوله وتولى المنصور الخلافة كانت له يد عنده، فلعله ينفعه في أمر من الأمور.
على أن صالحا كان في أثناء تلك المقابلة لا يزال يعتقد في قدرته على نقل الخلافة إلى العلويين، فلما رأى ما رآه من ضعف أبي سلمة، وعجزه عن الفتك، وتحريمه الغدر، أصبح لا يرجو للعلويين فوزا، وفترت همته في نقل الخلافة، وحصر همه في مقتل أبي مسلم انتقاما منه، وثاراته كثيرة عليه، وفي جملتها أن سقوط الخوارج إنما كان بسببه، فإذا قتله فإنه ينتقم لشيبان؛ أمير الخوارج، وسائر رجاله.
وظل واقفا حتى مرت القافلة، ولما اقتربت من دار الضيوف تقدم إليها أحد أهل القصر ليحولها إلى قصر أعده لهم في بعض أطراف المحلة، فأدرك صالح أن أبا سلمة ينوي كتمان أمرهم عن الناس، وعلم أنه لا يلبث أن ينزل لملاقاتهم أو زيارتهم للترحيب بهم، فأسرع لمقابلته قبل خروجه ليسأله عن نتيجة سعي العيارين، فسار ماشيا حتى دخل القصر وطلب مقابلة أبي سلمة فأدخلوه إليه، فرآه جالسا وقد زاد غضبه وظهر الارتباك على وجهه، فلما دخل عليه صالح لم يتمالك عن القيام بغتة، ومشى نحوه مشية مستنجد وقال: «كأننا سعينا بقتل أحد هؤلاء العباسيين أن نتحمل أثقال سائرهم. هل رأيتهم قادمين؟»
فلما أدرك صالح استياءه استبشر لعله يستطيع إغراءه على قتلهم فقال: «ولو علمت يا مولاي أنك تقف في نصرتك للشيعة العلوية عند هذا الحد، فيذهب سعيك بذلك وجهدي هباء، وتعرض حياتك وحياة سائر أهلك وأصحابك للخطر ما أقدمت على ما أقدمت عليه، مع أنك قادر في هذه الساعة أن تنقل الخلافة إلى العلويين كما أخبرتك في هذا الصباح، ولا يكلفك ذلك إلا كلمة. قل هذه الكلمة وأنا أقضي الأمر، فإنها فرصة لا ينبغي ضياعها. ووالله لو ظفر أبو مسلم بمثلها ما أغفلها، وزد على ذلك أن حياتك أصبحت في خطر إذا استبقيتهم.»
فقال أبو سلمة: «وأي خطر؟»
فقال صالح: «إذا لم يظفر عياروك بذلك العراف، وتمكن من الفرار إلى أبي مسلم، وأطلعه على خبرك، فهل تظنه يعفو عنك؟»
فقال أبو سلمة: «وهل تحسبه يقتلني؟ لا، لا، إنه لا يفعل ذلك لما يعلمه من مساعدتي له بالمال والرجال، والشيعة كلهم يعلمون أنه لولا أموالي ونفوذ كلمتي على الدهاقين وبيوت الفرس لم تقم لهم قائمة، فهل يجرؤ أحد منهم على أن يمسسني بسوء؟»
فابتسم صالح وهز رأسه قائلا: «أما أبو مسلم فيفعل، وقد فعل ذلك غير مرة. أتظنه يرقب ضميره أو يتقي المحاسبة، وقد زاده استبدادا وظلما وصية الإمام إبراهيم بأن يقتل كل من يشك فيه؟»
فاستخف أبو سلمة بنصيحة صالح وحول وجهه عنه، وسار نحو مشمعة من الذهب قائمة في وسط القاعة على كرسي من الأبنوس المطعم، وتشاغل بنزع الغبار عن قاعدتها بإصبعه وهو يقول: «لا أظن أن ذلك الغلام يبلغ طموحه إلى هذا الحد.» وهم بتغيير الحديث فقال: «هل علمت ما فعله أبو ضرغام؟»
قال: «كلا، وماذا فعل؟ فقد جئت لأسألك عن ذلك.»
قال: «عاد إلي منذ ساعتين وأخبرني أنه قلب الكوفة رأسا على عقب هو ورجاله، ولم يغادروا خانا ولا منزلا ولا كنيسة ولا حانوتا إلا دخلوه وفتشوا فيه، فلم يقفوا للرجل على أثر، ولا رأوا أحدا يعرفه، حتى حراس أبواب المدينة سألوهم عن رجل هذه صفته، فقالوا إنهم لم يشهدوا أحدا بهذه الصفة أو ما يقربها، مع أنه أكد لي أنه مقيم في الكوفة، فأمرت أبا ضرغام أن يبحث عنه في ضواحي المدينة وأرباضها، ولا يترك منزلا حتى منزلي إلا ويفتش فيه، ويسأله عن خبر ذلك العراف المنافق، ولست أدري ماذا تكون النتيجة.»
الفصل السبعون
دير العذارى
فأيقن صالح عند ذلك بإفلات إبراهيم، وأنه أسرع سرعة البرق ليبشر أبا مسلم بنجاح مهمته، ولن يتيسر لأحد اللحاق به، ولكنه تظاهر بأنه لا يزال يرجو العثور عليه فقال: «لا يبعد أن يكون هذا الخبيث قد اختبأ في بعض هذه الأرباض، فأطلب إلى الله أن يمكنك من الظفر به.» قال ذلك وودعه وخرج يبحث عن مكان يذهب إليه مع جلنار وريحانة، فرارا من فتك أبي مسلم، ريثما تتبدل الأمور، فتذكر أنه أثناء ذهابه إلى دمشق وعودته منها، مر بدير على مقربة من الكوفة يقال له دير هند ؛ أقامته هند بنت النعمان قبل الإسلام،
1
وقد عرج عليه واستراح عند بابه، وشرب من سبيل قائم بجانبه، وعلم من حارسه أنه عامر يقيم فيه الرهبان ينذرون العفة ابتغاء مرضاة الله، فخطر لصالح أن يذهب بجلنار وحاضنتها كي تقيما هناك، وهو يتردد عليهما أو يقيم في بعض الأماكن بجوار الدير متنكرا. وذلك يسير عليه. فعزم على أن يتخذ قرارا في الغد بعد أن يذهب إلى الدير ويسأل عن كيفية الدخول إليه والإقامة فيه.
فبات تلك الليلة ولم يغمض له جفن؛ لشدة ما هاج في خاطره من الغضب على إبراهيم الخازن، وكيف تمكن من كشف أمرهم، وعرقلة مساعيهم.
وفي صباح اليوم التالي، بادر إلى دير هند فوجده آهلا بالرهبان، فسألهم: هل يضيفون النساء؟ فأجابه أحدهم: «في الدير مكان للضيافة ينزل فيه من شاء على الرحب والسعة.»
فأحب أن يسأل عن الإقامة في مكان خفي لا يراهم فيه أحد إلا من أرادوه، فخشي أن يؤدي استفهامه إلى شيوع السر، وتذكر الاعتراف الشائع عند النصارى لقسسهم، وأنه سر مقدس لا يبوحون به ولو هددوا بالقتل، فرأى أن يجعل حديثه مع رئيس الدير على سبيل الاعتراف، فسأل عنه، فأخذوه إليه، فإذا هو شيخ جليل عليه ملامح الاحترام والوقار، فسلم عليه وأكب على يده كأنه يقبلها، فقبله الرئيس ودعاه إلى الجلوس، وأمر له بالطعام وبعض الفاكهة والشراب، فقال صالح: «أشكرك يا حضرة الأب المحترم على تفضلك؛ فإني لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، وأنا جئتك بسر أريد أن أبوح به إليك، وأستشيرك فيه. وقد علمت أنكم معشر القسس من رجال الله، ومستودع أسرار خلقه.»
فانشرح صدر الرئيس لهذا المديح وقال: «مرحبا بك. قل ما تريد ولا تخف.»
فقال صالح: «معي فتاة من أهل البيوت أصابتها نكبة أدت إلى فرارها من وجه الظلم، فلم تر خيرا من التجائها إلى بيت من بيوت العبادة، وقد دلنا بعضهم على هذا الدير، فهل يجوز ذلك؟»
فقال الرئيس: «كيف لا وعندنا دار خاصة بالضيوف؟! أما إذا استشرتني، فأخبرك أن دار الضيوف عندنا لا تخلو من المارة، ولا يمكننا أن نمنع أحدا من النزول بها، فلا يكون سركم في أمان تام، ولكنني أدلكم على دير للعذارى الراهبات على مرحلة من هذا المكان، وهو أجدر بإقامة النساء فيه؛ لأنه خاص ولا يقيم به الرجال، فإذا شئت أوصيت رئيسته بك، فتهيئ لها غرفة خاصة، وأما أنت فإذا اخترت أن تقيم عندنا فمرحبا بك.»
ففرح صالح بهذا التوفيق من الجانبين، وهو يعلم أن الأديرة تقوم بهبات المحسنين، فلو دفعت جلنار إلى رئيسة الدير بضع مئات من الدنانير؛ فإنها تملك قلبها، وتكون آمنة عندها، فارتاح باله لهذا التدبير وعاد إلى حمام أعين، وأراد قبل انتقاله إلى الدير أن يكمل بحثه عما فعله العيار، فسار إلى قصر أبي سلمة واستفسر منه عن ذلك، فأخبره أنهم لم يقفوا للرجل على أثر، فتحقق صالح من أن أبا سلمة وبطانته أصبحوا في خطر، فرأى أن يبعد عنه بالحيلة، فذهب إلى جلنار وأخبرها بما دبره وقال لها: «فالآن ينبغي أن نخرج من هذه المحلة خلسة بحيث لا يشعر أهلها بنا، ولا يعلم أحد بقصدنا.»
فقالت جلنار: «وخالتي لا تعلم أيضا؟»
فقال صالح: «وخالتك قبل الجميع.»
فقالت جلنار: «والخدم؟»
فقال صالح: «نعم، وكل إنسان سواك وسوى ريحانة. والسبيل إلى ذلك أن نأمر الخدم فيسرجوا الخيول، ونظهر أننا ذاهبون للتنزه على ضفاف الفرات، ونشغل الخدم والسياس بما يلهيهم عن مرافقتنا أو اللحاق بنا، ونحتج بأننا نحب التنزه على انفراد. ومتى بعدنا عن المحلة عرجنا نحو الدير، فنقيم هناك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.»
فأحست جلنار كأن حبلا غليظا التف حول عنقها، وكاد يخنقها؛ لشدة ما هاج في نفسها من أسباب اليأس؛ لاضطرارها بعد أن أقامت في منزل أبي سلمة واستأنست بخالتها وأحبها نساء القصر، أن تفر إلى دير تنقطع فيه عن الناس، ولم تر ما يخفف من همها إلا البكاء، وبكت معها ريحانة، وحتى صالح - مع ما علمته من جمود قلبه - أوشك أن يبكي معها، على أنه أخذ يخفف عنها ويقول لجلنار : «لا تيأسي يا مولاتي؛ لا بد من الأخذ بالثأر ولو بعد حين، فإن العاقل من صبر على مضض الحياة، وتربص لاغتنام الفرص. وكل آت قريب.»
فتذكرت أبا مسلم حبيبها القديم، وكيف كانت تحبه، وكيف أصبحت لا تصبر عن قتله مع ما جدده وعد اليهودي من تحريك قلبها، فهاجت عواطفها، وبكت مرة ثانية لسبب غير سبب بكائها الأول، وصالح لا يعبأ بذلك، أو هو لا يفهمه، وإنما كان همه أن يستعجل في إعداد ما يحملونه معهم إلى الدير، فقال لها: «مري الخدم أن يسرجوا لنا الأفراس.» فأمرتهم. وفي أصيل ذلك اليوم، خرج الثلاثة من المحلة يتظاهرون بالتنزه على ضفاف الفرات، وليس معهم أحد من الخدم، ولا يعرف أحد مقصدهم، حتى إذا تواروا عن الناس تحولوا نحو الدير، فذهبوا أولا إلى دير هند. وقد أعد صالح صرة فيها مائة دينار دفعها إلى رئيسه هبة للدير. وكان الليل قد أسدل ستاره، فدعاهم إلى المبيت هناك على أن يبكروا في الذهاب إلى دير العذارى فأطاعوه، فقدموا لهم من أطعمة الدير وفاكهته، فأكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة.
وفي الصباح التالي، كتب لهم الرئيس كتابا إلى رئيسة دير العذارى أوصاها فيه بالفتاة ومن معها، ودفع الكتاب إلى صالح، فحمله وذهب بجلنار وريحانة، وأرسل الرئيس معهم دليلا يوصلهم إلى الدير المذكور، فبلغوه نحو الظهر، فاستقبلتهم رئيسته أحسن استقبال، وأنزلتهم على الرحب والسعة، ولا سيما بعد ما رأت من لطف جلنار وكرمها؛ لأنها حالما وصلت إلى هناك أمرت ريحانة فدفعت إلى الرئيسة هبة من المال، فخصصت لهما غرفة فسيحة نظيفة الأثاث، وأوصت بعض الراهبات بأن تعنى بهما.
الفصل الحادي والسبعون
بيعة أبي العباس السفاح
فاطمأن صالح على جلنار، وتفرغ للنظر في شئونه، فأقام في دير هند، وكان يتردد على دير العذارى حينا بعد حين يتعهد جلنار بما تحتاج إليه، وينزل الكوفة متنكرا يتجسس الأخبار الشائعة ليتعرف على مصير الأمور، ويترقب فرصة يتمكن بها من بلوغ غايته، فعلم أن بني العباس نزلوا عند أبي سلمة، وأنه كتم أمرهم، وأهل الكوفة لا يعلمون بمجيئهم. وكان الخراسانيون قد علموا بانتقالهم إلى هناك، فجاء جماعة منهم وعسكروا خارج الكوفة عند حمام أعين، وقوادهم يبحثون عنهم. وكان أبو سلمة بعد أن أنكر على صالح الفتك بهم، عاد فنظر في أمرهم، فرأى أن السداد في رأيه، ولكنه أعظم الإقدام على قتلهم فحبسهم، وكتم أمرهم، وتوقع أن يرجع إليه صالح فيفاوضه في شأنهم؛ لعله يصمم على الفتك بهم أو ببعضهم.
وأما صالح فلم يعد يظهر لأحد قط، وكان يمر بحمام أعين وهو متنكر، فيسمع أهل أبي سلمة وخدم جلنار يذكرون فقدانها منذ خرجت مع خادمتها على ضفاف الفرات، وقد رجحوا غرقها فيه. وكان يتنكر أحيانا في ملابس الفقهاء، فيقضي يومه في المسجد يسمع أحاديث القوم، ويلبس أحيانا ملابس الجنود أو الشحاذين أو العيارين أو غيرهم، فعلم أن الناس عرفوا بمقتل الإمام إبراهيم، وضجوا في السؤال عن إخوته وأهله، ثم علم بعد أربعين يوما من مجيء العباسيين أن الخراسانيين المعسكرين بظاهر الكوفة عرفوا بوجودهم في دار الوليد بن سعد؛ مولى بني هاشم، وهي الدار التي أنزلهم فيها أبو سلمة، وأن إبراهيم أوصى بالخلافة لأخيه أبي العباس، فاتهموا أبا سلمة بأنه حبسهم هناك لرغبته في نقل الخلافة إلى العلويين.
فلما علم شيعة العباسيين بوجودهم في تلك الدار، انطلق إليهم كبير منهم اسمه أبو حميد الحيري، فلما أقبل رأى جماعة لم يعلم أيهم الخليفة فسأل: «من الخليفة منكم؟» فتقدم داود بن علي؛ أحد أعمام أبي العباس، وقال: «هذا إمامكم وخليفتكم.» وأشار إلى أبي العباس، فسلم أبو حميد عليه بالخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.» وقبل يديه وقدميه وقال له: «مرنا بأمرك.» وعزاه في إبراهيم الإمام، ثم رجع وأخبر جميع القواد وكبار الشيعة، فجاء معه منهم جماعة حتى دخلوا على أبي العباس وقالوا: «أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟» فقالوا: «هذا.» وأشاروا إلى أبي العباس، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم. فلما علم أبو سلمة بانكشاف أمر القوم، أراد أن يدخل فيبايع أبا العباس مثل سائر الناس، فمنعوه إلا أن يدخل وحده؛ لأنهم أساءوا الظن به، فدخل وسلم عليه بالخلافة.
وكان صالح يسمع في أثناء ذلك أنهم سيخرجون بالخليفة ليبايعوه في المسجد يوم الجمعة في 12 ربيع أول سنة 132ه،
1
فتنكر بملابس الفقهاء ووقف في أحد الشوارع الكبرى، فرأى أهل الكوفة قد حملوا السلاح واصطفوا في الطريق لخروج أبي العباس.
ثم رآه مارا على برذون أبلق وحوله أهل بيته على الخيول أو البراذين، والناس يتزاحمون ويتطاولون لمشاهدة الخليفة ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم
ويتبركون برؤيته. وما زال الموكب سائرا وصالح في جملة المارة حتى وصلوا دار الإمارة، ثم رأى رجلا صعد المنبر فأنصت الناس وهم يتهامسون قائلين: «هذا هو الخليفة. اسمعوا خطابه.» فنظر صالح إلى ابن العباس، فإذا هو طويل القامة، أبيض اللون، جعد الشعر أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية، ثم رأى رجلا أكبر منه سنا صعد المنبر في أثره، ولكنه قام دونه، فعلم أنه داود بن علي، ثم أطل أبو العباس على الناس والتأثر باد على وجهه، ولو رآه أحدهم عن قرب لتبين فيه ارتعاشا من الوهن والضعف، على أنه لم يكن ثمة بد من الخطبة، فقال والناس يسمعون:
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا، فأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا، عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا، بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم، فقال تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وقال تعالى:
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، وقال:
وأنذر عشيرتك الأقربين ، وقال:
وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ، وقال:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا؛ تكرمة لنا، وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت الشامية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم. ولم أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم؟! فتح الله ذلك منة وبهجة لمحمد
صلى الله عليه وسلم .
فلما قبضه الله إليه وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها موضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانتبذوها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصره، والقيام بأمرنا؛ ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا؛ فأنا السفاح المبيح.»
ولما بلغ أبو العباس إلى هنا غلب عليه الضعف، واشتدت عليه الوعكة، فجلس على المنبر وقام عمه داود فأتم الخطبة عنه بنحو هذا المعنى، وطعن طعنا قبيحا في بني أمية، وسوء سيرتهم، وامتدح أهل خراسان؛ لأنهم نصروا الحق، ثم نزل أبو العباس وعمه عن المنبر وذهبا إلى دار الإمارة. وظل أبو جعفر المنصور في المسجد يأخذ البيعة على الناس، فلم يزل يأخذها حتى صلى بهم العصر، ثم المغرب ، وهجم الليل فدخل وصالح منزو يتأمل فيما جرى بين يديه، ويكاد يتميز غيظا لفشل مسعاه في إبطال البيعة العباسية، ولكنه توسم الفرج من جهة أخرى، فإنه رأى في أبي العباس ضعفا لا يأذن ببقائه طويلا، وتحقق أنه إذا مات فالخليفة بعده صاحبه أبو جعفر؛ لأنه أفضل إخوته، وخاصة لأنه تولى أخذ البيعة على الناس.
الفصل الثاني والسبعون
ذكرى الحبيب
وخرج صالح من المسجد وهو منقبض الصدر، وذهب إلى جلنار وأخبرها بما شاهده، وأن الأمر استتب لبني العباس ولا حيلة في ذلك، فبكت، فقال لها: «لا تبكي، ونحن في الحقيقة لا يهمنا قيام هذه الدولة أو سقوطها، وإنما يهمنا أن نقتل ذلك الرجل، وإنما سعينا في إفساد أمرها لإفساد أمره، فإذا لم يتيسر لنا ذلك من هذا الطريق، فلنا طرق أخرى.»
فسكتت وتنهدت، وفي نفسها سر تحرص على كتمانه، وتخجل من إظهاره حتى لريحانة؛ لما فيه من صغار النفس، وضعف الطبع، فإنها كانت مع كل ما أصابها من أبي مسلم لا تزال تشعر بالرغبة فيه، وكلما تذكرته أحست بشيء يحسنه في عينيها، وكأن طول المدة أذهب ما في نفسها من الحقد عليه، ولكنه لم يؤثر على ما في قلبها من الميل إليه، فكانت تشعر بذلك الميل وتغالط نفسها لتسير مع التيار الذي دفعها غضبها فيه لطلب الانتقام، وصالح يحرضها على الثبات، ويحبب إليها الأخذ بالثأر، فلما طال جهاده وتوالى الفشل عليها، أخذت نقمتها تتقلص وتصغر، وحبها ينجلي ويظهر، ولا سيما بعد ما قاله لها إبراهيم، حتى جاءها صالح بخبر استتباب الأمر للعباسيين، وإخفاق مساعيه في إبدال دعوتهم، فأحست بانقشاع سحابة الحقد عن قلبها، وتجلت لها صورة أبي مسلم كما كانت على عهد شغفها به، وهون الحب عليها كل عسير حتى أراها القصور مبنية في الهواء، فخيل لها أن أبا مسلم لم يفعل ما فعله بوالدها أو بها إلا جريا على سياسته في نصرة العباسيين، وليس كرها لها؛ فلعله - وقد تم له ما أراده من تأييد دولتهم - يصغي لنداء قلبه، أو يشفق على انكسار قلبها - والمحب كثير الشكوك واسع الآمال - إذا أسعده الزمان بما يبتغيه، ووفق إلى الاجتماع بحبيبه، توالت عليه المخاوف لئلا يطرأ عليه ما يبعده عنه، وتكاثرت شكوكه في صدق محبته، وإذا جافاه حبيبه وعاداه، فيشعر كأن قلبه يتقد نقمة وحقدا، ولكن ثمة أملا يظلل ذلك الحقد.. والحب أمره عجيب!
فكانت جلنار تتنازعها الآمال وهي تغالط نفسها ولا تبوح لأحد بسرها، فلما جاءها صالح بذلك الخبر تأرجحت عواطفها بين الأمل والفشل، فلم تتمالك عن البكاء، ولم يكن وعد صالح ليخفف عنها كثيرا؛ لتوالي عدم تحقيق وعوده، ولكنها أظهرت الارتياح لوعده وقالت: «وأي طريق تتوقع أن نصل به إلى مقصدنا؟»
فقال صالح: «تمهلي يا مولاتي، وعلي تدبير ذلك، وقد صبرت؛ فاصبري أيضا. إن الله مع الصابرين.» فسكتت وأطرقت وتنهدت، فشعر أنها تضمر شيئا، وخشي أن يكون الفشل قد أضعف عزمها، وهو يحتاج إليها في تنفيذ رغبته بقتل أبي مسلم، فقال لها: «يظهر لي يا مولاتي أن فشل سعينا هذه المرة قد أثر في عزمك؛ فلا تيأسي من الفوز وأنا عبدك ورهن إشارتك؛ أبذل نفسي في سبيل مصلحتك. وأنت تعلمين أنني تركت الناس وانقطعت إلى خدمتك، وعاديت أشد الناس وأدهاهم من أجل رضاك. وقد سعينا في معاكسة ذلك الرجل ولم ننجح، وقد بلغه سعينا وعرف مقصدنا بواسطة خازنه اليهودي على يدك، فلو أردنا الرجوع عن عزمنا فهو لا يلبث حتى يعثر علينا ويقتلنا، ولو عرفت أنه يكتفي بقتلي ويستبقيك لهان علي ذلك؛ لأني أرغب اللحاق بوالدك - رحمه الله - فإن ما عنده خير مما عندنا وأبقى.»
قال ذلك وتظاهر بالإجهاش للبكاء، فأوهم جلنار أنه متفان في خدمتها، وذكرها بمقتل والدها، فحرك عواطفها عليه، فندمت على ما مر بذهنها من الميل إلى مسالمة أبي مسلم أو استعطافه، وبخاصة بعد ما سمعته من تلميح صالح من أن كشف أمرهم لأبي مسلم إنما كان على يدها، فأصبحوا مهددين بالقتل، فكيف يخطر ببالها الرجوع عن عزمها؟ فلم تر بدا من مسايرة صالح في قوله، فأنكرت ما توهمه فيها من ضعف العزيمة، وأكدت له أنها باقية على قصدها، وأنها لا يمكن أن تتنازل عن الانتقام لوالدها، ولكن يشق عليها ما يقاسيه هو من العذاب في سبيل ذلك، فأجابها بأنه يفعله راضيا مسرورا لما له من الرغبة في الثأر أيضا.
قضت جلنار في ذلك الدير زمنا وصالح يتردد عليها بالأخبار، وأهمها في تلك السنة هزيمة مروان بن محمد؛ آخر خلفاء بني أمية. وكان قد جاء بجيشه لمحاربة العباسيين في العراق، فهزموه في بلد يقال لها الزاب، فهرب إلى مصر، واغتيل ببلدة بوصير. وجاءها بعد أيام بنبأ قتل بني أمية وهو يستغربه، فقالت: «لا غرابة في قتلهم بالحرب.»
فقال صالح: «وأي حرب؟ إنهم قتلوهم غدرا بعد أن أمنوهم وسمحوا بدخولهم إلى مجالسهم والجلوس بين أيديهم.»
فقالت جلنار: «قتلوهم بلا سبب؟»
فقال صالح: «نعم، بلا سبب ظاهر، ولكنني أظن أن أبا سلمة حرضهم على قتلهم، فدس شاعرا قال بيتا حرض به أبا العباس على قتلهم، فقتلهم دفعة واحدة. وعددهم نحو تسعين رجلا.»
فقالت جلنار: «وما هذا الشعر الذي كان له قوة هذا التأثير؟»
فقال صالح: «ليس هو تأثير الشعر، ولكن النفوس مستعدة، والقلوب ملآنة، والشعر حركها؛ لأن الشعر ذكر السفاح بمن قتله الأمويون في أيام دولتهم من الهاشميين. قال ذلك في حضرة السفاح، وبنو أمية على مائدته يأكلون، فأمر بهم فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا.»
1
فلما سمعت جلنار ذلك قطعت كلام صالح، ولم تتمالك عن الصياح قائلة: «أعوذ بالله! يا للفظاعة! يغدرون بضيوفهم ثم يأكلون الطعام فوق جثثهم وهم يسمعون أنينهم! إن ذلك لم يسمع بمثله. لقد اقشعر بدني، ووقف شعر رأسي، قبحهم الله من أناس قساة القلوب.»
فقال صالح يعرض بما خطر ببال جلنار من هذا القبيل: «أمثل هؤلاء يركن إليهم أو يرجى الصفح عنهم؟» فسكتت.
ولا تسل عن حال جلنار لما جاءها صالح بخبر مقتل أبي سلمة ، فقد عظم مصابه عندها مثل مصاب والدها؛ لأنه كان يحبها ويكرمها، فسألت صالحا عن سبب قتله، فقال: «وهل تجهلين السبب؟ إن القوم قد شكوا فيه فقتلوه، ونسوا ما كان يبذله من الأموال في سبيل نصرتهم. وهبي أنه كان ضدهم، ألم يكن الصفح أولى بهم لرجل بذل ماله ونفسه في سبيل دعوتهم، بعد أن ملكوا قياد الدولة وصارت الأموال إليهم؟»
فقالت جلنار: «عجبا! إني لم أسمع بمثل هذا البطش والفتك، ولا أظن بني أمية كانوا أشد فتكا من هؤلاء. وكيف قتلوه؟» «فقال صالح بعد أن سمع ما قالته جلنار، يعرض بما خطر ببالها من هذا القبيل: أمثل هؤلاء يركن إليهم أو يرجى الصفح عنهم؟ ...»
فقال صالح: «قد علمت أنهم شكوا في إخلاصه لهم، ولكنه حينما رأى الأمر قد انقضى، بايع في جملة الذين بايعوا، فقدمه أبو العباس وجعله وزيرا - كأنه فعل ذلك ليبتز بقية أمواله - ثم عاد إلى ظنه، فحل قتله عنده، ولم يجرؤ على القيام بذلك بنفسه، فكتب إلى أبي مسلم وهو في خراسان يستشيره في شأنه، فأجابه: «إنه أوجب الشك، واستحق القتل، فاقتلوه.» فلم يجرؤ على قتله خوفا من الخراسانيين الذين معه، فبعث إلى أبي مسلم كي يرسل من يقتله، فأرسل رجلا قتله سرا، وأشاعوا أن بعض الخوارج قتلوه. وهذا هو اعتقاد أهل الكوفة الآن، ولكنني عرفت الحقيقة.»
فبكت جلنار وقالت: «قبحهم الله، ما أقسى قلوبهم! إن أبا سلمة رجل ليس فيهم مثله.»
فقطع صالح كلامها وقال: «وأغرب من ذلك قتلهم سليمان بن كثير، فإن أبا سلمة - كما نعلم - كان ينوي الغدر بالعباسيين، وأما ابن كثير، فأشهد عند الله أنه لم يخطر بباله الغدر.»
فبغتت جلنار وقالت: «قتلوه أيضا؟ وكيف ذلك؟»
فقال صالح: «لما قتلوا أبا سلمة، كما أخبرتك، اتفق أن ابن كثير قال كلمة نقلها بعضهم إلى أبي مسلم، فشك فيه فقتله جهارا بلا تحقيق ولا نظر! فهل يؤمن جانب أناس مثل هؤلاء؟ فكل من عرفوا عنه انحرافا ولو أظهر الطاعة فإنهم يفتكون به سرا أو جهرا.» وقد أراد صالح أن يعرض مرة أخرى بما دار بينه وبينها في المرة الماضية؛ ليثبتها على عزمها ضد أبي مسلم، فرآها أصبحت تخشى ذكره؛ لأنه سبب تلك الفظائع كلها. وقد ارتكبها في أقل من عام.
الفصل الثالث والسبعون
خلافة المنصور
فلما أيقن صالح بثبات جلنار على عزمها، أخذ في تدبير الوسائل للفتك بأبي مسلم بنفس الطريقة التي قتلوا بها أبا سلمة، وأخذ ينتهز الفرص لذلك. فلما مات أبو العباس السفاح سنة 136ه، أفضت الخلافة إلى أخيه المنصور، فأيقن بوصوله إلى الغرض المطلوب بعد ما قدمه من التمهيد في هذا السبيل منذ لقيه في الحميمة وبشره بالخلافة، فلما علم بموت السفاح وخلافة المنصور ذهب إلى جلنار وأمارات السرور بادية على وجهه. وكانت جلنار تنتظر مجيئه بفارغ الصبر، فإذا رأته قادما خفق قلبها توقعا لما عساه أن ينقله إليها من الأخبار، ثم تتفرس في وجهه وتستطلع ما في نفسه من سرور أو انقباض. فلما جاء في ذلك اليوم، رأت السرور باديا على وجهه، فاستبشرت وفرحت، وكذلك ريحانة، فإنها كانت تقرأ عواطف مولاتها، فابتدرته قائلة: «هل من بشرى طيبة؟»
فقال صالح: «قد دنا وقت النجاح الأكيد؛ فمات أبو العباس وأفضت الخلافة إلى أخيه المنصور صاحبي. وهذا يؤمن بكرامتي، وقد بشرته بالخلافة منذ بضعة أعوام، وأرجو أن يكون تحقيق هدفنا على يده، وخاصة لأن في نفسه حقدا على أبي مسلم من قبل الخلافة.»
فقالت جلنار: «وأي حقد في نفسه وأبو مسلم هو الذي سلم إليه الخلافة، ولو أراد تحويلها إلى سواهم ما لقي معارضا؟»
فاستغرب صالح تصدي جلنار للدفاع عن أبي مسلم، وقد فاته أن الحب إذا تأصل في قلب الكريم لم تنزعه الكوارث، ولكنها تضغط عليه فتخفيه، فإذا أزيحت عنه عاد إلى رونقه بأحسن مما كان، فلما سمع صالح قولها تجاهل وغالطها وقال: «لا يخفى على مولاتي الدهقانة أن طلاب السيادة هذا شأنهم، فإنهم لا ينفكون عن المحاسدة والمفاخرة والمحاذرة؛ فأرى الآن أن أذهب إلى المنصور، فهو لا شك سوف يستقبلني بترحاب ويقدمني ويستبقيني عنده. وأحب البقاء هناك؛ للسعي في أمرنا. فهل تبقيان هنا، أم تذهبان معي إلى الأنبار؛ لأن مقر الخلافة انتقل إليها؟»
فقالت جلنار: «كيف نبقى هنا وأنت بعيد عنا؟ إنني أرى أن ننتقل إلى الأنبار نقيم في بعض بيوتها، ولا خوف علينا؛ فإن الناس قد نسوا أمرنا، وكفانا هذا الحبس.»
ففرحت ريحانة برأي سيدتها؛ لأنها كانت قد سئمت الحبس في ذلك الدير، فقال صالح: «اسمحي لي بالذهاب أولا وحدي؛ لأتجسس الأمور ثم أعود إليكما فأنقلكما إليه.» فوافقته على ذلك، لكنها ألحت عليه بسرعة الرجوع وقالت: «إذا أبطأت علينا سرنا إليك وبحثنا عنك في بلاط الخليفة.» قال: «حسنا.» وخرج يتأهب لمقابلة المنصور، فصبغ لحيته وبدل ثيابه، كما كان حين قابله في الحميمة منذ بضع سنوات، وزاد على ذلك أن تظاهر بإصابته بالرمد، وغطى عينيه بعصابة مبالغة في التنكر؛ لعلمه أن في دار المنصور أناسا يعرفونه، ولا سيما خالد بن برمك. وكان قد رآه مرة في بيت دهقان مرو، والعينان أظهر ملامح الوجه، وأدل على صاحبهما من سائر الأعضاء.
أما المنصور فحالما أفضت الخلافة إليه تذكر منجم الحميمة وقال في نفسه: «لو جاءني لقربته مكافأة لبشارته.» فما لبث - وهو ذات يوم في داره بالأنبار - أن دخل عليه حاجبه الربيع وأنبأه بأن رجلا كفيف البصر يطلب المثول بين يديه على انفراد، فأشار المنصور إلى من في حضرته من القواد فخرجوا، وأذن بدخوله، فدخل وهو مطرق يتوكأ على عكازه، وقد شد عينيه بعصابة، وبدت عليه مظاهر الضعف، فلما أقبل على الخليفة سلم تسليم الخلافة ثم قال: «أشكر الله الذي أراني صاحب القباء الأصفر على كرسي الخلافة وإن كنت أرمد.»
فانتبه المنصور للرجل، فوقف له وأخذ بيده حتى أجلسه على وسادة بين يديه وهو يقول: «مرحبا بالصديق القديم. إني ما برحت منذ جلوسي هذا المجلس وأنا أفكر فيك وأرجو حضورك؛ فاطلب ما تريد.»
قال: «لا أريد شيئا يا أمير المؤمنين سوى تأييد دولتك، وطول بقائك، وقد أخبرتك يوم التقينا في الحميمة أني سآتيك على غير انتظار ، وها أنا قد جئتك.»
فقطع المنصور كلامه قائلا: «وما الذي أصاب بصرك؟»
قال صالح: «لست أدري ماذا أصابه، ولعلي ابتليت بهذه المصيبة لأني لم أتمم المهمة التي جئتكم بها هناك كما ينبغي، فلم أستطع تبليغ الرسالة قبل نفاذ الحيلة في نجاة الإمام - رحمه الله - ولكنني لم أتعمد ذلك، كما تعلم. وعلى كل حال، فما أنا في حاجة إلى البصر لولا رغبتي في رؤية أمير المؤمنين.»
فقال المنصور: «هل أدعو لك طبيبا يصف لك دواء؟»
فقال صالح: «كلا يا مولاي، فإننا - معشر الزهاد - لا نستعين على الأمراض بالعقاقير، وإنما ندفعها بالأدعية.»
فقال المنصور: «فعسى أن يكون حضورك للإقامة عندنا هذه المرة.»
فقال صالح: «دعيت إليك لأكون في خدمتك إلى أن تستغني عني أو أموت؛ فإني لا أرجو البقاء طويلا، ومثلي لا يليق بمقابلة الخلفاء أو مخاطبتهم، ولكنني علمت بما يحيق بدولتك من الأخطار لكثرة أعدائك وحسادك؛ فأحببت أن يكون لي يد في تأييدها، على عجزي وقصر باعي.»
فقال المنصور: «بل أنت صاحب الفضل الأكبر؛ لأنك بشرتني بالخلافة وأنت لم تعرفني، فأحب أن تكون عندي الآن. فإذا شئت جعلتك رئيس العرافين.»
فقال صالح: «عفوك يا مولاي، فإني فضلا عن عدم استحقاقي لهذا المنصب لا أريد أن أسمي نفسي عرافا؛ لأني لا أحمل أدوات التنجيم، وإنما أقول ما يلقيه إلي الهاتف أو يلهمنيه الله، وقد كنت أستعين بالنجوم، فلما كف بصري اكتفيت بالإلهام، فإذا شئت أن أكون في خدمتك ضعني في حجرة من حجرات دارك، أو في مكان آخر لا يراني فيه أحد؛ لأني لا أرى أحدا.»
فقال المنصور: «بل تقيم في داري لتكون قريبا مني.» وصفق فجاء حاجبه الربيع، فأمره أن يأخذ ذلك الزاهد إلى حجرة منفردة في داره، ففعل وأمر بعض الخدم أن يقوموا بخدمته.
أما المنصور فلما خلا بنفسه عاد إلى دهائه وذكائه، وطلاب السيادة يومئذ يسيئون الظن حتى في أولادهم، وبخاصة المنصور؛ لفرط حذره وحزمه، فلما رأى ذلك الزاهد يطلب الإقامة في داره أساء الظن به، وأحب أن يختبر صدق كرامته وولايته؛ لئلا يكون دسيسة من أحد أعدائه، فجعل يفكر في رجل عاقل يختاره لامتحانه، ولم يكن عنده أعقل من خالد بن برمك - وكان مفضلا عنده - والمنصور كثير الاعتماد على آرائه، فبعث إليه فجاءه، فأخبره بأمر الرجل الزاهد، على أن يكون ذلك سرا؛ لأنه اختاره على سائر العرافين ليستعين بآرائه عند الحاجة، إلى أن قال: «ولكنني أخشى أن يتعمد خداعي، فلا يكون عنده علم ولا ولاية، فادخل عليه وامتحنه.» وأمر الربيع أن يأخذه إلى حجرته.
الفصل الرابع والسبعون
كشف السر
فمشيا والمنصور معهما حتى أقبلا على الحجرة، فدخل خالد وظل المنصور والربيع بالباب بحيث يسمعان ما يدور بداخلها، فلما سمع صالح وقع الأقدام داخل الحجرة تظاهر بإعمال الفكرة. أما خالد فلم يزد على أن قال: «السلام عليك.» فعرفه صالح من صوته، فأجابه على الفور: «وعليك السلام يا ابن برمك. إنك خير الوزراء لخير الخلفاء.»
فدهش خالد لمعرفة اسمه، وفرح لتسميته وزيرا، فأصبح يتمنى أن يعتقد المنصور في كرامته؛ فيعمل برأيه، ويجعله وزيرا، فالتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير إليه أن يغالطه، فقال خالد: «وما ذنبي عندك حتى جعلت والدي مجوسيا، فإذا كنت لم تعرفني فقد كان ينبغي أن تصمت.»
فضحك صالح وقال: «إذا كنت خالدا، وقد ولدك برمك المجوسي، فما هو ذنبي عندك؟ على أن خروجك من صلب رجل غير مسلم لا يمنع فضلك، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن أبوه مسلما، وإذا كنت تقصد اختباري، فاسألني فأكشف لك ما يجول في خاطرك حتى لا يبقى عندك شك في إخلاصي.»
فأعجب خالد بذلك الجواب وسره وجود مثل هذا الرجل في بلاط الخليفة؛ لعله يحتاج إليه في شيء. وكان ميالا إلى الاعتقاد بمهارته؛ لأنه تنبأ له بمنصب الوزارة، ولكنه خشي إذا طلب إليه قراءة ما في ضميره أن يصرح بأمور لا يرضاها المنصور، والفرس لم تكن تخلو أفكارهم يومئذ من شيء على آل العباس، فأحب تأجيل ذلك لخلوة يخلو بها معه. والتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير بالانصراف ، فرجعوا وقد رسخ في أذهانهم صدق ذلك الزاهد في أقواله، وكرامته في استطلاع الخفايا، وأوصى المنصور الربيع ألا يأذن لأحد بمقابلته. وظل صالح وحده وهو يظهر من الضعف قوة، وقد سره أن يكون الممتحن خالد بن برمك؛ لأنه مطلع على كثير من أحواله، ويعرف صوته، وخالد لم يخطر بباله أنه الضحاك الذي رآه في منزل دهقان مرو منذ بضع سنين؛ لاعتقاده أنه قتل مع ابن الكرماني.
أما خالد فاشتغل خاطره بالزاهد، وأراد مقابلته على انفراد لحاجة في نفسه يريد أن يسأله عنها، فلما سمع الخليفة يوصي الربيع بمنع الناس عنه تقدم إليه أن يأذن له بمقابلته، فقال للربيع: «امنع الناس كافة إلا خالدا.» لأنه كان يحبه، ويثق به، ويعتمد على آرائه.
فسر خالد بهذا الإذن، وبادر في صباح الغد فدخل على صالح فحياه، فرحب به صالح وأثنى عليه، وبشره ومناه استجلابا لرضاه عنه، واستدناه لاعتقاده به، فجلس خالد بين يديه وقال: «لقد جئت إليك في أمر يهمني الاطلاع عليه، فإذا كشفته فرجت كربة كثيرين.»
فقال صالح: «قل؛ لعلي أستطيع ذلك، بإذن الله.»
فقال خالد: «لي صديق وقع في مشكلة لا دخل لها في السياسة أو الحرب، وإنما هي تتعلق بشخصه وشخص آخر يحبه، ولكنه لم يعد يعرف مكانه، وهو يحب أن يعرفه.»
فمد صالح يده حتى قبض على يد خالد وقال: «صرح لي أو أعطني أثرا من آثار ذلك الحبيب فأعرفه.»
فقال خالد: «لا سبيل لي إلى شيء من آثاره، ولكنني أزيدك تصريحا. أتعرف أبا مسلم الخراساني؟»
فاستبشر بذكر اسمه لعله يستفيد من حديث خالد عنه بما يعينه على الفتك به، فقال: «ومن لا يعرف صديقك أبا مسلم؟!»
فقطع خالد كلامه قائلا: «لا تقل صديقك؛ لأن الخليفة ثائر عليه وقد اتهمه، وأرجو ألا تكون لي يد في هذه التهمة؛ ولذلك قلت إنه سؤال لا علاقة له بالسياسة ولا بالحرب، وإنما مسألة أبي مسلم خاصة، تتعلق بفتاة أحبته ولم يحبها، فأساء إليها، ثم ندم فأحب أن يقربها فلم يعثر لها على أثر، ولا يزال يبحث عنها. فهل تعرف مكانها؟»
فلما سمع كلامه تذكر ما قالته جلنار عن موعد إبراهيم الخازن، فعلم أنه إنما جاء للبحث عنها، وتذكر ما لاحظه من عودة آمالها وتحرك قلبها، وأيقن أن أبا مسلم ينوي قتله وأخذ جلنار منه، وإلا لما كان ثمة باعث على فراره منه، وقال في نفسه: «لقد آن وقت العمل.»
فلما فرغ خالد من كلامه كان صالح لا يزال قابضا على يده، فأطرق كأنه يفكر في أمر هام، ثم رفع رأسه وقال: «مسكينة جلنار! كم أحبت هذا الخراساني وخدمته! وكم أساء إليها وعذبها! فما الذي غير شعوره نحوها؟»
فدهش خالد لذكره اسم الفتاة وملخص حديثها، واقشعر بدنه وقال: «إن الذي غير شعوره هو أنا؛ لأني كنت على علم بحبها له، وتفانيها في خدمته حتى قتلت زوجها لأجله، ثم اتهم أبو مسلم والدها بالخيانة وقتله، فجاءت لتعاتبه على انفراد - ولم أكن حاضرا - وفي صباح اليوم التالي أخبرني بما كان من غضبه عليها وسجنها، ورأيت في كلامه ضعفا، وتوسمت فيه ندما على ما فرط منه على غير عادته، فأخذت في تأنيبه، وحببت إليه تقريبها والزواج بها، فرضي وبعث يستقدمها من السجن، فقيل له إنها ليست هناك، فبحث عنها في دار الإمارة، وبث الناس في أطراف المدينة فلم يقفوا لها على خبر، فتحققنا أنها هربت إلى مكان بعيد.
وكنت شديد الرغبة في معرفة أخبارها؛ لاعتقادي أنها مظلومة، وأحببت أن تنصف، فحرضت أبا مسلم على البحث عنها في الأطراف البعيدة، فكلف رجلا يهوديا عنده أن يفتش عنها، ووعده إذا جاء بها أن يعطيه مالا كثيرا، فتنكر اليهودي وأخذ في البحث حتى عثر عليها في الكوفة بمنزل أبي سلمة، وأوشك أن يظفر بها، ولكنها غيرت مكانها وكأنها طارت بين السماء والأرض، فعاد إلينا بهذا الخبر، فغضب أبو مسلم عليه وأرجعه للتفتيش عنها ثانية. وقد جاءني منذ بضعة أيام وأخبرني أنه لم يعثر عليها، فهل هي على قيد الحياة؟ وهل تعرف مكانها؟»
وكان خالد يتكلم وصالح يتابعه في الحديث كأنه مطلع على القصة، فإذا توقف خالد أعانه بكلمة مما يعلمه ، وخالد لا يستغرب ذلك لما سبق إلى ذهنه من الاعتقاد في كرامته.
فعلم صالح من سياق الحديث أنهم لم يكونوا يعلمون ببقائه حيا، ولا أخبرهم إبراهيم بذلك؛ خوفا من ضياع فضله في قتله، مع أنه ينبغي أن يكون قد علم هو ببقائه حيا في اليوم الثاني لمقتل ابن الكرماني؛ إذ لم يجدوا جثته هناك، وعلم أيضا أن إبراهيم قريب من ذلك البلد، أو ربما كان في بلاط الخليفة، فأحب أن يتحقق من ذلك فقال: «إنها على قيد الحياة، ولا يصعب علي معرفة مكانها. إنما يحتاج ذلك إلى مهلة قليلة، ويلوح لي أنها ليست في مكان بعيد من هنا. ألم تسأل العرافين عن ذلك؟»
فقال خالد: «سألت غير واحد، فاختلفوا وتناقضت أقوالهم، وليس فيهم من يعتمد عليه برغم رغبة أمير المؤمنين في الاستكثار منهم للاستعانة بهم، ولم أجد بينهم أحدا مثلك.»
فقال صالح: «إن أكثر عرافي هذا الزمان ينتحلون الصناعة لابتزاز الأموال، ويخبطون في أقوالهم خبط عشواء، وإنما هي موهبة يختص الله بها أناسا، وقلما يستطيعها أحد بالاجتهاد، على أن بعضهم يتخذها وسيلة لغرض خاص، كما يفعل العراف حاييم.»
فضحك خالد لمعرفة صالح ذلك الاسم الجديد وقال: «مسكين حاييم. أين هو من التنجيم؟ ومع ذلك فهو منخرط في جملة عرافي المنصور يقبض مرتبا مثل مرتباتهم.»
فعلم صالح أن صاحبه في بلاط الخليفة من جملة العرافين، فسكت وتزحزح من مكانه، فأدرك خالد أنه قد حان انصرافه، فنهض وودعه وأوصاه أن يكتم ما دار بينهما، فوعده بذلك، وأنه سيخبره عن مكان جلنار بعد بضعة أيام، فخرج خالد وقد تولته الدهشة؛ إذ لم يكن يظن أن مثل هذا الرجل يوجد فى الأرض، فذهب توا إلى داره وبعث إلى إبراهيم اليهودي، فلما جاء سأله: «هل وجدت الفتاة؟» فأجاب: «كلا.»
فقال خالد: «قد وجدت عرافا يستطيع الوقوف على مكانها.»
فقال إبراهيم اليهودي: «ومن هو؟ أريد أن أراه.»
فقال خالد: «لا سبيل لأحد إليه؛ فإن أمير المؤمنين لا يأذن في الدخول عليه لأحد. وقد طلبت مقابلته من أجل هذا الأمر، فلمست فيه مهارة غريبة، ولم أكد أسأله عن الفتاة حتى تلا علي خبرها، وعرف مساعيك، وأنك انتحلت صناعة العرافين لهذه الغاية، وأن اسمك كعراف حاييم، ونحو ذلك مما أدهشني، وكنت أود أن تلقاه لولا ما ذكرته لك من تشديد الخليفة في منع مقابلته.»
وكان إبراهيم يسمع كلام خالد وهو يفكر فيمن عساه أن يكون هذا العراف، فلما سمع ما قصه عليه من معجزاته تبادر إلى ذهنه أنه عراف كاذب مثله، ولم يستبعد أن يكون هو صاحبه الضحاك، وقد تحقق من بقائه حيا في الكوفة يوم أن التقيا بباب أبي سلمة وتناكرا، فسأل خالدا عن شكل الرجل وملبسه، فأخبره أن على عينيه عصابة، وأن لحيته محناة، فسأله عن قامته فقال: «لم أره واقفا، ولكن يظهر أنه طويل.» فلم يشك إبراهيم أنه صاحبه بعينه، وبخاصة لتنكره بالرمد، فإنها حيلة تعلمها الضحاك منه يوم أن التقوا ومعهم القصاص في معسكر شيبان بضواحي مرو، فتجاهل ولم يبد أية ملاحظة، ولكنه عزم على الحذر، فصرفه خالد وعاد وهو متعلق الذهن بذلك الزاهد، وأحب أن يلقاه ثانية فبكر إليه في الغد، وأخبره أنه التقى بإبراهيم، وأنه أطنب له فيما شاهده من كرامته ومهارته.
فلم يفرح صالح بما سمعه من هذا الإطناب، وساءه ما قاله عنه لإبراهيم؛ خشية أن يدعوه ذلك إلى الشك فيه؛ لعلمه أنه لم يطلع أحدا على تلك الحقائق غيره، على أنه كتم استياءه، وأثنى على خالد، وعمد إلى اجتذاب قلبه إليه كما اجتذب قلب المنصور قبله بتبشيره بما تتوق إليه نفسه. وكان خالد يطمع فى الوزارة، وهو أكفأ حاشية الخليفة لها، فقال له صالح: «إن الله سيكافئك على سعيك في التوفيق بين هذين المحبين بأكبر منصب تطمح إليه الأبصار بعد الخلافة.» فأدرك خالد أنه يبشره بالوزارة فانشرح صدره، ولكنه تذكر ما يحول دون ذلك من انشغال المنصور بأبي مسلم؛ إذ خشي أن ينتقم المنصور بسببه على سائر رفاقه القواد ، فيلحقه نصيب من تلك النقمة، فأراد أن يستفتي الزاهد في ذلك ، فقال له: «أحب أن أستفتيك في مسألة أخرى تهمني، وقد شغلت بالي، وبالطبع أرجو أن يكون ذلك سرا بيني وبينك.»
فقال صالح: «قل. لا تخف.»
فقص عليه خالد سبب غضب المنصور على أبي مسلم، وأنه ينوي القبض عليه خوفا منه، وأطلعه على تفاصيل لم يكن يعرفها، ثم سأله: «هل تظن أن المنصور يجعل نقمته عامة على سائر أنصاره؟»
فأطرق وهو يعمل فكرته، ثم قال: «كلا؛ لأن المنصور لم يتغير على أبي مسلم لأنه قام بدعوته، بل لأنه طمع في الملك لنفسه، وهب أنه نقم على سائر الخراسانيين، فلن ينقم عليك.»
فاطمأن باله وخرج مسرعا؛ خشية أن يأتي المنصور فيراه هناك.
الفصل الخامس والسبعون
المنصور وأبو مسلم
وظل صالح ينتظر مجيء المنصور، فما لبث أن جاءه وحده ودخل عليه خلسة حتى دنا منه وقبض على يده ليبغته، فلم يبغت؛ لعلمه أنه لا يجرؤ أحد على ذلك غير الخليفة، وكان قد سمع صوته من عهد قريب بجوار حجرته، فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.»
فقال: «وعليك السلام. كيف ترى حالك؟»
قال: «أراني في نعيم - والحمد لله - لصدق بشارتي، ويسرني أن أرى أمور المسلمين في قبضة أمير المؤمنين - أيده الله - ولكن هل تذكر عبارة قلتها لك يوم تلك البشارة؟»
قال المنصور: «أذكر كلامك كله، ولم أنس منه حرفا. أظنك تعني الظلمة التي تحدق بخلافتي؟»
قال: «نعم. هذا ما أعنيه، وقد عرفته قبل وقوعه، وأظنه وقع، فلماذا تكتمه عني؟»
قال المنصور: «لم أكتمه، وقد جئت الآن بشأنه، ولكن ما هي الظلمة التي تعنيها؟»
قال: «أتمتحنني يا أبا جعفر؟ إن الظلمة التي أعنيها إنما هي مطامع الناس في خلافتك، وبعضهم في الحجاز، والبعض الآخر في خراسان، وآخرون في هذه المدينة، بل في قصرك يؤاكلونك ويشاربونك.»
فجاء كلام صالح مطابقا لما في نفس المنصور كل المطابقة؛ لأنه كان يخشى العلويين في الحجاز بعد أن بايعهم على أن تكون الخلافة بعد بني أمية لمحمد بن عبد الله الحسني، وأراد المنصور نكث البيعة وحصر الخلافة في بني العباس. وكان يخشى أبا مسلم إذا أقام بخراسان؛ لأنه قادر على نقل الخلافة، والناس يطيعونه، وكان يخاف بعض أهله على الخلافة، وفيهم أعمامه وأبناء عمه، وهم مقيمون معه يؤاكلونه. فلما سمع ذلك من صالح زاد يقينا بكرامته ومهارته فقال: «صدقت. إني أخافهم الأقرب فالأقرب.» يعني بعض أعمامه.
قال صالح: «ليس أدعي للخوف من ذلك الخراساني الفتاك.»
قال المنصور: «تعني أبا مسلم؟»
قال صالح: «إياه أعني؛ فإن نجمه في أسمى المطالع، ولو استنهض الحجارة لنهضت معه، ولو حارب الأبالسة لغلبهم. هذا الذي يخشى بأسه، ولكنني أرى نجمك أسمى من نجمه، وسعدك أبقى من سعده.»
قال المنصور: «ولا أخفي عنك ما في نفسي من هذا الخراساني؛ فقد كنت أخشاه من أيام أخي السفاح - رحمه الله - فأشرت عليه أن يحبسه فلم يطعني، ولما أفضت الخلافة إلي رأيت منه انحرافا، وبلغني عنه أمور أغضبتني وخوفتني، فاستخدمته في محاربة عمي عبد الله الطامع في الخلافة، وضربت أحدهما بالآخر فمن قتل منهما نجاني الله منه، ففر عمي وفاز أبو مسلم بما في عسكره من الغنائم، فبعثت إليه أطلب الغنائم فغضب وقال: «إني خونته.» وأخبرني الرسول أنه شتمني، فلما رأيت هذه الجرأة خشيت إذا سار إلى خراسان أن يعصاني، فبعثت إليه وهو في الجزيرة أني وليته الشام ومصر، وطلبت إليه أن يأتيني فأجابني جوابا يدل على خوفه مني. وهذا نصه:
لم يبق لأمير المؤمنين - أكرمه الله - عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي. «فلما قرأت كتابه كتبت إليه وأظهرت له أنه مخطئ، فأصر على الامتناع ومضى إلى حلوان، وجاءني منه كتاب جمع بين الاحتجاج والاعتذار هذا نصه:
أما بعد، فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا، وفي قرابته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قريبا، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن موضعه طمعا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي ولاني بغرور، وأمرني أن أجرد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم، ثم أنقذني الله بالتوبة، فإن يعفو عني فقد فعل ما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.» فأشكل علي أمر هذا الكتاب، فجمعت العرافين منذ بضعة أيام، وطلبت إليهم استطلاع ما في نفس الرجل، فأحسنوا الثناء عليه وقالوا: «إنه تاب عما كان فيه، وإذا أحسنت الظن به وقربته نفعك.» فأمسيت في حيرة من الأمر؛ هل أصدق هؤلاء، أو أظل على عزمي في القبض عليه؟ وكنت أنا في حيرتي هذه أفكر فيك، وأطلب إلى الله أن يرسلك إلي لعلك تطلعني على الصواب.
وكان صالح يسمع كلام المنصور وهو جالس متكئ بكوعيه على فخذيه، ووجهه نحو الأرض كأنه ينظر فيها، فلما فرغ المنصور من كلامه رفع صالح رأسه وقال: «أي العرافين يقول إن الرجل تاب وأن بقاءه ينفعك؟ إن صوت قلبك - يا أمير المؤمنين - أصدق من تكهن العرافين، وخاصة إذا كان فيهم عراف يهودي اسمه حاييم.»
فاستغرب المنصور معرفته ذلك الرجل وقال: «قد لاحظت من حاييم هذا رغبة شديدة في تبرئة أبي مسلم، وإثبات حسن نيته أكثر من سائر العرافين.»
فقال: «لأنه صنيعته، وهو عين له عليك.»
فدهش المنصور لصدق ذلك الزاهد في كل ما قاله، كأن الغيب كتاب مفتوح بين يديه يقرأ منه ما شاء. وكان المنصور قد أساء الظن بذلك اليهودي؛ لأنه لمس فيه الرياء والمكر، فقال: «أظنك على صواب فيما قلت، وسينال هذا اليهودي عاقبة سعيه. فماذا ترى أنت في نية أبي مسلم؟»
قال: «كما ترى أنت يا أمير المؤمنين؛ فإني أرى في بقائه خطرا عليك وعلى دولتك، ولا تعبأ بما جاء في كتابه من عبارات الاعتذار؛ فإنه يلقي التبعة على أخيك الإمام - رحمه الله - أو هي حيلة يحتالها عليك ريثما يتمكن منك فيقاتلك، وتندم حيث لا ينفع الندم، وكأنني فهمت من كلامك أنك إذا قبضت على أبي مسلم تنوي استبقاءه محبوسا، وقد قلت لك إن بقاءه خطر عليك وعلى دولتك؛ لأن الرجل لا تقتصر مطامعه على ولاية خراسان، وإنما هو طامع في الخلافة.»
فضحك المنصور وقال وهو يظهر الاستخفاف: «لا أظنه يبلغ به جنونه إلى هذا الحد؛ لعلمه أن نسبه أقصر من أن يتطاول إلى هذا المنصب، وهو مولى أعجمي، والخلافة لا تكون في غير قريش.»
قال: «أتوسل إلى مولاي أمير المؤمنين إذا قلت قولا ألا يكذبني لأني لا أقول شيئا من عند نفسي، فأبو مسلم طامع في الخلافة، ولم يغفل عن حصرها في قريش؛ ولذلك فهو ينتحل لنفسه نسبا فيهم، فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن العباس جدكم.»
فلما سمع المنصور قوله وثب من مكانه وثوب الأسد، وقد غلب عليه الغضب، ولم يتمالك أن قال: «يا للجرأة والوقاحة! صدقت. يظهر أنه طامع في الخلافة، وهو يستخف بي؛ فقد كتب إلي يخطب عمتي، وجعل اسمه في ذلك الكتاب قبل اسمي؛ فبقاؤه حجر عثرة في طريق دولتنا ولا بد من قتله، ولكنني قد يئست من استقدامه بالحسنى، وهو مقيم في حلوان، وينوي الانتقال إلى خراسان.»
قال: «أهديك إلى وسيلة لاستقدامه على أهون سبيل؛ ذلك أن تكتب إليه كتابا مع رجل لين اللسان يخاطبه بلطف، ويرغبه في الحضور إليك، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته وجعله وزيرا لك، وتوصي رسولك إذا لم يفلح منه بالحسنى أن يهدده بأنك ستحمل عليه حالا وهو بحلوان بعيدا عن رجاله الخراسانيين.»
فقطع المنصور كلامه قائلا: «هذا الذي كنت عازما عليه.»
فقال صالح: «بقي عندي رأي؛ وهو أن تستكتب حاييم اليهودي كتابا إلى أبي مسلم يختمه بخاتمه يدعوه فيه إلى المجيء ويطمئنه، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته. اكتب أنت ما تراه من هذا القبيل على لسان هذا اليهودي إلى أبي مسلم، وأحضر الرجل واجعله يختم عليه بخاتمه - وسترى اسمه على خاتمه «إبراهيم»، فلا تستغرب؛ لأن هذا هو اسمه الحقيقي - وتبعث هذا الكتاب مع رسول آخر يدفعه إلى أبي مسلم على حدة كأنه مرسل من صاحبه هذا. وبعد أن تدبر هذا التدبير انتقل إلى بلد آخر، وابق جندك الخراسانيين هنا، وأوص رسولك أن يأتي بأبي مسلم إلى ذلك البلد، فإذا سار إليك أسرع في قتله، واحذر أن تبقي عليه. هذه وصيتي، وليست هي من عندي، وإنما أقول ما يلقى إلي!»
قال: «حسنا، ولكن لا بد من ذهابك معي؛ فقد أصبحت لا أستغني عنك.»
قال: «سمعا وطاعة، ولكنك تأذن لي أن أعرج في أثناء ذهابي إلى مكان مبارك لي فيه نذر، ثم آتيك إلى حيث شئت.»
قال المنصور: «لا بأس من ذهابك. وما رأيك في المكان الذي سأنتقل إليه؟»
قال صالح: «أرى أن تنتقل إلى المدائن؛ لتوسطها بين البلدين، ولأنها المدينة التي هزم فيها الفرس في أول الإسلام، وسيهزم فيها هذا الفارسي أيضا، بإذن الله.»
فأعجب المنصور بهذا التعليل وتفاءل به وقال: «سأفعل. ومتى عدت وافني إلى هناك.»
ثم ندم المنصور على الإذن بذهاب الزاهد لئلا يفلت منه ثم لا يراه، أو أنه يطلب الفرار خلسة، فقال: «ولكنك كفيف البصر، فينبغي أن أرسل معك من يتولى خدمتك في الطريق.» فلم يسع صالحا إلا القبول، وأخذ في التأهب، فخرج المنصور من عنده، وأمر الحاجب أن يعد له فرسا ويرسل معه رجلين من الخدم يكونان في ركابه حتى يعود.
الفصل السادس والسبعون
من القلب إلى القلب
وكان صالح ينوي الذهاب إلى جلنار؛ ليطمئنها وينصحها بالبقاء في الدير ريثما تهدأ الأحوال؛ لأنه تذكر قلقها ورغبتها في مرافقته، حتى إنها هددته إذا أبطأ عليها أن تلحق به كأن قلبها قد دلها على أن أبا مسلم قد بدأ يحبها، فأحست بما يجتذبها نحوه. وهذا هو الذي يخشاه صالح على نفسه؛ لأنها إذا أتت إلى دار الخلافة وعلم بها خالد أو إبراهيم أخبروها برسالة أبي مسلم، فتسعى في إنقاذه، فإذا نجحت بقي أبو مسلم حيا فيقتله، فضلا عما في ذلك من إخفاق مسعاه.
وخرج المنصور فكتب الكتابين كما أشار صالح، وبعث إلى العراف حاييم «إبراهيم الخازن»، فلما دخل عليه دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو خائف من تلك الدعوة - ويكاد المريب أن يقول: «خذوني.» - وخاصة بعد علمه بوجود الزاهد «صالح» في دار الخلافة، فلما دعاه الخليفة خشي أن يكون صالح قد وشى به، فيقتله المنصور على التهمة. فلما جلس بين يديه لاحظ المنصور خوفه فقال له: «لا تخف يا حاييم؛ لأني دعوتك لتساعدني على إقناع أمير بني العباس (أبي مسلم) أننا لا نريد به شرا؛ لأننا كاتبناه غير مرة ندعوه إلينا وهو يأبى، مع أنك تعلم حسن ظننا به، كما تعلم صدق توبته ورجوعه إلى الصواب؛ فاكتب إليه كتابا اذكر فيه صدق نيتنا في ترقيته، وأن ليس له عندنا ما يكرهه.»
فعلم إبراهيم أن المنصور لم يكلفه بذلك إلا لعلمه بصداقة أخبره بها صالح، فقال: «وما الفائدة من كتابي إلى جانب كتاب أمير المؤمنين؟»
فقال: «إنه نافع، بإذن الله.» وكان المنصور قد أمر الكاتب فأعد كتابا يرغب أبا مسلم فيه بالحضور، ويؤكد له حسن ظن الخليفة، فدفعه إلى إبراهيم وقال له: «هات خاتمك.»
فارتبك إبراهيم في أمره، ولم ير مندوحة عن الطاعة، فمد يده إلى منطقته وأخرج كيسا صغيرا من جانب الدواة دفعه إلى الكاتب، فأخرج الكاتب من الكيس خاتما طلاه بالمداد وختم به الكتاب ودفعه إلى المنصور، فقرأه فإذا هو «إبراهيم»، فلم يبد ملاحظة، ولكنه ضحك وقال: «يظهر أنك ذو اسمين: اسم داخلي، واسم خارجي. لا بأس عليك.» وتلطف المنصور معه لعله يحتاج إليه في كتاب آخر، ولكنه أبقى الخاتم عنده، وأقام الأرصاد على إبراهيم لئلا يخرج من الأنبار. وذهب المنصور في اليوم التالي إلى المدائن مع جماعة من خاصته، وترك سائر الجند في الأنبار، ولم يظهر غرضه لأحد، واصطحب بعض العرافين، ولبث ينتظر مجيء الجواب من أبي مسلم، ويود مجيء الزاهد قبلا ليستعين برأيه إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
أما الزاهد «صالح» فإنه ركب إلى دير العذارى، فلما وصله أبقى الخادمين مع الفرس خارجا، ودخل وقد رفع العصابة عن عينيه وتشدد، وسار حتى لقي جلنار في غرفتها، فوجدها في حالة يرثى لها من البكاء، وريحانة إلى جانبها تخفف عنها. ولما وقع نظرها عليه صاحت فيه: «آه يا صالح! لقد طال سجني في هذا الدير، ونفد صبري، وقلبي يحدثني بخير عند خروجي منه، وتراكمت علي الأحلام على غير المعتاد. ولا أظن أبا مسلم باقيا كما كان؛ فقد رأيته في منامي جاثيا بين يدي يلتمس العفو عما اقترفه نحوي وهو يبكي ويتوسل. تأمل يا صالح. رأيت أبا مسلم الخراساني؛ بطل المسلمين، يبكي بين يدي، فهممت أن أقبله فاستيقظت، وذهب خياله من أمام عيني، ولا أزال أبكي إلى الآن.» قالت ذلك وهي تكاد تشرق بدموعها.
فاستغرب صالح مطابقة حلمها للواقع، وكاد يبكي لبكائها لولا فظاظة قلبه؛ لأنه لم يسمع منها مثل هذا التصريح قبل تلك الساعة، كأن عواطفها طفحت فلم تعد تملك نفسها، فاستسلمت لرغبة قلبها وباحت بسرها. فلما رآها صالح على تلك الحال لم ير خيرا من تسكين ما بها بالكلام اللين، وتكذيب الأحلام وطمأنتها؛ لتبقى في الدير بضعة أيام أخر، ريثما يتم ما بدأ به من مقتل أبي مسلم، فقال لها: «ما لي أراك على غير ما أعهده فيك من التعقل والرزانة؟ أمن أجل حلم لا معنى له تبكين وتنتحبين وتصدقين المستحيل؟ ومتى كانت أضغاث الأحلام مما يعول عليها في تصاريف الزمان؟ دعي الأوهام وارجعي إلى رشدك. إذا كنت تتوقعين من أبي مسلم حبا؛ فإنك تطلبين من النار ماء؛ لأنه رجل لا قلب له يحب به أحدا، حتى ولا امرأته؛ فكيف تأملين أن يندم على مجافاتك، بل كيف تتوقعين حبه؟!»
فلما سمعت كلامه لم تتمالك أن صاحت فيه: «ألم تكن أنت أول من نقل إلي خبر حبه؟ وأسررت إلي ما في نفسه من الشغف بي، وأنه إنما يمنعه من التصريح به خوفه من ألا يكون عندي مثل ما عنده؛ فكيف تقول الآن إنه لا قلب له يحب به، وتستغرب بكائي شوقا إليه، وتستبعد أن أخطر بباله؟ لقد رأيته الليلة رأي العين كأني في يقظة، أو كأن روحه ناجت روحي. لا شك أنه يحبني. هل يمكن أن يكون قلبي مخدوعا إلى هذا الحد؟ كيف يمكن أن يبلغ مني حبه هذا المبلغ حتى أراه في المنام كاليقظة، وأتلقى عذابه كالراحة، وأنسى سيئاته وإن كثرت، وأموت أو أحيا بكلمة منه، ويكون هو بلا قلب ولا عقل؟ فإن لم يلتفت إلي حبا، فإنه يرق لي شفقة.» قالت ذلك وقد بح صوتها، وخنقتها العبرات، وتكسرت أهدابها، واحمرت عيناها من البكاء، وريحانة تضمها وتقبلها وتخفف عنها، ودموعها تتساقط بلا صوت كأنها تبكي همسا.
فتعجب صالح لتفاهم القلوب، ومطابقة تلك الرؤيا للحقيقة، وحدثته نفسه أن يبوح لها بحب أبي مسلم وندمه، ثم توقف؛ لعلمه أنها إذا علمت بذلك فسدت خطته، فتماسك وقال وهو يظهر العتاب: «لا بأس يا مولاتي، إني أحتمل هذه الإهانات إكراما لمحبة والدك - رحمه الله - ولا أعتب عليك؛ لأنك فتاة لم تعرفي أمور الدنيا. أهذه عاقبة سعيي في خدمتك طول هذه المدة؟»
فخجلت جلنار لهذا التوبيخ، وتقدمت ريحانة وهي تقول: «لا عتب على مولاتي مهما قالت وهي فيما تراه من التأثر. لست أدرى ما الذي أصابها منذ ألقى إليها ذلك اليهودي هذه العبارة. ليته مات قبل ذلك الحين.»
فقال صالح: «وهل إذا أذنب اليهودي أعاقب أنا؟ لقد تحملت المشاق في هذه البراري لأطمئن عليكما، وأبشركما بقرب النجاح، فبدلا من أن تلقياني بالترحاب، وتسألاني عما جرى، تسمعانني هذا التوبيخ؟ لا بأس يا سيدتي. هل عندكما طعام؟ فإني لم أتناول طعاما منذ أمس.»
فخجلت جلنار، وأسرعت ريحانة وأتته بما عندها من الطعام، فأكل وهم سكوت، وقد هدأ روع جلنار فندمت على ما أظهرته من الحدة، ولكنها استنكفت الاعتذار، وشعرت بتغيير قلبها، وأحست لسبب لا تعلمه بما ينفرها من صالح، وأصبحت إذا نظرت في عينيه اعتراها نفور، فلم تعد تستطيع الاقتراب منه، فنهضت إلى غرفة أخرى واستلقت على الفراش وهي تتظاهر بالتعب والنعاس. وظلت ريحانة بين يدي صالح تعتذر عما فرط من سيدتها، وسألته عما جرى، فأظهر أنه متأثر مما سمعه وقال: «سأخبرك عن ذلك في المرة القادمة، فإني أسعى جهدي في مصلحتها، ولا أبالي بغضبها أو رضاها، فاسمحي لي أن أنصرف الآن، ومتى أفاقت مولاتك أهديها سلامي.» قال ذلك وخرج فأصلح عصابة عينيه وعاد إلى ما كان عليه، فوجد الخادمين في انتظاره بالجواد، فركب وعاد.
الفصل السابع والسبعون
مقتل أبي مسلم
أما المنصور فنزل في قصره بالمدائن ومكث ينتظر مجيء أبي مسلم أو جوابه، وبعد بضعة أيام وصل صالح (الزاهد) وقد سمع ما سمعه من جلنار، وصمم على تعجيل قتل أبي مسلم جهد الطاقة؛ لئلا يعترضه معترض، وهو يعلم أنه إذا لم يقتله قتل هو؛ إذ ليس من يعرف حقيقة حاله إلا هو وخازنه إبراهيم. واستبطأ المنصور أبا مسلم فسأل صالحا عن سبب الإبطاء، فقال: «لا بد من حضوره، وإذا لم تنجح معه هذه الحيلة، فعندي حيلة أخرى لا شك في نجاحها.» وهو يهدف إلى تزوير كتاب عن لسان جلنار جوابا على كتابه إليها، فهذا لا شك يحمله على الحضور.
على أنه لم يجد حاجة إلى ذلك؛ فبعد بضعة أيام أخر، جاء البشير أن أبا مسلم قادم، فبعث المنصور من يستقبله ويرحب به، ويبلغه سلامه وشوقه، فاطمأن أبو مسلم - وكان لا يزال حزينا كئيبا لارتيابه في هذه الدعوة - فسار في موكبه حتى أقبل على قصر المنصور، فأذن بدخوله فدخل. وكان صالح عنده على وسادة في أحد جوانب القاعة، فتقدم أبو مسلم وقبل يد المنصور، فأظهر ارتياحه وأمره أن ينصرف ويفرج عن نفسه ثلاثة أيام، ويدخل الحمام، فانصرف. وشق هذا التأجيل على صالح مخافة أن يحدث ما يمنعه من قتله، فقال للمنصور: «أرى مولاي يؤجل فيما يدعو إلى المبادرة؟»
فقال: «تركناه ليطمئن قلبه، ثم نرى.»
فلما سمع قوله خشي أن يكون في نيته غير القتل، فقال: «ثم ترى ماذا؟ اقتل، ثم اقتل، ثم اقتل، وإذا لم تقتله قتلك.»
فضحك المنصور وقال: «لا تخف؛ لا يلتقي فحلان في أجمة إلا قتل أحدهما صاحبه.» فاطمأن صالح.
أما أبو مسلم، فمكث ثلاثة أيام لم ير في أثنائها خازنه إبراهيم ولا خالد بن برمك، فاستوحش من غيابهما وانقطاعهما، وعاد إلى هواجسه. وفي اليوم الثالث، جاءه رسول من المنصور، فركب ومعه بعض رجاله. وكان المنصور قد أعد خمسة من حراسه خبأهم خلف الرواق بالسلاح وقال لهم: «إذا صفقت فاهجموا عليه جميعا واقتلوه.» فلما وصل أبو مسلم عند الباب ترجل ودخل منفردا حتى مر بالرواق إلى القاعة، وفي صدرها سرير قد جلس عليه المنصور وحده، وليس في القاعة إلا ذلك الزاهد، وقد جلس جاثيا وأطرق، فلما دخل أبو مسلم حيا، ووقف وقد تقلد سيفه، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، فلم يدعه المنصور للجلوس فزاد استيحاشا، فاحتال المنصور قبل كل شيء في أخذ سلاحه منه، فقال له: «أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عمي عبد الله.»
فمد أبو مسلم يده إلى سيفه وقال: «هذا أحدهما.»
قال: «أرني إياه.»
فدفعه إليه، فوضعه المنصور تحت فراشه، ثم أقبل يعاتبه عن أمور كثيرة كان قد أساء فيها، وهو يرد ردا جميلا، حتى قال المنصور: «ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت - لا أم لك - مرتقى صعبا.» فكانت هذه العبارة أول ما حرك غضب أبي مسلم، ولكنه كظم غضبه وظل ساكتا وقد تشاغل بإصلاح ردائه على كتفيه، فقال له المنصور: «ما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير برغم مناصرته لدعوتنا؛ فإنه أحد فتياننا، وهو الذي أدخلك في هذا الأمر؟»
قال: «أراد الخلاف وعصاني فقتلته.» ولما طال العتاب على هذه الصورة لم يعد أبو مسلم يطيق صبرا فقال: «لا يقال هذا لمثلي بعد بلائي ونصرتي وما كان مني.» يشير بذلك إلى نصرته لدعوتهم. فقال المنصور: «يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لفعلت مثل ما فعلت . إنما عملت ما عملته في دولتنا بريحنا وجاهنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا.»
فأحس أبو مسلم بدلائل الغدر في المنصور، ورأى نفسه منفردا هناك، فتقدم إلى المنصور وأخذ بيده يقبلها ويعتذر، فقال المنصور: «ما رأيت كاليوم! والله ما زدتني إلا غضبا.»
فعادت الأنفة إلى أبي مسلم فقال وصوته يرتجف من الغضب: «دع هذا. لقد أصبحت لا أخاف سوى الله.» فغضب المنصور وصفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فصاح أبو مسلم: «أبقني لعدوك يا أمير المؤمنين.» فقال: «لا أبقاني الله إذن؛ أي عدو أعدى منك لي؟» فصاح: «العفو، العفو، يا أمير المؤمنين.» وما من مجيب، فتساقطت السيوف عليه، فخر على الأرض صريعا.
1
فنهض المنصور ليتحقق من موته، فرآه لا يزال يتخبط في دمه ويزأر كالأسد الجريح، فحول بصره وهو يتجلد، وسمع غوغاء في غرفة مؤدية إلى تلك القاعة، ثم رأى بابها قد دفع بقوة، ودخلت منه فتاة مكشوفة الرأس، محلولة الشعر، سافرة الوجه، يتدفق وجهها جمالا وهيبة، وقد هرعت ويداها ممدودتان وصاحت: «العفو، يا أمير المؤمنين، العفو عني وعنه أو اقتلني معه.» وفي أثرها خادمتها تصيح مثل صياحها. فلما سمع صالح الصوتين عرف أنهما صوتا جلنار وريحانة، فأسقط في يده، واستغرب مجيئهما في تلك الساعة، وجمد الدم في عروقه، ولكنه تجلد ووقف، وأراد أن يزوغ في أثناء الغوغاء، فإذا برجل قد دخل على أثر المرأتين وأمسك بطوقه وصاح: «امكث هنا يا خائن. لقد خدعت أمير المؤمنين وحملته على قتل كبير قواده وتطلب الفرار؟»
فبغت المنصور لتلك الضوضاء، واستغرب جرأة الداخلين عليه بغير استئذان، وأراد أن ينادي الحرس ليسألهم عن ذلك، فاستوقف انتباهه منظر تتقطع له الأكباد؛ إذ رأى جلنار أقبلت على أبي مسلم وهو مطروح على أرض القاعة والدم يسيل من جوانبه، وقد توسط البساط معارضا ووجهه نحو المنصور كأنه يتوعده، وقد انتثرت قلنسوته عن رأسه، فظهر شعره وتلوث بالدم. فلما رأته جلنار على تلك الحال صاحت: «أبا مسلم!» فالتفت ونظر إليها بعينين تكادان تجمدان من الاحتضار، وقال بصوت مختنق: «سامحيني يا جلنار.» ثم ارتج عليه وأخذ يبكي بكاء الطفل، فسقطت وقد أغمي عليها، فتجمع الحضور حولها ورشوها بالماء، فلما أفاقت لم يكن همها إلا أن تنظر إلى أبي مسلم. وكان قد فارق الحياة وشخصت عيناه وجمدتا وهما متجهتان إليها، والدمع لا يزال فيهما، فرمت بنفسها عليه، وراحت تتمرغ في ردائه، وتغمس كفيها في دمه، وتمسح وجهها، ثم همت بيديه وصدره، وأخذت تقبل ثوبه، وتستنشق ريحه، وتبكي وتلطم حتى لم يبق في الغرفة إلا من تقطع قلبه عليها. فلما رأى المنصور ذلك أمر الحراس أن يلفوا جثة أبي مسلم بالبساط ويخرجوها من القاعة، فلفوه وهي تحاول دفعهم عنه، وخرجوا جميعا، ولم يبق هناك إلا جلنار وخادمتها، استبقاهما المنصور ليعرف سبب إقدامهما على ذلك العمل، ثم تقدم إلى الفتاة وأنهضها وهو يقول لها: «ما بالك يا بنية؟ ما الذي أصابك؟»
فانتبهت والتفتت إلى ما حولها، فلم تجد جثة أبي مسلم فقالت: «أين هو؟ دعوني أودعه أو خذوني معه.»
فقال لها المنصور: «اعلمي يا صبية أن أمير المؤمنين يخاطبك.»
فوقفت وتأدبت، ثم التفتت وهي تبحث عن ريحانة، فرأتها ممسكة بثوب صالح، وإبراهيم قابض على طوقه وهو يحاول الفرار، فصاحت فيه: «أهذا جزاء الثقة يا صالح؟ يأتيك كتاب أبي مسلم بالتوبة والمصالحة، وأخبرك أن قلبي يحدثني بذلك وأنت تخفي عني حبه، كأنك خفت أن يفلت هذا الأسد من القتل فيقتلك. وما كفاك ذلك، بل حرضت أمير المؤمنين على قتله، وأقنعته أن كتابه ينطوي على الخداع، وأن التوبة التي تحدث عنها إليه كاذبة. وهذا كتابه إلي - كتبه منذ بضع سنوات - يشهد بصدق توبته عن كل شيء.» قالت ذلك وأخرجت من جيبها منديلا من الحرير الأحمر فيه كتاب من رق دفعته إلى المنصور، فتناوله وهو في حيرة مما يشاهده. وقد دهش على الخصوص لما رآه من قبض إبراهيم اليهودي على طوق الزاهد. وكان المنصور لا يزال ممسكا بيد جلنار، فأجلسها على السرير وجلس إلى جانبها، وصاح بإبراهيم: «ويحك ! ما هذه الجرأة؟ كيف تقبض على هذا الرجل الصالح في حضرتي.»
قال: «لا تدعه صالحا يا أمير المؤمنين، فإنه من أشر خلق الله. إنه شرير يستوجب القتل الشنيع؛ لأنه حرضك على قتل أبي مسلم، وأنكر توبته، وخدعك بما يظهره من التقوى والزهد، وهو من أكبر أعداء أمير المؤمنين.»
فبهت المنصور حتى ظن نفسه في حلم، فقال: «دعه وأخبرني بما تعرفه عنه.»
قال: «لا أتركه حتى تأمر بالقبض عليه.»
فقالت ريحانة: «أتركه؛ فإني قابضة عليه، وسوف يعجز عن الفرار مني.»
الفصل الثامن والسبعون
الخاتمة
فتركه إبراهيم ووقف بين يدي الخليفة وقال: «إن هذا الذي يتظاهر بالزهد ويسمي نفسه تارة صالحا، وطورا الضحاك، وآونة الزاهد؛ رجل من الخوارج الأشرار كان في جملة رجال شيبان بقرب مرو في أثناء محاصرة أبي مسلم إياها، وقد قام في نفسه أن يساعد حزبه بالمكائد والحيل، فالتصق بوالد هذه الفتاة؛ وهو من الدهاقين في خراسان، فجعل نفسه خادما عنده، واحتال حيلا استخدم فيها هذه الفتاة لقتل أعدائه، وهي تطيعه عن سذاجة وسلامة نية؛ طمعا في مساعدته في الفوز بأبي مسلم. وقد كان أقنعها أن أبا مسلم يحبها، وزعم أنه شكا إليه حبها، ولم يكن هذا القتيل يعلم ذلك، ثم ظهر لها أن أبا مسلم لا يحبها، فحملت ذلك محمل الخيانة منه، وحرضها هذا الشرير على الانتقام منه لوالدها. وكان أبو مسلم قد قتله بدسيسة بعضهم، فحمل هذه الفتاة وطار بها في الآفاق يترقب الفرص لإتمام غرضه. والخوارج - كما لا يخفى على أمير المؤمنين - لا يرون السلطة جائزة لأحد. ثم ندم أبو مسلم على جفائه، ورأى أن هذه المسكينة مظلومة، فبعثني بكتاب منه هو هذا الذي بيد أمير المؤمنين، وكلفني أن أطوف البلاد للبحث عنها، فوجدتها في الكوفة وهممت أن أخبرها بالأمر، فحال هذا اللعين بيننا؛ لأنه لما علم بمجيئي هرب بها إلى دير خارج الكوفة، وأسرع للاحتيال على أمير المؤمنين حتى أقام في قصره، وأظهر أنه يشير عليه ويطلعه على الغيب، ثم بلغه أنني أبحث عن هذه الفتاة لأبلغها هذه الرسالة، فكتم ذلك عنها مع أنه شاهدها بالأمس، وشكت إليه غربتها وأن نفسها تحدثها برضى حبيبها، وهو ينكر ذلك مخافة أن يكون في اطلاعها على فحوى الكتاب ما يخفف ذنب ذلك المسكين عند أمير المؤمنين. ولا شك عندي أن أمير المؤمنين لو اطلع على هذا الكتاب قبل فتكه بهذا القائد العظيم لحفظ له حياته؛ إذ يتحقق من توبته وتعلقه بالخلافة العباسية.
وقد عرفت بوجود هذا الخارجي في دار أمير المؤمنين منذ أمرتني بكتابة ذلك الكتاب الذي كان سببا في مقتل هذا الرجل، وعلمت أنه ما من أحد يعرف مكان جلنار سواه، فما زلت أترقب خروجه إليها حتى المرة الأخيرة، فأرسلت غلاما عرف مكانها، وعاد إلي قبل رجوعه، وأنا مع أمير المؤمنين في هذه المدينة. فلما جاء أبو مسلم منذ ثلاثة أيام فرحت بمجيئه، وأحببت أن أفاجئه بمجىء حبيبته، فلم أذهب للسلام عليه، بل أسرعت إلى الدهقانة ودفعت الكتاب إليها، فجاءت معي وقلبها يكاد يطير من الفرح، فسرني أن يتم لقاء هذين الحبيبين تحت ظل أمير المؤمنين، فلما وصلنا إلى هذا القصر قيل لنا إن أبا مسلم في مجلس الخليفة، فالتمسنا من قيم الدار أن يدخلنا لنقيم ريثما يفرغ من المقابلة، فأدخلونا إلى هذه الحجرة المؤدية إلى هنا، فجلسنا ننتظر خروج هذا المسكين، ثم سمعنا صوته واستغاثته، وعلمنا أنه يقتل، فهجمت هذه الفتاة وهي لا تعي ولم أستطع ردها، وفعلت ما رأيتموه. وإذا شاء أمير المؤمنين أن يتلى هذا الكتاب بحضرته، تحقق من صدق قولي.»
فأخفى المنصور الكتاب لئلا يكون فيه ما يثبت توبة أبي مسلم، فيذاع أنه قتل مظلوما.
فلما فرغ إبراهيم من كلامه صاحت جلنار بصالح: «ويلك يا خائن! أنت من الخوارج، وقد خدعتني طوال هذه المدة، وأنا أضعك في منزلة أبي؟» وصرت على أسنانها وأطرقت وهي تبكي.
فقالت ريحانة وهي لا تزال ممسكة بثوب صالح: «اعلم يا أمير المؤمنين أن هذا الرجل هو الذي سعى في مقتل الإمام إبراهيم عند مروان، ثم جعل نفسه زاهدا ، فجاءكم في الحميمة وخدعكم، ولا يزال يخدعكم إلى الآن. وإذا كنت لا تصدق قولي؛ فاطلب منه أن يزيل هذه العصابة عن عينيه، فيظهر لك أنه سليم البصر وهو يتظاهر بالعمى.» قالت ذلك ومدت يدها، فحلت العصابة فبانت عيناه، فأجال نظره في الحضور وهو ثابت الجنان، رابط الجأش، كأنه واقف على ضفاف دجلة للنزهة.
فلما سمع المنصور ذلك انفطر قلبه على تلك الفتاة، ولكنه لم يندم على قتل أبي مسلم، ثم التفت إلى صالح فرآه واقفا لا يتكلم ولا يرتعد، ولم تظهر عليه البغتة، فأراد أن يسأله عما سمعه فقال له: «ماذا تقول عما سمعته؟»
فقال صالح: «كل ما قالوه صحيح.»
فقال المنصور: «تقول ذلك ولا تخشى غضبي؟»
فقال صالح: «لست أخشى غضبك. فهل تستطيع أن تفعل بي شيئا أشد من القتل؟ وأنا لا أبالي بالذي يصيبني بعد أن حققت هدفي بقتل هذا الظالم، غير أني أنصحك أن تقتل هذا اليهودي أيضا؛ لأنه من أكبر المنافقين.»
فقال المنصور: «أما القتل، فإنه قليل على ذنوبك؛ لأنها كثيرة، وكل واحد منها تستحق عليه القتل.» ثم نظر إلى جلنار فرآها مطرقة وقد استغرقت في أحزانها، فأراد أن يشفي غليلها، فقال لها: «إن هذا الجاني لك؛ فاختاري الطريقة التي تريدينها لقتله مما يشفي غليلك.»
فرفعت بصرها إلى الخليفة والدمع ملء عينيها وقالت: «هل إذا بالغت في عذابه يحيا حبيبي؟ لا يهمني بأية طريقة يقتل.» قالت ذلك وقد خنقتها العبرات. وكانت قد هدأ روعها من البغتة وعاد إليها رشدها.
فأعجب المنصور بتعقلها والتفت إلى صالح وقال: «كل ضروب القتل قليلة على ذنوبك، ولكنني سأقتلك كما قتل الحجاج فيروز.» وصفق فدخل الحراس، فأمرهم أن يشقوا القصب الفارسي ويخلعوا ملابس الرجل، ويشدوا القصب المشقوق على جسده، ثم يسلوه قصبة قصبة فيجرحه، ثم يصبون عليه الخل والملح حتى يموت من الألم، فأخذوه وفعلوا به ما أمرهم به الخليفة.
فلما سمعت جلنار ذلك الوصف اقشعر بدنها، والتفت المنصور إليها وقال: «وأنت يا بنية، عظم الله أجرك في والدك وحبيبك، وقد نفد القدر، ولا راد لما نزل، فإذا شئت أن تنزلي في دار أمير المؤمنين مثل سائر أهله نزلت مكرمة معززة، أو اخترت الإقامة في مكان آخر؛ كان لك ما تريدين.»
فأثنت على فضل المنصور وقالت: «إذا أحب أمير المؤمنين أن يسعدني فليلحقني بهذا.» وأشارت إلى مكان أبي مسلم وعادت إلى البكاء.
فقال المنصور: «إن البكاء لا ينفعك؛ فاذهبي الآن مع حاضنتك إلى دار النساء للاستراحة؛ فإننا في شغل.»
فنهضت وأخذت تبحث عن جثة أبي مسلم في أقصى القاعة فلم تجدها؛ لأنهم كانوا قد لفوها في البساط، ثم التفتت إلى المنصور ووجهها ملوث بالدم وقالت: «أوصيك بهذه الجثة خيرا.» وخرجت وهي تبكي وكفاها على عينيها، وقد جمد الدم عليهما، وريحانة تتبعها.
أما إبراهيم فإن وصية صالح بقتله أثرت على المنصور، وأوجبت الشك فيه على الأقل، فأمر بقتله سرا. والتكتم وحفظ الأسرار من شئون الدولة العباسية.
وأما جلنار فقضت تلك الليلة هناك وهي تندب حظها، وتبكي حبيبها، وأصبح أهل الدار في اليوم التالي فلم يجدوها بينهم، ولا عرفوا مكانها؛ لأنها كرهت معاشرة الأحياء، واختارت الإقامة في الدير الذي كانت فيه مع حاضنتها، وانقطعت عن الناس ولم نعلم مصيرها!
अज्ञात पृष्ठ