ومنه: ما حكاه الأمير أسامة بن منقذ، قال: كان بأنطاكية خزانة كتب ، وكان الخازن بها رجلا علويا. فجلست يوما عنده، فقال لي: قد خبأت لك خبيئة لم تسمع بمثلها في تاريخ. فقلت: وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ ضرير يتردد إلي، وقد حفظته في أيام قلائل عدة كتب، وذلك أني أقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة، فلا يستعيد إلا ما شك فيه، ثم يتلو علي ما سمعه. قلت: فلعله يكون محفوظا له! فقال: سبحان الله! كل كتاب في الدنيا يكون محفوظا له، ولئن كان كذلك فهو أعظم. ثم حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدري، كأنه ينظر بإحدى عينيه، وهو يتوقد ذكاء؛ يقوده رجل طويل أحسبه من أقاربه. فقال له الخازن: يا ولدي، هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتك له، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك. فقال: سمعا وطاعة، فليختر ما يريد. قال ابن منقذ: فاخترت شيئا وقرأته عليه وهو يموج ويستزيد، فإذا مر بشيء يحتاج إلى تقريره في خاطره، يقول: أعد هذا، فأعيده عليه، حتى أتيت على ما يزيد على كراسة، ثم قلت: يقنع هذا من قبل نفسي. قال: أجل حرسك الله. وتلا علي ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفا حرفا، فكاد عقلي يذهب لما رأيت منه، وعلمت أن ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا إن شاء الله. وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري من بيت العلم والقضاء والثروة والغنى. هكذا يروون هذه الحكاية، والأمير أسامة المذكور ولد سنة 488، أي بعد موت أبي العلاء بنحو تسع وثلاثين سنة، فالقصة على هذا موضوعة، اللهم إلا أن تكون وقعت مع بعض أمراء بني منقذ، ممن تقدم أسامة.
ومنه: أن سمانا حاسب عميلا له برقاع كان يثبت فيها ما يأخذه منه عند حاجته، وكان أبو العلاء في غرفة يسمع محاسبتهما، وبعد مدة ضاعت الرقاع من السمان، فأخذ يتململ ويتأذى. وبلغ أبا العلاء خبره، فقال له: ما عليك بأس، أنا أملي عليك حسابه. وجعل يمليه عليه على ما في الرقاع رقعة رقعة، والسمان يكتبها. ثم وجد بعد ذلك رقاعه، فإذا هي مطابقة لما أملاه أبو العلاء. وهذا إن صح، فهو غاية الغايات في قوة الحفظ والتعليق.
وقريب مما تقدم، ما روي عن أبي تمام حين سمع البحتري ينشد قصيدته التي أولها:
أأفاق صب من هوى فأفيقا
أم خان عهدا أم أطاع شفيقا
فلما فرغ من إنشادها، أقبل عليه باللوم والتقريع، واتهمه بسرقة شعره، ثم اندفع يعيد القصيدة حتى أتى على أكثرها. والقصة مشهورة. ومثله ما روي عن المتنبي في حفظه كتابا عرض عليه للبيع في نحو ثلاثين ورقة. وروى مثله الإمام أبو العباس المبرد، وهو الثقة فيما ينقل، فذكر في كامله أن ابن عباس رضي الله عنه لما أنشده عمر بن أبي ربيعة كلمته: «أمن آل نعم أنت غاد فمبكر». ولم يكن سمعها من قبل، استظهرها من مرة واحدة، وأعادها على الحضور. إلا أن ما نقل عن المعري يفوق كل ذلك.
وذكروا أن أبا نصرة أحمد بن يوسف المنازي، دخل على أبي العلاء وهو بالشام في جماعة من أهل الأدب، وأنشده قوله:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه
अज्ञात पृष्ठ